أحمد جميل الحسن - كان وهماً..

إن الواقع الذي نعيشه الآن لا يمكن لكلمات مهما كانت مسبوكة أو مصكوكة أن تعبر عنه بنفس مكوناته الحقيقية، كما حدثت وكما يجري الآن، هناك شيء ما يجري دون أن نستطيع لمس جوهره. ماذا يجري خلف الكواليس؟ وما هو الألم الآتي، وكيف شكله؟ كل هذا لا يمكن أن نخمنه مادام الدم يسفك والوطن مستباح. هذه الأحداث التي تعصف بالوطن ولّدت حكايات لا تعد ولا تحصى، وجعلت منها مادة دسمة للكُتّاب، كما هو الحال للإعلام الذي لعب دوراً محرضاً كبيراً في كثير من الأوقات والأماكن، دون مبالاة بالنتائج التي يخلفها هذا الخبر أو ذاك. سورية ليست بخير، وأهنئ المتكالبين على تفتيت وتدمير هذه القلعة، فقد نجحوا بجعل الأخ عدواً لأخيه، والصديق الذي طالما وقف إلى جانبنا في المحن وناصر قضايانا جعلوا منه ألد الأعداء الطامعين بهذا الوطن. فحكاية سورية أنها ليست من (العرب دولار) ولا عرب التسويات، وليست هي الأرض المباحة لقواعد المارينز أو (الإفرنكو إنكلش)، ولا يوجد فيها مكان يرفرف عليه العلم (الإسرائيلي).

هي إذاً حكايات ولدت من المعاناة والألم الذي يعتصر القلب، والقلم الذي يخط بالدم المسفوك فتنة وزوراً. تقول الحكاية:

في سبينة حيث كان ندى الصبح يغسل وجوه الصبايا الذاهبات زرافات إلى المعامل المحيطة، ويسدل ليله على همسات العشاق ولقاءات الشوق والمحبة، وعلى صخب يتوق دوماً إلى الحياة، والمسامرات العائلية المألوفة المحببة التي هي منّة من الله مَنّها على المجتمع السوري بكل أطيافه. وشهوات التسوق آخر الليل من جنة الفواكه المتوضعة عند سكة القطار في مدخل سبينة.



منتصف الحكاية

كان الثلاثة يتفانون بتزيين بضاعتهم وتجميلها ورصها صفوفاً بحبات متناسقة متساوية الحجم، وتزيين كل صف ببضع ورود حمراء، من أجل ذاك سميت بجنّة الفواكه. يضعون علب السجائر المتنوعة بشكل هرمي يسر الناظرين (ويخرم) المدخنين، يتصارعون مع النعاس والأرق، ويبحرون في أحلام تقودهم إلى فتيات أحلامهم هناك في الضيعة البعيدة، وقد جمعوا ما يلزم لطقوس الزواج المعتادة. تآلفوا مع الناس في سبينة وأحبوهم وتولدت صداقات وسهرات على إيقاع النرجيلة وسحابات اللفائف وقصص الغرام التي يرويها متيَّمون.

كانوا ثلاثة شباب بعمر الياسمين الذي عشقوا منه دمشق. قدموا بحثاً عن لقمة العيش وتحقيق أحلامهم الصغيرة بالزواج وتكوين عائلة صغيرة في بيت ريفي يؤويهم.



بداية الحكاية

سبينة ساحة حرب تموج بالغوغاء والصراخ والهتافات، أعمدة دخان خانقة من الإطارات المشتعلة على امتداد الشارع الطويل الذي يشقها نصفين، السماء التي كانت مكللة بالصفاء يجللها السواد. والوجوه الباشة المستبشرة اكفهرت وكساها العبوس واليأس، طوفان من الصبية والشباب ملثمين وسافرين ومترنحين وفاغري الأفواه يزحفون صوب جنة الفواكه. والشبان الثلاثة ما زالوا مأخوذين من المشهد ، تراقصت في الأيدي الموشومة المطاوي والسكاكين والعصي الغليظة الطويلة و(الشنتيانات). فجأة انقلبت المودة إلى كره، والمحبة إلى حقد، والتآلف إلى جفاء وعداء،أصبح كل شيء يشبه الموت.

جفل الشبان الثلاثة وكالسهم اقتحم الرعب القلوب، سكاكين ومطاوي وشنتيانات تمزق الأجساد وتمثل فيها، صيحات طائفية وهتافات مذهبية، ورقصات فوق الجثث تشبه طقوس آكلي لحوم البشر بعد قتل فريستهم.



هامش حكائي

قال الأول: كنت أحبهم وكدت أستقر في سبينة إلى الأبد.

الثاني: لقد أعلمت خطيبتي بأنني لن أغادر سبينة وسنتزوج فيها.

الثالث: نصحني والدي بعد زيارته لي أن أتزوج سبينيّة.

الخاتمة:

وقف قرناؤهم فوق جثثهم وبصوت واحد: (كان وهماً).


أحمد جميل الحسن
أعلى