1
You know You've read a good book when you turn the last page
And you feel as if you have lost friend!
Paul Sweeney
2
قال الراوي:
يحكى أن (...) وأدركته "هاء السكت"، فصمت عن الكلام المباح!
قال الراوي:
يحكى أن الكاتب والروائي، أحمد محمد ضحية أحمد، يأتي في طليعة الجيل الجديد من الكتاب والأدباء في السودان، وربما يمثل النموذج الأعلى للاختلاف التكويني، من حيث الإنتاج والأفكار والرؤى، مقارنة مع الأجيال السابقة.
فهو بدأ الكتابة بشكل احترافي، و خروج كامل عن السياق الكتابي المتعارف، داخل الوسط الثقافي السابق للجيل التسعيني.
فبينما ظلت ولسنوات طويلة إحدى المداخل الأساسية للكتابة الإبداعية في السودان، تتأتى عبر أو من خلال مداخل (الأساتيذ)، أو ما يمكن أن نطلق عليهم كهنة الكتابة، بدأ أحمد ضحية بعكس ذلك تماماً، معتمداً مدخلاً لكتابته، تناول الإنتاج الإبداعي والأدبي الجديد، والذي يمثله جيل بدأ يتلمس أولى بداياته حينها، مما يعد الكتابة عنه ضرباً من المغامرة والمجازفة، وهي المغامرة التي نجح فيها أحمد ضحية.
قال الراوي:
ربما هذه الاختلافية والمغايرة في أساليب أحمد ضحية في الكتابة، تنبع من الشخصية المبادرة لهذا الكاتب، فالسيرة الذاتية لأحمد ضحية تضعنا ومنذ بداياتها المبكرة، في مواجهة كاتب كبير يحمل مشروعه الخاص، وأفكاره التي تناقض وتنقض القديم البالي من أفكار.
ولد أحمد ضحية بمدينة كوستي (1971)، وأسهم بقدر كبير في النشاط الثقافي من خلال الروابط الثقافية بالمدينة، إذ بدى نبوغه المبكر في الكتابة، يتبلور في الثانوية العامة بمدرسة منيب النموذجية.
ومنذ تلك السن المبكرة، وقبل التحاقه بجامعة أم درمان الأهلية. بسنوات، كان أحد الأعضاء الفاعلين في النشاط الثقافي بمدينة كوستي، خلال عضويته في رابطة الأصدقاء الأدبية، وعدد من المنابر الثقافية الأخرى بالمدينة.
بعد تخرجه من الجامعة الأهلية في العام 1996 عمل محرراً ومشرفا ثقافياً بعدد من الملفات الثقافية في الصحف اليومية! ومن خلال سلطة عمله مسؤولا عن مثل هذه المنابر،، عمل على نشر الأعمال الجديدة للكتاب الشباب من أبناء الجيل التسعيني ـ جيله.
قال الراوي:
عمد ضحية على قراءة أعمال هؤلاء الكتاب الجدد بشكل نقدي مما ساعد على إبرازهم كأصوات جديدة في ذلك الوقت..
وقبل هجرته من السودان إلى الولايات المتحدة الأمريكية 2003 أصدر مع مجموعة من الكتاب الشباب مجموعة قصصية بالاشتراك مع المكتبة الأكاديمية الخرطوم، و من إصدارات نادي القصة السوداني، الذي أسسه مع آخرين منذ العام 1998.
ثم أصدر بعد ذلك وهو بالقاهرة في العام 2003 روايته الأولى مارتجلو ذاكرة الحراز، التي حاول من خلالها مناقشة إشكاليات ثقافية تتعلق بالهوية وأزمات الواقع الاجتماعي السوداني على خلفية التعدد الإثني والثقافي.
ختم الراوي؛ قائلا::
قدر هائل من النشاط والجدية ميز الكاتب أحمد ضحية، وهو داخل السودان أو وهو بمهجره الجديد بأمريكا، بذات أفكاره وذات رؤاه يمضي مناصراً الأصوات الجديدة وعامداً على إبرازها وإنصافها.
فأسماء وأسماء تعترف الآن (سراً) أو جهراً بفضل أحمد ضحية في زعزعة أركان المعبد القديم، وتجريد الكهنة من وصاياهم القديمة. وتقديم الأشياء كما هي؛ فقط للمعرفة وللحقيقة.
أدرك الراوي الصباح فاستدرك في الكلام المباح:
هذه كتابة مستعادة نحي عبرها الكاتب أحمد ضحية، وهو ما يزال بمهجره يكتب ويبدع وينشر الجديد.
المحرر الثقافي
لصحيفة اليوم التالي
(الروائي منصور الصويم)
١٠ أكتوبر٢٠١٤
هذه الثلاثية:
ربيع عقب الباب (*)
هذه ملحمة نثرية جديدة، شكل فيها السطر الواحد عالما، ورقعة متسعة من الابداع الجميل!
إنها عوالم في التاريخ والجغرافيا والانسان، عبر عصور عاشت الغربة بكامل وعيها وإرادتها، متمردة أو مستكينة!!
هي مئات من سنين وربما مائة سنة من العزلة كانت وتجددت، وعادت من جديد لعزلتها، بين فناء وحياة متجددة ومتجذرة، اختلط فيها الواقعي بالسحري، بل لا أغالي اذا قلت تم من خلالها فعل الحالتين، وتبدل موقعهما معا ليشكلا أسطورة شديدة الزخم!!
ظني بأحمد ضحية أكبر كثيرا من غابرييل غارثيا ماركيز.. الفارق بينهما لا أدري لصالح من فيهما:
أن ماركيز أن كان بنى وأسس لماكوندو، فأحمد أسس لأكثر من ماكوندو.. هنا كانت عوالم في الزمن والتجربة الإبداعية، بكل غناها وتفجيراتها وتفجراتها وحيويتها وحيواتها، وهذا السحري الذي بنى عليه ضحية، ولم يقف عند حد المعرفة، أو المشكل في الميثولوجيا عربيا أو أفريقيا، بل أكد على جديد في اكتشافات آنية، لم يلتفت إليها عبر العصور!!
كان هناك خليط مرعب بين الكائنات، والله والأرض والسماء والكواكب والملائك والبشر والريح.. المدن والطوفان والعشق والكره، والموت والتحليق والمعجزة السماوية، والأسطورة والإيمان، والكفر!!
دعني أقبلك أحمد كثيرا، أحييك على هذا التشظي والتفجر الذي يقف مانعا عودتك الى الوراء، لنكون في انتظار عبقرية سردية قادمة بقوة وآن لها أن تعلن عن قيامتها وبعثها!!
شكرا.. وهل تصلح (شكرا) لك ايها العبقري؟ قرأت عزلة ماركيز وأظن أنني ساقرا ملحمتك عشرا وربما أكثر قبل أن أصل الى السر الكامن خلف ما أسست!
------------------------------
(*) ربيع عقب الباب
روائي وقاص مصري
عضو إتحاد كتاب مصر
روايات أعداد مجلة الكلمة
ثلاثية صانع الفخار:
في باب السرد اختارت (الكلمة) أن تقدم (آلام ذاكرة الطين) الجزء الأول من ثلاثية صانع الفخار للروائي السوداني أحمد ضحية حيث يغوص في التاريخ الجغرافي والبشري لرقعة السودان الشاسعة مبلورا شخصية صانع الفخار الاسطورية، رمزا لوحدة البلاد والقانون والذي يحرق في كل مرة من قبل الحكام المستبدين.
مجلة الكلمة العدد ٨٤ أبريل ٢٠١٤
أشجان البلدة القديمة:
في سرد دائري تتناسل فيه التواريخ، و تتناسخ الشخصيات، تكشف هذه الرواية السودانية عن واقع مترع بالقهر والإستبداد يتغلغل فيه التشوه وتستحيل الصداقة، ولايستطيع الحب أن يأسو جراح خياناتها المصمية.
دكتور صبري حافظ
كاتب وناقد مصري
ورئيس تحرير مجلة الكلمة
العدد 18 يونيو 2008
ثلاثية المطاليق:
يكتب الروائي السوداني أحمد ضحية، عن أحوال البلاد الكبيرة، التي سيطر عليها السلطان بمطاليقه، يروعون الأهالي ويغتصبون النساء والاحلام، ويطاردون ويقتلون الثوار، ويمثل الشايب جقندي ذاكرة تلك البلاد الحافظ لتاريخها والباحث عن عالم أفضل لها.
أن الرمزية التي تنبني عليها الرواية تكشف عن الكيفيات التي ترسخ بها السلطة استبدادها.
العدد 58 فبراير 2012
محاسن الحمامصي
كاتبة أردنية
لا - وطن في الحنين
تنشر الكلمة الجزء الأول (المخطوطة السرية) من ثلاثية أحمد ضحية (لا وطن في الحنين) التي يحاول فيها تصوير الواقع والتاريخ السوداني من خلال شخصيات معاصرة تعاني من الصراعات الإثنية والدينية، ليتغلغل في تاريخ المكان وماضيه الأسطوري من أجل أنشاء الدولة والممالك بحكّام يتآمرون على بعض ويشعلون الحروب بصورة تعكس ما يجري الآن في الواقع المعاصر.
مجلة الكلمة العدد 113 سبتمبر 2016
مقدمة الناشر: السرد و السارد
و صحبة ملك لغة الحنين
القراءة النقدية لسرديات الروائي السوداني أحمد ضحية، مجازفة كبرى، وذلك لأن هذا الروائي صاحب معرفة موسوعية ونقدية مدهشة، ودونا عن كل الروائيين السودانيين، تتداخل في سردياته، همومه النقدية السياسية والفكرية، في الكتابة الابداعية الجمالية!
وإذا جاز لن توصيفه بأنه من الكتاب الملتزمين، فإن هذا التوصيف أقل بكثير عن التعبير عن حال هذا الروائي ذو القدرات والامكانات الكتابية والإبداعية، التي يندر توافرها في كاتب واحد!
فأحمد ضحية يكتب تقريبا في كل أجناس الكتابة الأدبية والنقدية والسياسية والفكرية، فضلا عن نشاطه الصحفي، الذي كشف عن نوع فريد من الصحفيين داخله! وإلى جانب كل ذلك لأكثر من 13 سنة يعمل كموظف بسيط، في حقل مرضى الدايمينشيا والاحتياجات الخاصة!
نلاحظ على ثلاثياته الروائية، أن موضوعات كتابته تتحاور فيما بين الايروتيكي و الواقعي والرومانسي والوجودي! كما تتداخل مع الفانتازيا والصوفية!..
و إذا أعتبرنا سردا توثيقيا كطبقات ود ضيف الله، بمثابة نوع من السرد الروائي التأسيسي للرواية السودانية، فان معجزات الأولياء ورؤى المتصوفة ورحلات ما بعد الموت، وكل عناصر الثقافات المحلية في خريطة التنوع السوداني، شكلت جوهر الفسيفساء السردية لضحية!
الذي جعل من ثلاثياته السردية نوعا خاصا من السرد، لا يمكن مقارنته بسرد أي كاتب آخر، فضحية يوظف السرد كأداة جبارة، مناهضة لسرديات الحاضر، عبر إقامة حوار بين الماضي ورؤى المستقبل، تارة في انحياز تام للعقل في تفسيره لأي ظاهرة، وتارة أخرى بالإستسلام للغيبي والميتافيزيقي لا في الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى، بل للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع اليومي!
أسرودات أحمد ضحية في سعيها لمناقشة ظاهرة الاستبداد والديكتاتورية والانغلاق العقلي والوجداني في بلاده، انما يحاول تحجيم هذا الغيبي المتنامي، الذي يتدخل للإجابة عن أسئلة مادية! في الوقت نفسه يسعى لتفكيك التراث الشعبي المتنوع في الجغرافيا الثقافية لبلاده، مقترحا إعادة فهم هذا التراث، لإكتشاف جوهر إنسان هذا التراث! باعتبار أن إجابات الأسئلة التي يطرحها المهمشون موجودة داخل الأبنية الاجتماعية التي أنتجتهم! وليست في الابنية الإجتماعية، للذين يمارسون فعل التهميش على هؤلاء المهمشين!
ضحية يعتبر رائد ومنظر لأدب الهامش، بل أسروداته تمثل جسرا أساسيا في المجرى العام لتيار الهامش في السرد السوداني!
و اللافت أن هذا التيار لديه القدرة على التغير والتشكل بحسب درجة وعي السارد بالبيئات الثقافية المتنوعة للسودان، و الثقافة الشعبية. الأمر الذي يقترح الحديث عن تيارات هامش وليس تيارا واحدا!
/وفي الحقيقة أن تيارات الهامش في السرد السوداني، منذ زندية ابراهيم بشير ابراهيم، بمثابة خط فاصل بين عالمين، سودانين: سودان يتمزق بفعل آليات هدم هذا التيار، ليتخلق من أنقاضه سودان ما بعد الهامش و التهميش والمهمشين!
ولذلك نلاحظ على سرديات ضحية، والأفكار التي طرحها في العديد من الحوارات التي أجريت معه، بأنه بقدر ما يحاول تجنب كتابة سحر الواقع المرتبط بالتراث الشعبي (وإن كان سحر الواقع الآخر، مثل الأحلام والأفكار الفانتازية، ظل عنصراً فيها)، إلا أنه في مسيرة تكريسه لصوته الخاص، يتعثر باستمرار بالواقع التاريخي لبلاده الكبيرة (السودان)، التي شكل الرق والطائفية وتوظيف الدين راسمالا رمزيا للساسة الذين يتجرون به! والاستبداد، مصدر ساما لا ينضب لعناصر أزماتها التاريخية المستمرة!
أو ما ظل المثقفين يطلقون عليه سؤال السلطة. الذي تم ترحيله عبر عصور مختلفة منذ مؤتمر باندونج، الذي وجهت بعده البنادق التي كان يستخدمها المستعمرون، و التي تحملها الآن الأيدي الوطنية لى صدور أبناء الوطن الواحد!
إذا كان كُتّاب للأجيال التي سبقت جيل ضحية قد كتبوا واقعهم.. واقع المثقف الخرطومي المأزوم، و الامدرماني المتعجرف، والعامل البحراوي الحر! وصراع الريف والحضر، وكوابح قوى التقدم والاستنارة!
فإن جيل ضحية ينظر إلى الواقع الفني، على اعتبار أنه لا يتوجب بالضرورة أن يكون هو الواقع (الفعلي، الواقعي)، مثلما في أذهان أولئك المثقفين السودانيين المأزومين!
ولهذا السبب بالذات ربما نجد ضحية لا يكتفي بالكتابة عن واقعه، و إنما عن ماضي متخيل، أيضا. عن ذكريات أسلافه وأحاجي جدته التي لا يتبناها كذكريات خاصة، عندما يكتب عن الطفولة أو الصبا أو الشباب، تحت حكم الديكتاتور والأيديولوجيا الإسلاموية التعسفية، وإن لم يكونوا في سنهم الصغيرة مدركين لأفكار كبرى، مثل القمع وتكميم الأفواه وحظر التجوال. والتي بالنسبة لضحية كمناضل قديم خبر المعتقلات و تعذيب البوليس السياسي، ما أدى إلى لجوءه وهجرته في خاتمة المطاف! ليست مجرد أفكار خيالية، بل واقع عاشه بالفعل، فعندما يكتب عن الزنزانة أو السجان أو أحاديث المعتقلين، وأحلامهم. فهو لا يتخيل شيئا، بل يعيد تركيب تجربة عاشها، ويحولها إلى سرد!
ولذلك روائيين مثل ضحية، يذكروننا بكتاب مثل (بيجليو) و (بولانيو) المنفي إلى المكسيك عقب انقلاب ضد الليندي، والذي رغم وجوده في المنفى لم ينفصل عن تشيلي، وظل سؤاله يشمل القارة اللاتينية كلها، التي اتخذ لها العالم الثقافي مدخلاً، ومثلما كان التراث الشعبي المحلي والاساطير والاحاجي والنضال السياسي المدني والمسلح موضوعا أساسيا في سرديات ضحية نلاحظ عند بولانيو مثلا الأثر البورخسي، في ظل سردية تعتني بالواقع أو ما تحته أو ما ورائه، وبذلك يعتبر بولانيو همزة وصل بين بورخس الموسوعي وبين جيل جديد، وهي الوضعية نفسها التي في ظني يمثلها ضحية كهمزة وصل بين أجيال مختلفة في سودانين منقسمين!!
لقد ظل هاجس الانعتاق من التأثير المهيمن لموسم الهجرة على الشمال، والسطوة الطاغية لكتاب أميركا اللاتينية، أحد الهموم الأساسية لأحمد ضحية، فالواقع هو نفسه بالنسبة لكل جيل، ولكن أيضا كل جيل ينظر من زاوية مختلفة ويتناول هذا الواقع ويعبر عنه بطريقة مختلفة!
فبالنسبة لضحية الواقع هو الذكرى، التي يستدعيها أو يشيدها، بمزيج من أحداث الطفولة وحكايات الآباء. وحكايات الأولياء والصالحين وما يؤلفه من تاريخ موازي لتاريخ بلاده الحقيقي! كنوع من المقاومة لسطوة الطيب صالح وجيله خلال التجريب المستمر لأشكال سردية مختلفة، سواء باستخدام تكنيكات موجودة، لكنها تنتمي لمدارس سردية حديثة أو تراثية، اوحقول معرفية معاصرة أو تراثية، أو باختيار البطل الباحث عن الحقيقة الغائبة مع توظيف الشعرية ولغة الحنين التي ميزت ضحية عن سواه من الكتاب السودانيين (ملك لغة الحنين) في السرد والأحداث، بالإكثار من الأفعال والتقليل من الصفات.
هذا الجهد في التجريب وفي السعي لامتلاك صوت خاص يعبر عن زمن جيله ولحظته يجعله جديرا بأن يكون من أهم رواد تيار الهامش بعد ابراهيم بشير ابراهيم.
ولذلك نزعم ان سرد ضحية لم يقرأ بعد، ربما بسبب حدة طبعه في طرحه لأفكاره، وقراءته لكتابات الآخرين! فعلى الرغم من أنه من أهم الكتاب السودانيين الذين تركوا بصمات واضحة على المشهد السردي خلال ربع القرن الآخير، إلا أنه تم التعمد والتواطؤ على تجاهله بتركيز الضوء على كتاب تقصر قامتهم كثيرا عن مستوى كتفه.. كتاب من ذلك النوع ذو اللتطلعات الكبيرة، ولكن القدرات المتواضعة!
و لذلك تقل القيمة الفنية والأدبية والجمالية بصورة فاجعة في أعمالهم التي سخروا لنشرها وانتشارها حيلا تجارية خادعة، جعلتها تبدو كأعمال مميزة فيما هي أفقر من فأر المسيد في لغتها وأفكارها وأسلوبها!
أسرودات ضحية بحاجة للقراءة واعادة الاكتشاف، لما تتميز به من قيمة كبيرة قل وندر أن تتوفر في كاتب من الكتاب!
الناشر
Martyrs publishing House
Essex, VT
USA
ثلاثية مملكة العزلة
رائحة الشعراء
أرض النبوءات
شهرزاد غفوته المؤجلة
الجزء الأول:
رائحة الشعراء
رواية
أحمد ضحية
شهداء ثورة 13 سبتمبر للنشر الإلكتروني
ISBN # 978-1-79471-119-8
Content ID : 25475147
مملكة العزلة: Book Title
الطبعة الأولى2012
الطبعة الثانية 2019
رائحة الشعراء
As for as your dream goes the earth will get bigger.
إهداء
إلى وجوه حميمة، طي ذكريات عالم قديم..
أحمد
القسم الأول
I
رائحة الشعراء..
رائحتهم تلك التي تفوح بالحكايا والنبوءات، تدهمه. فيما هو منكب على رسائل ومدونات (دبك) التي تنضح بالنبوءة الأكبر!..
من بين كل النبؤات، نبوة الحب!..
ذلك النوع الغريب من الحب، الذي جمع بين الكرسني وحجب النور.. فاطمة السمحة وود النمير!
ذلك الحب البّري المتوحش. المتعطش. الذي ربط بين كثيرين وكثيرات، حفلت الرسائل والمدونات، بتسجيل أدق تفاصيل تواصلهم واتصالهم!
ذلك الحب الذي كاللعنة في تخلله، لحياة البلاد الكبيرة، وإسهامه فيما حل ويحل بها!.
كحب أبوجريد لمسك النبي، الذي سيشكل حياة الأشرمين من بعد.. حبه هو شخصيا للكساندرا، التي يجيء طيفها متسللا رائحة اللافندر، المتماهية في أغنية الحب لن ينتظرك:
C ause love ain't gonna wait fory ouDon't run, don't hideLove ain'tg onna wait for youIt's so good, it'ss o rightLove ain't gonna wait for You know that it's true
حياة دبك لغير المقربين منه، تبدو غريبة ومتناقضة في الآن نفسه!.. إذ تنهض في قدرته على تسريب تلك المشاعر المتباينة:
التوبة، القدر، الثورة، التراجيديا، القلق والشغف حد الموت!..
وكلما أقتربت منه أكثر، كلما أكتشفت:
أن هذه المشاعر المتناقضة هي إختصار لمعنى:
الحب/القضية عنده!!.. إذ لم يكن ثمة فرق واضح، أو حدود فاصلة في ذاكرته المتعبة، بين حنينه إلى حبيبته نينا، وحلمه الموغل في الضباب: مملكة "مارتجلو"القديمة، التي دفعه إيغاله في ذكرياتها البائدة، لمحاولات السيطرة المتكررة، على جلابي ود عربي!..
كان دبك مدفوعا بهذه المشاعر المختلطة، التي كادت أن تودي بحياته، التي سيختمها هناك في آخر الدنيا، حيث لا تؤانسه سوى ذكريات صراعه المستميت، وحبه المتجدد في عزلة البرد والصقيع!
كان دبك في شبابه رجلا استثنائيا، لا تنقصه الشجاعة، ويدرك أن أصعب شيء لمن هو مثله، الابتعاد عن الشر.. وظل جلابي ود عربي هو التجسيد الحي لما يطلق عليه دبك شرا!
حبيبته نينا الورتابة، تكرر مرارا بخفوت "نظراتك تخيفني.. تثقبني.. من أين جئت بهذه العيون؟.!.. وكعادته عند تلقف يدها، لا يعلم ما هو أفضل شيء، يمكن أن يقوله لها الآن! دبك رغم مرور سنوات طوال ,لا يزال يتذكر في قيلولاته المتكاسلة، كل ما مر بحياته من مرارات وأسى..
كأن كل شيء حدث البارحة فقط، وبين ذكرى وأخرى، يتوقف ليستعيد كل وقائع التاريخ المتواتر، لمملكة "مارتجلو" التي لم يعد لها وجود، منذ حل ود بندة بأرضها..
كتب هذه الذكريات والتاريخ لحفيده الكلس، في سبعة مدونات، ستؤرق قراءتها وتحليلها هذا الآخير، لعشرات السنوات، إلى أن يقضي نحبه بين فخذي إمرأة عابرة، في إحدى المحطات النائية البعيدة، خارج حدود العالم المأهول.
وفيما أنامل غلوريا تحاول التسلل من فتحة بنطلون الكلس، لتمارس هوايتها المحببة:: العبث بما تعتبره مقتنياتها الخاصة، المهاجرة من غابات افريقيا المتوحشة، عبر البحار!.. كان الكلس يحاول التركيز في قيادة عربته الشيفي الطاعنة في السن، بينما تتبدى له شوارع برنسس آن.. هذه البلدة الريفية الناهضة أقصى الساحل الشرقي لميريلاند، خالية من زحامها. ويسودها صمت كئيب ألفته جيدا! خاصة في الشتاءات الباردة كهذا الشتاء الذي لا قلب له!..
كانت حركة أوراق الشجر، قد اختنق حفيفها المعتاد، عند ملامسة الهواء المكتوم. كأن البلدة لم تعد هي البلدة ذاتها، التي اصطفت على جانبيها أشجار الأوك المتمايلة، من حركة أرواح العبيد الذين شنقوا عليها، بعد ضبطهم يضاجعون سيداتهم البيضاوات، الشبقات كساحرات فلاديمير نابوكوف!
هذه الطيور التي لا تتوقف عن التغريد، هي الأرواح الهائمة لأولئك العبيد، الذين أراحهم شبقهم من عذابات وآلام حياة الاسترقاق المهينة، لترقد أروحهم دون سلام على بعد آلاف الأميال من مساقط رأسهم، في أفريقيا البعيدة!!
هذه البلدة معين حكاياتها لا ينضب، ففي هذا الصبيحة الغامضة، تبادل ثلاثة من الأفرو-أمريكان النار مع البوليس الفدرالي.. كأنها ليست البلدة ذاتها التي شهدت محاولات سطو الأفرو أمريكان الثلاثة، على مكتب البريد الوحيد، الذي ينتصب في منتصف سمرست آفنيو، بتردد من يترقب حوالة مجهولة المصدر، تضل طريقها إليه!..
عندما رد البوليس على نيران الأفرو-أمريكان الثلاث-الذين كان قد أعتقد في البدء أنهم مكسيكيون-التي انطلقت من أسلحتهم الأوتوماتيكية، ساد الهرج والمرج أنحاء البلدة، التي لم يخفي سكانها سخطهم، من عنف الشرطة، التي حملوها مسؤولية مقتل إثنين، والحالة الخطيرة للثالث..
لا أحد يعرف كيف علمت أجهزة الإعلام الولائي بالخبر، ذ إنتشر إنتشار النار في الهشيم، و لاكته (سي إن إن)أكثر من مرة، خلال ذلك اليوم المشؤوم، مصورا بالتفاصيل الدقيقة:
منذ أتكأ أحد البلاك، على شجرة أوك عجوز، يراقب الطريق، إلى أن داهم البوليس المكان..
كان الأهالي في ثورة سخطهم، قد استعادت ذاكرتهم كل مرارات الماضي، منذ جاءت سفن تجار الرقيق، تحمل أسلافهم لتحط بهم هنا، في هذه البلاد البعيدة..
"وفي ميدان البريد أمام الكنيسة العتيقة، كان يتم تصنيفهم، فيمضي بعضهم خدما للمنازل، وآخرين للمزارع أو المصانع، أو الأشغال الأخرى العديدة، التي يذخر بها العالم الجديد..
الصغيرات الجميلات فتحت لهن الملاهي وعلب الليل أبوابها، و وآخريات وآخرون أشرعت لهم وحدات الجيش الوليد أبوابها.."...
لاذت غلوريا بصمت اعتاده، و أناملها الرقيقة تتوتر، فيصدر احتكاكها بفتحة البنطلون تشنجا غير مألوفا.. يلحظه للمرة الأولى.!!..
استمر غضب الأهالي لساعات، يضفي على البلدة مناخا من التوتر والتحفز قبل أن تبدأ في استرداد هدوئها المعتاد، شيئا فشيئا.. وتعود إلى ذاتها المقموعة، كبلدة صغيرة معزولة على ساحل مغمور للأطلسي الرهيب، تعتمد حركة الحياة فيها، على الفروع الصغيرة، للمؤسسات الفدرالية والولائية، وبعض فروع الشركات الخاصة. ولولاالجامعة الصغيرة، التي قامت بموجب سياسات التمييز الإيجابي، لكانت حركة الحياة هنا، شبه معدومة، خاصة في الصيف. عندما يغادر الطلاب..
إذن كل شيء عاد إلى سيرته الأولى، كأن شيئا لم يكن، إذ أعتاد الناس هنا، العثور على جثث ضحايا صراعات حرب المخدرات، في الصباحات الباكرة,متمزقة أمامدورهم ,أو رؤية أشخاص في الرمق الأخير ,بأنوف نازفة وأجساد متمزقة,وثياب مضرجةبالدم,فالعنف جزء من مكونات هذه البلدة العريقة..العربات أيضا أخذت تقل شيئا فشيئا,والبرودة الصقيعية تشتد, فتحاصر الأضواء المتراقصة بين الإضاءات المتقطعة,إشارات المرور الملونة,التي أخذ اللون الأخضربينها, يأخذ زمنا أطول ,قبل أن ينطفيء مفسحا للبرتقالي فالأحمر,إلى أن ثبتتماما بين أضواء الشارع المتراقصة,في هذا الطقس البارد الذي يصعب التنبوءبتقلباته.غرقت البلدة الريفية في الصمت.وحدهما الباروالنادي الليلي,كانا لا يزالانمشرعان أبوابهما يتحدان الصمت والمناخ..ربما تبدأ بعد قليل ندف من الثلج في التساقط,وربما يختنق الجو تحت وطء مطر متقطع..ربما تعصف رياح مثقلة ,بالرطوبة العكرة للغابات ,التي تسيج البلدة منكل إتجاه ,لا تتخللها سوى طرق الأسفلت,والجسور,والبيوت المتناثرة,ومزارعالدواجن...أوقف الكلس عربته الشيفي القديمة .. صعد وغلوريا للدور الأول من المبنىالعتيق,حيث شقته الصغيرة,التي تبدو من الداخل كعالم معزول..غريب عن هذا المبنى الكبير,بجدارياتها ذات الوجوه الأفريقية,حادة التقاطيع,وتماثيل الأبنوس,التيتوزعت في أنحاء الشقة في نظام دقيق... فيما مضت غلوريا تخلع حذائها وثيابها لتستحم,وترتدي - كالعادة- قميص نوم شفافيكشف كل شيء,كان هو قد شغل الراديو القديم,بعد أن ضبط موجاته ,على إحدىالإذاعات المغرمة ب"الكنتري ميوزيك" ,ثم مضى يفتح النوافذ ,المطلة على الشارعالمزدحم بالمحلات التجارية,قبل أن يغير ملابسه ,ويستلقى في سريره المجاورلنافذته المحببة,التي يرصد منها حركة الناس وضجيجهم وإيقاع حياتهم اليوميةالحافلة بالجنون.. ومثل كل ليلة .. ما أن يرمي بجسمه الفارع ,متهالكا على السرير,منتظرا غلورياتنهض من التسريحة,بعد أن تكون قد فرغت من سقيا زهور الشرفة,وجاءت لتغفو علىصدره ,تفوح منها رائحة الشامبو اللافندر,تأتي طيوف الذكريات, أو هذه العوالمذات الوقائع العجيبة,التي لا يدري كيف يسميها. تأتي ممزقة كل الغلالات ,التيتلف قلبه وذاكرته,لتحتل فضاء الشقة ,فلا يعد يرى سوى عوالم طاعنة في القدم,تتفتق عن أصوات الماضي العريق,الذي يمد جذوره في مملكة "مارتجلو" وود بندةوجلابي ودار صباح والأرباب.. فيمتليء بشعور رطب,عطن,يتسرب من دريب الريح عندمفرق الأودية الثلاثة,لا تلبث تسرباته تستحيل إلى تدفق عارم,يعطي نكهة خاصة لهذا الجو المتقلب,الذي ينحاز في هذه اللحظة بالذات, لمطر يتساقط في وتيرةواحدة,ما يضطره للنهوض..يغلق النوافذ. يسدل الستائر,فتصبح الشقة, أشبه بسفينة غارقة,في بحر من الضوءالخافت,الذي يبتلعها جزء فجزء ,فتطفو على السطح الممالك المتعاقبة,لعالمالبلاد الكبيرة,ضاربة القدم,في هذا الفضاء الحلمي ,المعتق في الأطيافالباهتة,التي تبدأ في التشكل شيئا فشيئا,ليجد الكلس نفسه واقفا عند ودبندة,الذي كان وقتها يجوس في مستنقعات الماضي,فيما كانت بت فدر الله قد عكفتعلى وضع الخطط في ذاكرتها,بكوخها المعتم ذو الأثاث العتيق ..االلغغررييبب..االلممتتننااففرر..االلذذيي ككاانن ممععظظممهه ممنن االلففخخاار ر ووااللخخششبب,,ووااللذذيي ييتتووسسططهه ,,ففيي ممككااننيصطاد العين العابرة : صندوق خشبي عتيق يحتوي على رماد رفاة جانو قرمط !...كان الكوخ نائيا في أطراف الحاضرة, ذات الشوارع البائسة,المعتمة,التي تعاني الوحدة والبؤس, منذ أعتلى الهلاليون عرشها . حيث أصبح لفصولها الثلاثة,الخلومن الربيع ,طعم العرق الزنخ ,بوسخ الغبار وحرارة الإستواء العكرة ,وفيما كانتهي تضع تلك الخطط الفاشلة,التي تقلبها واحدة إثرأخرى ,وسرعان ما تتخلى عنهالتقفز للتي تليها ,أو التي تولد في هذه اللحظة,كانت إبنتها حجب النور,ترقبهافي لا مبالاة,وهي تفيق للتو من إحدى قيلولاتها ,التي يدهمها فيها ذلك الفتىالفارع, الذي يبلل حشايا "عنقريبها" ,الذي جففته الوحدة القاسية لذلك الكوخالمعزول ..صبيحة ذلك اليوم ,الذي رأى فيه ود بندة حجب النور,كانت هي قد نالت قسطا من الراحة ,دون أن تقلق أنوثتها ,تلك الأحلام المعتادة . .إلتفت بغطائها الصوف العتيق ,الذي ورثته أمها بت فدرالله عن جدتها ,التي زعمتأنه كان للكنداكة .. إعتاد هذا الغطاء الملكي,إستلقاء كنوز حجب النور تحته, فيدعة وحبور,متجاورة في تدوراتها وتعرجاتها الغارقة في الحوار, مع الكنوزالملكية للكنداكة ,ومسك النبي ,وأم حجل وكل الكنوز الأخرى,التي تعاقبت داخلهلمئات السنوات,تاركة ظلالا خافتة. دافئة. لفتنة لاترى إلا في البوح ,الذي يرتجفي جسم حجب النور,الذي كان قد أكتسب معارفه الملكية المبكرة ,من هذا الغطاء..فظلت حجب النور تجاهد إخفاء هذه المعارف ,عن بت فدرالله,التي لم يكن ثمة شيءيخفى عليها ,مع أنها كانت تدعي عدم معرفتها ,بهذا الحوار المتواصل ,بين جسدإبنتها, والأجساد التي تعاقب عليها الغطاء, منذ أهداه أحد تجار درب الأربعينللكنداكة إلى أن آل إلى جدة بت فدرالله في ظروف غامضة.,ضمن غنائم وأسلابالجيوش المتحالفة ,التي دهمت بلدة الأرباب في زمان بعيد.هي شخصيا بت فدرالله, كانت قد عاشت هذا الحوار الليلي المتواصل ,طيلة حياتها العامرة بالأشجان واللوعة.. داخل هذا الثوب تحاور جسدها مع أجساد نساء كثر,وتألمت كثيرا لحكايا قلوب محطمة وأخرى مسترقة, وتوقفت طويلا عند قلب مستبد, لمتكشف ذاكرة الثوب عن هويته ..ولكم شعرت بالحزن والأسى, وهي تتحسس الآثار الحميمة, التي خلفها ود النمير وأم حجل كالبصمة التي لا تختفي على كل حشاياهذا الثوب,الذي لا يخلو من آثار بقع منطفئة لا يمكن إزالتها عن ذاكرة الثوب.. عندما بدأ جسد بت فدر الله في اليباس ,مع بروز التكورات الأولى لحجب النور,قدمت لها هذا الثوب, الذي سترث معه في الحقيقة, أشجان والتياعات النساءأجمعين.كانت بت فدرالله, قد خرجت في ذلك الصباح ,إلى الحاضرة في أحد شئوونها الكثيرة, التي لا تدري هي نفسها شيئا عن أكثرها .وبينما بدأت تعسيلة النوم مرة أخرى,إثر صحوة الصباح ,تدهم حجب النور شوشت خطى مترددة غفوتها المؤجلة..
قمعت تعسيلتها المعتادة ,ونهضت. فرأت ود بندة, الذي تسمر يحدق فيها كالمصروع,الذي باغته ملاك, وفاجأه أنه سيكون النبي القادم .
إنتفض قلبها.. لكن لم يكن ود بندة ,هو ذات ذلك الوجه ,الذي تتبدى عنه أحلامها,يببللها بالدفء.. ضغطت بأقدامها على الأرض ,ويدها على قلبها .تحاول تثبيته فيمكانه ,كان كل شيء حولها ,قد بدا مختنقا...تحت ظل تلك الخميلة .متكئة على كوخه. تزوج الكرسني حجب النور ,التي تجردت آخيرا من كنفوسها القطني ,وإزار الصوف الذي يغطي صدرها ,مبقية فقط على رحطهاالمحلى بالخرز الملون والعاج, الذي ورثته بت فدرالله عن جدتها الكبرى ,وزعمتأنه الرحط نفسه الذي أرتدته الكنداكة ,ليلة قطف عريسها وردة جرحها وتركها بلاجرح... تزوجا إذن محاطين برائحة الجروف النيلية, وأشجار الجوافة التي سيجت الخميلة,بما يشبه الدخان الذي لاح في قلبه طيفاهما الغائمان كرمش محاصربدموع متكاثفة..كان كوخ الكرسني نموذجا مصغرا ,لغرف نوم بني هلال المتوارثة ,عبر االفردوسالمفقود والبحر الملون, وصحراء الشمال القاحلة,والتي كانت كعادة قصور الخلافة, مثلما لاتخلو من المباهج والليال الحمراء ,تحتشد أيضا بإرث الروم والفرس ,ممثلا في التماثيل الأنيقة ,والسجاجيد الحريرية. كانت هذه التماثيل ,تزين الجنبات الأربع للكوخ ,الذي لايبدو خارجه الفقيركداخله الوثير, الترف.. وحيث يجثم صندوق صغير ,قرب تمثال للهلالي الكبير, وضعتحجب النور الصندوق, الذي يحمل رفاة جانوقرمط ,الذي لم يعرف الكرسني محتواه, أوكيف وصل إلى هنا أبدا.في تلك الليلة ,تجرعا كثيرا من عرق البلح ,الذي بدأت صناعته تروج ,حتى لميعودا يتذكران شيئا, عن كيف ومتى وأين ألتقيا, وتزوجا . .فقط التنهدات التيتكشف عن أفكار متناهية الصغر ,كالذرات. كانت هي ما يشكل هذا التوحد الكلي في الصمت, الخاضع لعذابات مختزنة في الذاكرة والجسد, والأحلام الهاربة ..حفر الكرسني عميقا . .عميقا ,حيث تنقبض الأرض وتفيض "كجمام" الوديان ,ليخمدبعدها كل شيء: الحياة الممتدة على ضفاف الخميلة .. الكوخ الذي لطالما تراءىلعرافي قصر أبي هلال ,في كراتهم البلورية ,وخطوط يد الكرسني ,وملامح وجههالمخدد بالعزلة ووحشة البرية ..كانت لحظتها قد بدأت أصائل ضيقة تكتم الأنفاس, برياحها المعتقة ,في الهبوبالجافة ,التي تسحق الرياح ,المحملة برائحة طين الجروف ,والطمي وعشبات معونةالنيل ..يستحيل هذا المسحوق, شيئا مزيجا من النداوة الواهنة, والبرودة المختنقة ,وفيهذا المزيج, بدأت تلوح في أفق حياة حجب النور متجددة ,تلك النبواءت التي حملهاصوت بت فدر الله ,و"الفقرا" حيران جانو قرمط , لتلازمها لوقت طويل, حتى بعد أنيستلم طفلها أبي جريد مقاليد الحكم في دار صباح ,ململما أطراف البلاد الكبيرةتحت سلطته, لتدخل دار الريح, تحت ظل هذه السلطة ,طائعة مختارة ,وفاء من ودبندةلذكرى شيخه جانو قرمط..
II
أولئك الغرباء الذين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب "الفقرا",الذين كانوا قدبدأوا يتقاطرون على مارتجلو ,منذ تلك اللحظة .التي إستلم فيها ود بندة مقاليدالسلطة في مارتجلو ,موحدا دار الريح كلها تحت حكمه ,ومغيرا إسمها من مملكةمارتجلو إلى مملكة ود بندة ,التي أتبعها بمحض إرادته, لسلطة الهلاليين,والطائفة الجريدية في دار صباح .
.منذ تلك اللحظة الفارقة بين عالمين :عالم مارتجلو القديم ,الذي لا تزال تشكلوجوده بقايا التعاليم العتيقة للمقدس دالي,وعالم ود بندة ودار صباح ,الذي بدأيأخذ طابع الهلاليين و الجريديين شيئا فشيئا ,مضت رياح التحولات كانسة أمامهاكل شيء ,إلى أن وصلت ذروتها في الشلال ,فتغير إسمها مرة أخرى إلى مملكة "جلابيود عربي" .. هذه المملكة التي أصبحت تعج بالغرباء ,أكثر من أي وقت مضى .
.الغرباء شديدي الشبه بأولئك "الفقرا" الذين تمردوا على تعاليم دالي ,فأنتهىالأمر بمارتجلو إلى فيضان, لا تزال آثاره في ذاكرة المكان ترتسم بوضوح .فالفقرا الذين تواترت إليهم الحكايات العديدة ,عن جنة عدن,والألياذة والأوديسة,والمغنين الجوالة ,ووصلتهم نتف متفرقة من هيرقليطس ,فبدأوا يتأملون حولالطبيعة والقدر ,إلى أن حكى لهم أحد تجار طريق الحرير, كان قد ضل طريقه منالفلسفة إلى التجارة والترحال ,ما تناهى إليه عن سقراط وافلاطون وأثينا .
.
هذه المتواترات المتفرقة التي كانت تصل مع قوافل التجارة ,بصورة متفرقة ,جذبتإهتمام تلك الفئة من الناس, وفتحت شهيتهم ,التي وجدت المزيد في رحلاتبعضهم,التي امتدت لعقود من الزمان,جابوا فيها البحاروقطعوا صحارى وجبال ,ليعودوا بعدها طاعنين في السن ,دون أن يتعرف عليهم أحد ,فجيلهم كان قد انقرض,وظلوا هم وحدهم على قيد الحياة ,كأن تلك الرحلات الطويلة المضنية ,مدتأعمارهم ,ومدتهم بأسباب البقاء ,ومقاومة الزمن الذي كانت خطاه ,تدب في عظامهم باستماتة النخر الدؤوب.. فيصرون على الحياة أكثر فأكثر,بتلك التجمعات التييقيمونها,ليحدثوا الناس عن أرسطو ويوربيدس والهيلينيين والقرون الوسطى ,لكنكانت معرفتهم تقف عند هذه التخوم ,دون أن تتقدم شبرا واحدا ,فذاك كان منتهىمعارفهم الفاشلة ,التي لم تكن حياة الناس اليومية ,بحاجة إليها - مثلما كانالكلس يعتقد ,في أواخر أيامه,التي قطف فيها وردة جرح شهرزاد ,متجنبا لقاءهابعد ذلك,إلى أن غادر إلى بلاد اليانكي - وفي الحقيقة كان العالم كله يقف عندهذه اللحظة ,منتظرا دورة نهايته المأساوية . .ربما أن هذا الخليط من الحكايات المتناثرة ,التي لا تخلو من سحر وعبثية ,لمتحسم الجدل القائم بين أيهما خلق أولا :الدجاجة أم البيضة ..الأمر الذي أوحىلجلابي ود عربي ,بالتوحد مع دارصباح,ونشر طابع حياتها ومعتقداتها في دار الريح..
III
كان التعب والأعياء قد نالا من حجب النور ,بعد مقاومتها الطويلة للكرسني,فاستسلمت في حضنه, على صهوة الجواد ,الذي نهب بهما الأرض ,وأخذ وقع حوافرهيتباعد شيئا فشيئا عن حاضرة دار صباح ,إلى أن وصلا إلى تلك الخميلة, التي تشبهالخميلة التي أقامت فيها بت فدرالله كوخها,الذي شهد طفولة حجب النور وصباها.... ترجل الكرسني وأنزلها عن صهوة الجواد برفق,وهو يقودها إلى داخل الخميلة,التيأنتصب فيها كوخ يشبه كوخ بت فدرالله.أجلسها تحت شجرة تمرهندي,ترمي بأغصانهاعلى الكوخ حتى لتكاد تخفيه عن العيون المتلصصة ,وهي صامتة جزعة,لا تقوى على أنتنبث ببنت شفة .
.حاول تهدئة مخاوفها ,بصوته الذي تناهى إليها كأنه قادم من البعيد .. من أعماقذكرياتها المبللة,وأحلامها الدافئة .. حكى لها حكايته من المبتدأ إلى المنتهى, دون أن يخفي عنها شيئا من أسرار حياته,التي لطالما أحاطها بالعزلة ,التي لميفتح عوالمها القصية ,حتى لصديقه الوحيد ودبندة .
.كانت أساريرها قد بدأت تنفرج ..لم تقوى على إخفاء تهللها,إذ أدركت من حكايته,حقيقة تلك النبؤة ,التي لطالما آمن الفقرا أتباع جانو قرمط بها ,وعاشت بتفدرالله منذرة حياتها لأجلها.. لم تكن تلك النبؤة .. إذن,محض خيال شعبي ,وآوانتحققها قد حان . .فتبسمت في وجهه للمرة الأولى ,منذ تلك اللحظة التي دهم فيهاكوخها, بصحبة خدمه الخواص ,وأختطفها بغتة ,فلم تعي نفسها إلا وهي في حضنه ,علىالجواد الذي نهب الأرض ,خارجا من حاضرة دار صباح ,خروج السهم من الرمية .
..تنفس الكرسني الصعداء,فقرأت في عينيه الوجد ,الذي كان يتعاظم داخله منذ ذلكاليوم ,الذي جاء فيه خاطبا ,فزجرته بت فدرالله ,كما زجرت ود بندة من قبل .وكانت حجب النور قد أدركت ,أنه حبيبها الوحيد وقدرها المكتوب ,فمضت تتفقدالكوخ صامتة ,بينما الكرسني يستعيد توبيخ بت فدرالله لود بندة . .هذا التوبيخالذي كان قد نال منه أبلغ منال ,فأوغل في عزلته ينادي حجب النور,دون أن يتلقىردا..لملم شتات نفسه في البرية ,وهو يعدو بين شجيراتها ووديانها .. كان يطاردطيفها بصوت ملؤه الألم ,حتى تضامنت معه وحوش الخلاء الكاسرة,فاتكأ على صدر صديقه الكرسني,يذرف دمع المحبين.. خرجت حجب النور من الكوخ تتفقد المكان حوله :الخميلة ببركتها الصافية وأشجارهاالظليلة وطيورها الجميلة ,التي أخذت تعزف لحن عرس ,يشعل في نفسها الشوقواللهفة.
كان الكرسني في عزلاته الليلية ,حين يجلس جوار تقابة النار,نديمه الوحيد فيالخلاء الموحش ,قبل أن يلتقي ود بندة ,يبث ذلك الطيف الذي يتراقص ,مع لهبالتقابة نجواه.. يحدثه عن الذي قصر أو طال ,يلقي إليه بندف أوجاعه .. كانيحترق كل يوم وليس سوى نار التقابة يواسيه هسيسها الذي يزحف عميقا في حشاياه,إلى أن إلتقى ود بندة .
.كان يراقبها وهي تتفقد المكان . يلحظ إنفلاتات عينيها تسيل برغائب محتجزة .متشحة بظلال هي مزيج من الإستسلام والتحفز ,تجعل جسمها الممتليء, يرتعشإرتعاشات خفيفة لا تكاد تبين.. ذلك الإنطفاء الذي لمحه في عينيها ,لحظةإختطفها ,يشعر به الآن تحل محله جذوة ,تومض كلهبة صغيرة ,تبدأ في التنامي شيئافشيئا ,تدفع خديها للتورد ,الذي يبين ناعما ,ساحرا وآسرا ,يطال كل بشرتهافتكتسي بالنضار .
.منذ رآها في اللحظة الأولى تلك ,بعد أن حكى له عنها ود بندة ,سلبته السيطرةعلى نفسه .. كانت ملامحها الدقيقة هي ذات تلك الملامح ,التي كثيرا ما دهمتأحلامه,فملأته بالسعادة والحبور ,الذي يفيق منه مكتئبا ,عندما يكتشف أن ذاك لميكن سوى محض حلم .
.تطفو تلك الملامح ,التي كانت ترتاد مخيلته على سطح ذاكرته الآن,تنطوي علىوجهها الماثل أمامه ..لم يكن محض حلم..
وكانت هي تتمعن جسمه الفتي ,والصفرة الخفيفة البادية على وجنتيه ,والحزن الخفيالذي يسكن عينيه .. كانت تحاول أن تبلور النبؤة القديمة . تضاهيها بهذهالملامح ,التي أخذت تغزوها وتحتلها لم يطق الكرسني الإنتظار أكثر.حملها بين زراعيه ,إلى داخل الكوخ .
.كانت كل تلك الأصداء للأحاديث المكررة ,التي لطالما رددتها بت فدرالله,وشيوخها الفقرا أتباع جانو قرمط , على مسامعها ,عن أساطير الأصل المقدس ,والتقاليد التي كذلك الأكسير ,الذي يحيل المعادن الوضيعة إلى معادنثمينة,فالناس معادن..تتناءى الآن وتتلاشى بعيدا عن ذاكرتها الغضة التي ينهضفيها وجه واحد فقط ,لطالما رأته في أحلامها الغامضة ,هو : وجه الكرسني .
..ينتفض كيانها كله ,إثر كل رعشة في جسد الكرسني ,المتمدد تحت ثوب الكنداكة الذييغطيها , كجبل يزرع عروقه في أرض صلدة.. يهتزان محترقين كطائر خرافي يتجدد فيالنار ,التي ما أن تحرقه ,حتى ينبعث من جديد ,نافضا رماده .
