شغلني سؤال الهوية في الشهرين الماضيين ، فقد طلب مني أن أشارك في مؤتمر السرد الخامس الذي عقدته رابطة الكتاب الاردنيين بورقة في الموضوع ، وهذا ما كان ، فقد كتبت ملخصا سرعان ما توسعت فيه ، ولكن ما أنجزته ظل موجزا .
في الورقة التي القيتها أتيت على رواية الكاتب اللبناني جبور الدويهي ' شريد المنازل " ( ٢٠١٠ ) ، وهي رواية كتبت عنها في زاويتي في الأيام ، مقالا ، و درستها في " موضوع في الأدب الحديث " لطلبة الماجستير ، ولا أخفي أنني حين أقرؤها أشعر بالقشعريرة ، وتنتابني حالة من الخزن لما ألم ببطلها نظام محمود العلمي الذي ذهب ضحية بسبب الحرب الأهلية اللبنانية ، دون أن يكون سببا فيها ، و دون أن يختارها أو يحث عليها ، على الرغم من أنه، ذات يوم ، وجد نفسه يتدرب في مخيم تل الزعتر ، مع فصيل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .
" صار عدوا مستباحا لا حدود معه " . إنها عبارة دالة بما فيه الكفاية . لقد قتل نظام بسبب لا مبالاته .
ولد نظام لعائلة مسلمة ، هي عائلة محمود العلمي المقيم في طرابلس ، ثم تربى في قرية حورا في بيت عائلة مسيحية لا تنجب ، هي عائلة توما ورخيمة ، فقد كانت عائلته تنفق إجازات الصيف في تلك القرية الجميلة ، أيام كان هناك هدوء ، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في ١٩٧٥ .
يدرس نظام في حورا في مدرسة مسيحية ، مع طلاب مسيحيين ، وتغدو له معهم صداقات متينة ، ولا يكترثون لكونه مسلما، فلم تكن الحرب بدأت ، ويمزح أصدقاؤه معه لدرجة أنهم يريدون أن يعرفوا عن عادة الختان ، من خلال رؤية عضوه الذكري . ومع بدايات الحرب ، ومع تعمد نظام ، بناء على إصرار توما ورخيمة على هذا ، يبدأ السؤال عن الديانة .
حين تبدأ الحرب أو توشك ، ويبدأ كل طرف بالاستعداد لها ، يفضي أحد الطلاب المسيحيبن إلى مدربه بسر نظام ، معلنا عن ديانته ، وإذ يرتبك المدرب يجيب :
" - مسلم أم مسيحي لا فرق.نحن جميعا لبنانيون " (٥٣) . ويعلن أن الاستعداد للحرب إنما هو بسبب الفلسطينيين الذين أخذوا يهددون وجود اللبنانيين .
حين ينهي نظام امتحان التوجيهي يقرر السفر إلى بيروت ليدرس في الجامعة فيها ، ويوافق والداه بالتربية ، توما ورخيمة ، على طلبه، إذا وافق على أن يتعمد ، فيرضخ لهما ، على أن يبقى الأمر سرا، وأن يتم بسرعة ، فقد يعود عن قراره في أية لحظة إن لم يلب على الفور.
هكذا سيغدو نظام مسلما ومسيحيا ، دون أن يعنيه الإسلام أو المسيحية ، وستدس رخيمة في يده أيقونة صغيرة . هي الحبل بلا دنس ، وهذه الأيقونة ستصبح الثالثة بعد العين الزرقاء وآية الكرسي .
السؤال إن كان مسلما أو مسيحيا ، كهوية ، سيلاحقه في بيروت .يخاف منه أصحاب الفندق ولا يبوحون أمامه بمعلومات، إذ ما زالوا ينظرون إليه على أنه مسلم ، على الرغم من أن توما و رخيمة ، هما من ارسلاه إلى الفندق واوصيا به صاحبه.وحين يفكر نظام باستئجار شقة تسأله الرويية ( اولغا) صاحبة الشقة التي ستغادر بيروت السؤال التالي:
"- لا تؤاخذني على السؤال: أنت مسلم ام مسيحي.؟"(٨١).
