تمهيد:
صدر عن المكتبة العربية للنشر و التوزيع / 2017 ، مجموعة قصصية للأديبة الجزائرية د. سامية غشير تحت عنوان: "حواس زهرة نائمة".. الكتاب من الحجم المتوسط، 128 صفحة، يحتوي على 14 قصة.. صمم الغلاف محمد سعد، و قام بالاخراج الفني جمال عبد الرحيم.. المجموعة من تقديم الناقد العراقي عامر الساعدي.
و لمقاربة المجموعة، اخترنا الاستئناس بالسيميوتيقا و الأستاطيقا لتسليط بعض الضوء على سيمياء الحواس و جماليتها عبر نماذج من قصص المجموعة.
1 ـ دلالات و جمالية تمظهرات الحواس:
تندرج هذه المجموعة القصصية ضمن الأدب المغاربي المكتوب بالعربية، وجاءت لتكريس و إغناء موروث حكائي محلي يصبو للعالمية.. موروث جزائري مغاربي يتميز بخاصية انتمائه لحضارة حوض المتوسط : حضارة ألهمتها طبيعتها الجغرافية، و احتكاكها بثقافات شرقية و غربية عريقة خصوصية محلية/ كونية، ثقافة "سردية" تقوم حكاياتها على استحضار وظائف الحواس (كما جاء في عنوان المجموعة هما "حواس زهرة نائمة")، وعلى إغراء عدة علوم أهمها علم الجمال "الااستاطيقا" و علم العلامات "السيميوطيقا".. و وجه الشبه بين العلمين، تركيزهما في دعامات اشتغالهم على الحواس:
الأستاطيقا كما عرفها الفيلسوف ألكسندر كوتليب بوم كارتن على انه: "علم التعرف على الأشياء من خلال الحواس"..
و السيميوطيقا علم دلالات العلامات (دال و مدلول signifants/ signifié) حدد إيكو Eco مجالات اشتغالها في علامات الشم، و الاتصال بواسطة اللمس، و في مفاتيح المذاق، و في الاتصال البصري، و في أنماط الأصوات و التنغيم... (محمد كشاش، من كتابه: "اللغة و الحواس").
نستشف هذا المعطى دون عناء و بشكل يكاد يكون مباشرا من عناوين مجمل قصص المجموعة التي تكرس ثقافة الحواس: "حواس زهرة نائمة"، و "موعد حب مع المطر"، و "همس الحرير"، و "اشواق تنزف في صمت"، و "أحلام تنوح في ضبابية الوجع"، و "حروف الظل"، و "رسائل الشوق"...
ـ قصة "زهرة / نائمة": إن كانت الزهرة نائمة، فهي لا تزهر و لا تينع..هي ممتنعة عن الانفتاح، أو ممنوعة منه، فلا جمال نظرة، و لا طيب عطر من رياحينها..
نقرأ:
"" الوجع أنيسي في رحلة حياتي المليئة بالعثرات و الجراحات التي كانت تتناسل يوميا على ضفاف روحي، و حرائق الدهر تشعلني مرارة و خسائر. حياتي كانت أشبه بالعدم و هو يغرس في سهام ندوب الوجع التي مكثت أكثر في خوالجي المهمشة، لم ينفعني وقود الأمل في أن أمتطي بساط السعادة الذي نسجته منذ سنين في مملكة رغاباتي الأنثوية. أنا "نضال" حياتي أشبه بالحطام، زهرة عمري اليانعة قطفت في سجن الزواج، كنت شابة يافعة مليئة بالرغبات و الشغف..." (من قصة "حواس زهرة نائمة"، الأولى في المجموعة، ص. 15).
استعملت القاصة سامية غشير مفردة الحواس" بصيغة الجمع في العنوان الذي يتصدر أولى قصص المجموعة (وهو عنوان المجموعة برمتها "حواس زهرة نائمة")، حتى لا تنفرد حاسة دون أخرى بدرجة التبئير focalisation حسا، و إحساسا، و شعورا، و انفعالا... حواس يستنفرها الوجع..
رحلة في ازدواجية المحسوس المادي حقا، و المستشعر المجرد المعنوي انفعالا: "ضفاف"/ "روح"، و "حرائق"/ "مرارة"، و "حياة"/ "عدم"، و "ندوب"/ "وجع"، و "وقود"/ "أمل"، و "بساط"/ "سعادة"، و "مملكة"/ "رغبات"...
