بوزيان موساوي - الكتابة السردية الأدبية و جدلية الذاكرة و الخيال.. قراءة في المجموعة القصصية "مضارب الشقاء" للقاص المغربي عبد القادر بوراص

تمهيد:
هذا الكتاب "مضارب الشقاء" تم تصنيفه من طرف مؤلفه الكاتب والإعلامي عبد القادر بوراص في خانة جنس القصة الأدبية.
هو كتاب من الحجم المتوسط. 16 قصة. 105 صفحة. يضم ورقتين خارجتين إضافة للإهداء، و تقديم الكاتب: الأولى في مطلع المجموعة تحت عنوان "تقديم الناشر" كتبها الكاتب القاص عبد المجيد طعام، والثانية في نهاية المجموعة تحت عنوان: "رؤية موازية لما جاء في الكتاب"، كتبها الأستاذ بلقاسم سداين.
كتب المؤلف في مطلع الاهداء:
"كثيرة هي القصص التي تحيي في نفسي رغبة الحياة والانبعاث، لكن أكثرها ملامسة لأعماق قلبي، تلك التي ترتبط بالذكريات.. المكان الذي ولدت فيه، وكيف أمضيت طفولتي الشقية، وكل هذا اللغو والتناقض الذي تعودناه في مسقط رأسي بتلك البلدة الحدودية "أحفير".
هي إذن مجموعة قصصية من وحي الذاكرة، جنس سردي أسس له الكاتب والفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو بكتابه les confessions "اعترافات" في القرن الثامن عشر، وسار على نهجه شوطوبريان بكتابه mémoires d’outres tombes "مذكرات من قبور أخرى" في القرن التاسع عشر، وتوّجت التجربة بمأسسة أدب الذاكرة مع أواخر القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين مع المدرسة البروستية، نسبة للأديب الفرنسي العالمي مارسيل بروست، الذي كاد أدب الذاكرة يرتبط باسمه بسلسلة روايات جمعت تحت عنوان كبير A la recherche du temps perdu "البحث عن الزمن المفقود".. هو أدب الذاكرة كما قرأناه أيضا في التجربة الإبداعية المغاربية لكتاب كبار كتبوا بالفرنسية مثل مولود فرعون وروايته Le fils du pauvre "نجل الفقير"، وكاتب ياسين وروايته "نجمة"، وادريس الشرايبي وروايته Le passé simple "الماضي البسيط"، وعبد الكبير الخطيبي وروايته la mémoire tatouée "الذاكرة الموشومة"... وغيرهم...
وكتاب كتبوا بالعربية مثل عبد المجيد بن جلون و روايته "في الطفولة"، ومبارك ربيع وروايته "الطيبون"، وعبد الكريم غلاب وروايته "دفنا الماضي"، والزهرة رميج وروايتها "الذاكرة المنسية" وغيرهم..
وجاءت المجموعة القصصية "مضارب الشقاء" للأديب عبد القادر بوراص لتنضاف لهذه التراكمات الأدبية الفنية التي تجاوز الحجم الجمالي فيها بعده الفني المحض، لأنها تعتبر وثائق شبه واقعية شاهدة على فترة زمنية في منطقة جغرافية محددة قد تكون جد مفيدة للبحوث الأكاديمية في علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، والتاريخ..