وسيتعرف نظام إلى خلية شيوعية هي خلية فرج الحلو التي تضم في جنباتها لبنانيين من الطوائف كلها ، حتى من الطائفة اليهودية، ومع هذا ، ومع أنهم شيوعيون يستقبلهم في شقته، إلا أنهم يصرون - أو بعضهم - على معرفة هويته، وحين يقص عليهم قصته : مسلم عاش في بيت مسيحي ، فإن أعضاء الخلية نظروا إليه على أنه صورة لما سيكون عليه لبنان في مجتمع علماني.
حتى الآن تبدو الأمور مقبولة وعادية، ولكنها تتازم حين يموت والد نظام ، محمود العلمي، ويذهب نظام للمشاركة في جنازته.
يذهب نظام إلى طرابلس ويقرأ إعلان النعوة الذي كتبه اخواه فلا يجد اسمه مدرجا، كما لو أنه لم يعد اخاهم، فقد علما أنه تعمد ، أو هكذا أشيع.وحين يأتي الحديث عن الميراث يقول له أحد اخويه : " إذا لم تعد مسلما فكيف ترث من والدك؟"(١٥٣) ، وهنا يجيب :" أنتم قررتم أنني لم أعد مسلما من يوم نعوة أبي؟" (١٥٣) فيرد عليه أخوه :" وهل ما زلت مسلما كي ندرج اسمك معنا؟".
تختلف الاخت ، ميسلون، التي تربت مع نظام ، عن اخويها ، فهي ما تزال تذكر طفولتهما معا، وترى أن الأخوة فوق كل شيء ، إخوة الطفولة ، ومن هنا تصر على الاهتمام بنظام ، وتظل تزوره، وحين يقتل تهتم بأمر دفنه.
وسيغدو الختان شكلا من أشكال الهوية ، يقتل المرء بناء عليه.هذه ورطة حقا.
يرفض الشيخ المسلم أن يصلي على نظام لأنه تنصر ، واعتقد أنه مسيحي، وحين تأخذه أخته ليدفن في مقابر المسيحيين ، يسألها الرجل المسيحي؛ المسلم أين هو؟ ولا يقول أحد عنه إنه لبناني..
وحدها أخته ميسلون تقول : " إنه أخي قبل كل شيء ، الأخوة لا تعني الدين، تعني الطفولة."(٢٤٤).
والسؤال هو : من هو نظام في مجتمع متعدد الطوائف ؟ ما هويته؟
عادل الأسطة
في الورقة التي القيتها أتيت على رواية الكاتب اللبناني جبور الدويهي ' شريد المنازل " ( ٢٠١٠ ) ، وهي رواية كتبت عنها في زاويتي في الأيام ، مقالا ، و درستها في " موضوع في الأدب الحديث " لطلبة الماجستير ، ولا أخفي أنني حين أقرؤها أشعر بالقشعريرة ، وتنتابني حالة من الخزن لما ألم ببطلها نظام محمود العلمي الذي ذهب ضحية بسبب الحرب الأهلية اللبنانية ، دون أن يكون سببا فيها ، و دون أن يختارها أو يحث عليها ، على الرغم من أنه، ذات يوم ، وجد نفسه يتدرب في مخيم تل الزعتر ، مع فصيل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .
" صار عدوا مستباحا لا حدود معه " . إنها عبارة دالة بما فيه الكفاية . لقد قتل نظام بسبب لا مبالاته .
ولد نظام لعائلة مسلمة ، هي عائلة محمود العلمي المقيم في طرابلس ، ثم تربى في قرية حورا في بيت عائلة مسيحية لا تنجب ، هي عائلة توما ورخيمة ، فقد كانت عائلته تنفق إجازات الصيف في تلك القرية الجميلة ، أيام كان هناك هدوء ، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في ١٩٧٥ .
يدرس نظام في حورا في مدرسة مسيحية ، مع طلاب مسيحيين ، وتغدو له معهم صداقات متينة ، ولا يكترثون لكونه مسلما، فلم تكن الحرب بدأت ، ويمزح أصدقاؤه معه لدرجة أنهم يريدون أن يعرفوا عن عادة الختان ، من خلال رؤية عضوه الذكري . ومع بدايات الحرب ، ومع تعمد نظام ، بناء على إصرار توما ورخيمة على هذا ، يبدأ السؤال عن الديانة .