ازدواجية قرأناها عبر عناوين قصص اخرى مكونة للمجموعة كما لو كنا بديعا مع طباق معنوي مختزل في مفردات:
ـ قصة "همس / الحرير": و كأن صورة العنكبوت تغزل حريرا تلاحقنا.. صمتها حركة غزل رتيبة مملة، و همسها جمال حرير...
نقرأ:
"ملأ الخواء و الخراب تلك الأرض العطرة التي فقدت بهجة تألقها منذ رحيل الوالدين "احمد " و "عائشة"، كان المارون إلى تلك القرية يندهشون للحالة التي حلت بها فقد وهنت و ضعفت، و فقدت بهاءها و غنجها و إغراءها، أضحت شاحبة الوجه دامية العينين، باردة المشاعر، و كانت طقوس المآتم و الحداد تقام كل يوم على ضفافها..." (ص. 38 ).
ـ قصة "موعد حب مع المطر": للمطر صوت.. و المطر علامة يستبشر بها من أرضه عطشى، و من بقلبه ضمأ... لكن، كما في قصيدة السياب، يطغى طقس السماء الملبدة على أجواء الوجدان، فتحول رمز الإحياء و الخصوبة و الأمل إلى حزن و كآبة و تشاؤم...
و منها، نقرأ هذا التناص الجميل من سيمياء الحواس، عن المطر دالا و مدلولا، عن انفعال المناخ الوجداني مع حالة الطقس الطبيعية، نقلا عن بدر شاكر السياب:
""أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟
و كيف تنشح المزاريب إذا انهمر؟
و كيف يشعر فيه الوحيد بالضياع؟"
ـ قصة " أشواق تنزف في صمت": هل ينزف الشوق؟.. و لو كانت في عروقه تسري الدماء، فكان بالأحرى ان يصرخ ألمه، لا أن يكابده في صمت... يتحول إلى مجرد حروف للكتابة.. نتقيؤها على ورق ...
نقرأ:
"كانت كلماتها تشعل فتوة أحلامي فتجيء البشرى المغتسلة بفرح الشغف، فتتسلق الخطوب جنات الصفوات لتغرف دلع الفتوحات، فيتسلل الشوق في جموح عفوي ليغمر شعائر غرفتي، فأهرع إلى كتبي المبللة بماء توددي، فأنسج من وحي تلك التراكيب عالما بهيجا أسكن إليه..." (ص. 77 ).
2 ـ متعة الكتابة:
و لأن المجموعة القصصية "حواس زهرة نائمة" عمل أدبي فني، و لأن أدق تعريف أولي للفن هو "ما يروق للحواس من تمظهرات الجمال"، أي ما نستشعره في مصادر عدة: الجمال في الطبيعة من السماء، و البحار، و الثلوج، و في هطول الأمطار، و في الكائنات الحية من إنسان و نبات و حيوان، أو في حديقة جميلة.. فالكاتبة القاصة سامية غشير (وهي دكتورة متخصصة في الأدب العربي) اعتمدت بمهارة العاشقة للحرف فنية "ترويض" الحواس، ظاهرها و باطنها
فاللحواس الظاهرة (اللمس، و السمع، و البصر، و الشم، و الذوق) وظيفة حيوية تستشعر حياة الكائن الحي مع تكييف شروطها والظروف و المحيط الخارجي، و وظيفة معرفية تتمثل في إدراك و معرفة معطيات العالم الخارجي، و استقراء جماليته ...
نقرأ:
"انسكب ضوء الشمس يغمر أرجاء تلك القرية التي ارتفعت صيحات أريج الحقول و هي تنزف زهرا و عطرا شهيا، و كانت العيون تحملق في تلك الجغرافية الساحرة التي وهبتها زغاريد العصافير و هي تمطر ألحانا و أمنيات ربيعية سحرا مدهشا...." (من قصة "همس الحرير". ص. 35 ).
و للحواس الباطنة وظائف تتعدى إدراك الملموس لتستشعر الجمال و تعبر عنه بالخيال، و الوهم، و الحافظة، و المتخيلة، و هي الحواس الأربعة كما عرفها الغزالي في كتاب "المعيار".
في هذا السياق تسرح بنا الكاتبة عن لسان الذات الساردة بضمير المتكلم الأنا موظفة بجمالية متفردة جدلية سيمياء الحواس و أستاطيقا الحرف إلى ملكوت االحلم/ الخيال، نقرأ :
"هو المطر الشفيف يأتينا مرتشفا بقبل السناء، ليمسح على شغاف تضاريسها آثارا من وهج قرمزي يتلون في متاع ليمنح الكون قرنفل الأحلام الزمردية. تنام في تراتيبه تجاويف الصبا المغنج بروائح ذهول الوقت الذي كان يرنو إلى مدائن من ندى البهجات... يفتح أسرار ذكرياته الكتقدة في كبرياء، قصص تنام في خيال الزهو المرنم، موشومة بحبر اللقيا و جنون التحنان و شلال حبور اللحظات.. (من قصة "موعد الحب مع المطر". ص. 25 ).
و لما تتوقف الحواس الظاهرة عن القيام بوظيفتها بسبب فقد عزيز، حبيب، هو جمال الكون كله.. تنوب عنها في الغياب، في متاهات الشوق و الوجع، حواس باطنة، يأتيها الصوت همسا كذكرى، و الصورة هندسة رؤيا، و الشغف الإيروسي نبضات قلب، و المتعة مذاق مرارة.. هي حواس الحلم، و متاع الخيال، نقرأ:
"رحلت يا "جمال" غادر النور المغتوي بالضوء المطرز جنات عشقي، أهلكتني الأسئلة المتصدعة بإغراءات الغياب، و تخومه التي عزفت على مرايا جرحي انين منافي صقيع الوحشة. فكنت على ضفاف النشوة الجريحة أستمد من وجعي المنتصب بقوافل الرحيل محبرة ألملم فيها آخر ذكرى لعنفوان الشوق الذي كانت ذكراه تهفهف على شرفات بهجتنا، و كنا هناك نحملق في خبل الضوء نخيط منها حلما، سحرا تماهى إلى الهبوب، تدفقت شغاف اليتم المصلوب على رياحين فؤادي الذي انفجر تدفق، ترمل، و توهج كهشاشة حالما يعبر مواسم الزهو لينتصب في منافي الظلال..." (من قصة "حواس زهرة نائمة" ص. 19 ).
كتب عبد الصمد الكباص في كتابه "الرغبة والمتعة: رؤية فلسفية" يقول:
" ليست الجماليّة فكرة، و إنما تجربة. و خارج التجربة التي تختبر في أداء الحواس و رغبات الجسد تغدو الجمالية شكلاً فارغاً قد يتحوّل إلى مفهوم ثقيل يصلح لإنهاك القرّاء أو أولئك الذين فقدوا أثر الحياة في الكتب،لكنه لا يحفّزهم على الحياة (...). لا يمكن تصوّر جمالية مفصولة عن الحياة، أي عن المجهود الذي يبذله الجسد لانتزاع إحساس ممتع. مثلما لا يُمكن تصوّر جماليّة مفصولة عن الحواسّ، أي التذوق المنتشي لهذه الحواس لما تحوله من العالم كموضوع لها (...).فالتذوق الحسّي الذي يتم عبر الجسد هو الذي يتم عبر الجسد هو الذي يمنح الشعر جمالية. أي ذلك التذوق المنتشي الذي يحدث من خلال العين و الأذن و اللسان و الأنف و البشرة. و نفس الشيء بالنسبة للوحة تشكيليّة أو أغنية أو مقطع موسيقي أو طبق لذيذ أو عطر نافذ..."
لكن، لما تصبح الرغبة مجرد حلم، مجرد ذكرى، مجرد مشاعر مكبوتة مسكوت عنها، تتحول لنزيف من حبر يتحرر من سلطة اللغة و البلاغة ليخط على قرطاس ناصع البياض كما من براءة صورة للوجع، للفقد و للذكرى... كتابة لا يغويها مطر و لو نقر كالطائر على نافذة مكلومة، لأن الطائر جريح، و لا سحر شمس المتوسط تضحكها، فالنفس كما الروح سقيمة... هي الغربة عن الذات لا ترويها سوى مفردات جميلة... قصص ما حكتها شهرزاد، و لو سمعتها أنثى غيرها، لقالت: حكايتي لو سمعتها يا شهرزاد لاستغربت حواسك غرابتها، و توقفت عن الكلام المباح...
خالد بوزيان موساوي
صدر عن المكتبة العربية للنشر و التوزيع / 2017 ، مجموعة قصصية للأديبة الجزائرية د. سامية غشير تحت عنوان: "حواس زهرة نائمة".. الكتاب من الحجم المتوسط، 128 صفحة، يحتوي على 14 قصة.. صمم الغلاف محمد سعد، و قام بالاخراج الفني جمال عبد الرحيم.. المجموعة من تقديم الناقد العراقي عامر الساعدي.
و لمقاربة المجموعة، اخترنا الاستئناس بالسيميوتيقا و الأستاطيقا لتسليط بعض الضوء على سيمياء الحواس و جماليتها عبر نماذج من قصص المجموعة.
1 ـ دلالات و جمالية تمظهرات الحواس:
تندرج هذه المجموعة القصصية ضمن الأدب المغاربي المكتوب بالعربية، وجاءت لتكريس و إغناء موروث حكائي محلي يصبو للعالمية.. موروث جزائري مغاربي يتميز بخاصية انتمائه لحضارة حوض المتوسط : حضارة ألهمتها طبيعتها الجغرافية، و احتكاكها بثقافات شرقية و غربية عريقة خصوصية محلية/ كونية، ثقافة "سردية" تقوم حكاياتها على استحضار وظائف الحواس (كما جاء في عنوان المجموعة هما "حواس زهرة نائمة")، وعلى إغراء عدة علوم أهمها علم الجمال "الااستاطيقا" و علم العلامات "السيميوطيقا".. و وجه الشبه بين العلمين، تركيزهما في دعامات اشتغالهم على الحواس:
الأستاطيقا كما عرفها الفيلسوف ألكسندر كوتليب بوم كارتن على انه: "علم التعرف على الأشياء من خلال الحواس"..
و السيميوطيقا علم دلالات العلامات (دال و مدلول signifants/ signifié) حدد إيكو Eco مجالات اشتغالها في علامات الشم، و الاتصال بواسطة اللمس، و في مفاتيح المذاق، و في الاتصال البصري، و في أنماط الأصوات و التنغيم... (محمد كشاش، من كتابه: "اللغة و الحواس").
نستشف هذا المعطى دون عناء و بشكل يكاد يكون مباشرا من عناوين مجمل قصص المجموعة التي تكرس ثقافة الحواس: "حواس زهرة نائمة"، و "موعد حب مع المطر"، و "همس الحرير"، و "اشواق تنزف في صمت"، و "أحلام تنوح في ضبابية الوجع"، و "حروف الظل"، و "رسائل الشوق"...
ـ قصة "زهرة / نائمة": إن كانت الزهرة نائمة، فهي لا تزهر و لا تينع..هي ممتنعة عن الانفتاح، أو ممنوعة منه، فلا جمال نظرة، و لا طيب عطر من رياحينها..
نقرأ:
"" الوجع أنيسي في رحلة حياتي المليئة بالعثرات و الجراحات التي كانت تتناسل يوميا على ضفاف روحي، و حرائق الدهر تشعلني مرارة و خسائر. حياتي كانت أشبه بالعدم و هو يغرس في سهام ندوب الوجع التي مكثت أكثر في خوالجي المهمشة، لم ينفعني وقود الأمل في أن أمتطي بساط السعادة الذي نسجته منذ سنين في مملكة رغاباتي الأنثوية. أنا "نضال" حياتي أشبه بالحطام، زهرة عمري اليانعة قطفت في سجن الزواج، كنت شابة يافعة مليئة بالرغبات و الشغف..." (من قصة "حواس زهرة نائمة"، الأولى في المجموعة، ص. 15).
استعملت القاصة سامية غشير مفردة الحواس" بصيغة الجمع في العنوان الذي يتصدر أولى قصص المجموعة (وهو عنوان المجموعة برمتها "حواس زهرة نائمة")، حتى لا تنفرد حاسة دون أخرى بدرجة التبئير focalisation حسا، و إحساسا، و شعورا، و انفعالا... حواس يستنفرها الوجع..
رحلة في ازدواجية المحسوس المادي حقا، و المستشعر المجرد المعنوي انفعالا: "ضفاف"/ "روح"، و "حرائق"/ "مرارة"، و "حياة"/ "عدم"، و "ندوب"/ "وجع"، و "وقود"/ "أمل"، و "بساط"/ "سعادة"، و "مملكة"/ "رغبات"...
ازدواجية قرأناها عبر عناوين قصص اخرى مكونة للمجموعة كما لو كنا بديعا مع طباق معنوي مختزل في مفردات:
ـ قصة "همس / الحرير": و كأن صورة العنكبوت تغزل حريرا تلاحقنا.. صمتها حركة غزل رتيبة مملة، و همسها جمال حرير...
نقرأ:
"ملأ الخواء و الخراب تلك الأرض العطرة التي فقدت بهجة تألقها منذ رحيل الوالدين "احمد " و "عائشة"، كان المارون إلى تلك القرية يندهشون للحالة التي حلت بها فقد وهنت و ضعفت، و فقدت بهاءها و غنجها و إغراءها، أضحت شاحبة الوجه دامية العينين، باردة المشاعر، و كانت طقوس المآتم و الحداد تقام كل يوم على ضفافها..." (ص. 38 ).
ـ قصة "موعد حب مع المطر": للمطر صوت.. و المطر علامة يستبشر بها من أرضه عطشى، و من بقلبه ضمأ... لكن، كما في قصيدة السياب، يطغى طقس السماء الملبدة على أجواء الوجدان، فتحول رمز الإحياء و الخصوبة و الأمل إلى حزن و كآبة و تشاؤم...
و منها، نقرأ هذا التناص الجميل من سيمياء الحواس، عن المطر دالا و مدلولا، عن انفعال المناخ الوجداني مع حالة الطقس الطبيعية، نقلا عن بدر شاكر السياب:
""أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟
و كيف تنشح المزاريب إذا انهمر؟
و كيف يشعر فيه الوحيد بالضياع؟"
ـ قصة " أشواق تنزف في صمت": هل ينزف الشوق؟.. و لو كانت في عروقه تسري الدماء، فكان بالأحرى ان يصرخ ألمه، لا أن يكابده في صمت... يتحول إلى مجرد حروف للكتابة.. نتقيؤها على ورق ...
نقرأ:
"كانت كلماتها تشعل فتوة أحلامي فتجيء البشرى المغتسلة بفرح الشغف، فتتسلق الخطوب جنات الصفوات لتغرف دلع الفتوحات، فيتسلل الشوق في جموح عفوي ليغمر شعائر غرفتي، فأهرع إلى كتبي المبللة بماء توددي، فأنسج من وحي تلك التراكيب عالما بهيجا أسكن إليه..." (ص. 77 ).
2 ـ متعة الكتابة:
و لأن المجموعة القصصية "حواس زهرة نائمة" عمل أدبي فني، و لأن أدق تعريف أولي للفن هو "ما يروق للحواس من تمظهرات الجمال"، أي ما نستشعره في مصادر عدة: الجمال في الطبيعة من السماء، و البحار، و الثلوج، و في هطول الأمطار، و في الكائنات الحية من إنسان و نبات و حيوان، أو في حديقة جميلة.. فالكاتبة القاصة سامية غشير (وهي دكتورة متخصصة في الأدب العربي) اعتمدت بمهارة العاشقة للحرف فنية "ترويض" الحواس، ظاهرها و باطنها
فاللحواس الظاهرة (اللمس، و السمع، و البصر، و الشم، و الذوق) وظيفة حيوية تستشعر حياة الكائن الحي مع تكييف شروطها والظروف و المحيط الخارجي، و وظيفة معرفية تتمثل في إدراك و معرفة معطيات العالم الخارجي، و استقراء جماليته ...
نقرأ:
"انسكب ضوء الشمس يغمر أرجاء تلك القرية التي ارتفعت صيحات أريج الحقول و هي تنزف زهرا و عطرا شهيا، و كانت العيون تحملق في تلك الجغرافية الساحرة التي وهبتها زغاريد العصافير و هي تمطر ألحانا و أمنيات ربيعية سحرا مدهشا...." (من قصة "همس الحرير". ص. 35 ).
و للحواس الباطنة وظائف تتعدى إدراك الملموس لتستشعر الجمال و تعبر عنه بالخيال، و الوهم، و الحافظة، و المتخيلة، و هي الحواس الأربعة كما عرفها الغزالي في كتاب "المعيار".
في هذا السياق تسرح بنا الكاتبة عن لسان الذات الساردة بضمير المتكلم الأنا موظفة بجمالية متفردة جدلية سيمياء الحواس و أستاطيقا الحرف إلى ملكوت االحلم/ الخيال، نقرأ :
"هو المطر الشفيف يأتينا مرتشفا بقبل السناء، ليمسح على شغاف تضاريسها آثارا من وهج قرمزي يتلون في متاع ليمنح الكون قرنفل الأحلام الزمردية. تنام في تراتيبه تجاويف الصبا المغنج بروائح ذهول الوقت الذي كان يرنو إلى مدائن من ندى البهجات... يفتح أسرار ذكرياته الكتقدة في كبرياء، قصص تنام في خيال الزهو المرنم، موشومة بحبر اللقيا و جنون التحنان و شلال حبور اللحظات.. (من قصة "موعد الحب مع المطر". ص. 25 ).
و لما تتوقف الحواس الظاهرة عن القيام بوظيفتها بسبب فقد عزيز، حبيب، هو جمال الكون كله.. تنوب عنها في الغياب، في متاهات الشوق و الوجع، حواس باطنة، يأتيها الصوت همسا كذكرى، و الصورة هندسة رؤيا، و الشغف الإيروسي نبضات قلب، و المتعة مذاق مرارة.. هي حواس الحلم، و متاع الخيال، نقرأ:
"رحلت يا "جمال" غادر النور المغتوي بالضوء المطرز جنات عشقي، أهلكتني الأسئلة المتصدعة بإغراءات الغياب، و تخومه التي عزفت على مرايا جرحي انين منافي صقيع الوحشة. فكنت على ضفاف النشوة الجريحة أستمد من وجعي المنتصب بقوافل الرحيل محبرة ألملم فيها آخر ذكرى لعنفوان الشوق الذي كانت ذكراه تهفهف على شرفات بهجتنا، و كنا هناك نحملق في خبل الضوء نخيط منها حلما، سحرا تماهى إلى الهبوب، تدفقت شغاف اليتم المصلوب على رياحين فؤادي الذي انفجر تدفق، ترمل، و توهج كهشاشة حالما يعبر مواسم الزهو لينتصب في منافي الظلال..." (من قصة "حواس زهرة نائمة" ص. 19 ).
كتب عبد الصمد الكباص في كتابه "الرغبة والمتعة: رؤية فلسفية" يقول:
" ليست الجماليّة فكرة، و إنما تجربة. و خارج التجربة التي تختبر في أداء الحواس و رغبات الجسد تغدو الجمالية شكلاً فارغاً قد يتحوّل إلى مفهوم ثقيل يصلح لإنهاك القرّاء أو أولئك الذين فقدوا أثر الحياة في الكتب،لكنه لا يحفّزهم على الحياة (...). لا يمكن تصوّر جمالية مفصولة عن الحياة، أي عن المجهود الذي يبذله الجسد لانتزاع إحساس ممتع. مثلما لا يُمكن تصوّر جماليّة مفصولة عن الحواسّ، أي التذوق المنتشي لهذه الحواس لما تحوله من العالم كموضوع لها (...).فالتذوق الحسّي الذي يتم عبر الجسد هو الذي يتم عبر الجسد هو الذي يمنح الشعر جمالية. أي ذلك التذوق المنتشي الذي يحدث من خلال العين و الأذن و اللسان و الأنف و البشرة. و نفس الشيء بالنسبة للوحة تشكيليّة أو أغنية أو مقطع موسيقي أو طبق لذيذ أو عطر نافذ..."
لكن، لما تصبح الرغبة مجرد حلم، مجرد ذكرى، مجرد مشاعر مكبوتة مسكوت عنها، تتحول لنزيف من حبر يتحرر من سلطة اللغة و البلاغة ليخط على قرطاس ناصع البياض كما من براءة صورة للوجع، للفقد و للذكرى... كتابة لا يغويها مطر و لو نقر كالطائر على نافذة مكلومة، لأن الطائر جريح، و لا سحر شمس المتوسط تضحكها، فالنفس كما الروح سقيمة... هي الغربة عن الذات لا ترويها سوى مفردات جميلة... قصص ما حكتها شهرزاد، و لو سمعتها أنثى غيرها، لقالت: حكايتي لو سمعتها يا شهرزاد لاستغربت حواسك غرابتها، و توقفت عن الكلام المباح...
خالد بوزيان موساوي