.كانا كشعلة لا تنطفيء إلا لتتوقد مرة أخرى ..لا يحسان مغيب الشمس,أو إطلالتهامن جديد ..عتمة الليل أو تسلل خيوط الفجر الأولى ..البرق والرعد والمطر,أوالسكون الذي يسبق العاصفة ويتلوها.. صمت العصافير والنسور والسحالي,أومشاركتهما بغتة لذة الإرتعاش ,بسلام يسود بينهما إلى الأبد .
.وكانت الطبيعة حول كوخهما تكتسب طورا جديدا , يخرج من أعماق الحكايا والقصصالتي أنشدتها ,أشعار الحب وقصائد الهوى الجامح ,تخصهما بالسحر والخلود ..فتنأى دار صباح بضجيجها وزحامها . .يبقى فقط وجه حجب النور والكرسني ,يضيئان العتمة .يمتزجان في الفجر الوسن.يخترقان أحلام النوم العميق,يزرعان السهروالحمى .
.تبصم إرتعاشاتهما الأخيرة على الصمت والسكون, وكل دروب وأزقة دار صباح ,مفضيةإلى نبؤة الخلاص في أبي جريد الصغير,القادم من رحم حجب النور , بكل أحلام أبيجريد الكبير وجانو قرمط ,لدك عرش أبي هلال ..إذن كان أبو جريد يتشكل لحظتها فيرحم حجب النور التي غرقت على صدر الكرسني في نوم عميق كنوم أهل الكهف . .IIII
تقول الحكاية المروية عن بت فدرالله ,أن السلطان جد أبي هلال بعد أن قتل جانوقرمط ,قطع جثته ست عشرة قطعة ,فرقها على المداخل الأربعة لدار صباح ,لكنالفقرا السريين, الذين تبقوا من طائفته ,دون أن يعلم السلطان بوجودهم ,تمكنوامن إستعادة كل الأجزاء عدا عضو الذكورة .
.ومضى الفقرا, يستخدمون السحر في إعادة تركيب جسد جانو ,لتنجب منه بت فدر اللهالصبية المراهقة وقتها ,درتها الوحيدة حجب النور.. والتي تقول النبؤة الخاصةبالفقرا ,أن ذلك الفتى الوحشي الذي يعيش في البرية ,والذي هو من دم أبي هلال ,سينجبها هلاليا صغيرا هو المنقذ المنتظر ,الذي يخلص دار صباح ,من قبضة أبيهلال ,ليبدأ مجد الفقرا في سلالتهما التي ستحكم كامل البلاد الكبيرة .
.الليلة التي ولدت فيها حجب النور,إحتضنتها الحمائم ورعتها,وانسابت سيول عارمةفي مجرى النهرين ,تدفقت مياههما ,حتى أغرقت أجزاء واسعة من حاضرة دار صباح,فخرجت التماسيح تستلقي في دعة وحبور,وهي تلاطف الأهالي الطيبين..
V
في وحدته القاسية يتأوه الكلس محاصرا برائحة الشعراء ,وهو يرمق ببصره الجدرانالبيضاء ,في غرفته الغارقة في الصمت . يتكيء على صدر غلوريا .. على سقطالتواريخ,وبقايا من ذكريات تشظت في هجير السنوات ,فيدهمه طيف دبكالبعيد,منشغلا بما يراه من حيرة, تتآكل عيني نينا الواسعتين ..هذه الحيرة التيلحظها منذ أول لقاء لهما ,في صباهما الباكر,حين أخترقا عالميهما ,غارقين فيغلالة برزخية ,تقاطع فيها الألم مع العنف والتلظي . معلنان مواجدهما الوليدة,للوادي وأشجار القمبيل ,وشجر القنا . .منذها,بقدر ما أقتربا من بعضهما, بقدر ما كانت المسافة بينهما تزداد إتساعا .
.كان دبك يدرك أن نينا الورتابة , لا تنتمي إلى عالمه,لكنه كان يدرك أيضا أنهاقدره,الذي ليس منه فكاك .. ذلك الحس الأسطوري الذي يهيمن عليه ,ويتغلغل عميقافي روحه وجسده ,يدفعه دفعا للتشبث بهذا القدر اللذيذ .. وفي غمرة هذا الكروالفر ظل مخلصا لها,وظلت وفية له .
.كانت سعيدة بسيطرته عليها ,وفهمه دخائلها ورغباتها..هذا الفهم ,تشكل عبر سنواتطويلة ,ظل يشعر خلالها بحاجته المستمرة للحب, في كل ما حوله . كان لا يحتملخيبات الحياة, التي تجبره على معاناة آلامه وحده,دون أن تصدر منه آهة واحدة,وأورث هذه العادة للكلس الذي يشعر الآن, في هذه البلاد الباردة ,بأحزانهالمنقضية كلها تتجدد,في إستدعاء ذاكرة الحكايا القديمة ,حكايته وشهرزاد غفوتهالمؤجلة ,المحاطة باللافندر ,ورائحة الشعراء والغفوات المؤجلة , وتلكالأحزان..
تلك الأحزان التي أرقت الحكماء والحكيمات,وهم يرون تعاليم دالي ,تنهار مع زحفالرفاهية ,وتحريف الفقرا المتمردين لتعاليم دالي العتيقة ,وزعمهم أنها لم تكنمكرسة للعزلة ,وأن الحكماء والحكيمات ,نصبوا أنفسهم سدنة لهذه التعاليم,وفسروا ما رمى إليه دالي خطأ ,فباطن ما رمى إليه دالي, يتناقض ويتعارض معمظاهر التعاليم المعمول بها .
.كانت مملكة مارتجلو تستحم كعادتها ,في شلالاتها . حين أعلنت هذه الأصوات,بداية رياح المحنة ,التي ستذروها في "فِجاج القِّبل" الأربعة . سرت رعدة فيأنحائها كلها ,فارتدت أعمدتها العتيقة ,التي حال لونها..هذه الأعمدة الشامخةفي عزلة الوديان وقحل الصحراء ,ووحشة الجبال .
.لم تكن هذه المحنة من المحن ,التي أعتادت عليها مارتجلو ,بطبيعتها الضارية,وهبوبها العاصفة ,فالغرباء الذين ضلوا طريقهم إلى مالحة ,وألقت بهم الأقدارإلى مارتجلو,تمكنوا من إقصاء الحكماء والحكيمات ,الذين لطالما حملوا همومالمملكة ,كي تنعم بالسكينة والرخاء .
.هؤلاء الغرباء نشروا الأكاذيب ,وحرفوا تعاليم دالي ,فلم يعد الناس يثقونبالحكماء ,إذ تغيرت نظرتهم ,وأمتلأت نفوسهم بالشك والريبة والظنون .
.عندما أطبق الظلام ,على كون ذلك الزمان البعيد,أخذ المقدس دالي حفنة تراب ,منالقبل الأربعة .عجنها بعصير زهور البرية ,ولحاء صندل الردوم والقمبيل ,وصاغفي العزلة مملكته ,التي ستتعاقب عليها دول ,لم تخطر على بال قداسته مطلقا .
.ولسوف تبرز من بين كل الحكايا, في هذه العزلة البديعة : حكاية ود بندة,المرسومة بحميمية وحزن شفيف,على جدر كهف المقدس دالي ,وعلى المدونات حائلةاللون ,"التي سيستعين بها دبك ومن بعده الكلس , في هذه البلاد الباردة,فيإعادة كتابة تاريخ المكان وأحوال الناس .
."يحكي الكلس نقلا عن هذه المدونات,التاريخ الشخصي للمقدس دالي ,وعذاباتهومواجده ,التي كقصة حب مأساوية الطابع ,لم تكتمل إذ حاصرها الهجر والرحيل ..ويمضي الكلس إلى أن المقدس دالي,كان يعتقد أن أجناسا أخرى ,غير الإنسان ,ورثت معه هذا الإقليم الشاسع,وأن ما يعرفه قداسته ,إنما عرفه من كائنات ما وراء هذاالعالم ,كما آمن بأن النجوم شموس أخرى,ولطالما تملكه ظن عجيب ,بأن كائنات خارجحدود هذا العالم ,ستسيطر على الأقليم, وتتزوج نساء شعبه ,فتنجب مسوخا مغرمة بصناعة أسلحة القتل الرهيبة,وتشرب الدم شربها للماء .
."..."ربط دالي بين حركتي المد والجزر,وتحركات القمر,الذي إذا صار في أفق من آفاقالبحر ,أخذ ماؤه في المد مقبلا مع القمر,ولا يزال كذلك إلى أن يتحول القمر ,عنكبد السماء ,فينتهي المد فإذا تحدر القمر عن مكانه مرة أخرى,إبتدأ المد مرةثانية ,وأنحسر الجزر ,وهكذا.. فيكون كل يوم وليلة بمقدار مسيرة القمر فيهما.." .
.."وربط دالي بين القمر وتأثيراته على الناس و الحيوانات ,والحشرات والأشجاروزهور البرية
للمفارقة أن دار الريح التي استلهم فيها دالي إستنتاجاته ,لم يكن بها نهر أوبحر!!..وهو الأمر الذي جعل أولئك الفقرا يشككون في كل تعاليم دالي ومزاعمه .
."...الأسباب الحقيقية وراء إنهيارمملكة مارتجلو كما يرجح الكلس - على الرغم من أنأولئك الناجون من الطوفان,لم يؤكدوا بصورة قاطعة ومباشرة - تتمثل في التغيراتالجذرية التي أحدثها الفقرا ,الغرباء الذين ضل معظمهم الطريق ,فوجدوا أنفسهمفي الشلال..
هذه التغييرات ,التي أكدت نفسها في "ليلة الأنس الكبيرة " .. لكن المدوناتتؤكد في سياق متصل ,أن لهذه الليلة جذرها العميق ,في حياة مارتجلو منذ القدم,وبروزهذه الليلة في حياة مملكة جلابي ودعربي ,ما هو إلا صدى لتلك الحياةالعميقة ,بعيدة الجذور,التي لم تكن تخلومن اللهو والمرح,فأهل مارتجلو عندماأصيبوا بأدواء الترف,أخذوا يؤلفون الأغنيات والرقصات الجريئة , المتمردة,محتفلين بآلهة لم يرد لها ذكر في تاريخ الديانات والعقائد .
.كانوا يتركون بيوتهم ,وهم يملأون طرقات مارتجلو,يقيمون الإحتفالات حول أبراج دالي,يسرفون في شرب "البقو" ,وأكل المشويات ,حتى يفقدون وعيهم من السكروالتخمة . .كانوا يستمرون في الخروج عن وقارهم, الذي صاغته العزلة,فيقومون باستعراضاتداعرة, بعد أن يكونوا قد خلعوا ثيابهم الغريبة ,وأشهروا أعضائهم في إنتشاءمجنون,وقد تتوجت رؤوسهم بأكاليل من أغصان شجر القمبيل .. يتلامسون ويتبادلونالكلام الفاضح,وهم يحملون تمثالا ضخما لعضو ذكورة ,على قاعدة من عضوالأنوثة!!..غير آبهين بمنتهيات دالي ..ولا يتفرقون إلا بعد أن يختموا إحتفالهمبممارسة الجنس في شغف وجنون .
.كان الحكماء والحكيمات في شعب مارتجلو,قبيل الطوفان قد نادوا ,بأن خير وسيلةلإعادة مارتجلو إلى سابق عهدها ,بأن يتولوا هم إدارة أمرها ,بعد أن إستيأسوامن خلفاء دالي المتعاقبين,تغيير الحال..إذ إستمر خلفاء دالي في ترك الأمورللغرباء ,الذين أخذوا يسنون القوانين ,وهم سكارى,ويبرمون المعاهدات اليوملينقضونها غدا ,حيث جعلوا من مجلس السلطان مجمعا للمرتزقة وتجار الحروب,الذين كانوا قد نشطوا في التحريض ,ضد ممالك الجوار في دار الريح .
.كأن لعنة خفية حلت بمارتجلو ,فالجشعون الذين يطمحون لأمجاد زائفة ,أخذوايديرون المملكة كما يشتهون ,كانوا يتلكأون في خدمة مارتجلو,ويسارعون في إلحاقالأذى بها,خدمة لمآربهم الخاصة ,ولا يمنعون ضررا,أويؤدون واجبا عاما .
.كانت النساء الحكيمات ,قد إستيأسن ,وأيقن أن مارتجلو تمضي لا محالة إلى زوال.. كن يصرخن :
"لا ينبغي أن نربي ضباعا بيننا .
."...,فيجيب الرجال الحكماء:
"تسببنا لأنفسنا في ذلك,فعلينا أن تقبل العقاب إلى أن يتعقلوا.."..
فتحتج النساء الحكيمات :
"يجب أن نجد طريقة ,نعيد بها ثقة الناس في تعاليم دالي..وثقتهم فينا .
."..فيطرق الرجال الحكماء رؤوسهم ,يفكرون في وسائل لم يسبق لهم إتباعها .
.كانت أحوال مارتجلو قد تغيرت منذ وقت طويل ,لا يعلمه أحد ,فخلفاء داليالمتعاقبين ,جميعهم لم ينفذوا التعاليم بذات القدر ,ولم تحتل تعاليم دالي مكانها مجددا ,إلا بعد ذلك الطوفان ,إذ عمل الناجون على أسترداد مملكتهمالبائدة ,من قبضة التاريخ والذكريات,وإحيائها بالتعاليم كما كانت ,في عهدها الأول قبل مجيء الغرباء,مستهدين بأن أنصلاح آخر الأمر,لا يكون إلا بأوله .
.وهكذا بدأت تعاليم دالي تحيا من جديد,وتسترد مكانتها لتتشكل مارتجلو مرةأخرى:وطنا في العزلة ,يهدف إلى السلم ولا شيء غيره .
.كانت تعاليم دالي أشبه بأحكام ديانة تمرد عليها معتنقيها,لهثا خلف التغييرخارج حدود هذه المملكة,الغارقة في غبرة التاريخ,إذ أشارت بعض مدونات الناجينمن الطوفان ,إلى تأكيدات بأن الذين أخذهم الطوفان,ستظل أرواحهم المعذبة هائمةدون مستقر,إذ لن يرمى بهم في مملكة دالي السماوية,وإنما سينتهي بهمالأمر,مقذوفين إلى حمم الجحيم مباشرة .
.الذين أصروا على نبذ تعاليم دالي العريقة ,كانوا مؤرقين بهذه المملكة الوحيدةالبائسة ,في هذا العالم المحاصر بكوارث الطبيعة ,والكوارث التي من صنع البشر..
فمارتجلو كالمنبت ,لا تتفاعل مع ما حولها..غارقة في عزلتها , محاصرة برائحةالغرباء والشعراء والفقرا, الذين تقطعت بهم السبل .
.لكن الحكماء والحكيمات ,كانوا يرون ,أن هؤلاء لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا,من هذه العظات الكثيرة "الكوارث التي حولهم"والتي تحمل أخبارها ,حكاوي التجارالعابرين ,الذين يضلون طريقهم , فيجدون انفسهم في مارتجلو . .تمضي المدونات في وصف" ليلة الأنس الكبيرة..
"إستحمت النساء بالماء الذي غليت فيه أوراق البرية المعطرة,وجذور القمبيلوالمحريب والسعدة ,والحرجل والمحلب والسنا سنا.. كان هذا المزيج السحري ,يسيلعلى أجسادهن الممتلئة ,فيملؤها ألقا على روائها.. مشطت النساء شعورهن ,وتعطرن بعصارة الصندل والمسك والقرنفل,وتزين بزهور البرية, وأرتدين كنافيسهن المميزة,بعد أن غطين نهودهن, وتركن بقية أجزاء صدورهن ,يضربها الهمبرييب .
.كان ذوقهن في التزين يجمع بين التمرد الحديث لمارتجلو على العزلة,ورفاهيتهالفجة في عالم تملؤه هواجس الجوع والحروب ..مضين في طريقهن إلى ساحة الخلوةالكبيرة ,وأجسادهن المثقلة بالظمأ تتمايل وترتج .
.كان أبوي دالي من أهل هذا الإقليم المتسع ,الذين تؤكد الروايات الموثوقة,أنهما لم يجيئا كالكثيرون , من خارج الإقليم,فقد خلقوا هنا,ولا يعرفون لهموطنا غير هنا.. فهم ليسوا كالهلاليين الذين جاءوا من خلف البحر الأجاج ,أوأقصى الصحراء ,حيث تغرب الشمس ,عند الضفة الأخرى من البحر المالح ,لتشرق فيدار صباح..
كان دالي يدرك أنه ليس خالدا ,ولذلك قرر بناء مدينة عظيمة ,لها سمة الخلود,بالحصن الذي يحيطها ويعزلها عن كل ما حولها . داخل هذا الحصن ,ذو البواباتالثلاثة ,التي تكون مملكة الشلال رفعت أعلام طوال ,من نسيج غيرمعروف . وزرعتالأشجار المثمرة,في كل مكان يتخلله وادي أزوم ,وفرعيه"سجللو- واللهمرقاا",وعند مفترق هذين الفرعين شيد دالي ,معبدا كبيرا أنيقا من صخور "جبليمرة وأب كردوس" ,تفضي سراديبه إلى أنفاق وكهوف عين فرح السرية ,التي كان داليكثيرا ما يعتزل فيها ,لينحت بنفسه التماثيل الآدمية ,والنصب التذكارية التيتزين ,أزقة ودروب وشوارع مدينته الخالدة ,ومن بين كل الوجوه التي حملتها التماثيل,تكرر وجه عميق التقاطيع أطلق عليه إسم "شطة"وآخر بوجهين غامضين أطلقعليه:"ود بندة/جلابي".. كانت هذه الوجوه الثلاثة, تلح على خياله المبدع ,دونأن يدرك لذلك سببا.. ولإهتمامه العميق بالنجوم, فعل المقدس دالي شيئا عجيبا ,إذ إقتطع من جبل أبكردوس, ثلاثون صخرة قائمة,كل واحدة بطول رجلين ,وزنة أثنا عشر رجلا متوسطيالحجم ,وقام بصفها في شكل دائرة ,وضع عليها أفقيا صخورا أصغر ,تزن كل واحدةمنها رجلا صغيرا, في حجم فقير بائس.. وعلى مداخل هذه الدائرة الصخرية ,صنعدائرة صخرية أصغر ,على نفس النظام ,بحيث أنه عند الإعتدال الربيعي والإنقلابالشمسي,تشرق الشمس عند الأفق ,متدفقة بين فتحات الصخور ,كما أنه في اليومالأول من كل صيف ,تشرق أشعة الشمس ,مواجهة مكعب الصخور..الأمر الذي جعل الكلسيتفكر كثيرا ,ويستنتج إهتمامات دالي الفلكية ,ومعرفته بالوقت والتاريخ ,إذ أندراسة الخصائص الفلكية ,للمكان الذي شيد فيه دالي هذه الأبراج الصخرية ,كشف عن دورة الست وخمسين عاما ,اللازمة لحدوث كل كسوف ,كما أن تحريك هذه الصخوربمقدار معين ,مرة كل سنة .يعطي معلومات مهمة ,عن الأحداث القمرية القادمةلمئات السنوات .
.ومع ذلك يعتقد الكلس, أن دالي لم يكن سوى نبيا ضل طريقه إلى النحت والفلك,وشئوون الحكم في مملكة خارج نطاق التاريخ.. معزولة في الجغرافيا .
.هذه المدينة التي إبتناها العظيم دالي ,والتي نهضت على أنقاضها بعد مئاتالسنين "جلابي ود عربي",ببلداتها الثلاثة ,في ذات مواقع المدينة القديمة,أصبحت أثرا بعد عين - كما تشير أحدث المدونات المجهولة- إذ أنه في أحدالظهيرات البعيدة ,حل بسماءها غيم أسود قاتم اللون ,حجب نور الشمس ,وملأ نفوسالأهالي بالذعر والفزع .. ثم بدأ البرق والرعد يهزان كل شيء ,تلى ذلك صوت غريب ,مجلجل ,قادم من مكان سحيق .. كان صوت سيل عات. أغرق كل شيء ,حاملا معهالحجارة الكبيرة . .لم ينج من هذا السيل سوى قلة ,كانوا قد تعلقوا بجذوع الأشجار ,هؤلاء كانوا قدكتبوا شهاداتهم بلغة "الفور" المجهولة ,حول هذا الطوفان ,الذي لم تصمد أمامهسوى ,تلك الأبراج التي شيدها دالي, من صخور جبل مرة وجبل أب كردوس الثلاثون ,ومتاهته الشخصية بين النبوة والملك والعلم والفن .
.الناجون الذين تعلقوا بجذوع الأشجار,لم تنج سلالتهم مما يشبه اللعنة فيمابعد,إذ كانوا يلدون أطفالا غير طبيعيين ,بعاهات غريبة ,كأنهم تلك المسوخ التيتشرب الدم ,التي حملتها نبؤات دالي . حتى أنهم بعد مرور مئات السنوات ,أصبحعددهم كبيرا ,فبذروا الشر في كل أنحاء البلاد الكبيرة .. قتلا وحرقا وإغتصاباوتمثيلا بالموتى .
.VI
منذ ميلاده .ولدى دخوله الخلوة ,أخذ الكلس يفكر في كون اللغة : لغة دبك الذيأورثه تاريخه الشخصي وكثير من الحكايا والمدونات .
.هذه اللغة المغايرة للغة الكتاب المقدس.. وبين هذين الكونين : لغة القبيلةالخاصة-وكون لغة الكتاب المقدس, والقومية التي يمثلها,كانت تتحرك كل العوالمالموروثة والمكتسبة ,فتتحرك تبعا لذلك مجسات تفكير الكلس ,في محاولاته الدؤوبة لإستكناه السر, الذي يبدأ من هنا وهناك ,في أعماق مملكة دالي العريقة .
.كان سؤالا جارحا يتغلغل داخله ,ويتفتق عن ضباب يفضي إلى ضباب آخر, في سيرة دار صباح,قبل إستيلاء الهلاليين عليها ..عندما كانت تموج بحركة الناس, بأعراقهمومراتبهم الإجتماعية المختلفة . .في ذلك الوقت البعيد, إصطفت كناتين وسقاقيف السلع المتنوعة :ريش النعام,سنالفيل,الحراب, السكاكين,السهام والأقواس والسيوف.. الذرة ,البرتقال,الدخن,الليمون والشطة.. المغزولات الكتانية والقطنية,ومنسوجات النول...
وحيث توسط سوق الرقيق كل ذلك,كانت دار صباح ,حافلة بضجيج التجارالمقيمين,والآخرين العابرين,وحيشان القش التي تزرب قطاطي ورواكيب المقامرة,والمتعة والبقو والعسلية وعرقي البلح .
..وفوق هذا وذاك المغنين الجوالة ,الذين يعزفون على الربابات وأم كيكي,معزوفاتتتقطع لها نياط القلوب,وإلى جانب هؤلاء المغنين,تجمع الفارين من أوطان أخرى,داخل البلاد الكبيرة وجوارها : لصوص ,قطاع طرق وهمباتة,وزراء سابقين لممالكصغيرة فاشلة,قادة مليشيات وعمد ومشايخ منهزمين,وجنود مكسورين الخاطر..قرامكةأتباع الفقير الراحل جانو ,و"حبرتجية" لم تعد حيلهم تمر في الناس,وناس عاديينمتهمين في قضايا لم تخطر على بالهم أبدا!!..كان الجميع وقد "فنقس" بهم الزمنيبحثون عن أمل هنا .
..المكان الوحيد الذي كانت تسوده السكينة والهدوء,بعيدا عن كل هذا الضجيج هو"الفريق" القريب من قصر السلطان ,حيث تعيش"قند اليمن",وهو الحي الذي لا يمكنالوصول إليه ,دون الإحتكاك بالآخرين أووطء أقدامهم المتزاحمة .
..وفي غمرة هذا الزحام هلت "قند اليمن"..كانت ممتلئة ,مشربة السمرة,التي تميلإلى دكنة خفيفة,هي سحنة أهالي دار صباح الأصليين .. كانت عينا قند اليمنبالألق الذي يميزهما ,تشكلان مع غمازتيها المتراقصتين ,سحرا خاصا لايمكنالإنفكاك من تأمله.. وقند اليمن تميل إلى القصر,لكن جسدها ينبيء عن قوةوعنفوان غريبين . .شعرها حالك السواد,الذي لم يكن طويلا أو قصيرا,لامست بعض خصلاته الفارة منالمشاط ,جانبا من وجهها البيضاوي,بملامحه المميزة .
.كانت قند اليمن تحاول العبور في هذا الزحام,عندما أنتبهت إلىعيني"الدريب"اللتين كانتا تتحسان جسمها شبرا شبرا..إرتبكت فتقافز نهداها النافران ..وأسرعت الخطى .
..جمال قند اليمن نوع من الجمال الساحر,الذي يسلب اللب ,فيأسر العين,وكانت هيتعرف ذلك,وتسعد بهذه المعرفة,التي تؤكد لها أنها بمثابة الحلم العزيزعلىالشباب,الذين كانوا على أية حال يهربون من ملاحقة هذا الحلم, بإنفاق الوقت فيلعب "الضالة والسيجة" ,أوتغشي الأندايات .