حين تبدأ الحرب أو توشك ، ويبدأ كل طرف بالاستعداد لها ، يفضي أحد الطلاب المسيحيبن إلى مدربه بسر نظام ، معلنا عن ديانته ، وإذ يرتبك المدرب يجيب :
" - مسلم أم مسيحي لا فرق.نحن جميعا لبنانيون " (٥٣) . ويعلن أن الاستعداد للحرب إنما هو بسبب الفلسطينيين الذين أخذوا يهددون وجود اللبنانيين .
حين ينهي نظام امتحان التوجيهي يقرر السفر إلى بيروت ليدرس في الجامعة فيها ، ويوافق والداه بالتربية ، توما ورخيمة ، على طلبه، إذا وافق على أن يتعمد ، فيرضخ لهما ، على أن يبقى الأمر سرا، وأن يتم بسرعة ، فقد يعود عن قراره في أية لحظة إن لم يلب على الفور.
هكذا سيغدو نظام مسلما ومسيحيا ، دون أن يعنيه الإسلام أو المسيحية ، وستدس رخيمة في يده أيقونة صغيرة . هي الحبل بلا دنس ، وهذه الأيقونة ستصبح الثالثة بعد العين الزرقاء وآية الكرسي .
السؤال إن كان مسلما أو مسيحيا ، كهوية ، سيلاحقه في بيروت .يخاف منه أصحاب الفندق ولا يبوحون أمامه بمعلومات، إذ ما زالوا ينظرون إليه على أنه مسلم ، على الرغم من أن توما و رخيمة ، هما من ارسلاه إلى الفندق واوصيا به صاحبه.وحين يفكر نظام باستئجار شقة تسأله الرويية ( اولغا) صاحبة الشقة التي ستغادر بيروت السؤال التالي:
"- لا تؤاخذني على السؤال: أنت مسلم ام مسيحي.؟"(٨١).
وسيتعرف نظام إلى خلية شيوعية هي خلية فرج الحلو التي تضم في جنباتها لبنانيين من الطوائف كلها ، حتى من الطائفة اليهودية، ومع هذا ، ومع أنهم شيوعيون يستقبلهم في شقته، إلا أنهم يصرون - أو بعضهم - على معرفة هويته، وحين يقص عليهم قصته : مسلم عاش في بيت مسيحي ، فإن أعضاء الخلية نظروا إليه على أنه صورة لما سيكون عليه لبنان في مجتمع علماني.
حتى الآن تبدو الأمور مقبولة وعادية، ولكنها تتازم حين يموت والد نظام ، محمود العلمي، ويذهب نظام للمشاركة في جنازته.
يذهب نظام إلى طرابلس ويقرأ إعلان النعوة الذي كتبه اخواه فلا يجد اسمه مدرجا، كما لو أنه لم يعد اخاهم، فقد علما أنه تعمد ، أو هكذا أشيع.وحين يأتي الحديث عن الميراث يقول له أحد اخويه : " إذا لم تعد مسلما فكيف ترث من والدك؟"(١٥٣) ، وهنا يجيب :" أنتم قررتم أنني لم أعد مسلما من يوم نعوة أبي؟" (١٥٣) فيرد عليه أخوه :" وهل ما زلت مسلما كي ندرج اسمك معنا؟".
تختلف الاخت ، ميسلون، التي تربت مع نظام ، عن اخويها ، فهي ما تزال تذكر طفولتهما معا، وترى أن الأخوة فوق كل شيء ، إخوة الطفولة ، ومن هنا تصر على الاهتمام بنظام ، وتظل تزوره، وحين يقتل تهتم بأمر دفنه.
وسيغدو الختان شكلا من أشكال الهوية ، يقتل المرء بناء عليه.هذه ورطة حقا.
يرفض الشيخ المسلم أن يصلي على نظام لأنه تنصر ، واعتقد أنه مسيحي، وحين تأخذه أخته ليدفن في مقابر المسيحيين ، يسألها الرجل المسيحي؛ المسلم أين هو؟ ولا يقول أحد عنه إنه لبناني..
وحدها أخته ميسلون تقول : " إنه أخي قبل كل شيء ، الأخوة لا تعني الدين، تعني الطفولة."(٢٤٤).
والسؤال هو : من هو نظام في مجتمع متعدد الطوائف ؟ ما هويته؟
عادل الأسطة