المجموعة القصصية حنين ل "مضارب الشقاء"،رتعتمد في سردها على مخزون ذاكرة عبد القادر بوراص، وقبل الدخول في تضاعيف هذا الحنين للزمن الجميل (وهل كان جميلا فعلا؟) أو "المفقود" كما عبر عن ذلك مارسل بروست، لابد من التوقف عند عتبة النص، وعند الهندسة الأيقونية Architecture iconique لغلاف المجموعة القصصية قبل عنوانها.. على الغلاف، صورة مكبرة لعبد القادر بوراص (خلاف المعتاد في الكتب: صورة مصغرة على ظهر الغلاف) ببدلة عصرية أنيقة وربطة عنق Plan cravate في لغة التصوير السنمائي، جالس في مكان عال يشرف على البلدة التي تظهر خلفه بمنظر بانورامي يساعد على المسح الطوبوغرافي، وهي صورة اعتدناها في البرامج التلفزيونية الوثائقية، لما يُسدعى خبير أو شاهد من منطقة معينة لأجل استجواب يخص تغطية إعلامية صحفية معينة.. وهذا ليس غريبا عن عبد القادر بوراص لأنه إعلامي وصحفي قبل أن يكون قاصا مبدعا.. وقد تكون وظيفة الصورة رسالة من الكاتب مفادها إضفاء صبغة الواقعية على قصصه، وأنها ليست مجرد مادة متخيلة لكونه عاش وعايش فعلا أحداث القصص في زمنها ومكانها و مع شخوصها.. لكن الظاهر على الصورة رجل تجاوز عقده الرابع وليس في عمر الطفل الذي عايش أحداث القصص، ومن هنا ترسم المسافة الزمنية بين زمن الحكاية من جهة وزمن السرد والكتابة وزمن التلقي سنة 2019 وما بعدها من جهة أخرى... ويحق السؤال: هل ما زال الطفل الذي لا زال يسكن عبد القادر بوراص من يحكي بلسان ونظرة الطفل البريئة الساذجة، أو من وجهة نظر الكاتب الصحفي والمثقف الذي راكم تجارب معيشية، وتحصيلا ثقافيا وعلميا و أدبيا؟.. و قد تنبه الكاتب لهذه المفارقة في أكثر من قصة، نورد منها هذا المثال لما كتب ص .58 :" اكتشفت وقد بلغت من الكبر عتيا أن "الكازير" كان أكثر من مدرسة تعلمت فيها القراءة و الكتابة...".
ومن هنا أيضا السؤال الثاني: هل ذاكرة الإنسان قادرة على تذكر كل التفاصيل بدقة متناهية كما بورتريهات الشخصيات (بورتريه عيشة ص. 10)، وأوصاف الأمكنة (مقبرة سيدي البشير ص. 32 )، ومختلف الحوارات التي دارت بين الشخصيات على شكل مونولوج داخلي (ص 11) أو منقولة سردا (غسل الجعوانية ص 49)؟
صحيح أننا لا نتذكر كل شيء، فالذاكرة معرضة للنسيان والخلط، وأحيانا نتذكر فقط ما نريده، وفي حالات تأتي الذكريات على شكل ومضات réminiscences كما سماها مارسيل بروست، لكن وحتى إن تذكرنا كل شيء فالحدث لا يكون له نفس الوقع على الطفل لما يكبر ويعي الأمور ويفهمها وجدانيا ومنطقيا في سياقها المعيشي والجغرافي والتاريخي والاجتماعي..
الذاكرة إذن رهينة مكان "مضارب"، لأن المكان، في المجموعة القصصية هنا، يكتسب أهميته القصوى، لا لأنه أحد عناصرها الفنية ـ كما تنبه لذلك الباحث احمد زياد محبك في سياق مشابه ـ ، أو لأنه المكان الذي تجرى فيه الأحداث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول في هذه السيرة الذاتية إلى فضاء يحتوي كل العناصر القصصية: وصفا، وسردا، وحوارا، وأحداثا، وحبكة.. وحاملا لرؤية البطل، ولمنظور المؤلف.. هي ذاكرة "موشومة" بالفضاء القصصي/ المكان: (" المغرب"، الموطن الجغرافي لقبائل "بني يزناسن"، ضواحي مدينة "ولاية وجدة"، مسقط الرأس " أحفير" ...