..زارها كثيرون في أحلامها فأقلقوا منامها ,وبقدر ما شعرت بذلك النوع المحبط منالإرتواء ,بقدر ما كان يجتاحها إثر كل صحوة,ظمأ حارق يبدد سلام جسدها المكتنز,المتفجر بالعرم .
..لم تكن دار صباح مكانا ذا تاريخ متصل ,كأجزاء البلاد الكبيرة الأخرى,إذ كانتتجاربها على الدوام غير مكتملة ,تنقطع في مكان ما لتبدأ تجربة جديدة ,لا تلبثأن تنقطع هي الأخرى..هذا التاريخ وسم كل شيء:الناس والأمكنة والمناخ .. فقدكان بدار صبح سبعة أنهر ملونة ,لكن ولأسباب غير معروفة, أصبح عدد أنهارهاخمسة,فأربعة ,فثلاثة ,فإثنين..وحتى هذان النهران,لا يستمران في الجريان, إذيتوحدان ليشكلا نهرا واحدا ,يتهدده الزوال هو الآخر .
.كذلك مناخها شهد من التقلبات ما لم يجد له أحد تفسيرا,إذ تغير من ذلك المناخالمعتدل ,الذي يدخل على النفس بهجة وسرور,إلى مناخ معكر بالغبار الوسخ .و حارقبحره اللافح .. ولم تنج أرض دار صباح من التغييرات,بما شهدته من تقلبات ,إذتحولت من غابة خضراء يانعة ,تتخللها الأنهرالعديدة والوديان,والجبال.إلى أرضقاحلة جدباء..وأصبح كل ذلك الجمال الذي عرفت به ,محض تاريخ مروي في الحكاياالشعبية,التي لا تزال تتواتر..وتحكي عن تلك الهالة, التي كانت تتجمع من أجزاءصغيرة,صقيلة في السماء ,يحيطها غلاف من الغيم الشفاف ,الذي عندما ينعكس عليهضوء الشمس كالمرآة ,تنكسر عليه آلاف أقواس قزح ..هذه الهالة لم تعد تتكون فيفضاء دار صباح منذ وقت بعيد ,فكل شيء حول الطبيعة, التي كانت ساحرة يوما تبدد.. في البدء فرت الحيوانات,ثم أختفت الغابات ,فردم الرمل الوديان,فهجر "جدادالوادي" والوزين أرض دار صباح إلى غير عودة,حتى أن الطيور المهاجرة ,لم تعدتتوقف عند دار صباح لتستجم,أصبحت كلما مرت بسماء دار صباح, تزيد في سرعتها,فتعبر دون توقف .. حتى الحمام والقمري ,غادر دار صباح .
.ما تبقى من العصافير الصغيرة,التي حار بها الدليل,والتي كانت ترك على الرواكيبوالقطاطي ,لم تعد تزقزق, سوى بأنغام حزينة,تفيض بحيرتها الكونية,في عالم دارصباح المتداعي,تنعي زمنا مضى وأنقضى .
.تفككت الجبال الراسيات إلى قطع صغيرة,خلفت ذاكرتها في التلال الصخرية ,وعششالسمبر والغربان فيما تبقى من أشجار كالحة ,آخذة في الإنقراض هي الأخرى .
.لم يعد من جمال الطبيعة التي كانتها دار صباح يوما ,سوى ما خلفته تلك الطبيعةالساحرة من ذكريات ,على أرماث الوديان وقبور الأنهار وأكفان وهياكل الشجر .
.إختفى حتى ذلك المجتمع المتجانس, الذي كانته .. حل محله مجتمع غريب:خليط منالأرقاء والمنبتين والأدعياء, الذين ينسبون أنفسهم لأصول مقدسة ,وقد أعياهمالبحث عن تقاليد وعادات وأعراف, لم تكن تنتمي لثقافتهم يوما.. يقاومون بها حدةشعورهم بالغربة ,وإفتقارهم للإنتماء الأصيل لدار صباح .. هذه الأرض التي لاتلبث على حال ,إذ كانوا ينهون سجالاتهم دائما بعبارة:"أنا من أصول ...".. إذنأصبحت دار صباح في منزلة قبيل القيامة بقليل . ..لا أحد يستطيع أن يجزم بالضبط :هل الجغرافيا هي التي فعلت ذلك بالناس,أم أنالناس هم من فعل ذلك بالجغرافيا ,فحملت سماتهم المشروخة,وهواجسهم وإحساسهمبالضياع ,والضعضعة والتبدد .
.عندما جاء أولئك الغزاة من مصب النهر ,لم يقاومهم الحكام الهلاليون ,المنتشرينعلى طول دار صباح وعرضها , بل فتحوا لهم أبواب البلاد ,وقاتلوا معهم جنبا إلىجنب ,في الصعيد والسافل, وأجزاء من دار الريح القريبة من دار صباح..لكن لميتمكنوا من الوصول إلى قلب دار الريح, حيث الفواشر الملكية,التي تنهض ,في عزلةمارتجلو وغموضها .
.علية القوم في دار صباح ,التي شهدت التحولات المريعة, في سلطة الهلاليين علىعهد الغزاة ,إنفتحت لهم مدارك لتجارة لم يكونوا يعرفونها:الجنس المنظم..فأنتصبت الرايات الحمر,في بيوت الجالوص ,وبدأ مجد الأندايات يتهددهالزوال .
.الجلابة الذين كانوا يسيرون حملات الإسترقاق ,يقودونها في الصعيد ,وأقاصيالوسط ودار الريح,كانوا يختارون الجميلات ,للعمل في بيوت تجارتهم الوليدة .
.لم يكن بدار صباح طوال تاريخها ,منذ أعتلى الهلاليون عروشها,قانون عام يطبقعلى الناس جميعا دون تفرقة ..كان الهلاليون يحكمون كما يعن لهم ,وشهدت الكثيرمن القضايا ,من البطء في البت فيها : "من حفيد إلى حفيد,إلى أن يقضى على آخرفرد في الأسرة التعيسة, صاحبة القضية..".. فبني هلال وخلفاءهم الذين ظلوايعتقدون,أنهم ظل الله في الأرض ,لم تكن لديهم تشريعات, مستوحاة من حياة هذاالشعب المختلف ,عن شعبهم الذي خلفوه وراءهم ,خلف البحر الملون, حيث تشرق الشمس..ولم تكن لديهم تشريعات تناسب الجغرافيا, والمناخ وتنوع سحنات وثقافة هؤلاءالناس ,المختلفين عنهم.. فكان أساس حكمهم الطغيان ,وقطع الأوصال. لزرع الخوف والرهبة في نفوس أهالي دارصباح المساكين..ولطالما أعتقدوا, أن أهالي دار صباحليسوا أحرارا ,بل هم عبيدا أزلاء ,وهكذا أستمروا يلجمون العوام عن الكلام . .وللمفارقة أن أولئك البيض, الذين جاءوا من البلاد الباردة,برطانتهم الغريبة,ودمهم الأزرق..هؤلاء البيض الذين جاءوا من آخر الدنيا,لإستعمار البلاد الكبيرة,وضمها إلى تاجهم الذي لا تغيب الشمس عن مستعمراته .. للمفارقة أنحركات المقاومة, التي ستنشأ ضدهم بعد عشرات السنوات ,ستكون بيوت الراياتالحمر, أكثر أماكن إجتماعاتها أمنا من العيون. بل أن العاملات في هذه البيوتسيمتنعن في لحظة ما ,عن تقديم المتعة للمستعمرين,تضامنا مع هذه الحركات ..إذنستشهد بيوت الرايات الحمر ,أهم الإجتماعات لخلق الثورة ضد المستعمر وتعكيرمزاجه الرائق .
.ثمة نوع غريب من الحزن في دار صباح,لا تخطئه العين منذ الوهلة الأولى ,نوع منالحزن القديم ,الذي يمد جذوره عميقا في كل شيء.. حزن ليس له مثيل ..حزنبمثابة ذاكرة غير مرئية ,عن تاريخ مجيد عاشته دارصباح يوما في عهد سحيق ,لميولد فيه أنبياء بعد .
..هوية دار صباح ,ظلت كالجغرافيا التي نهضت فيها ,نهبا للجفاف والتصحر وعواملالتعرية,وربما هذا ما عمق من تلك الشروخات ,التي تلحظها العين بسهولة ..غائرةفي كل شيء, حتى في طريقة كلام الناس ,وشخصياتهم التي تبدو مهتزة,غير واثقة.. تحاول إخفاء ضعفها بالإنفعال السريع والغضب . ..هؤلاء الناس العاجزون عن السيطرة على أنفسهم ,لم يكن أسلافهم على هذاالنحو,وهذا التحول المريع الذي طالهم, هو جزء من التحولات التي طالت سلطتهم,على هذه الأرض ,إثر إنهيار آخر ممالكهم, تحت سنابك خيل الهلاليين ,فيمطاردتهم ل"الدريب"إبن العم الهارب ,وهي اللحظة الأولى التي عرفت فيها دارصباح,المعنى العميق للثأر ,ومن ثم بدأت في التدهور ,الذي أخذ يفقدها شخصيتها الحقيقية تدريجيا .. شخصيتها القديمة الهادئة ,التي لا تشوبها نوازع الشر ..فوقتها كانت دار صباح ككون ,واسع يشمله الدفء والحميمية ,و تتوحد فيه عناصر الطبيعة ,مع إنسان هذا الكون ,ليتشكل شجن عذب ,تراه كالنقش في الوجوه ,التيلوحتها الشمس .
.كل ذلك بدأ يتبدد مع غزو الهلاليين ,الذي أخذ يغير لا في هوية دار صباح وحدها,بل في جغرافيتها ومناخها وعادات أهلها ,الذين أصبحوا كالمنبتين ,يبحثونلأنفسهم عن أصول يهدؤن بها روع أنسابهم المنتهكة .
.ومع ذلك ,هذا الخليط الذي أصبح يكون مجتمع دار صباح ,والذي لا يوحده شيء,كانمتوحدا حول شيء واحد ,يعلن عن نفسه بوضوح : هذه المعاناة في عدم التوافق بينهمو أنفسهم,والتوافق بينهم والآخرين .
..وللمفارقة أن كل هؤلاء وأولئك ,من أهل دار صباح ,توحدوا حول نسج أسطورة عامةحول أصولهم ,تتفرع منها أساطير صغيرة,هذه الأسطورة بأساطيرها الصغيرة ,ربماولدت بسبب إحساسهم الخفي,بحاجتهم الملحة لتأكيد ذاتهم,غير المؤكدة.. ووجودهمالمنفي في الجغرافيا والتاريخ .
..VII
منذ وطأت قدما ود بندة ,قصر أبي هلال ,ورأى ما رأى فيه من أهوال ,تأكد لهتماما :أنه لن يستطيع القيام بأي شيء ,في سبيل إستعادة حجب النور . .لم تمض فترة قصير عليه في بحثه عنها, حتى وصل إلى قناعة, بأنها غير موجودةبهذا القصر أو أيا من قصور أبي هلال ,وبدأ يراوده الشك, أن يكون السبب وراءإختفاءها,أي شيء آخر سوى أختطاف أبي هلال لها ,وعندما أرتكن إلى هذه القناعة,لم يعد يشغل تفكيره سوى الهرب ,ولذلك عندما سنحت له إحدى الفرص النادرة,بلقاءبت فدرالله في سوق النحاس ,سرب لها شكوكه ورغبته في الهرب,وكانت هي لحظتها قدعرفت أين أختفت إبنتها ,إذ تكللت حملات البحث الواسعة ,التي أجراها الفقرا ,عن معرفة مكان حجب النور وخبرها..وتمكنوا من تدبير لقاءها بأمها بت فدرالله ,فيغفلة من الكرسني, فقد كان الكرسني نادر التغيب عن بيته,إذ كان لا يشبع منهاإلا ليلتهمها من جديد ..هو الذي عاش كل حياته ينتظرها..حجب النور هذه الأنثىالمشتعلة كالنار داخله,والتي إمتلأت بها أحلامه ,فظل ينتظر لقاءها إلى أن كانذلك اليوم .
.بإحساس نقطة دم تحتضن الأرض في حميمية ومحبة ,وقفا قبالة بعضهما ,أمام كوخالخميلة . .كانت مشاعره.. كل مشاعره ,قد إرتمت بادية للعيان على الأرض ,تقبلالتراب الذي وقفت فيه حجب النور, تبوح بهمس المحبة والحنين .. كان يشعر بنفسهولأول مرة ,كطفل وديع تدفعه هدهدة هامسة لوسن ملائكي ,تزرع فيه النعاس فيمسيغيابا /حضورا.. ويرحل في الوسن غريرا هانئا .
.في يوم لقاءه الأول بها ,لم ينتبه إلى وقفته, التي كانت قد طالت ,كالزمن بخطاهالمتثاقلة على عتبات الإنتظار ,لوجه حميم .
..كانت شتاءات وجدانه تتداعى حثيثة ,تفسح لدفء الشفاه الرهيفة,التلاقي الحميمدون تمتمة أو لعثمة
,وظل كذلك مشدودا إليها كالوتر, إلى أن مات في ذلك اليوم المكفهر,وهو لا يزاليعتقد أن الصلة ,بين حجب النور وأمها, قد تقطعت إلى الأبد .الأمر الذي جعلهيشعر غما شديدا,ظل يجاهد إخفاءه .
.من بين تأوهات عريها بين زراعيه, تمتمت غلوريا:"متى ستنام?"..أزاح الكلسالكراسة ,التي كان يراجع فيها ما دونه بالأمس من ملاحظات : "االآن" .
..قدر خفي ذلك الذي قاد دبك إلى المدرسة الأولية ,دونا عن كثيرين من أقرانه ,فيتلك البلدة الصغيرة على أطراف حاضرة جلابي ود عربي,الرابضة على ضفة الوادي,حذاء دغل القمبيل .
.وبين مرحلة دراسية وأخرى, كانت هوية دبك تتمزق لتلتئم,وتلتئم لتتمزق ..هويتهالتي صاغتها مسيرة الحياة في بلدته, بطقوس أهلها وأسحارهم ,وما تبقى من آثارالتعاليم القديمة لدالي ,وطبيعة الوادي الناهضة أسفل الجبل, الذي يحيط البلدة كالأسورة, والتاريخ السحيق لهذه البلدة ,المعذبة , بالقلق والحنين .
.كانت لغته الأم تبتعد ,لتحل محلها لغة الهلاليين ,التي ألتهمها بذاكرتهاللغوية مستكشفا أسرارها ,أطماعها ورغبتها في الهيمنة على لغته الأم .
..تعرف الكلس على التاريخ الإنساني ,في المحاولة الدائمة للأقوياء ,لإخضاعالآخرين,فلم يستطع تفادي رؤية تاريخ بلدته,يتحول إلى أشلاء,بين معان تاريخ العالم ,وتاريخ دار الريح, التي تشقها الوديان ,وتاريخ ما تبق من بلاد كبيرةيشقها النيل ,إلى فلقتي نواة نصفها متغضن كالعرجون القديم .
.المعارف المتناقضة والمتصادمة,شكلت عقله الجدلي, وفتحت وعيه على أسئلة جارحة,دفعت بكيانه كله إلي عزلة عميقة..غادر بعدها إلى بلاد اليانكي..كانت عزلتهشبيهة بعزلة المقدس دالي ,قبيل تشييده لمملكة العزلة المحاصرة برائحة الشعراء,أو إعتكاف "راجل الحرازة أم قد" في خلوته لأيام وليال دون أكل أو شرب , خرجدبك من عزلته المجيدة, حاملا السلاح ضد جلابي ,ليخضع الكلس الآن – بعد عشراتالسنوات من وفاة دبك – كل الظروف التي أدت لثورة دبك, لأسئلة لا إجابة لها ,فيما ورثه من مدونات ,ورسائل تطل من بين سطورها حجب النور حينا,وحيناالكرسني, إلى أن يستوقفه جانو قرمط , وشهريار بني هلال الكبير,وبنت فدر الله, التي لم تخض مع ود بندة في أي تفاصيل ,عندما أعلن لها عن شكوكه ورغبته في الهرب . ..أحس ودبندة لحظتها ,كأن بت فدرالله كانت تنتظر منه هذا القرار..أخبرته أن رسولمنها, سيتصل به في الوقت المناسب,ليخبره عن ميقات وكيفية الهرب .
..عندما عاد ود بندة في ذلك اليوم ,كانت قد سيطرت على خواطره, تلك النظرةالمستسلمة,التي لا تخلو من إحساس بالراحة ,والتي قرأها في عيني بت فدرالله,فتفكر كثيرا, وراودته الشكوك ,حول لابد أنها تعلم عن إبنتها ,ما يطمئنهاويدفع بتلك النظرة اللامعة إلى عينيها الخابيتين,,لكنها لم تشأ إخباره .
.أو أنها غيرت تدابيرها وخططها ,ولم تعد تأبه لحياته ..تآكلته هذه الشكوك زمناطويلا ,إلى أن تبدد معظمها عند لقاءه رسولها "أبوخيرة",الذي كان صادقا معه,فلم يخف عنه أمر حجب النور ,وإنجابها من الكرسني طفلهما أبي جريد الصغير,الذينما قويا بسرعة ملحوظة ,لم تحك عنها نبؤات الفقرا,الذين كانوا يؤمنون, بوجودذات عليا تدير الكون ,على أساس عقلي صرف ,دون أن يعتقدوا في التنزيل والوحيوالرسل ..إذ يظنون في أنفسهم ,أنهم بلغوا من العرفة والمعرفة,ما يجعلهممسئولون وحدهم ,عن صياغة الشرائع ,بإستيحاءها من حياة الناس وثقافتهم ,وعلىذلك هم الرسل المعنيون بإنقاذ دار صباح,خاصة أن لديهم من المواهب والقدرات ,ما يفوق معجزات يسوع الناصري . .ولطالما أعتقد الفقرا ,أن القوانين في أوسع معانيها ,هي علاقات ضرورية ,تشتقمن طبيعة الأشياء ,وبهذا المعنى فإن لكل الموجودات قوانينها.. ولذلك كانترؤيتهم للإنسان والحياة والكون ,تتمثل في أن كل ذلك ,محض علاقات,بين قوىمتفاعلة تؤثر في بعضها البعض ليس إلا .
.ولم يكن الفقرا قدريون بأي حال من الأحوال,لكنهم في ذات الوقت ,يؤمنون بوجودعقل مبدئي, يتمثل في هذه العلاقات,التي تتفاعل فيما بينها .
.وكانوا يرون أن الحرية هي القدرة,على عمل ما يريد الإنسان عمله ,لكن دون إلزامهذا الإنسان ,بفعل ما لا يريد فعله,كما أنه لوفعل كل شخص ما يريد ,فإنه لنيكون حرا,لأن الجميع لديهم نفس الرغبة .
..ومع ذلك كان هؤلاء الفقرا,الذين يكثرون من التأمل ,حول الحرية ,ومعناهاومصدرها ,يمثلون أغلبية تجار الرقيق والجلابة..ففي ذلك الوقت الذي ألتقى فيهأبوخيرة, بود بندة,كان الفقرا قد نشطوا في تجارة المواد التموينية ,وتخزينها.قاموا بتخزين كل شيء : الذرة,السكر..ولم ينج حتى الملح . .نشطت قوافلهم فيكل أنحاء البلاد الكبيرة,تتاجر في كل شيء ,تبيع وتشتري كل ما يقع تحت يدها.كان الفقرا إذن ,يحاولون بناء إمبراطورية تجارية خفية ,كما كانوا يتسللون إلىدواوين حكم أبي هلال ,خفية دون أن يحس بهم أحد,بسبب مواقفهم الهلالية أكثر منالهلاليين أنفسهم!.
.ساعدهم في هذا التسلل ,النظام السري العقائدي الشمولي المركزي,الذي حكمالعلاقات الداخلية للفقرا,وجعل من العسير إختراقها ,أو التعرف على أعضائها,الذين لم تكن لديهم علامات تميزهم عن الآخرين:لا يختلفون عن الجلابةكثيرا,كما لا يتمايزون في سحناتهم عن بني هلال, أو أهالي دار صباح .. تجدهمحتى في تجارة الأندايات ,والبيوت ذات الرايات الحمر,وكل شيء..فكل شيء كان ضمن أنشطة تجارتهم الرائجة . ..كان أبي هلال يحس بوجودهم حوله,ويشعر بهم كالسوس ينخر جسد دولته ,ولذلك عندمارشح خواصه, الذين كان بعضهم من الفقرا, السريين ود بندة كمستشار نابه ,لشئوونقوافل بني هلال ,لرجاحة عقله ومعرفته الواسعة بشئوون التجارة - على الرغم منأن ود بندة, كان آخر شخص من الممكن أن يفهم في أمر القوافل والتجارة - شك أبو هلال في الأمر ,وأراد الإستوثاق من شكوكه بتقريب ود بندة منه ..وكان تصرفه هذامتوقعا لدى الفقرا, الذين تميزوا بقدرة غريبة في تحليل الشخصيات, ووضعإحتمالات أفعالها وردود أفعالها ..ولذلك كان سهلا عليهم إستنتاج, الطريقة التييفكر بها أبي هلال ,الذي حقق لهم مرادهم, دون أن يدري.. ومع ذلك ستثبت قوادمالأيام أن معرفة الفقرا, لحدود قدراتهم ليست دقيقة,وأن أقل ما يمكن أن يوصفوابه, هو أنهم قوم ذوي طموحات كبيرة,تفوق أضعافا مضاعفة, حجم قدراتهم الحقيقيةومواهبهم الطبيعية .
..وقتها كانت المجاعة قد دفعت سكان أجزاء واسعة ,من البلاد الكبيرة ,في الصعيدوالسافل والوسط ,وأجزاء أخرى من دار الريح ,إلى النزوح من حاضرة دار صباح,التي كان الفقرا, قد خزنوا فيها كميات لا حصر لها من الذرة .
.فبدت أطراف حاضرة دار صباح مكتظة بالناس ,الذين سكنوا العراء ,لا يقيهم من بردالشتاء أو حر الصيف ,سوى بعض أغصان الأشجار الشحيحة ,التي حاولوا نصبها ماأستطاعوا ,ووضع أي شيء مفرود بينها ,علهم يتقون شيئا من الحر اللافح ,أوالزمهرير ,دون جدوى .
.في تلك السنوات مات عدد لا يحصى ,من أهالي البلاد الكبيرة ,بسبب الجوع والعطشوإنتشار الأوبئة والأمراض والحروبات ,على الموارد الشحيحة.. وفي المقابل نشطتحملات الرق ,فراجت تجارة الرق والدعارة,فأغتني كثيرون ,تكونت منهم طبقة مباغتة ,توثقت عرى مصالحها مع الفقرا.. والهلاليين والجلابة .
..هذا الحلف المباغت ,لهذه المجموعات ,التي تتمتع بثمرة عمل الآخرين ,في الزراعةوالرق وبيوت الرايات الحمر وتجارة القوافل ,كان هو- من جهة أخرى ضمان تناميقوة ونفوذ الفقرا- ولذلك حرصوا على تقوية هذا الحلف,الذي بدى كطائفةواحدة,متجذرة في الحياة العامة ومنسجمة,مركزها الخفي الفقرا .
.ورغم كل ذلك ,كانت سنوات المجاعة قد ضعضعت كل ما كان أبي هلال يستشعره من قوة,الأمر الذي كان يدفعه للبحث عن أمل ,يمكنه من إستعادة سلامه النفسي ,فيهذه المملكة التي يحلم بتوريثها لأبنائه من بعده,ولذلك عندما أنهى إليه الشيخأبو خيرة ,خبر مملكة مارتجلو الغنية المترفة,إنشغل خاطره, وأنفق سنوات ليستقليلة ,لإعداد جيوشه ,تداعبه الأحلام العراض بغزو تلك المملكة ,التي هي جزء منالجنة ,كما تناهى إلى مسامعه .
..وظل هذا الحلم يجدد النبوءات الهلالية القديمة ,عن سلطان الهلاليين الذي لامحالة سيتمدد, ليطغى على كل البلاد الكبيرة .
.ظل هذا الحلم يطارد أبي هلال.يحرمه النوم,لوقت طويل,ولم يفارقه أبدا ,حتى بعدأن إنصرمت سنوات المجاعة ,وفاض النيل فيضانا ليس له مثيل في تاريخه المديد,إثرهطول المطر المدرار في ,كل أنحاء البلاد الكبيرة وما جاورها ,من هضاب الشرقالأقصى وبحيرات الصعيد الأقصى.
أحمد ضحية
* "مقتطف من الجزء الأول (رائحة الشعراء) من الثلاثية"
* شهداء 13 سبتمبر للنشر الإلكتروني
ISBN # 978-1-79471-119-8
Content ID : 25475147
مملكة العزلة: Book Title
الطبعة الأولى موقع رابطة أدباء الشام أبريل 2012
الطبعة الثانية شهداء سبتمبر 2019
You know You've read a good book when you turn the last page
And you feel as if you have lost friend!
Paul Sweeney
2
قال الراوي:
يحكى أن (...) وأدركته "هاء السكت"، فصمت عن الكلام المباح!
قال الراوي:
يحكى أن الكاتب والروائي، أحمد محمد ضحية أحمد، يأتي في طليعة الجيل الجديد من الكتاب والأدباء في السودان، وربما يمثل النموذج الأعلى للاختلاف التكويني، من حيث الإنتاج والأفكار والرؤى، مقارنة مع الأجيال السابقة.
فهو بدأ الكتابة بشكل احترافي، و خروج كامل عن السياق الكتابي المتعارف، داخل الوسط الثقافي السابق للجيل التسعيني.
فبينما ظلت ولسنوات طويلة إحدى المداخل الأساسية للكتابة الإبداعية في السودان، تتأتى عبر أو من خلال مداخل (الأساتيذ)، أو ما يمكن أن نطلق عليهم كهنة الكتابة، بدأ أحمد ضحية بعكس ذلك تماماً، معتمداً مدخلاً لكتابته، تناول الإنتاج الإبداعي والأدبي الجديد، والذي يمثله جيل بدأ يتلمس أولى بداياته حينها، مما يعد الكتابة عنه ضرباً من المغامرة والمجازفة، وهي المغامرة التي نجح فيها أحمد ضحية.
قال الراوي:
ربما هذه الاختلافية والمغايرة في أساليب أحمد ضحية في الكتابة، تنبع من الشخصية المبادرة لهذا الكاتب، فالسيرة الذاتية لأحمد ضحية تضعنا ومنذ بداياتها المبكرة، في مواجهة كاتب كبير يحمل مشروعه الخاص، وأفكاره التي تناقض وتنقض القديم البالي من أفكار.
ولد أحمد ضحية بمدينة كوستي (1971)، وأسهم بقدر كبير في النشاط الثقافي من خلال الروابط الثقافية بالمدينة، إذ بدى نبوغه المبكر في الكتابة، يتبلور في الثانوية العامة بمدرسة منيب النموذجية.
ومنذ تلك السن المبكرة، وقبل التحاقه بجامعة أم درمان الأهلية. بسنوات، كان أحد الأعضاء الفاعلين في النشاط الثقافي بمدينة كوستي، خلال عضويته في رابطة الأصدقاء الأدبية، وعدد من المنابر الثقافية الأخرى بالمدينة.
بعد تخرجه من الجامعة الأهلية في العام 1996 عمل محرراً ومشرفا ثقافياً بعدد من الملفات الثقافية في الصحف اليومية! ومن خلال سلطة عمله مسؤولا عن مثل هذه المنابر،، عمل على نشر الأعمال الجديدة للكتاب الشباب من أبناء الجيل التسعيني ـ جيله.
قال الراوي:
عمد ضحية على قراءة أعمال هؤلاء الكتاب الجدد بشكل نقدي مما ساعد على إبرازهم كأصوات جديدة في ذلك الوقت..
وقبل هجرته من السودان إلى الولايات المتحدة الأمريكية 2003 أصدر مع مجموعة من الكتاب الشباب مجموعة قصصية بالاشتراك مع المكتبة الأكاديمية الخرطوم، و من إصدارات نادي القصة السوداني، الذي أسسه مع آخرين منذ العام 1998.
ثم أصدر بعد ذلك وهو بالقاهرة في العام 2003 روايته الأولى مارتجلو ذاكرة الحراز، التي حاول من خلالها مناقشة إشكاليات ثقافية تتعلق بالهوية وأزمات الواقع الاجتماعي السوداني على خلفية التعدد الإثني والثقافي.
ختم الراوي؛ قائلا::
قدر هائل من النشاط والجدية ميز الكاتب أحمد ضحية، وهو داخل السودان أو وهو بمهجره الجديد بأمريكا، بذات أفكاره وذات رؤاه يمضي مناصراً الأصوات الجديدة وعامداً على إبرازها وإنصافها.
فأسماء وأسماء تعترف الآن (سراً) أو جهراً بفضل أحمد ضحية في زعزعة أركان المعبد القديم، وتجريد الكهنة من وصاياهم القديمة. وتقديم الأشياء كما هي؛ فقط للمعرفة وللحقيقة.
أدرك الراوي الصباح فاستدرك في الكلام المباح:
هذه كتابة مستعادة نحي عبرها الكاتب أحمد ضحية، وهو ما يزال بمهجره يكتب ويبدع وينشر الجديد.
المحرر الثقافي
لصحيفة اليوم التالي
(الروائي منصور الصويم)
١٠ أكتوبر٢٠١٤
هذه الثلاثية:
ربيع عقب الباب (*)
هذه ملحمة نثرية جديدة، شكل فيها السطر الواحد عالما، ورقعة متسعة من الابداع الجميل!
إنها عوالم في التاريخ والجغرافيا والانسان، عبر عصور عاشت الغربة بكامل وعيها وإرادتها، متمردة أو مستكينة!!
هي مئات من سنين وربما مائة سنة من العزلة كانت وتجددت، وعادت من جديد لعزلتها، بين فناء وحياة متجددة ومتجذرة، اختلط فيها الواقعي بالسحري، بل لا أغالي اذا قلت تم من خلالها فعل الحالتين، وتبدل موقعهما معا ليشكلا أسطورة شديدة الزخم!!
ظني بأحمد ضحية أكبر كثيرا من غابرييل غارثيا ماركيز.. الفارق بينهما لا أدري لصالح من فيهما:
أن ماركيز أن كان بنى وأسس لماكوندو، فأحمد أسس لأكثر من ماكوندو.. هنا كانت عوالم في الزمن والتجربة الإبداعية، بكل غناها وتفجيراتها وتفجراتها وحيويتها وحيواتها، وهذا السحري الذي بنى عليه ضحية، ولم يقف عند حد المعرفة، أو المشكل في الميثولوجيا عربيا أو أفريقيا، بل أكد على جديد في اكتشافات آنية، لم يلتفت إليها عبر العصور!!
كان هناك خليط مرعب بين الكائنات، والله والأرض والسماء والكواكب والملائك والبشر والريح.. المدن والطوفان والعشق والكره، والموت والتحليق والمعجزة السماوية، والأسطورة والإيمان، والكفر!!
دعني أقبلك أحمد كثيرا، أحييك على هذا التشظي والتفجر الذي يقف مانعا عودتك الى الوراء، لنكون في انتظار عبقرية سردية قادمة بقوة وآن لها أن تعلن عن قيامتها وبعثها!!
شكرا.. وهل تصلح (شكرا) لك ايها العبقري؟ قرأت عزلة ماركيز وأظن أنني ساقرا ملحمتك عشرا وربما أكثر قبل أن أصل الى السر الكامن خلف ما أسست!
------------------------------
(*) ربيع عقب الباب
روائي وقاص مصري
عضو إتحاد كتاب مصر
روايات أعداد مجلة الكلمة
ثلاثية صانع الفخار:
في باب السرد اختارت (الكلمة) أن تقدم (آلام ذاكرة الطين) الجزء الأول من ثلاثية صانع الفخار للروائي السوداني أحمد ضحية حيث يغوص في التاريخ الجغرافي والبشري لرقعة السودان الشاسعة مبلورا شخصية صانع الفخار الاسطورية، رمزا لوحدة البلاد والقانون والذي يحرق في كل مرة من قبل الحكام المستبدين.
مجلة الكلمة العدد ٨٤ أبريل ٢٠١٤
أشجان البلدة القديمة:
في سرد دائري تتناسل فيه التواريخ، و تتناسخ الشخصيات، تكشف هذه الرواية السودانية عن واقع مترع بالقهر والإستبداد يتغلغل فيه التشوه وتستحيل الصداقة، ولايستطيع الحب أن يأسو جراح خياناتها المصمية.
دكتور صبري حافظ
كاتب وناقد مصري
ورئيس تحرير مجلة الكلمة
العدد 18 يونيو 2008
ثلاثية المطاليق:
يكتب الروائي السوداني أحمد ضحية، عن أحوال البلاد الكبيرة، التي سيطر عليها السلطان بمطاليقه، يروعون الأهالي ويغتصبون النساء والاحلام، ويطاردون ويقتلون الثوار، ويمثل الشايب جقندي ذاكرة تلك البلاد الحافظ لتاريخها والباحث عن عالم أفضل لها.
أن الرمزية التي تنبني عليها الرواية تكشف عن الكيفيات التي ترسخ بها السلطة استبدادها.
العدد 58 فبراير 2012
محاسن الحمامصي
كاتبة أردنية
لا - وطن في الحنين
تنشر الكلمة الجزء الأول (المخطوطة السرية) من ثلاثية أحمد ضحية (لا وطن في الحنين) التي يحاول فيها تصوير الواقع والتاريخ السوداني من خلال شخصيات معاصرة تعاني من الصراعات الإثنية والدينية، ليتغلغل في تاريخ المكان وماضيه الأسطوري من أجل أنشاء الدولة والممالك بحكّام يتآمرون على بعض ويشعلون الحروب بصورة تعكس ما يجري الآن في الواقع المعاصر.
مجلة الكلمة العدد 113 سبتمبر 2016
مقدمة الناشر: السرد و السارد
و صحبة ملك لغة الحنين
القراءة النقدية لسرديات الروائي السوداني أحمد ضحية، مجازفة كبرى، وذلك لأن هذا الروائي صاحب معرفة موسوعية ونقدية مدهشة، ودونا عن كل الروائيين السودانيين، تتداخل في سردياته، همومه النقدية السياسية والفكرية، في الكتابة الابداعية الجمالية!
وإذا جاز لن توصيفه بأنه من الكتاب الملتزمين، فإن هذا التوصيف أقل بكثير عن التعبير عن حال هذا الروائي ذو القدرات والامكانات الكتابية والإبداعية، التي يندر توافرها في كاتب واحد!
فأحمد ضحية يكتب تقريبا في كل أجناس الكتابة الأدبية والنقدية والسياسية والفكرية، فضلا عن نشاطه الصحفي، الذي كشف عن نوع فريد من الصحفيين داخله! وإلى جانب كل ذلك لأكثر من 13 سنة يعمل كموظف بسيط، في حقل مرضى الدايمينشيا والاحتياجات الخاصة!
نلاحظ على ثلاثياته الروائية، أن موضوعات كتابته تتحاور فيما بين الايروتيكي و الواقعي والرومانسي والوجودي! كما تتداخل مع الفانتازيا والصوفية!..
و إذا أعتبرنا سردا توثيقيا كطبقات ود ضيف الله، بمثابة نوع من السرد الروائي التأسيسي للرواية السودانية، فان معجزات الأولياء ورؤى المتصوفة ورحلات ما بعد الموت، وكل عناصر الثقافات المحلية في خريطة التنوع السوداني، شكلت جوهر الفسيفساء السردية لضحية!
الذي جعل من ثلاثياته السردية نوعا خاصا من السرد، لا يمكن مقارنته بسرد أي كاتب آخر، فضحية يوظف السرد كأداة جبارة، مناهضة لسرديات الحاضر، عبر إقامة حوار بين الماضي ورؤى المستقبل، تارة في انحياز تام للعقل في تفسيره لأي ظاهرة، وتارة أخرى بالإستسلام للغيبي والميتافيزيقي لا في الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى، بل للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع اليومي!
أسرودات أحمد ضحية في سعيها لمناقشة ظاهرة الاستبداد والديكتاتورية والانغلاق العقلي والوجداني في بلاده، انما يحاول تحجيم هذا الغيبي المتنامي، الذي يتدخل للإجابة عن أسئلة مادية! في الوقت نفسه يسعى لتفكيك التراث الشعبي المتنوع في الجغرافيا الثقافية لبلاده، مقترحا إعادة فهم هذا التراث، لإكتشاف جوهر إنسان هذا التراث! باعتبار أن إجابات الأسئلة التي يطرحها المهمشون موجودة داخل الأبنية الاجتماعية التي أنتجتهم! وليست في الابنية الإجتماعية، للذين يمارسون فعل التهميش على هؤلاء المهمشين!
ضحية يعتبر رائد ومنظر لأدب الهامش، بل أسروداته تمثل جسرا أساسيا في المجرى العام لتيار الهامش في السرد السوداني!
و اللافت أن هذا التيار لديه القدرة على التغير والتشكل بحسب درجة وعي السارد بالبيئات الثقافية المتنوعة للسودان، و الثقافة الشعبية. الأمر الذي يقترح الحديث عن تيارات هامش وليس تيارا واحدا!
/وفي الحقيقة أن تيارات الهامش في السرد السوداني، منذ زندية ابراهيم بشير ابراهيم، بمثابة خط فاصل بين عالمين، سودانين: سودان يتمزق بفعل آليات هدم هذا التيار، ليتخلق من أنقاضه سودان ما بعد الهامش و التهميش والمهمشين!
ولذلك نلاحظ على سرديات ضحية، والأفكار التي طرحها في العديد من الحوارات التي أجريت معه، بأنه بقدر ما يحاول تجنب كتابة سحر الواقع المرتبط بالتراث الشعبي (وإن كان سحر الواقع الآخر، مثل الأحلام والأفكار الفانتازية، ظل عنصراً فيها)، إلا أنه في مسيرة تكريسه لصوته الخاص، يتعثر باستمرار بالواقع التاريخي لبلاده الكبيرة (السودان)، التي شكل الرق والطائفية وتوظيف الدين راسمالا رمزيا للساسة الذين يتجرون به! والاستبداد، مصدر ساما لا ينضب لعناصر أزماتها التاريخية المستمرة!
أو ما ظل المثقفين يطلقون عليه سؤال السلطة. الذي تم ترحيله عبر عصور مختلفة منذ مؤتمر باندونج، الذي وجهت بعده البنادق التي كان يستخدمها المستعمرون، و التي تحملها الآن الأيدي الوطنية لى صدور أبناء الوطن الواحد!
إذا كان كُتّاب للأجيال التي سبقت جيل ضحية قد كتبوا واقعهم.. واقع المثقف الخرطومي المأزوم، و الامدرماني المتعجرف، والعامل البحراوي الحر! وصراع الريف والحضر، وكوابح قوى التقدم والاستنارة!
فإن جيل ضحية ينظر إلى الواقع الفني، على اعتبار أنه لا يتوجب بالضرورة أن يكون هو الواقع (الفعلي، الواقعي)، مثلما في أذهان أولئك المثقفين السودانيين المأزومين!
ولهذا السبب بالذات ربما نجد ضحية لا يكتفي بالكتابة عن واقعه، و إنما عن ماضي متخيل، أيضا. عن ذكريات أسلافه وأحاجي جدته التي لا يتبناها كذكريات خاصة، عندما يكتب عن الطفولة أو الصبا أو الشباب، تحت حكم الديكتاتور والأيديولوجيا الإسلاموية التعسفية، وإن لم يكونوا في سنهم الصغيرة مدركين لأفكار كبرى، مثل القمع وتكميم الأفواه وحظر التجوال. والتي بالنسبة لضحية كمناضل قديم خبر المعتقلات و تعذيب البوليس السياسي، ما أدى إلى لجوءه وهجرته في خاتمة المطاف! ليست مجرد أفكار خيالية، بل واقع عاشه بالفعل، فعندما يكتب عن الزنزانة أو السجان أو أحاديث المعتقلين، وأحلامهم. فهو لا يتخيل شيئا، بل يعيد تركيب تجربة عاشها، ويحولها إلى سرد!
ولذلك روائيين مثل ضحية، يذكروننا بكتاب مثل (بيجليو) و (بولانيو) المنفي إلى المكسيك عقب انقلاب ضد الليندي، والذي رغم وجوده في المنفى لم ينفصل عن تشيلي، وظل سؤاله يشمل القارة اللاتينية كلها، التي اتخذ لها العالم الثقافي مدخلاً، ومثلما كان التراث الشعبي المحلي والاساطير والاحاجي والنضال السياسي المدني والمسلح موضوعا أساسيا في سرديات ضحية نلاحظ عند بولانيو مثلا الأثر البورخسي، في ظل سردية تعتني بالواقع أو ما تحته أو ما ورائه، وبذلك يعتبر بولانيو همزة وصل بين بورخس الموسوعي وبين جيل جديد، وهي الوضعية نفسها التي في ظني يمثلها ضحية كهمزة وصل بين أجيال مختلفة في سودانين منقسمين!!
لقد ظل هاجس الانعتاق من التأثير المهيمن لموسم الهجرة على الشمال، والسطوة الطاغية لكتاب أميركا اللاتينية، أحد الهموم الأساسية لأحمد ضحية، فالواقع هو نفسه بالنسبة لكل جيل، ولكن أيضا كل جيل ينظر من زاوية مختلفة ويتناول هذا الواقع ويعبر عنه بطريقة مختلفة!
فبالنسبة لضحية الواقع هو الذكرى، التي يستدعيها أو يشيدها، بمزيج من أحداث الطفولة وحكايات الآباء. وحكايات الأولياء والصالحين وما يؤلفه من تاريخ موازي لتاريخ بلاده الحقيقي! كنوع من المقاومة لسطوة الطيب صالح وجيله خلال التجريب المستمر لأشكال سردية مختلفة، سواء باستخدام تكنيكات موجودة، لكنها تنتمي لمدارس سردية حديثة أو تراثية، اوحقول معرفية معاصرة أو تراثية، أو باختيار البطل الباحث عن الحقيقة الغائبة مع توظيف الشعرية ولغة الحنين التي ميزت ضحية عن سواه من الكتاب السودانيين (ملك لغة الحنين) في السرد والأحداث، بالإكثار من الأفعال والتقليل من الصفات.
هذا الجهد في التجريب وفي السعي لامتلاك صوت خاص يعبر عن زمن جيله ولحظته يجعله جديرا بأن يكون من أهم رواد تيار الهامش بعد ابراهيم بشير ابراهيم.
ولذلك نزعم ان سرد ضحية لم يقرأ بعد، ربما بسبب حدة طبعه في طرحه لأفكاره، وقراءته لكتابات الآخرين! فعلى الرغم من أنه من أهم الكتاب السودانيين الذين تركوا بصمات واضحة على المشهد السردي خلال ربع القرن الآخير، إلا أنه تم التعمد والتواطؤ على تجاهله بتركيز الضوء على كتاب تقصر قامتهم كثيرا عن مستوى كتفه.. كتاب من ذلك النوع ذو اللتطلعات الكبيرة، ولكن القدرات المتواضعة!
و لذلك تقل القيمة الفنية والأدبية والجمالية بصورة فاجعة في أعمالهم التي سخروا لنشرها وانتشارها حيلا تجارية خادعة، جعلتها تبدو كأعمال مميزة فيما هي أفقر من فأر المسيد في لغتها وأفكارها وأسلوبها!
أسرودات ضحية بحاجة للقراءة واعادة الاكتشاف، لما تتميز به من قيمة كبيرة قل وندر أن تتوفر في كاتب من الكتاب!
الناشر
Martyrs publishing House
Essex, VT
USA
ثلاثية مملكة العزلة
رائحة الشعراء
أرض النبوءات
شهرزاد غفوته المؤجلة
الجزء الأول:
رائحة الشعراء
رواية
أحمد ضحية
شهداء ثورة 13 سبتمبر للنشر الإلكتروني
ISBN # 978-1-79471-119-8
Content ID : 25475147
مملكة العزلة: Book Title
الطبعة الأولى2012
الطبعة الثانية 2019
رائحة الشعراء
As for as your dream goes the earth will get bigger.
إهداء
إلى وجوه حميمة، طي ذكريات عالم قديم..
أحمد
القسم الأول
I
رائحة الشعراء..
رائحتهم تلك التي تفوح بالحكايا والنبوءات، تدهمه. فيما هو منكب على رسائل ومدونات (دبك) التي تنضح بالنبوءة الأكبر!..
من بين كل النبؤات، نبوة الحب!..
ذلك النوع الغريب من الحب، الذي جمع بين الكرسني وحجب النور.. فاطمة السمحة وود النمير!
ذلك الحب البّري المتوحش. المتعطش. الذي ربط بين كثيرين وكثيرات، حفلت الرسائل والمدونات، بتسجيل أدق تفاصيل تواصلهم واتصالهم!
ذلك الحب الذي كاللعنة في تخلله، لحياة البلاد الكبيرة، وإسهامه فيما حل ويحل بها!.
كحب أبوجريد لمسك النبي، الذي سيشكل حياة الأشرمين من بعد.. حبه هو شخصيا للكساندرا، التي يجيء طيفها متسللا رائحة اللافندر، المتماهية في أغنية الحب لن ينتظرك:
C ause love ain't gonna wait fory ouDon't run, don't hideLove ain'tg onna wait for youIt's so good, it'ss o rightLove ain't gonna wait for You know that it's true
حياة دبك لغير المقربين منه، تبدو غريبة ومتناقضة في الآن نفسه!.. إذ تنهض في قدرته على تسريب تلك المشاعر المتباينة:
التوبة، القدر، الثورة، التراجيديا، القلق والشغف حد الموت!..
وكلما أقتربت منه أكثر، كلما أكتشفت:
أن هذه المشاعر المتناقضة هي إختصار لمعنى:
الحب/القضية عنده!!.. إذ لم يكن ثمة فرق واضح، أو حدود فاصلة في ذاكرته المتعبة، بين حنينه إلى حبيبته نينا، وحلمه الموغل في الضباب: مملكة "مارتجلو"القديمة، التي دفعه إيغاله في ذكرياتها البائدة، لمحاولات السيطرة المتكررة، على جلابي ود عربي!..
كان دبك مدفوعا بهذه المشاعر المختلطة، التي كادت أن تودي بحياته، التي سيختمها هناك في آخر الدنيا، حيث لا تؤانسه سوى ذكريات صراعه المستميت، وحبه المتجدد في عزلة البرد والصقيع!
كان دبك في شبابه رجلا استثنائيا، لا تنقصه الشجاعة، ويدرك أن أصعب شيء لمن هو مثله، الابتعاد عن الشر.. وظل جلابي ود عربي هو التجسيد الحي لما يطلق عليه دبك شرا!
حبيبته نينا الورتابة، تكرر مرارا بخفوت "نظراتك تخيفني.. تثقبني.. من أين جئت بهذه العيون؟.!.. وكعادته عند تلقف يدها، لا يعلم ما هو أفضل شيء، يمكن أن يقوله لها الآن! دبك رغم مرور سنوات طوال ,لا يزال يتذكر في قيلولاته المتكاسلة، كل ما مر بحياته من مرارات وأسى..
كأن كل شيء حدث البارحة فقط، وبين ذكرى وأخرى، يتوقف ليستعيد كل وقائع التاريخ المتواتر، لمملكة "مارتجلو" التي لم يعد لها وجود، منذ حل ود بندة بأرضها..
كتب هذه الذكريات والتاريخ لحفيده الكلس، في سبعة مدونات، ستؤرق قراءتها وتحليلها هذا الآخير، لعشرات السنوات، إلى أن يقضي نحبه بين فخذي إمرأة عابرة، في إحدى المحطات النائية البعيدة، خارج حدود العالم المأهول.
وفيما أنامل غلوريا تحاول التسلل من فتحة بنطلون الكلس، لتمارس هوايتها المحببة:: العبث بما تعتبره مقتنياتها الخاصة، المهاجرة من غابات افريقيا المتوحشة، عبر البحار!.. كان الكلس يحاول التركيز في قيادة عربته الشيفي الطاعنة في السن، بينما تتبدى له شوارع برنسس آن.. هذه البلدة الريفية الناهضة أقصى الساحل الشرقي لميريلاند، خالية من زحامها. ويسودها صمت كئيب ألفته جيدا! خاصة في الشتاءات الباردة كهذا الشتاء الذي لا قلب له!..
كانت حركة أوراق الشجر، قد اختنق حفيفها المعتاد، عند ملامسة الهواء المكتوم. كأن البلدة لم تعد هي البلدة ذاتها، التي اصطفت على جانبيها أشجار الأوك المتمايلة، من حركة أرواح العبيد الذين شنقوا عليها، بعد ضبطهم يضاجعون سيداتهم البيضاوات، الشبقات كساحرات فلاديمير نابوكوف!
هذه الطيور التي لا تتوقف عن التغريد، هي الأرواح الهائمة لأولئك العبيد، الذين أراحهم شبقهم من عذابات وآلام حياة الاسترقاق المهينة، لترقد أروحهم دون سلام على بعد آلاف الأميال من مساقط رأسهم، في أفريقيا البعيدة!!
هذه البلدة معين حكاياتها لا ينضب، ففي هذا الصبيحة الغامضة، تبادل ثلاثة من الأفرو-أمريكان النار مع البوليس الفدرالي.. كأنها ليست البلدة ذاتها التي شهدت محاولات سطو الأفرو أمريكان الثلاثة، على مكتب البريد الوحيد، الذي ينتصب في منتصف سمرست آفنيو، بتردد من يترقب حوالة مجهولة المصدر، تضل طريقها إليه!..
عندما رد البوليس على نيران الأفرو-أمريكان الثلاث-الذين كان قد أعتقد في البدء أنهم مكسيكيون-التي انطلقت من أسلحتهم الأوتوماتيكية، ساد الهرج والمرج أنحاء البلدة، التي لم يخفي سكانها سخطهم، من عنف الشرطة، التي حملوها مسؤولية مقتل إثنين، والحالة الخطيرة للثالث..
لا أحد يعرف كيف علمت أجهزة الإعلام الولائي بالخبر، ذ إنتشر إنتشار النار في الهشيم، و لاكته (سي إن إن)أكثر من مرة، خلال ذلك اليوم المشؤوم، مصورا بالتفاصيل الدقيقة:
منذ أتكأ أحد البلاك، على شجرة أوك عجوز، يراقب الطريق، إلى أن داهم البوليس المكان..
كان الأهالي في ثورة سخطهم، قد استعادت ذاكرتهم كل مرارات الماضي، منذ جاءت سفن تجار الرقيق، تحمل أسلافهم لتحط بهم هنا، في هذه البلاد البعيدة..
"وفي ميدان البريد أمام الكنيسة العتيقة، كان يتم تصنيفهم، فيمضي بعضهم خدما للمنازل، وآخرين للمزارع أو المصانع، أو الأشغال الأخرى العديدة، التي يذخر بها العالم الجديد..
الصغيرات الجميلات فتحت لهن الملاهي وعلب الليل أبوابها، و وآخريات وآخرون أشرعت لهم وحدات الجيش الوليد أبوابها.."...
لاذت غلوريا بصمت اعتاده، و أناملها الرقيقة تتوتر، فيصدر احتكاكها بفتحة البنطلون تشنجا غير مألوفا.. يلحظه للمرة الأولى.!!..
استمر غضب الأهالي لساعات، يضفي على البلدة مناخا من التوتر والتحفز قبل أن تبدأ في استرداد هدوئها المعتاد، شيئا فشيئا.. وتعود إلى ذاتها المقموعة، كبلدة صغيرة معزولة على ساحل مغمور للأطلسي الرهيب، تعتمد حركة الحياة فيها، على الفروع الصغيرة، للمؤسسات الفدرالية والولائية، وبعض فروع الشركات الخاصة. ولولاالجامعة الصغيرة، التي قامت بموجب سياسات التمييز الإيجابي، لكانت حركة الحياة هنا، شبه معدومة، خاصة في الصيف. عندما يغادر الطلاب..
إذن كل شيء عاد إلى سيرته الأولى، كأن شيئا لم يكن، إذ أعتاد الناس هنا، العثور على جثث ضحايا صراعات حرب المخدرات، في الصباحات الباكرة,متمزقة أمامدورهم ,أو رؤية أشخاص في الرمق الأخير ,بأنوف نازفة وأجساد متمزقة,وثياب مضرجةبالدم,فالعنف جزء من مكونات هذه البلدة العريقة..العربات أيضا أخذت تقل شيئا فشيئا,والبرودة الصقيعية تشتد, فتحاصر الأضواء المتراقصة بين الإضاءات المتقطعة,إشارات المرور الملونة,التي أخذ اللون الأخضربينها, يأخذ زمنا أطول ,قبل أن ينطفيء مفسحا للبرتقالي فالأحمر,إلى أن ثبتتماما بين أضواء الشارع المتراقصة,في هذا الطقس البارد الذي يصعب التنبوءبتقلباته.غرقت البلدة الريفية في الصمت.وحدهما الباروالنادي الليلي,كانا لا يزالانمشرعان أبوابهما يتحدان الصمت والمناخ..ربما تبدأ بعد قليل ندف من الثلج في التساقط,وربما يختنق الجو تحت وطء مطر متقطع..ربما تعصف رياح مثقلة ,بالرطوبة العكرة للغابات ,التي تسيج البلدة منكل إتجاه ,لا تتخللها سوى طرق الأسفلت,والجسور,والبيوت المتناثرة,ومزارعالدواجن...أوقف الكلس عربته الشيفي القديمة .. صعد وغلوريا للدور الأول من المبنىالعتيق,حيث شقته الصغيرة,التي تبدو من الداخل كعالم معزول..غريب عن هذا المبنى الكبير,بجدارياتها ذات الوجوه الأفريقية,حادة التقاطيع,وتماثيل الأبنوس,التيتوزعت في أنحاء الشقة في نظام دقيق... فيما مضت غلوريا تخلع حذائها وثيابها لتستحم,وترتدي - كالعادة- قميص نوم شفافيكشف كل شيء,كان هو قد شغل الراديو القديم,بعد أن ضبط موجاته ,على إحدىالإذاعات المغرمة ب"الكنتري ميوزيك" ,ثم مضى يفتح النوافذ ,المطلة على الشارعالمزدحم بالمحلات التجارية,قبل أن يغير ملابسه ,ويستلقى في سريره المجاورلنافذته المحببة,التي يرصد منها حركة الناس وضجيجهم وإيقاع حياتهم اليوميةالحافلة بالجنون.. ومثل كل ليلة .. ما أن يرمي بجسمه الفارع ,متهالكا على السرير,منتظرا غلورياتنهض من التسريحة,بعد أن تكون قد فرغت من سقيا زهور الشرفة,وجاءت لتغفو علىصدره ,تفوح منها رائحة الشامبو اللافندر,تأتي طيوف الذكريات, أو هذه العوالمذات الوقائع العجيبة,التي لا يدري كيف يسميها. تأتي ممزقة كل الغلالات ,التيتلف قلبه وذاكرته,لتحتل فضاء الشقة ,فلا يعد يرى سوى عوالم طاعنة في القدم,تتفتق عن أصوات الماضي العريق,الذي يمد جذوره في مملكة "مارتجلو" وود بندةوجلابي ودار صباح والأرباب.. فيمتليء بشعور رطب,عطن,يتسرب من دريب الريح عندمفرق الأودية الثلاثة,لا تلبث تسرباته تستحيل إلى تدفق عارم,يعطي نكهة خاصة لهذا الجو المتقلب,الذي ينحاز في هذه اللحظة بالذات, لمطر يتساقط في وتيرةواحدة,ما يضطره للنهوض..يغلق النوافذ. يسدل الستائر,فتصبح الشقة, أشبه بسفينة غارقة,في بحر من الضوءالخافت,الذي يبتلعها جزء فجزء ,فتطفو على السطح الممالك المتعاقبة,لعالمالبلاد الكبيرة,ضاربة القدم,في هذا الفضاء الحلمي ,المعتق في الأطيافالباهتة,التي تبدأ في التشكل شيئا فشيئا,ليجد الكلس نفسه واقفا عند ودبندة,الذي كان وقتها يجوس في مستنقعات الماضي,فيما كانت بت فدر الله قد عكفتعلى وضع الخطط في ذاكرتها,بكوخها المعتم ذو الأثاث العتيق ..االلغغررييبب..االلممتتننااففرر..االلذذيي ككاانن ممععظظممهه ممنن االلففخخاار ر ووااللخخششبب,,ووااللذذيي ييتتووسسططهه ,,ففيي ممككااننيصطاد العين العابرة : صندوق خشبي عتيق يحتوي على رماد رفاة جانو قرمط !...كان الكوخ نائيا في أطراف الحاضرة, ذات الشوارع البائسة,المعتمة,التي تعاني الوحدة والبؤس, منذ أعتلى الهلاليون عرشها . حيث أصبح لفصولها الثلاثة,الخلومن الربيع ,طعم العرق الزنخ ,بوسخ الغبار وحرارة الإستواء العكرة ,وفيما كانتهي تضع تلك الخطط الفاشلة,التي تقلبها واحدة إثرأخرى ,وسرعان ما تتخلى عنهالتقفز للتي تليها ,أو التي تولد في هذه اللحظة,كانت إبنتها حجب النور,ترقبهافي لا مبالاة,وهي تفيق للتو من إحدى قيلولاتها ,التي يدهمها فيها ذلك الفتىالفارع, الذي يبلل حشايا "عنقريبها" ,الذي جففته الوحدة القاسية لذلك الكوخالمعزول ..صبيحة ذلك اليوم ,الذي رأى فيه ود بندة حجب النور,كانت هي قد نالت قسطا من الراحة ,دون أن تقلق أنوثتها ,تلك الأحلام المعتادة . .إلتفت بغطائها الصوف العتيق ,الذي ورثته أمها بت فدرالله عن جدتها ,التي زعمتأنه كان للكنداكة .. إعتاد هذا الغطاء الملكي,إستلقاء كنوز حجب النور تحته, فيدعة وحبور,متجاورة في تدوراتها وتعرجاتها الغارقة في الحوار, مع الكنوزالملكية للكنداكة ,ومسك النبي ,وأم حجل وكل الكنوز الأخرى,التي تعاقبت داخلهلمئات السنوات,تاركة ظلالا خافتة. دافئة. لفتنة لاترى إلا في البوح ,الذي يرتجفي جسم حجب النور,الذي كان قد أكتسب معارفه الملكية المبكرة ,من هذا الغطاء..فظلت حجب النور تجاهد إخفاء هذه المعارف ,عن بت فدرالله,التي لم يكن ثمة شيءيخفى عليها ,مع أنها كانت تدعي عدم معرفتها ,بهذا الحوار المتواصل ,بين جسدإبنتها, والأجساد التي تعاقب عليها الغطاء, منذ أهداه أحد تجار درب الأربعينللكنداكة إلى أن آل إلى جدة بت فدرالله في ظروف غامضة.,ضمن غنائم وأسلابالجيوش المتحالفة ,التي دهمت بلدة الأرباب في زمان بعيد.هي شخصيا بت فدرالله, كانت قد عاشت هذا الحوار الليلي المتواصل ,طيلة حياتها العامرة بالأشجان واللوعة.. داخل هذا الثوب تحاور جسدها مع أجساد نساء كثر,وتألمت كثيرا لحكايا قلوب محطمة وأخرى مسترقة, وتوقفت طويلا عند قلب مستبد, لمتكشف ذاكرة الثوب عن هويته ..ولكم شعرت بالحزن والأسى, وهي تتحسس الآثار الحميمة, التي خلفها ود النمير وأم حجل كالبصمة التي لا تختفي على كل حشاياهذا الثوب,الذي لا يخلو من آثار بقع منطفئة لا يمكن إزالتها عن ذاكرة الثوب.. عندما بدأ جسد بت فدر الله في اليباس ,مع بروز التكورات الأولى لحجب النور,قدمت لها هذا الثوب, الذي سترث معه في الحقيقة, أشجان والتياعات النساءأجمعين.كانت بت فدرالله, قد خرجت في ذلك الصباح ,إلى الحاضرة في أحد شئوونها الكثيرة, التي لا تدري هي نفسها شيئا عن أكثرها .وبينما بدأت تعسيلة النوم مرة أخرى,إثر صحوة الصباح ,تدهم حجب النور شوشت خطى مترددة غفوتها المؤجلة..
قمعت تعسيلتها المعتادة ,ونهضت. فرأت ود بندة, الذي تسمر يحدق فيها كالمصروع,الذي باغته ملاك, وفاجأه أنه سيكون النبي القادم .
إنتفض قلبها.. لكن لم يكن ود بندة ,هو ذات ذلك الوجه ,الذي تتبدى عنه أحلامها,يببللها بالدفء.. ضغطت بأقدامها على الأرض ,ويدها على قلبها .تحاول تثبيته فيمكانه ,كان كل شيء حولها ,قد بدا مختنقا...تحت ظل تلك الخميلة .متكئة على كوخه. تزوج الكرسني حجب النور ,التي تجردت آخيرا من كنفوسها القطني ,وإزار الصوف الذي يغطي صدرها ,مبقية فقط على رحطهاالمحلى بالخرز الملون والعاج, الذي ورثته بت فدرالله عن جدتها الكبرى ,وزعمتأنه الرحط نفسه الذي أرتدته الكنداكة ,ليلة قطف عريسها وردة جرحها وتركها بلاجرح... تزوجا إذن محاطين برائحة الجروف النيلية, وأشجار الجوافة التي سيجت الخميلة,بما يشبه الدخان الذي لاح في قلبه طيفاهما الغائمان كرمش محاصربدموع متكاثفة..كان كوخ الكرسني نموذجا مصغرا ,لغرف نوم بني هلال المتوارثة ,عبر االفردوسالمفقود والبحر الملون, وصحراء الشمال القاحلة,والتي كانت كعادة قصور الخلافة, مثلما لاتخلو من المباهج والليال الحمراء ,تحتشد أيضا بإرث الروم والفرس ,ممثلا في التماثيل الأنيقة ,والسجاجيد الحريرية. كانت هذه التماثيل ,تزين الجنبات الأربع للكوخ ,الذي لايبدو خارجه الفقيركداخله الوثير, الترف.. وحيث يجثم صندوق صغير ,قرب تمثال للهلالي الكبير, وضعتحجب النور الصندوق, الذي يحمل رفاة جانوقرمط ,الذي لم يعرف الكرسني محتواه, أوكيف وصل إلى هنا أبدا.في تلك الليلة ,تجرعا كثيرا من عرق البلح ,الذي بدأت صناعته تروج ,حتى لميعودا يتذكران شيئا, عن كيف ومتى وأين ألتقيا, وتزوجا . .فقط التنهدات التيتكشف عن أفكار متناهية الصغر ,كالذرات. كانت هي ما يشكل هذا التوحد الكلي في الصمت, الخاضع لعذابات مختزنة في الذاكرة والجسد, والأحلام الهاربة ..حفر الكرسني عميقا . .عميقا ,حيث تنقبض الأرض وتفيض "كجمام" الوديان ,ليخمدبعدها كل شيء: الحياة الممتدة على ضفاف الخميلة .. الكوخ الذي لطالما تراءىلعرافي قصر أبي هلال ,في كراتهم البلورية ,وخطوط يد الكرسني ,وملامح وجههالمخدد بالعزلة ووحشة البرية ..كانت لحظتها قد بدأت أصائل ضيقة تكتم الأنفاس, برياحها المعتقة ,في الهبوبالجافة ,التي تسحق الرياح ,المحملة برائحة طين الجروف ,والطمي وعشبات معونةالنيل ..يستحيل هذا المسحوق, شيئا مزيجا من النداوة الواهنة, والبرودة المختنقة ,وفيهذا المزيج, بدأت تلوح في أفق حياة حجب النور متجددة ,تلك النبواءت التي حملهاصوت بت فدر الله ,و"الفقرا" حيران جانو قرمط , لتلازمها لوقت طويل, حتى بعد أنيستلم طفلها أبي جريد مقاليد الحكم في دار صباح ,ململما أطراف البلاد الكبيرةتحت سلطته, لتدخل دار الريح, تحت ظل هذه السلطة ,طائعة مختارة ,وفاء من ودبندةلذكرى شيخه جانو قرمط..
II
أولئك الغرباء الذين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب "الفقرا",الذين كانوا قدبدأوا يتقاطرون على مارتجلو ,منذ تلك اللحظة .التي إستلم فيها ود بندة مقاليدالسلطة في مارتجلو ,موحدا دار الريح كلها تحت حكمه ,ومغيرا إسمها من مملكةمارتجلو إلى مملكة ود بندة ,التي أتبعها بمحض إرادته, لسلطة الهلاليين,والطائفة الجريدية في دار صباح .
.منذ تلك اللحظة الفارقة بين عالمين :عالم مارتجلو القديم ,الذي لا تزال تشكلوجوده بقايا التعاليم العتيقة للمقدس دالي,وعالم ود بندة ودار صباح ,الذي بدأيأخذ طابع الهلاليين و الجريديين شيئا فشيئا ,مضت رياح التحولات كانسة أمامهاكل شيء ,إلى أن وصلت ذروتها في الشلال ,فتغير إسمها مرة أخرى إلى مملكة "جلابيود عربي" .. هذه المملكة التي أصبحت تعج بالغرباء ,أكثر من أي وقت مضى .
.الغرباء شديدي الشبه بأولئك "الفقرا" الذين تمردوا على تعاليم دالي ,فأنتهىالأمر بمارتجلو إلى فيضان, لا تزال آثاره في ذاكرة المكان ترتسم بوضوح .فالفقرا الذين تواترت إليهم الحكايات العديدة ,عن جنة عدن,والألياذة والأوديسة,والمغنين الجوالة ,ووصلتهم نتف متفرقة من هيرقليطس ,فبدأوا يتأملون حولالطبيعة والقدر ,إلى أن حكى لهم أحد تجار طريق الحرير, كان قد ضل طريقه منالفلسفة إلى التجارة والترحال ,ما تناهى إليه عن سقراط وافلاطون وأثينا .
.
هذه المتواترات المتفرقة التي كانت تصل مع قوافل التجارة ,بصورة متفرقة ,جذبتإهتمام تلك الفئة من الناس, وفتحت شهيتهم ,التي وجدت المزيد في رحلاتبعضهم,التي امتدت لعقود من الزمان,جابوا فيها البحاروقطعوا صحارى وجبال ,ليعودوا بعدها طاعنين في السن ,دون أن يتعرف عليهم أحد ,فجيلهم كان قد انقرض,وظلوا هم وحدهم على قيد الحياة ,كأن تلك الرحلات الطويلة المضنية ,مدتأعمارهم ,ومدتهم بأسباب البقاء ,ومقاومة الزمن الذي كانت خطاه ,تدب في عظامهم باستماتة النخر الدؤوب.. فيصرون على الحياة أكثر فأكثر,بتلك التجمعات التييقيمونها,ليحدثوا الناس عن أرسطو ويوربيدس والهيلينيين والقرون الوسطى ,لكنكانت معرفتهم تقف عند هذه التخوم ,دون أن تتقدم شبرا واحدا ,فذاك كان منتهىمعارفهم الفاشلة ,التي لم تكن حياة الناس اليومية ,بحاجة إليها - مثلما كانالكلس يعتقد ,في أواخر أيامه,التي قطف فيها وردة جرح شهرزاد ,متجنبا لقاءهابعد ذلك,إلى أن غادر إلى بلاد اليانكي - وفي الحقيقة كان العالم كله يقف عندهذه اللحظة ,منتظرا دورة نهايته المأساوية . .ربما أن هذا الخليط من الحكايات المتناثرة ,التي لا تخلو من سحر وعبثية ,لمتحسم الجدل القائم بين أيهما خلق أولا :الدجاجة أم البيضة ..الأمر الذي أوحىلجلابي ود عربي ,بالتوحد مع دارصباح,ونشر طابع حياتها ومعتقداتها في دار الريح..
III
كان التعب والأعياء قد نالا من حجب النور ,بعد مقاومتها الطويلة للكرسني,فاستسلمت في حضنه, على صهوة الجواد ,الذي نهب بهما الأرض ,وأخذ وقع حوافرهيتباعد شيئا فشيئا عن حاضرة دار صباح ,إلى أن وصلا إلى تلك الخميلة, التي تشبهالخميلة التي أقامت فيها بت فدرالله كوخها,الذي شهد طفولة حجب النور وصباها.... ترجل الكرسني وأنزلها عن صهوة الجواد برفق,وهو يقودها إلى داخل الخميلة,التيأنتصب فيها كوخ يشبه كوخ بت فدرالله.أجلسها تحت شجرة تمرهندي,ترمي بأغصانهاعلى الكوخ حتى لتكاد تخفيه عن العيون المتلصصة ,وهي صامتة جزعة,لا تقوى على أنتنبث ببنت شفة .
.حاول تهدئة مخاوفها ,بصوته الذي تناهى إليها كأنه قادم من البعيد .. من أعماقذكرياتها المبللة,وأحلامها الدافئة .. حكى لها حكايته من المبتدأ إلى المنتهى, دون أن يخفي عنها شيئا من أسرار حياته,التي لطالما أحاطها بالعزلة ,التي لميفتح عوالمها القصية ,حتى لصديقه الوحيد ودبندة .
.كانت أساريرها قد بدأت تنفرج ..لم تقوى على إخفاء تهللها,إذ أدركت من حكايته,حقيقة تلك النبؤة ,التي لطالما آمن الفقرا أتباع جانو قرمط بها ,وعاشت بتفدرالله منذرة حياتها لأجلها.. لم تكن تلك النبؤة .. إذن,محض خيال شعبي ,وآوانتحققها قد حان . .فتبسمت في وجهه للمرة الأولى ,منذ تلك اللحظة التي دهم فيهاكوخها, بصحبة خدمه الخواص ,وأختطفها بغتة ,فلم تعي نفسها إلا وهي في حضنه ,علىالجواد الذي نهب الأرض ,خارجا من حاضرة دار صباح ,خروج السهم من الرمية .
..تنفس الكرسني الصعداء,فقرأت في عينيه الوجد ,الذي كان يتعاظم داخله منذ ذلكاليوم ,الذي جاء فيه خاطبا ,فزجرته بت فدرالله ,كما زجرت ود بندة من قبل .وكانت حجب النور قد أدركت ,أنه حبيبها الوحيد وقدرها المكتوب ,فمضت تتفقدالكوخ صامتة ,بينما الكرسني يستعيد توبيخ بت فدرالله لود بندة . .هذا التوبيخالذي كان قد نال منه أبلغ منال ,فأوغل في عزلته ينادي حجب النور,دون أن يتلقىردا..لملم شتات نفسه في البرية ,وهو يعدو بين شجيراتها ووديانها .. كان يطاردطيفها بصوت ملؤه الألم ,حتى تضامنت معه وحوش الخلاء الكاسرة,فاتكأ على صدر صديقه الكرسني,يذرف دمع المحبين.. خرجت حجب النور من الكوخ تتفقد المكان حوله :الخميلة ببركتها الصافية وأشجارهاالظليلة وطيورها الجميلة ,التي أخذت تعزف لحن عرس ,يشعل في نفسها الشوقواللهفة.
كان الكرسني في عزلاته الليلية ,حين يجلس جوار تقابة النار,نديمه الوحيد فيالخلاء الموحش ,قبل أن يلتقي ود بندة ,يبث ذلك الطيف الذي يتراقص ,مع لهبالتقابة نجواه.. يحدثه عن الذي قصر أو طال ,يلقي إليه بندف أوجاعه .. كانيحترق كل يوم وليس سوى نار التقابة يواسيه هسيسها الذي يزحف عميقا في حشاياه,إلى أن إلتقى ود بندة .
.كان يراقبها وهي تتفقد المكان . يلحظ إنفلاتات عينيها تسيل برغائب محتجزة .متشحة بظلال هي مزيج من الإستسلام والتحفز ,تجعل جسمها الممتليء, يرتعشإرتعاشات خفيفة لا تكاد تبين.. ذلك الإنطفاء الذي لمحه في عينيها ,لحظةإختطفها ,يشعر به الآن تحل محله جذوة ,تومض كلهبة صغيرة ,تبدأ في التنامي شيئافشيئا ,تدفع خديها للتورد ,الذي يبين ناعما ,ساحرا وآسرا ,يطال كل بشرتهافتكتسي بالنضار .
.منذ رآها في اللحظة الأولى تلك ,بعد أن حكى له عنها ود بندة ,سلبته السيطرةعلى نفسه .. كانت ملامحها الدقيقة هي ذات تلك الملامح ,التي كثيرا ما دهمتأحلامه,فملأته بالسعادة والحبور ,الذي يفيق منه مكتئبا ,عندما يكتشف أن ذاك لميكن سوى محض حلم .
.تطفو تلك الملامح ,التي كانت ترتاد مخيلته على سطح ذاكرته الآن,تنطوي علىوجهها الماثل أمامه ..لم يكن محض حلم..
وكانت هي تتمعن جسمه الفتي ,والصفرة الخفيفة البادية على وجنتيه ,والحزن الخفيالذي يسكن عينيه .. كانت تحاول أن تبلور النبؤة القديمة . تضاهيها بهذهالملامح ,التي أخذت تغزوها وتحتلها لم يطق الكرسني الإنتظار أكثر.حملها بين زراعيه ,إلى داخل الكوخ .
.كانت كل تلك الأصداء للأحاديث المكررة ,التي لطالما رددتها بت فدرالله,وشيوخها الفقرا أتباع جانو قرمط , على مسامعها ,عن أساطير الأصل المقدس ,والتقاليد التي كذلك الأكسير ,الذي يحيل المعادن الوضيعة إلى معادنثمينة,فالناس معادن..تتناءى الآن وتتلاشى بعيدا عن ذاكرتها الغضة التي ينهضفيها وجه واحد فقط ,لطالما رأته في أحلامها الغامضة ,هو : وجه الكرسني .
..ينتفض كيانها كله ,إثر كل رعشة في جسد الكرسني ,المتمدد تحت ثوب الكنداكة الذييغطيها , كجبل يزرع عروقه في أرض صلدة.. يهتزان محترقين كطائر خرافي يتجدد فيالنار ,التي ما أن تحرقه ,حتى ينبعث من جديد ,نافضا رماده .
.كانا كشعلة لا تنطفيء إلا لتتوقد مرة أخرى ..لا يحسان مغيب الشمس,أو إطلالتهامن جديد ..عتمة الليل أو تسلل خيوط الفجر الأولى ..البرق والرعد والمطر,أوالسكون الذي يسبق العاصفة ويتلوها.. صمت العصافير والنسور والسحالي,أومشاركتهما بغتة لذة الإرتعاش ,بسلام يسود بينهما إلى الأبد .
.وكانت الطبيعة حول كوخهما تكتسب طورا جديدا , يخرج من أعماق الحكايا والقصصالتي أنشدتها ,أشعار الحب وقصائد الهوى الجامح ,تخصهما بالسحر والخلود ..فتنأى دار صباح بضجيجها وزحامها . .يبقى فقط وجه حجب النور والكرسني ,يضيئان العتمة .يمتزجان في الفجر الوسن.يخترقان أحلام النوم العميق,يزرعان السهروالحمى .
.تبصم إرتعاشاتهما الأخيرة على الصمت والسكون, وكل دروب وأزقة دار صباح ,مفضيةإلى نبؤة الخلاص في أبي جريد الصغير,القادم من رحم حجب النور , بكل أحلام أبيجريد الكبير وجانو قرمط ,لدك عرش أبي هلال ..إذن كان أبو جريد يتشكل لحظتها فيرحم حجب النور التي غرقت على صدر الكرسني في نوم عميق كنوم أهل الكهف . .IIII
تقول الحكاية المروية عن بت فدرالله ,أن السلطان جد أبي هلال بعد أن قتل جانوقرمط ,قطع جثته ست عشرة قطعة ,فرقها على المداخل الأربعة لدار صباح ,لكنالفقرا السريين, الذين تبقوا من طائفته ,دون أن يعلم السلطان بوجودهم ,تمكنوامن إستعادة كل الأجزاء عدا عضو الذكورة .
.ومضى الفقرا, يستخدمون السحر في إعادة تركيب جسد جانو ,لتنجب منه بت فدر اللهالصبية المراهقة وقتها ,درتها الوحيدة حجب النور.. والتي تقول النبؤة الخاصةبالفقرا ,أن ذلك الفتى الوحشي الذي يعيش في البرية ,والذي هو من دم أبي هلال ,سينجبها هلاليا صغيرا هو المنقذ المنتظر ,الذي يخلص دار صباح ,من قبضة أبيهلال ,ليبدأ مجد الفقرا في سلالتهما التي ستحكم كامل البلاد الكبيرة .
.الليلة التي ولدت فيها حجب النور,إحتضنتها الحمائم ورعتها,وانسابت سيول عارمةفي مجرى النهرين ,تدفقت مياههما ,حتى أغرقت أجزاء واسعة من حاضرة دار صباح,فخرجت التماسيح تستلقي في دعة وحبور,وهي تلاطف الأهالي الطيبين..
V
في وحدته القاسية يتأوه الكلس محاصرا برائحة الشعراء ,وهو يرمق ببصره الجدرانالبيضاء ,في غرفته الغارقة في الصمت . يتكيء على صدر غلوريا .. على سقطالتواريخ,وبقايا من ذكريات تشظت في هجير السنوات ,فيدهمه طيف دبكالبعيد,منشغلا بما يراه من حيرة, تتآكل عيني نينا الواسعتين ..هذه الحيرة التيلحظها منذ أول لقاء لهما ,في صباهما الباكر,حين أخترقا عالميهما ,غارقين فيغلالة برزخية ,تقاطع فيها الألم مع العنف والتلظي . معلنان مواجدهما الوليدة,للوادي وأشجار القمبيل ,وشجر القنا . .منذها,بقدر ما أقتربا من بعضهما, بقدر ما كانت المسافة بينهما تزداد إتساعا .
.كان دبك يدرك أن نينا الورتابة , لا تنتمي إلى عالمه,لكنه كان يدرك أيضا أنهاقدره,الذي ليس منه فكاك .. ذلك الحس الأسطوري الذي يهيمن عليه ,ويتغلغل عميقافي روحه وجسده ,يدفعه دفعا للتشبث بهذا القدر اللذيذ .. وفي غمرة هذا الكروالفر ظل مخلصا لها,وظلت وفية له .
.كانت سعيدة بسيطرته عليها ,وفهمه دخائلها ورغباتها..هذا الفهم ,تشكل عبر سنواتطويلة ,ظل يشعر خلالها بحاجته المستمرة للحب, في كل ما حوله . كان لا يحتملخيبات الحياة, التي تجبره على معاناة آلامه وحده,دون أن تصدر منه آهة واحدة,وأورث هذه العادة للكلس الذي يشعر الآن, في هذه البلاد الباردة ,بأحزانهالمنقضية كلها تتجدد,في إستدعاء ذاكرة الحكايا القديمة ,حكايته وشهرزاد غفوتهالمؤجلة ,المحاطة باللافندر ,ورائحة الشعراء والغفوات المؤجلة , وتلكالأحزان..
تلك الأحزان التي أرقت الحكماء والحكيمات,وهم يرون تعاليم دالي ,تنهار مع زحفالرفاهية ,وتحريف الفقرا المتمردين لتعاليم دالي العتيقة ,وزعمهم أنها لم تكنمكرسة للعزلة ,وأن الحكماء والحكيمات ,نصبوا أنفسهم سدنة لهذه التعاليم,وفسروا ما رمى إليه دالي خطأ ,فباطن ما رمى إليه دالي, يتناقض ويتعارض معمظاهر التعاليم المعمول بها .
.كانت مملكة مارتجلو تستحم كعادتها ,في شلالاتها . حين أعلنت هذه الأصوات,بداية رياح المحنة ,التي ستذروها في "فِجاج القِّبل" الأربعة . سرت رعدة فيأنحائها كلها ,فارتدت أعمدتها العتيقة ,التي حال لونها..هذه الأعمدة الشامخةفي عزلة الوديان وقحل الصحراء ,ووحشة الجبال .
.لم تكن هذه المحنة من المحن ,التي أعتادت عليها مارتجلو ,بطبيعتها الضارية,وهبوبها العاصفة ,فالغرباء الذين ضلوا طريقهم إلى مالحة ,وألقت بهم الأقدارإلى مارتجلو,تمكنوا من إقصاء الحكماء والحكيمات ,الذين لطالما حملوا همومالمملكة ,كي تنعم بالسكينة والرخاء .
.هؤلاء الغرباء نشروا الأكاذيب ,وحرفوا تعاليم دالي ,فلم يعد الناس يثقونبالحكماء ,إذ تغيرت نظرتهم ,وأمتلأت نفوسهم بالشك والريبة والظنون .
.عندما أطبق الظلام ,على كون ذلك الزمان البعيد,أخذ المقدس دالي حفنة تراب ,منالقبل الأربعة .عجنها بعصير زهور البرية ,ولحاء صندل الردوم والقمبيل ,وصاغفي العزلة مملكته ,التي ستتعاقب عليها دول ,لم تخطر على بال قداسته مطلقا .
.ولسوف تبرز من بين كل الحكايا, في هذه العزلة البديعة : حكاية ود بندة,المرسومة بحميمية وحزن شفيف,على جدر كهف المقدس دالي ,وعلى المدونات حائلةاللون ,"التي سيستعين بها دبك ومن بعده الكلس , في هذه البلاد الباردة,فيإعادة كتابة تاريخ المكان وأحوال الناس .
."يحكي الكلس نقلا عن هذه المدونات,التاريخ الشخصي للمقدس دالي ,وعذاباتهومواجده ,التي كقصة حب مأساوية الطابع ,لم تكتمل إذ حاصرها الهجر والرحيل ..ويمضي الكلس إلى أن المقدس دالي,كان يعتقد أن أجناسا أخرى ,غير الإنسان ,ورثت معه هذا الإقليم الشاسع,وأن ما يعرفه قداسته ,إنما عرفه من كائنات ما وراء هذاالعالم ,كما آمن بأن النجوم شموس أخرى,ولطالما تملكه ظن عجيب ,بأن كائنات خارجحدود هذا العالم ,ستسيطر على الأقليم, وتتزوج نساء شعبه ,فتنجب مسوخا مغرمة بصناعة أسلحة القتل الرهيبة,وتشرب الدم شربها للماء .
."..."ربط دالي بين حركتي المد والجزر,وتحركات القمر,الذي إذا صار في أفق من آفاقالبحر ,أخذ ماؤه في المد مقبلا مع القمر,ولا يزال كذلك إلى أن يتحول القمر ,عنكبد السماء ,فينتهي المد فإذا تحدر القمر عن مكانه مرة أخرى,إبتدأ المد مرةثانية ,وأنحسر الجزر ,وهكذا.. فيكون كل يوم وليلة بمقدار مسيرة القمر فيهما.." .
.."وربط دالي بين القمر وتأثيراته على الناس و الحيوانات ,والحشرات والأشجاروزهور البرية
للمفارقة أن دار الريح التي استلهم فيها دالي إستنتاجاته ,لم يكن بها نهر أوبحر!!..وهو الأمر الذي جعل أولئك الفقرا يشككون في كل تعاليم دالي ومزاعمه .
."...الأسباب الحقيقية وراء إنهيارمملكة مارتجلو كما يرجح الكلس - على الرغم من أنأولئك الناجون من الطوفان,لم يؤكدوا بصورة قاطعة ومباشرة - تتمثل في التغيراتالجذرية التي أحدثها الفقرا ,الغرباء الذين ضل معظمهم الطريق ,فوجدوا أنفسهمفي الشلال..
هذه التغييرات ,التي أكدت نفسها في "ليلة الأنس الكبيرة " .. لكن المدوناتتؤكد في سياق متصل ,أن لهذه الليلة جذرها العميق ,في حياة مارتجلو منذ القدم,وبروزهذه الليلة في حياة مملكة جلابي ودعربي ,ما هو إلا صدى لتلك الحياةالعميقة ,بعيدة الجذور,التي لم تكن تخلومن اللهو والمرح,فأهل مارتجلو عندماأصيبوا بأدواء الترف,أخذوا يؤلفون الأغنيات والرقصات الجريئة , المتمردة,محتفلين بآلهة لم يرد لها ذكر في تاريخ الديانات والعقائد .
.كانوا يتركون بيوتهم ,وهم يملأون طرقات مارتجلو,يقيمون الإحتفالات حول أبراج دالي,يسرفون في شرب "البقو" ,وأكل المشويات ,حتى يفقدون وعيهم من السكروالتخمة . .كانوا يستمرون في الخروج عن وقارهم, الذي صاغته العزلة,فيقومون باستعراضاتداعرة, بعد أن يكونوا قد خلعوا ثيابهم الغريبة ,وأشهروا أعضائهم في إنتشاءمجنون,وقد تتوجت رؤوسهم بأكاليل من أغصان شجر القمبيل .. يتلامسون ويتبادلونالكلام الفاضح,وهم يحملون تمثالا ضخما لعضو ذكورة ,على قاعدة من عضوالأنوثة!!..غير آبهين بمنتهيات دالي ..ولا يتفرقون إلا بعد أن يختموا إحتفالهمبممارسة الجنس في شغف وجنون .
.كان الحكماء والحكيمات في شعب مارتجلو,قبيل الطوفان قد نادوا ,بأن خير وسيلةلإعادة مارتجلو إلى سابق عهدها ,بأن يتولوا هم إدارة أمرها ,بعد أن إستيأسوامن خلفاء دالي المتعاقبين,تغيير الحال..إذ إستمر خلفاء دالي في ترك الأمورللغرباء ,الذين أخذوا يسنون القوانين ,وهم سكارى,ويبرمون المعاهدات اليوملينقضونها غدا ,حيث جعلوا من مجلس السلطان مجمعا للمرتزقة وتجار الحروب,الذين كانوا قد نشطوا في التحريض ,ضد ممالك الجوار في دار الريح .
.كأن لعنة خفية حلت بمارتجلو ,فالجشعون الذين يطمحون لأمجاد زائفة ,أخذوايديرون المملكة كما يشتهون ,كانوا يتلكأون في خدمة مارتجلو,ويسارعون في إلحاقالأذى بها,خدمة لمآربهم الخاصة ,ولا يمنعون ضررا,أويؤدون واجبا عاما .
.كانت النساء الحكيمات ,قد إستيأسن ,وأيقن أن مارتجلو تمضي لا محالة إلى زوال.. كن يصرخن :
"لا ينبغي أن نربي ضباعا بيننا .
."...,فيجيب الرجال الحكماء:
"تسببنا لأنفسنا في ذلك,فعلينا أن تقبل العقاب إلى أن يتعقلوا.."..
فتحتج النساء الحكيمات :
"يجب أن نجد طريقة ,نعيد بها ثقة الناس في تعاليم دالي..وثقتهم فينا .
."..فيطرق الرجال الحكماء رؤوسهم ,يفكرون في وسائل لم يسبق لهم إتباعها .
.كانت أحوال مارتجلو قد تغيرت منذ وقت طويل ,لا يعلمه أحد ,فخلفاء داليالمتعاقبين ,جميعهم لم ينفذوا التعاليم بذات القدر ,ولم تحتل تعاليم دالي مكانها مجددا ,إلا بعد ذلك الطوفان ,إذ عمل الناجون على أسترداد مملكتهمالبائدة ,من قبضة التاريخ والذكريات,وإحيائها بالتعاليم كما كانت ,في عهدها الأول قبل مجيء الغرباء,مستهدين بأن أنصلاح آخر الأمر,لا يكون إلا بأوله .
.وهكذا بدأت تعاليم دالي تحيا من جديد,وتسترد مكانتها لتتشكل مارتجلو مرةأخرى:وطنا في العزلة ,يهدف إلى السلم ولا شيء غيره .
.كانت تعاليم دالي أشبه بأحكام ديانة تمرد عليها معتنقيها,لهثا خلف التغييرخارج حدود هذه المملكة,الغارقة في غبرة التاريخ,إذ أشارت بعض مدونات الناجينمن الطوفان ,إلى تأكيدات بأن الذين أخذهم الطوفان,ستظل أرواحهم المعذبة هائمةدون مستقر,إذ لن يرمى بهم في مملكة دالي السماوية,وإنما سينتهي بهمالأمر,مقذوفين إلى حمم الجحيم مباشرة .
.الذين أصروا على نبذ تعاليم دالي العريقة ,كانوا مؤرقين بهذه المملكة الوحيدةالبائسة ,في هذا العالم المحاصر بكوارث الطبيعة ,والكوارث التي من صنع البشر..
فمارتجلو كالمنبت ,لا تتفاعل مع ما حولها..غارقة في عزلتها , محاصرة برائحةالغرباء والشعراء والفقرا, الذين تقطعت بهم السبل .
.لكن الحكماء والحكيمات ,كانوا يرون ,أن هؤلاء لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا,من هذه العظات الكثيرة "الكوارث التي حولهم"والتي تحمل أخبارها ,حكاوي التجارالعابرين ,الذين يضلون طريقهم , فيجدون انفسهم في مارتجلو . .تمضي المدونات في وصف" ليلة الأنس الكبيرة..
"إستحمت النساء بالماء الذي غليت فيه أوراق البرية المعطرة,وجذور القمبيلوالمحريب والسعدة ,والحرجل والمحلب والسنا سنا.. كان هذا المزيج السحري ,يسيلعلى أجسادهن الممتلئة ,فيملؤها ألقا على روائها.. مشطت النساء شعورهن ,وتعطرن بعصارة الصندل والمسك والقرنفل,وتزين بزهور البرية, وأرتدين كنافيسهن المميزة,بعد أن غطين نهودهن, وتركن بقية أجزاء صدورهن ,يضربها الهمبرييب .
.كان ذوقهن في التزين يجمع بين التمرد الحديث لمارتجلو على العزلة,ورفاهيتهالفجة في عالم تملؤه هواجس الجوع والحروب ..مضين في طريقهن إلى ساحة الخلوةالكبيرة ,وأجسادهن المثقلة بالظمأ تتمايل وترتج .
.كان أبوي دالي من أهل هذا الإقليم المتسع ,الذين تؤكد الروايات الموثوقة,أنهما لم يجيئا كالكثيرون , من خارج الإقليم,فقد خلقوا هنا,ولا يعرفون لهموطنا غير هنا.. فهم ليسوا كالهلاليين الذين جاءوا من خلف البحر الأجاج ,أوأقصى الصحراء ,حيث تغرب الشمس ,عند الضفة الأخرى من البحر المالح ,لتشرق فيدار صباح..
كان دالي يدرك أنه ليس خالدا ,ولذلك قرر بناء مدينة عظيمة ,لها سمة الخلود,بالحصن الذي يحيطها ويعزلها عن كل ما حولها . داخل هذا الحصن ,ذو البواباتالثلاثة ,التي تكون مملكة الشلال رفعت أعلام طوال ,من نسيج غيرمعروف . وزرعتالأشجار المثمرة,في كل مكان يتخلله وادي أزوم ,وفرعيه"سجللو- واللهمرقاا",وعند مفترق هذين الفرعين شيد دالي ,معبدا كبيرا أنيقا من صخور "جبليمرة وأب كردوس" ,تفضي سراديبه إلى أنفاق وكهوف عين فرح السرية ,التي كان داليكثيرا ما يعتزل فيها ,لينحت بنفسه التماثيل الآدمية ,والنصب التذكارية التيتزين ,أزقة ودروب وشوارع مدينته الخالدة ,ومن بين كل الوجوه التي حملتها التماثيل,تكرر وجه عميق التقاطيع أطلق عليه إسم "شطة"وآخر بوجهين غامضين أطلقعليه:"ود بندة/جلابي".. كانت هذه الوجوه الثلاثة, تلح على خياله المبدع ,دونأن يدرك لذلك سببا.. ولإهتمامه العميق بالنجوم, فعل المقدس دالي شيئا عجيبا ,إذ إقتطع من جبل أبكردوس, ثلاثون صخرة قائمة,كل واحدة بطول رجلين ,وزنة أثنا عشر رجلا متوسطيالحجم ,وقام بصفها في شكل دائرة ,وضع عليها أفقيا صخورا أصغر ,تزن كل واحدةمنها رجلا صغيرا, في حجم فقير بائس.. وعلى مداخل هذه الدائرة الصخرية ,صنعدائرة صخرية أصغر ,على نفس النظام ,بحيث أنه عند الإعتدال الربيعي والإنقلابالشمسي,تشرق الشمس عند الأفق ,متدفقة بين فتحات الصخور ,كما أنه في اليومالأول من كل صيف ,تشرق أشعة الشمس ,مواجهة مكعب الصخور..الأمر الذي جعل الكلسيتفكر كثيرا ,ويستنتج إهتمامات دالي الفلكية ,ومعرفته بالوقت والتاريخ ,إذ أندراسة الخصائص الفلكية ,للمكان الذي شيد فيه دالي هذه الأبراج الصخرية ,كشف عن دورة الست وخمسين عاما ,اللازمة لحدوث كل كسوف ,كما أن تحريك هذه الصخوربمقدار معين ,مرة كل سنة .يعطي معلومات مهمة ,عن الأحداث القمرية القادمةلمئات السنوات .
.ومع ذلك يعتقد الكلس, أن دالي لم يكن سوى نبيا ضل طريقه إلى النحت والفلك,وشئوون الحكم في مملكة خارج نطاق التاريخ.. معزولة في الجغرافيا .
.هذه المدينة التي إبتناها العظيم دالي ,والتي نهضت على أنقاضها بعد مئاتالسنين "جلابي ود عربي",ببلداتها الثلاثة ,في ذات مواقع المدينة القديمة,أصبحت أثرا بعد عين - كما تشير أحدث المدونات المجهولة- إذ أنه في أحدالظهيرات البعيدة ,حل بسماءها غيم أسود قاتم اللون ,حجب نور الشمس ,وملأ نفوسالأهالي بالذعر والفزع .. ثم بدأ البرق والرعد يهزان كل شيء ,تلى ذلك صوت غريب ,مجلجل ,قادم من مكان سحيق .. كان صوت سيل عات. أغرق كل شيء ,حاملا معهالحجارة الكبيرة . .لم ينج من هذا السيل سوى قلة ,كانوا قد تعلقوا بجذوع الأشجار ,هؤلاء كانوا قدكتبوا شهاداتهم بلغة "الفور" المجهولة ,حول هذا الطوفان ,الذي لم تصمد أمامهسوى ,تلك الأبراج التي شيدها دالي, من صخور جبل مرة وجبل أب كردوس الثلاثون ,ومتاهته الشخصية بين النبوة والملك والعلم والفن .
.الناجون الذين تعلقوا بجذوع الأشجار,لم تنج سلالتهم مما يشبه اللعنة فيمابعد,إذ كانوا يلدون أطفالا غير طبيعيين ,بعاهات غريبة ,كأنهم تلك المسوخ التيتشرب الدم ,التي حملتها نبؤات دالي . حتى أنهم بعد مرور مئات السنوات ,أصبحعددهم كبيرا ,فبذروا الشر في كل أنحاء البلاد الكبيرة .. قتلا وحرقا وإغتصاباوتمثيلا بالموتى .
.VI
منذ ميلاده .ولدى دخوله الخلوة ,أخذ الكلس يفكر في كون اللغة : لغة دبك الذيأورثه تاريخه الشخصي وكثير من الحكايا والمدونات .
.هذه اللغة المغايرة للغة الكتاب المقدس.. وبين هذين الكونين : لغة القبيلةالخاصة-وكون لغة الكتاب المقدس, والقومية التي يمثلها,كانت تتحرك كل العوالمالموروثة والمكتسبة ,فتتحرك تبعا لذلك مجسات تفكير الكلس ,في محاولاته الدؤوبة لإستكناه السر, الذي يبدأ من هنا وهناك ,في أعماق مملكة دالي العريقة .
.كان سؤالا جارحا يتغلغل داخله ,ويتفتق عن ضباب يفضي إلى ضباب آخر, في سيرة دار صباح,قبل إستيلاء الهلاليين عليها ..عندما كانت تموج بحركة الناس, بأعراقهمومراتبهم الإجتماعية المختلفة . .في ذلك الوقت البعيد, إصطفت كناتين وسقاقيف السلع المتنوعة :ريش النعام,سنالفيل,الحراب, السكاكين,السهام والأقواس والسيوف.. الذرة ,البرتقال,الدخن,الليمون والشطة.. المغزولات الكتانية والقطنية,ومنسوجات النول...
وحيث توسط سوق الرقيق كل ذلك,كانت دار صباح ,حافلة بضجيج التجارالمقيمين,والآخرين العابرين,وحيشان القش التي تزرب قطاطي ورواكيب المقامرة,والمتعة والبقو والعسلية وعرقي البلح .
..وفوق هذا وذاك المغنين الجوالة ,الذين يعزفون على الربابات وأم كيكي,معزوفاتتتقطع لها نياط القلوب,وإلى جانب هؤلاء المغنين,تجمع الفارين من أوطان أخرى,داخل البلاد الكبيرة وجوارها : لصوص ,قطاع طرق وهمباتة,وزراء سابقين لممالكصغيرة فاشلة,قادة مليشيات وعمد ومشايخ منهزمين,وجنود مكسورين الخاطر..قرامكةأتباع الفقير الراحل جانو ,و"حبرتجية" لم تعد حيلهم تمر في الناس,وناس عاديينمتهمين في قضايا لم تخطر على بالهم أبدا!!..كان الجميع وقد "فنقس" بهم الزمنيبحثون عن أمل هنا .
..المكان الوحيد الذي كانت تسوده السكينة والهدوء,بعيدا عن كل هذا الضجيج هو"الفريق" القريب من قصر السلطان ,حيث تعيش"قند اليمن",وهو الحي الذي لا يمكنالوصول إليه ,دون الإحتكاك بالآخرين أووطء أقدامهم المتزاحمة .
..وفي غمرة هذا الزحام هلت "قند اليمن"..كانت ممتلئة ,مشربة السمرة,التي تميلإلى دكنة خفيفة,هي سحنة أهالي دار صباح الأصليين .. كانت عينا قند اليمنبالألق الذي يميزهما ,تشكلان مع غمازتيها المتراقصتين ,سحرا خاصا لايمكنالإنفكاك من تأمله.. وقند اليمن تميل إلى القصر,لكن جسدها ينبيء عن قوةوعنفوان غريبين . .شعرها حالك السواد,الذي لم يكن طويلا أو قصيرا,لامست بعض خصلاته الفارة منالمشاط ,جانبا من وجهها البيضاوي,بملامحه المميزة .
.كانت قند اليمن تحاول العبور في هذا الزحام,عندما أنتبهت إلىعيني"الدريب"اللتين كانتا تتحسان جسمها شبرا شبرا..إرتبكت فتقافز نهداها النافران ..وأسرعت الخطى .
..جمال قند اليمن نوع من الجمال الساحر,الذي يسلب اللب ,فيأسر العين,وكانت هيتعرف ذلك,وتسعد بهذه المعرفة,التي تؤكد لها أنها بمثابة الحلم العزيزعلىالشباب,الذين كانوا على أية حال يهربون من ملاحقة هذا الحلم, بإنفاق الوقت فيلعب "الضالة والسيجة" ,أوتغشي الأندايات .
..زارها كثيرون في أحلامها فأقلقوا منامها ,وبقدر ما شعرت بذلك النوع المحبط منالإرتواء ,بقدر ما كان يجتاحها إثر كل صحوة,ظمأ حارق يبدد سلام جسدها المكتنز,المتفجر بالعرم .
..لم تكن دار صباح مكانا ذا تاريخ متصل ,كأجزاء البلاد الكبيرة الأخرى,إذ كانتتجاربها على الدوام غير مكتملة ,تنقطع في مكان ما لتبدأ تجربة جديدة ,لا تلبثأن تنقطع هي الأخرى..هذا التاريخ وسم كل شيء:الناس والأمكنة والمناخ .. فقدكان بدار صبح سبعة أنهر ملونة ,لكن ولأسباب غير معروفة, أصبح عدد أنهارهاخمسة,فأربعة ,فثلاثة ,فإثنين..وحتى هذان النهران,لا يستمران في الجريان, إذيتوحدان ليشكلا نهرا واحدا ,يتهدده الزوال هو الآخر .
.كذلك مناخها شهد من التقلبات ما لم يجد له أحد تفسيرا,إذ تغير من ذلك المناخالمعتدل ,الذي يدخل على النفس بهجة وسرور,إلى مناخ معكر بالغبار الوسخ .و حارقبحره اللافح .. ولم تنج أرض دار صباح من التغييرات,بما شهدته من تقلبات ,إذتحولت من غابة خضراء يانعة ,تتخللها الأنهرالعديدة والوديان,والجبال.إلى أرضقاحلة جدباء..وأصبح كل ذلك الجمال الذي عرفت به ,محض تاريخ مروي في الحكاياالشعبية,التي لا تزال تتواتر..وتحكي عن تلك الهالة, التي كانت تتجمع من أجزاءصغيرة,صقيلة في السماء ,يحيطها غلاف من الغيم الشفاف ,الذي عندما ينعكس عليهضوء الشمس كالمرآة ,تنكسر عليه آلاف أقواس قزح ..هذه الهالة لم تعد تتكون فيفضاء دار صباح منذ وقت بعيد ,فكل شيء حول الطبيعة, التي كانت ساحرة يوما تبدد.. في البدء فرت الحيوانات,ثم أختفت الغابات ,فردم الرمل الوديان,فهجر "جدادالوادي" والوزين أرض دار صباح إلى غير عودة,حتى أن الطيور المهاجرة ,لم تعدتتوقف عند دار صباح لتستجم,أصبحت كلما مرت بسماء دار صباح, تزيد في سرعتها,فتعبر دون توقف .. حتى الحمام والقمري ,غادر دار صباح .
.ما تبقى من العصافير الصغيرة,التي حار بها الدليل,والتي كانت ترك على الرواكيبوالقطاطي ,لم تعد تزقزق, سوى بأنغام حزينة,تفيض بحيرتها الكونية,في عالم دارصباح المتداعي,تنعي زمنا مضى وأنقضى .
.تفككت الجبال الراسيات إلى قطع صغيرة,خلفت ذاكرتها في التلال الصخرية ,وعششالسمبر والغربان فيما تبقى من أشجار كالحة ,آخذة في الإنقراض هي الأخرى .
.لم يعد من جمال الطبيعة التي كانتها دار صباح يوما ,سوى ما خلفته تلك الطبيعةالساحرة من ذكريات ,على أرماث الوديان وقبور الأنهار وأكفان وهياكل الشجر .
.إختفى حتى ذلك المجتمع المتجانس, الذي كانته .. حل محله مجتمع غريب:خليط منالأرقاء والمنبتين والأدعياء, الذين ينسبون أنفسهم لأصول مقدسة ,وقد أعياهمالبحث عن تقاليد وعادات وأعراف, لم تكن تنتمي لثقافتهم يوما.. يقاومون بها حدةشعورهم بالغربة ,وإفتقارهم للإنتماء الأصيل لدار صباح .. هذه الأرض التي لاتلبث على حال ,إذ كانوا ينهون سجالاتهم دائما بعبارة:"أنا من أصول ...".. إذنأصبحت دار صباح في منزلة قبيل القيامة بقليل . ..لا أحد يستطيع أن يجزم بالضبط :هل الجغرافيا هي التي فعلت ذلك بالناس,أم أنالناس هم من فعل ذلك بالجغرافيا ,فحملت سماتهم المشروخة,وهواجسهم وإحساسهمبالضياع ,والضعضعة والتبدد .
.عندما جاء أولئك الغزاة من مصب النهر ,لم يقاومهم الحكام الهلاليون ,المنتشرينعلى طول دار صباح وعرضها , بل فتحوا لهم أبواب البلاد ,وقاتلوا معهم جنبا إلىجنب ,في الصعيد والسافل, وأجزاء من دار الريح القريبة من دار صباح..لكن لميتمكنوا من الوصول إلى قلب دار الريح, حيث الفواشر الملكية,التي تنهض ,في عزلةمارتجلو وغموضها .
.علية القوم في دار صباح ,التي شهدت التحولات المريعة, في سلطة الهلاليين علىعهد الغزاة ,إنفتحت لهم مدارك لتجارة لم يكونوا يعرفونها:الجنس المنظم..فأنتصبت الرايات الحمر,في بيوت الجالوص ,وبدأ مجد الأندايات يتهددهالزوال .
.الجلابة الذين كانوا يسيرون حملات الإسترقاق ,يقودونها في الصعيد ,وأقاصيالوسط ودار الريح,كانوا يختارون الجميلات ,للعمل في بيوت تجارتهم الوليدة .
.لم يكن بدار صباح طوال تاريخها ,منذ أعتلى الهلاليون عروشها,قانون عام يطبقعلى الناس جميعا دون تفرقة ..كان الهلاليون يحكمون كما يعن لهم ,وشهدت الكثيرمن القضايا ,من البطء في البت فيها : "من حفيد إلى حفيد,إلى أن يقضى على آخرفرد في الأسرة التعيسة, صاحبة القضية..".. فبني هلال وخلفاءهم الذين ظلوايعتقدون,أنهم ظل الله في الأرض ,لم تكن لديهم تشريعات, مستوحاة من حياة هذاالشعب المختلف ,عن شعبهم الذي خلفوه وراءهم ,خلف البحر الملون, حيث تشرق الشمس..ولم تكن لديهم تشريعات تناسب الجغرافيا, والمناخ وتنوع سحنات وثقافة هؤلاءالناس ,المختلفين عنهم.. فكان أساس حكمهم الطغيان ,وقطع الأوصال. لزرع الخوف والرهبة في نفوس أهالي دارصباح المساكين..ولطالما أعتقدوا, أن أهالي دار صباحليسوا أحرارا ,بل هم عبيدا أزلاء ,وهكذا أستمروا يلجمون العوام عن الكلام . .وللمفارقة أن أولئك البيض, الذين جاءوا من البلاد الباردة,برطانتهم الغريبة,ودمهم الأزرق..هؤلاء البيض الذين جاءوا من آخر الدنيا,لإستعمار البلاد الكبيرة,وضمها إلى تاجهم الذي لا تغيب الشمس عن مستعمراته .. للمفارقة أنحركات المقاومة, التي ستنشأ ضدهم بعد عشرات السنوات ,ستكون بيوت الراياتالحمر, أكثر أماكن إجتماعاتها أمنا من العيون. بل أن العاملات في هذه البيوتسيمتنعن في لحظة ما ,عن تقديم المتعة للمستعمرين,تضامنا مع هذه الحركات ..إذنستشهد بيوت الرايات الحمر ,أهم الإجتماعات لخلق الثورة ضد المستعمر وتعكيرمزاجه الرائق .
.ثمة نوع غريب من الحزن في دار صباح,لا تخطئه العين منذ الوهلة الأولى ,نوع منالحزن القديم ,الذي يمد جذوره عميقا في كل شيء.. حزن ليس له مثيل ..حزنبمثابة ذاكرة غير مرئية ,عن تاريخ مجيد عاشته دارصباح يوما في عهد سحيق ,لميولد فيه أنبياء بعد .
..هوية دار صباح ,ظلت كالجغرافيا التي نهضت فيها ,نهبا للجفاف والتصحر وعواملالتعرية,وربما هذا ما عمق من تلك الشروخات ,التي تلحظها العين بسهولة ..غائرةفي كل شيء, حتى في طريقة كلام الناس ,وشخصياتهم التي تبدو مهتزة,غير واثقة.. تحاول إخفاء ضعفها بالإنفعال السريع والغضب . ..هؤلاء الناس العاجزون عن السيطرة على أنفسهم ,لم يكن أسلافهم على هذاالنحو,وهذا التحول المريع الذي طالهم, هو جزء من التحولات التي طالت سلطتهم,على هذه الأرض ,إثر إنهيار آخر ممالكهم, تحت سنابك خيل الهلاليين ,فيمطاردتهم ل"الدريب"إبن العم الهارب ,وهي اللحظة الأولى التي عرفت فيها دارصباح,المعنى العميق للثأر ,ومن ثم بدأت في التدهور ,الذي أخذ يفقدها شخصيتها الحقيقية تدريجيا .. شخصيتها القديمة الهادئة ,التي لا تشوبها نوازع الشر ..فوقتها كانت دار صباح ككون ,واسع يشمله الدفء والحميمية ,و تتوحد فيه عناصر الطبيعة ,مع إنسان هذا الكون ,ليتشكل شجن عذب ,تراه كالنقش في الوجوه ,التيلوحتها الشمس .
.كل ذلك بدأ يتبدد مع غزو الهلاليين ,الذي أخذ يغير لا في هوية دار صباح وحدها,بل في جغرافيتها ومناخها وعادات أهلها ,الذين أصبحوا كالمنبتين ,يبحثونلأنفسهم عن أصول يهدؤن بها روع أنسابهم المنتهكة .
.ومع ذلك ,هذا الخليط الذي أصبح يكون مجتمع دار صباح ,والذي لا يوحده شيء,كانمتوحدا حول شيء واحد ,يعلن عن نفسه بوضوح : هذه المعاناة في عدم التوافق بينهمو أنفسهم,والتوافق بينهم والآخرين .
..وللمفارقة أن كل هؤلاء وأولئك ,من أهل دار صباح ,توحدوا حول نسج أسطورة عامةحول أصولهم ,تتفرع منها أساطير صغيرة,هذه الأسطورة بأساطيرها الصغيرة ,ربماولدت بسبب إحساسهم الخفي,بحاجتهم الملحة لتأكيد ذاتهم,غير المؤكدة.. ووجودهمالمنفي في الجغرافيا والتاريخ .
..VII
منذ وطأت قدما ود بندة ,قصر أبي هلال ,ورأى ما رأى فيه من أهوال ,تأكد لهتماما :أنه لن يستطيع القيام بأي شيء ,في سبيل إستعادة حجب النور . .لم تمض فترة قصير عليه في بحثه عنها, حتى وصل إلى قناعة, بأنها غير موجودةبهذا القصر أو أيا من قصور أبي هلال ,وبدأ يراوده الشك, أن يكون السبب وراءإختفاءها,أي شيء آخر سوى أختطاف أبي هلال لها ,وعندما أرتكن إلى هذه القناعة,لم يعد يشغل تفكيره سوى الهرب ,ولذلك عندما سنحت له إحدى الفرص النادرة,بلقاءبت فدرالله في سوق النحاس ,سرب لها شكوكه ورغبته في الهرب,وكانت هي لحظتها قدعرفت أين أختفت إبنتها ,إذ تكللت حملات البحث الواسعة ,التي أجراها الفقرا ,عن معرفة مكان حجب النور وخبرها..وتمكنوا من تدبير لقاءها بأمها بت فدرالله ,فيغفلة من الكرسني, فقد كان الكرسني نادر التغيب عن بيته,إذ كان لا يشبع منهاإلا ليلتهمها من جديد ..هو الذي عاش كل حياته ينتظرها..حجب النور هذه الأنثىالمشتعلة كالنار داخله,والتي إمتلأت بها أحلامه ,فظل ينتظر لقاءها إلى أن كانذلك اليوم .
.بإحساس نقطة دم تحتضن الأرض في حميمية ومحبة ,وقفا قبالة بعضهما ,أمام كوخالخميلة . .كانت مشاعره.. كل مشاعره ,قد إرتمت بادية للعيان على الأرض ,تقبلالتراب الذي وقفت فيه حجب النور, تبوح بهمس المحبة والحنين .. كان يشعر بنفسهولأول مرة ,كطفل وديع تدفعه هدهدة هامسة لوسن ملائكي ,تزرع فيه النعاس فيمسيغيابا /حضورا.. ويرحل في الوسن غريرا هانئا .
.في يوم لقاءه الأول بها ,لم ينتبه إلى وقفته, التي كانت قد طالت ,كالزمن بخطاهالمتثاقلة على عتبات الإنتظار ,لوجه حميم .
..كانت شتاءات وجدانه تتداعى حثيثة ,تفسح لدفء الشفاه الرهيفة,التلاقي الحميمدون تمتمة أو لعثمة
,وظل كذلك مشدودا إليها كالوتر, إلى أن مات في ذلك اليوم المكفهر,وهو لا يزاليعتقد أن الصلة ,بين حجب النور وأمها, قد تقطعت إلى الأبد .الأمر الذي جعلهيشعر غما شديدا,ظل يجاهد إخفاءه .
.من بين تأوهات عريها بين زراعيه, تمتمت غلوريا:"متى ستنام?"..أزاح الكلسالكراسة ,التي كان يراجع فيها ما دونه بالأمس من ملاحظات : "االآن" .
..قدر خفي ذلك الذي قاد دبك إلى المدرسة الأولية ,دونا عن كثيرين من أقرانه ,فيتلك البلدة الصغيرة على أطراف حاضرة جلابي ود عربي,الرابضة على ضفة الوادي,حذاء دغل القمبيل .
.وبين مرحلة دراسية وأخرى, كانت هوية دبك تتمزق لتلتئم,وتلتئم لتتمزق ..هويتهالتي صاغتها مسيرة الحياة في بلدته, بطقوس أهلها وأسحارهم ,وما تبقى من آثارالتعاليم القديمة لدالي ,وطبيعة الوادي الناهضة أسفل الجبل, الذي يحيط البلدة كالأسورة, والتاريخ السحيق لهذه البلدة ,المعذبة , بالقلق والحنين .
.كانت لغته الأم تبتعد ,لتحل محلها لغة الهلاليين ,التي ألتهمها بذاكرتهاللغوية مستكشفا أسرارها ,أطماعها ورغبتها في الهيمنة على لغته الأم .
..تعرف الكلس على التاريخ الإنساني ,في المحاولة الدائمة للأقوياء ,لإخضاعالآخرين,فلم يستطع تفادي رؤية تاريخ بلدته,يتحول إلى أشلاء,بين معان تاريخ العالم ,وتاريخ دار الريح, التي تشقها الوديان ,وتاريخ ما تبق من بلاد كبيرةيشقها النيل ,إلى فلقتي نواة نصفها متغضن كالعرجون القديم .
.المعارف المتناقضة والمتصادمة,شكلت عقله الجدلي, وفتحت وعيه على أسئلة جارحة,دفعت بكيانه كله إلي عزلة عميقة..غادر بعدها إلى بلاد اليانكي..كانت عزلتهشبيهة بعزلة المقدس دالي ,قبيل تشييده لمملكة العزلة المحاصرة برائحة الشعراء,أو إعتكاف "راجل الحرازة أم قد" في خلوته لأيام وليال دون أكل أو شرب , خرجدبك من عزلته المجيدة, حاملا السلاح ضد جلابي ,ليخضع الكلس الآن – بعد عشراتالسنوات من وفاة دبك – كل الظروف التي أدت لثورة دبك, لأسئلة لا إجابة لها ,فيما ورثه من مدونات ,ورسائل تطل من بين سطورها حجب النور حينا,وحيناالكرسني, إلى أن يستوقفه جانو قرمط , وشهريار بني هلال الكبير,وبنت فدر الله, التي لم تخض مع ود بندة في أي تفاصيل ,عندما أعلن لها عن شكوكه ورغبته في الهرب . ..أحس ودبندة لحظتها ,كأن بت فدرالله كانت تنتظر منه هذا القرار..أخبرته أن رسولمنها, سيتصل به في الوقت المناسب,ليخبره عن ميقات وكيفية الهرب .
..عندما عاد ود بندة في ذلك اليوم ,كانت قد سيطرت على خواطره, تلك النظرةالمستسلمة,التي لا تخلو من إحساس بالراحة ,والتي قرأها في عيني بت فدرالله,فتفكر كثيرا, وراودته الشكوك ,حول لابد أنها تعلم عن إبنتها ,ما يطمئنهاويدفع بتلك النظرة اللامعة إلى عينيها الخابيتين,,لكنها لم تشأ إخباره .
.أو أنها غيرت تدابيرها وخططها ,ولم تعد تأبه لحياته ..تآكلته هذه الشكوك زمناطويلا ,إلى أن تبدد معظمها عند لقاءه رسولها "أبوخيرة",الذي كان صادقا معه,فلم يخف عنه أمر حجب النور ,وإنجابها من الكرسني طفلهما أبي جريد الصغير,الذينما قويا بسرعة ملحوظة ,لم تحك عنها نبؤات الفقرا,الذين كانوا يؤمنون, بوجودذات عليا تدير الكون ,على أساس عقلي صرف ,دون أن يعتقدوا في التنزيل والوحيوالرسل ..إذ يظنون في أنفسهم ,أنهم بلغوا من العرفة والمعرفة,ما يجعلهممسئولون وحدهم ,عن صياغة الشرائع ,بإستيحاءها من حياة الناس وثقافتهم ,وعلىذلك هم الرسل المعنيون بإنقاذ دار صباح,خاصة أن لديهم من المواهب والقدرات ,ما يفوق معجزات يسوع الناصري . .ولطالما أعتقد الفقرا ,أن القوانين في أوسع معانيها ,هي علاقات ضرورية ,تشتقمن طبيعة الأشياء ,وبهذا المعنى فإن لكل الموجودات قوانينها.. ولذلك كانترؤيتهم للإنسان والحياة والكون ,تتمثل في أن كل ذلك ,محض علاقات,بين قوىمتفاعلة تؤثر في بعضها البعض ليس إلا .
.ولم يكن الفقرا قدريون بأي حال من الأحوال,لكنهم في ذات الوقت ,يؤمنون بوجودعقل مبدئي, يتمثل في هذه العلاقات,التي تتفاعل فيما بينها .
.وكانوا يرون أن الحرية هي القدرة,على عمل ما يريد الإنسان عمله ,لكن دون إلزامهذا الإنسان ,بفعل ما لا يريد فعله,كما أنه لوفعل كل شخص ما يريد ,فإنه لنيكون حرا,لأن الجميع لديهم نفس الرغبة .
..ومع ذلك كان هؤلاء الفقرا,الذين يكثرون من التأمل ,حول الحرية ,ومعناهاومصدرها ,يمثلون أغلبية تجار الرقيق والجلابة..ففي ذلك الوقت الذي ألتقى فيهأبوخيرة, بود بندة,كان الفقرا قد نشطوا في تجارة المواد التموينية ,وتخزينها.قاموا بتخزين كل شيء : الذرة,السكر..ولم ينج حتى الملح . .نشطت قوافلهم فيكل أنحاء البلاد الكبيرة,تتاجر في كل شيء ,تبيع وتشتري كل ما يقع تحت يدها.كان الفقرا إذن ,يحاولون بناء إمبراطورية تجارية خفية ,كما كانوا يتسللون إلىدواوين حكم أبي هلال ,خفية دون أن يحس بهم أحد,بسبب مواقفهم الهلالية أكثر منالهلاليين أنفسهم!.
.ساعدهم في هذا التسلل ,النظام السري العقائدي الشمولي المركزي,الذي حكمالعلاقات الداخلية للفقرا,وجعل من العسير إختراقها ,أو التعرف على أعضائها,الذين لم تكن لديهم علامات تميزهم عن الآخرين:لا يختلفون عن الجلابةكثيرا,كما لا يتمايزون في سحناتهم عن بني هلال, أو أهالي دار صباح .. تجدهمحتى في تجارة الأندايات ,والبيوت ذات الرايات الحمر,وكل شيء..فكل شيء كان ضمن أنشطة تجارتهم الرائجة . ..كان أبي هلال يحس بوجودهم حوله,ويشعر بهم كالسوس ينخر جسد دولته ,ولذلك عندمارشح خواصه, الذين كان بعضهم من الفقرا, السريين ود بندة كمستشار نابه ,لشئوونقوافل بني هلال ,لرجاحة عقله ومعرفته الواسعة بشئوون التجارة - على الرغم منأن ود بندة, كان آخر شخص من الممكن أن يفهم في أمر القوافل والتجارة - شك أبو هلال في الأمر ,وأراد الإستوثاق من شكوكه بتقريب ود بندة منه ..وكان تصرفه هذامتوقعا لدى الفقرا, الذين تميزوا بقدرة غريبة في تحليل الشخصيات, ووضعإحتمالات أفعالها وردود أفعالها ..ولذلك كان سهلا عليهم إستنتاج, الطريقة التييفكر بها أبي هلال ,الذي حقق لهم مرادهم, دون أن يدري.. ومع ذلك ستثبت قوادمالأيام أن معرفة الفقرا, لحدود قدراتهم ليست دقيقة,وأن أقل ما يمكن أن يوصفوابه, هو أنهم قوم ذوي طموحات كبيرة,تفوق أضعافا مضاعفة, حجم قدراتهم الحقيقيةومواهبهم الطبيعية .
..وقتها كانت المجاعة قد دفعت سكان أجزاء واسعة ,من البلاد الكبيرة ,في الصعيدوالسافل والوسط ,وأجزاء أخرى من دار الريح ,إلى النزوح من حاضرة دار صباح,التي كان الفقرا, قد خزنوا فيها كميات لا حصر لها من الذرة .
.فبدت أطراف حاضرة دار صباح مكتظة بالناس ,الذين سكنوا العراء ,لا يقيهم من بردالشتاء أو حر الصيف ,سوى بعض أغصان الأشجار الشحيحة ,التي حاولوا نصبها ماأستطاعوا ,ووضع أي شيء مفرود بينها ,علهم يتقون شيئا من الحر اللافح ,أوالزمهرير ,دون جدوى .
.في تلك السنوات مات عدد لا يحصى ,من أهالي البلاد الكبيرة ,بسبب الجوع والعطشوإنتشار الأوبئة والأمراض والحروبات ,على الموارد الشحيحة.. وفي المقابل نشطتحملات الرق ,فراجت تجارة الرق والدعارة,فأغتني كثيرون ,تكونت منهم طبقة مباغتة ,توثقت عرى مصالحها مع الفقرا.. والهلاليين والجلابة .
..هذا الحلف المباغت ,لهذه المجموعات ,التي تتمتع بثمرة عمل الآخرين ,في الزراعةوالرق وبيوت الرايات الحمر وتجارة القوافل ,كان هو- من جهة أخرى ضمان تناميقوة ونفوذ الفقرا- ولذلك حرصوا على تقوية هذا الحلف,الذي بدى كطائفةواحدة,متجذرة في الحياة العامة ومنسجمة,مركزها الخفي الفقرا .
.ورغم كل ذلك ,كانت سنوات المجاعة قد ضعضعت كل ما كان أبي هلال يستشعره من قوة,الأمر الذي كان يدفعه للبحث عن أمل ,يمكنه من إستعادة سلامه النفسي ,فيهذه المملكة التي يحلم بتوريثها لأبنائه من بعده,ولذلك عندما أنهى إليه الشيخأبو خيرة ,خبر مملكة مارتجلو الغنية المترفة,إنشغل خاطره, وأنفق سنوات ليستقليلة ,لإعداد جيوشه ,تداعبه الأحلام العراض بغزو تلك المملكة ,التي هي جزء منالجنة ,كما تناهى إلى مسامعه .
..وظل هذا الحلم يجدد النبوءات الهلالية القديمة ,عن سلطان الهلاليين الذي لامحالة سيتمدد, ليطغى على كل البلاد الكبيرة .
.ظل هذا الحلم يطارد أبي هلال.يحرمه النوم,لوقت طويل,ولم يفارقه أبدا ,حتى بعدأن إنصرمت سنوات المجاعة ,وفاض النيل فيضانا ليس له مثيل في تاريخه المديد,إثرهطول المطر المدرار في ,كل أنحاء البلاد الكبيرة وما جاورها ,من هضاب الشرقالأقصى وبحيرات الصعيد الأقصى.
أحمد ضحية
* "مقتطف من الجزء الأول (رائحة الشعراء) من الثلاثية"
* شهداء 13 سبتمبر للنشر الإلكتروني
ISBN # 978-1-79471-119-8
Content ID : 25475147
مملكة العزلة: Book Title
الطبعة الأولى موقع رابطة أدباء الشام أبريل 2012
الطبعة الثانية شهداء سبتمبر 2019