هي أسماء أمكنة حقيقية وموثقة جغرافيا وتاريخيا إما لأنها معروفة، أو تم التقصي عن حقيقتها، ولعل تسمية المكان ـ كما كتب الباحث أحمد زياد محبك ـ هي أول السبل إلى بناء المكان، فتسمية المكان في القصة تُحيل القارئ على المكان الذي يحمل الإسم نفسه في الواقع، وإن كان المكان في القصة ليس هو المكان نفسه في الواقع، ومن هنا تنشأ المفارقة، لأن التسمية محض وسيلة أولية باهتة، لا يمكن أن تقوم وحدها ببناء المكان القصصي..". والأمر يتعلق في "مضارب الشقاء" بإعادة بناء المكان ليس بالذاكرة فحسب بل بفعل الكتابة الأدبية الفنية، نقرأ: "كل شيء تغير في أحفير.." ص.43 ، وأن يتذكر الكاتب كيف كان هو في حد ذاته إعادة إعمار بالكتابة القصصية.
المكان "مضارب" ، دالة تفيد الربوع و الخيام، تحيل على نمط عيش بدوي قبلي يشبه نمط عيش الرحل أو أنصاف الرحل، وفيه أمكنة جزئية وظيفية "المخبزة"، "الرحى"السوق الأسبوعي"، "المستوصف"، "الثكنة العسكرية"، "المغزل"المدرسة" أو "كوليج أحفير"، "المقبرة"، "المسجد".. دالة على الاستقرار، وعن الزمن، والظرفية التاريخية قبل الاستقلال وبعده..
تعيش وتتعايش في هذا الفضاء القصصي شخصيات بأسماء وألقاب محلية (البشير، الجعوانية، عيشة، الخامسة البوهالية، رقية ميميس، أُدكعد، بادي بوحنوشة، حشحوشة، طارا، السي عيسى بوكمامس، مسيو فيدي، حليمة، شقرون اليهودي...).
نمط عيش أقرب للفقر بكثير، يعتمد على الصناعة التقليدية المحلية، أو الهجرة نحو الغرب، أو الحرف البسيطة... لذا سمي الفضاء بمضارب الشقاء.. وتنتمي مفردة الشقاء la misère لأكثر من حقل دلالي Champs sémantiques ، فهي قد تعني الفقر والعوز ومرارة العيش، وقد تعني في القاموس الديني غضب الرب على عباده، أو في القاموس السياسي جبروت الحاكمين وفسادهم وتفشي الفقر بين الرعايا، كما جاء المعنى في رواية البؤساء les misérables لفيكتور هوغو، أو رواية les damnés de la terre لفرانز فانون، أو المجموعة القصصية بنفس العنوان بالعربية "المعذبون في الأرض" لطه حسين..
وفي هذا العالم الصغير / الكبير، تعيش وتتعايش الشخصيات، نقرأ في تقديم الكاتب ص 5 و 6: " مضارب الشقاء" نبش في الذاكرة يشهد على زمن جميل رغم الجهل السائد وقتذاك الذي تولدت عنه بعض التصرفات غير السليمة و العفوية(...)" ـ يضيف ـ ""مضارب الشقاء" تسليط لكشافات الضوء على الحركة الاقتصادية بأحفير في فترة معينة، ومدى تعامل المسلمين مع اليهود...".
وهذا التعايش الحضاري بين الأديان كانت تتحكمه في المغرب ولا تزال عدة ثقافات توحدها في تعددها سماء المغرب، صنفها عالم الاجتماع السياسي المغربي محمد ظريف بالثقافة الانقسامية لما تطغى عقلية الانتماء القبلي والعرقي والديني، وثقافة الإجماع لما يتعلق الأمر بالهوية الوطنية ومحاربة كل ما يهدد الحدود والاستقرار، وثقافة المشاركة و تعني ذاك الانفتاح على الآخر بغض النظر عن انتماءاته المذهبية والدينية والقبلية...
نظرا لضيق الوقت، أستسمح الكاتب القاص المبدع، إن قلت له: إنني قرأت "مضارب الشقاء" كرواية وليس كمجموعة قصص قصيرة لغياب عناصر مثل التكثيف والاستعارة المختزلة وعنصر المفارقة، وغياب هذه العناصر من مجمل القصص، تعطي للمجموعة جمالية الرواية، و هي في نظري رواية فعلا.


* بمناسبة حفل توقيع الكتاب

خالد بوزيان موساوي



مضارب الشقاء.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى