د. سليمان جادو - تداخل الأنواع و أثره على القصة القصيرة..

المبحـث الأول : القصة القصيرة مفاهيـــم ومصطلحات

تعتبر القصة القصيرة فناً إبداعياً جديداً ، فهي إحدى أحدث فنون الكتابة والأجناس الأدبية في الكتابة السردية والتي استحقت أن يصفها أديبنا العالمي الكبير ” نجيب محفوظ ” ، بأنها (شعر الدنيا الحديث) ، قاصداً بذلك السرد أو النثر الأدبي مقابل القصيدة الشعرية .

ويؤكد حداثتها قول الدكتورعزالدين إسماعيل : ” وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور ، وربما أصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجاً ، وقد ساعد على ذلك طبيعتها والعوامل الخارجية ” .

وقد اختلف الدارسون بوضع تعـريف محدد للقصة القصيرة ؛ بسبب عدم وضوح أسوارها ومرونتها بتقبل الأجناس الأخرى وابتعادها عن التحديد والقولبة ، فالقصة القصيرة جنس حساس ومرن يتعايش مع أشكال عدة ، وهو ما يزيد من ” حركتها وتحولها وامتصاصها لإمكانات الفنون المتاخمة لها مما يقهر محاولات ضبطها .

ورغم اختلاف الأدباء والنقاد حول وضع تعريف ما قاطع ومحدد ، وواضح للقصة القصيرة فإنهم قد أجمعـوا وتلاقــوا على أنها : ” نص أدبي نثـري تناول بالسـرد حدثاً وقـع أو يمكن أن يقع ” ، أو هي ” حكاية خيالية لها معنى ، ممتعة بحيث تجذب انتباه القاريء وعميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية ” .

فالقصة القصيرة هي عالم فني متكامل بذاته موجز ، وهي لون جديد من ألوان الأدب الحديث ، نشأ في أواخر القرن التاسع عشر ، له خصائص ومميزات شكلية معينة ، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، قال (موباسان): ” إنَّ هناك لحظات عابرة منفصلة في الحياة ، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة ؛ لأنها عندما تصور حدثاً معيناً لا يهتم الكاتب بما قبله أو بما بعده “.

وقال عنها الكاتب الأمريكي (إدجار ألان بو)، محدداً للقصة القصيرة عندما قال : ” إنها عمل روائي يستدعي لقراءته المتأنية نصف ساعة أو ساعتين ” ، وربما كان ما يسعى لتعريفه هو ” أنها يجب أن تقرأ في جلسة واحدة ” ، منطلقاً في ذلك التعريف من وحدة الانطباع .

وهناك تعريف أشمل ، طرحه الدكتور الطاهر أحمد مكي – رحمه الله تعالى – هو أنها ” حكاية أدبية – قصيرة ، وبسيطة الخطة – تحكي حدثاً محدداً طبقاً لنظرة رمزية – الشخوص فيها غير نامية – تُوجِز في لحظات أحداثاً جساماً معتمدة على مبدأ التكثيف فكراً ولغة وشعوراً مما يمكنها من النجاح في نقل دفعة شعورية فائرة .

وعرَّفها أدباء كثُر أمثال : ” كالدويل ” و” تشيخوف ” و” كاترين آن ” تعريفات متأنية مختلفة ومتضادة ، مما يجعلنا نخلص إلى أن القصة القصيرة كانت ولا تزال أقرب الفنون الأدبية إلى روح العصر ؛ لأنها انتقلت بمهمة القص الطويلة من التعميم ، إلى التخصيص ، فلم تعد تتناول حياة بأكملها ، أو شخصية كاملة بكل ما يحيط بها من حوادث وظروف وملابسات ، وإنما اكتفت بتصوير جانب واحد من جوانب حياة الفرد أو زاوية واحدة من زواياه ، ورصد خلجة واحدة من خلجاته ، أو ربما نزعة صغيرة وتصويرها تصويراً مكثفاً خاطفاً يعجز العقل الإنساني أحياناً عن متابعتها ، وبهذا يتضح لنا أنَّ القصة القصيرة سوف يُسلب منها الكثير إذا وضِع لها تعريف ثابت ومؤطر ، حيث إنها تستفيد من كل الأجناس الأدبية وتتفاعل معها ، ويبقى شيء مهم .. وهو أن القاص المبدع الجاد هو وحده القادر على شكل وصياغة هذه القيمة الإبداعية الهامة ليعيد بلورة واكتشاف مناطق هامة ربما تكون مهملة في ذواتنا وفي حياتنا الآنية .

وقد تطورت القصة القصيرة في شكلها ومضمونها مع تطور الزمن والعصور إلى ما آلت إليه حالياً ، وتنوعت وظهر منها ما يُسمى ” بالقصة القصيرة جداً ” ، أو ” القصة التويترية ” ، أو ما يُسمى ” بالقصة الومضة ” ، أو ” القصة المصغرة والمفاجِئة ” .

القصــة المفهــوم والمصطلح :

(أ) – القصــة لغـــة : تأتي بمعانٍ متعددة منها : تتبع الأثر ، يُقال قصصتُ أثره ، أي تتبعته ( ) ، والقصص كذلك لأن فيها تتبع للأخبار والأحوال الماضية ، ومنها الأمر والبيان والخبر والشأن والحال .

وقد دأب النقد الأدبي المعاصر على محاولة وضع الحدود بين القصة القصيرة والرواية (من حيث الحجم الذي يُقاس به عدد الصفحات)، وهي مسألة في غاية التعقيد بالنظر إلى تقاطع الشكل الفني والمحتوى الفكري في صياغة هذه المعايير .

ففي بعض الأحيان تُصنف قصة ما تقع في (60 صفحة) ضمن القصص القصيرة ، فيما تُصنف قصة أخرى بنفس الحجم ضمن الرواية ؛ لأن المقياس هنا يكمن في النواحي الجمالية ، والبناء الدرامي على الخصوص ، مثل رواية الكاتب الأمريكي (إيرنست همنجواي) ، وعنوانها : ” العجوز والبحر”، التي تقع في حوالي ستين صفحة ، ومع ذلك فهي تعتبر من أعظم ما كُتِب من روايات القرن العشرين .

بينما صُنِفت قصة لنجيب محفوظ بعنوان : ” حكاية بلا بداية ونهاية ” ، ضمن مجموعته القصصية التي تحمل نفس العنوان على الرغم من أنها تحتوي على أكثر من ستين صفحة ، ولعل استحداث النقاد الغربيين لمصطلح (الرواية القصيرة) ، جاء محاولة لمد جسر يربط القصة القصيرة بالرواية بحيث يغدو في الإمكان اعتبار القصص القصيرة التي تحتوي ما بين خمسين إلى سبعين صفحة روايات عندما تتوفر فيها خصائص فنية وثيقة الارتباط بالرواية ، أما القصص التي تقل عن أربعين صفحة فهي قصص قصيرة بالدرجة الأولى ويصعب تصنيفها ضمن الرواية.

(أ) ــ القصـة اصطلاحـاً :

بالرغم من صدور عشرات الكتب التي تتناول القصة القصيرة بشكل تاريخي ، أو دراسة اتجاهاتها العامة ، أو دراسات لمبدعين بشكل انفرادي ، نجد أنها غالباً لا تقف عند قضية المصطلح .

فلسنا نجد في أدبنا العربي المعاصر اتفاقاً على مصطلح واحد لهذا الفن رغم تعدد الكتابات في هذا المجال . ولعله من الضروري أن تكون معالجة المصطلح ضمن إطار جمعي للمصطلحات المتعلقة بالفن الأدبي الواحد ، فما يبدو مقنعاً حين التعامل معه على انفراد قد لا يبدو كذلك حين يتداخل مع مجموعة من المصطلحات الأخرى .

يعرف ” محمود تيمور ” القصة بقوله :” هي عرض لفكرة مرت بخاطر الكاتب ، أو تسجيل لصورة تأثرت بها مخيلته ، أو بسط لعاطفة اختلجت في صدره ، فأراد أن يُعبر عنها بالكلام ليصل إلى أذهان القراء ، محاولاً أن يكون أثرها في نفوسهم مثل أثرها في نفسه.

أما ” محمود السمرة ” فيرى أن الكاتب القصصي لا ينقل لنا الواقع كما هو ، وإنما يتصرف في تصوير أحداثه وشخصياته : ” ويختار الجوانب التي يراها مهمة في نظره ، فتكون النتيجة شخصيات إنسانية نابضة بالحياة تتفاعل مع الحوادث تفاعلاً طبيعياً صادقاً .

ومن هنا نستخلص أنَّ القصة عبارة عن ترجمة للحياة بكل جزئياتها عبر الزمن الذي تمر فيه ، مجسدة في الوقائع الخارجية والمشاعر الوجدانية ، فتبدأ وتنتهي عند حدود زمنية معيّنة ، وتتناول حادثة أو مجموعة من الحوادث بين دفتي هذه الحدود .

تعــريف القصة القصيرة :

يكاد يجمع النقاد على أنه من الصعب التوصل إلى تعريف محدد للقصة القصيرة ، ويعترف ” شكلوفسكي Shklovsky ” : بأنه لم يستطع أن يجد حتى الآن تعريفاً للقصة القصيرة ذلك لأن هذا اللون الأدبي في تطور مستمر ، وأنَّ أشكاله تتعدد وتتكاثر كلما اختلفت التجربة أو تغيرت زاوية التركيز عند كاتب دون آخر .

وفي محاولات التعريف تسعى كلّ الدراسات – كما يقول خيري دومة – : ” إلى التركيز على مقارنتها بالأنواع الأخرى ، وهذا هو الطبيعي في تعريف أي نوع .. ولكن التركيز ينصبُّ غالباً على أوجه الاختلاف ، ومن ثَمَّ تتم المقارنة غالباً مع الرواية ، فالقصة القصيرة لا بد أن تقف على النقيض من الرواية ” الطويلة ” ، وأن تسعى دائماً إلى أن تميز نفسها عنها ، فيصبح لها بناؤها وموضوعاتها ، بل ووعيها ورؤيتها ونظريتها التي لا تختلط بنظرية الرواية “.

والقصة القصيرة ” فن يجمع من كل الفنون ففيها من القصيد بناؤه وتماسكه ، وفيها من الرواية الحدث والشخوص ، وفيها من المسرح الحوار ودقة اللفظ واللغة ، وفيها من المقال منطقية السرد ودقته ، وهي بذلك تأخذ من كل فن أـدق وأجمل ما فيه لتقدم لنا إمتاعاً فنياً راقياً يضعها في مصاف فنون الكتابة التي ازدهرت في القرن العشرين ” .

تعددت تعريفات القصة القصيرة وتنوعت من ناحية حجمها وعدد الكلمات بها ، فمن النقاد من رأى أنها تُقرَأ في أقل من ساعة ، ومنهم من نفى عنها كثرة الأحداث والشخصيات والتفصيلات ، ومنهم من ادَّعى خلوها من الحوار تماماً .

فالقصة القصيرة ، هي القصة التي تروي حدثاً متكاملاً له معنى ، بمعنى أنْ يكون له بداية ” الموقف “، ووسط ” الحبكة “، وخاتمة ” نقطة أو لحظة التنوير . فإن خلت من لحظة التنوير ، فإنها تكون رواية اختُصِرت في عدد محدود من الصفحات أو الكلمات ، فالرواية يمكن أن تنتهي بأي شكل ويظل معناها متكاملاً – أما القصة القصيرة فيتحدد معناها بنهايتها – أي بنقطة التنوير التي يبرز فيها الكاتب معنى المشهد أو الموقف الذي يصوره .

ولا قصة مهما كان جنسها إلا ويجب أن يتوفر فيها الحكاية والشخصية أو الشخصيات المركزية والتي في الغالب ما تكون واحدة مع التكثيف اللازم ، ولكنها في النهاية أيضاً يجب أن تجيب على تلك الأسئلة الأربعة التالية : كيف ، ومتى ، وأين ، ولِــمَ وقع الحدث ؟ فإن غابت إحدى تلك العناصر ربما تصبح خاطرة ، أو ثرثرة بلا معنى .

ويعرفها بعض الباحثين بأنها ” جنس أدبي حديث النشأة يرتكز على صفات وخصائص فنية كوحدة الحدث والشخصية وقصر المدة الزمنية ، يعتمد على تكثيف العبارة واللغة الإيحائية ، وهو لا يعدو أن يكون ومضة مشعة من الحياة ” .

ولعل أشمل تعريف لها – كما يري د . أحمد الباسوسي : ” أنها فرع من فروع الأدب النثري القصصي أو الحكائي الذي يُقرَأ بشكل مناسب في جلسة واحدة ، وهي مبنية على القصة الواحدة التي لها تأثير واحد ، وتعرض مجالاً واضحاً وخاصاً من الزمن .

لكن الاتفاق الذي يكاد يكون عاماً هو أن القصة القصيرة ” فن سردي حكائي يخبرنا بقصة ” ، أما الاختلاف فيحدث فيما يتعلق بما تتكون منه هذه القصة ، ففي السنوات المبكرة من تاريخ القصة القصيرة ، كانت القصة تتمثل في سلسلة من الوقائع والأحداث التي تتكون من بداية ووسط ونهاية وفق التسلسل الزمني والسببي ، ونتيجة لذلك فقد عرفت القصة بأنها أقدم الفنون الأدبية الإنسانية على الإطلاق حيث كان الهدف القديم للقصة هو الحكي ، والإخبار بالمعلومات ، والتعليم ، وتحقيق المتعة ، وقد تحقق في تلك الأشكال المبكرة والقديمة للنص مثل : النادرة ، وحكايات القدماء ، والقصص الخرافي ، والأمثولة ، والملحمة وغيرها ، لكن فن القصة القصيرة الحديث قد أصبح مختلفاً عن تلك الأجناس ومن ثَمَّ أصبحت القصة القصيرة نوعاً أدبياً متميزاً . بل أصبحت جنساً أدبياً له شرعيته وطقوسه ومغزاه ، وقد ظهرت مقالات كثيرة عن القصة القصيرة خلال بداية القرن العشرين وفي أمريكا تحديداً ، تؤكد جميعها على ثلاث خصائص مرتبطة بعضها ببعض وهي : ” أولاً أنَّ لها انطباعاً واحداً على القارىء ، وثانياً أن ما يجعلها تترك هذا الانطباع الواحد هو تركيزها على أزمة واحدة ، وثالثاً أنها تجعل هذه الأزمة أساسية ضمن بناء قصصي مضبوط محكم “.

ولكن هذه الخصائص لم تصبح مذهباً متفقاً عليه إلا بجهود ” ادجار ألان بو” Edgar Allan poe (1809-1849م) – أحد المنظرين الأوائل لهذا الشكل الجديد بالإضافة إلى تجاربه الإبداعية الرائدة – والذي ركز على أهم شرطين فنيين كرس لهما مقالاته النقدية والنظرية يتلخصان في وحدة الانطباع أو الأثر ، ووحدة البناء ، ومن ثَمَّ يرى في تعريفه المشهور ” أن القصة القصيرة هي قصة نثرية تقرأ فيما بين نصف ساعة وساعة أو ساعتين ، وأنها تتمتع بوحدة الانطباع .. فهي تمثل حدثاً واحداً في وقت واحد ، وتتناول شخصية مفردة أو حادثة مفردة ، أو عاطفة مفردة ، أو مجموعة من العواطف التي أثارها موقف مفرد ، وفتح “بو” بهذا التعريف المرَكَّز باب الاجتهاد واسعاً ، فتنوعت التعريفات والمواصفات بتنوع التجارب والأشكال .

وهكذا نلاحظ أن النقاد يجمعون – وإن اختلفت عباراتهم – على أهمية الإيجاز والتركيز في بنية القصة القصيرة بما يمثل وحدة الأثر أو الانطباع ، ولحظة التنوير .

ويمكن أن نخلص مما سبق بمحاولة لتحديد مفهوم القصة القصيرة بأنها فن سردي ذو طبيعة تطورية حساسة ، شديدة الإيجاز ، سريعة الإيقاع لامجال فيها للحشو من أي نوع – سواء في لغتها أو في عناصر بنائها – يُترك فيها قدر من النشاط الذاتي للمتلقي ، تعبر عن لحظات عابرة تأملية من الحياة ، وتكمن شعريتها في بنائها الفني الذي تتفاعل فيه الذات وهموم الموضوع بلغة مكثفة تهتم بلحظة الإشراق .

مستقبـل القصـة القصيرة :

إذا كانت ” الرواية ” كفن أدبي رفيع ، يعده نقاد هذا العصر بما يُسمى” بديوان العصر الحديث ” ، فإن صورة المستقبل للقصة القصيرة سوف يحددها النتاج القصصي القصير نفسه . فهو الذي سيكون تصويراً لمرحلته ، وتعبيراً عن مشاكلها وتناقضاتها ، مستخدماً في ذلك – الشكل الفني الذي يلائم المرحلة ، والمشاكل ، والقضايا ، والذوق العام ، والاتجاه الأدبي أو الفني السائد . ونستطيع القول بأن القصة القصيرة سيظل لها بريقها وسطوتها وجاذبيتها لدى المتلقين ، وجمهور القراء المعاصرين ، وينتظرها مستقبل مشرق وزاهر مع قادم الأيام على يد مبدعيها وروادها المعاصرين في الأقطار العربية ، وكذلك في الغرب ، حيث التفتت جائزة نوبل للقصة القصيرة إلى الكاتبة الكندية ” أليس مونرو ” التي شيدت مجدها الأدبي عبر منجزها القصصي .

ونجد الكاتب والناقد الكبير ” شوقي بدر يوسف ” ، يصف القصة القصيرة جداً : ” بأنها الطفل المدلل على الساحة الأدبية فهي تحقق المتعة لدى الكاتب والمتلقي ” .

وقد استطاعت القصة القصيرة أن تجد لها في العصر الحديث مكاناً ومشروعية وجود بين الأجيال الجديدة مع مواكبة العصر الحديث ، وتطور الزمن ووجود وسائل النشر السريعة والمتاحة مثل شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والمجلات والدوريات المعاصرة .

وخلاصة القول : أن فن القصة القصيرة سيظل له وجوده وبقاؤه ومشروعيته بين الأجناس الأدبية الأخرى ، بما يتمتع به من مقوماتٍ فنية وجمالياتٍ إبداعية تنزع إلى تقديم الإمتاع والإقناع إلى قارئها ، والوصول إلى رسالة مبتغاة وهادفة لبناء المجتمعات على منظومة من القيم والمبادئ والأخلاق .

وهو بهذا الخلق والإبداع والابتكار في دنيا الفنون يواصل صعوده وتحلقه ومزاحمته ومنافسته بين الأجناس الأدبية الأخرى ، بدليل أن مقاييسه النقدية لم تبلغ حداً من الثبوت أو الجمود أو التحجر الذي بلغته مقاييس الإبداع في فنون أخرى ، كما بيَّن ذلك نقادنا المعاصرون .

المبحث الثاني

تداخـــل الأنواع الأدبية قديمـاً وحـديثـــاً

إن أهم ما يحول دون تحديد أي جنس أدبي تحديداً صارماً وحصر مفهومه حصراً دقيقاً ، هو ما للأجناس الأدبية من مرونة ، وما تتسم به من ظاهرة التداخل فيما بينها .

هذه الظاهرة التي أضحت في النقد الحديث من الأمور المفرغ منها على عكس ما كلن رائجاً في النقد القديم من دعوى صفاء الأجناس ، من ثمة اختلاف ظهور وتناول هذه الظاهرة قديماً وحـديثاً.

فالتداخل يحدث بين الفنون ذات العلاقة والقرابة القوية ، فالقول بأنَّ الحدود بين الأجناس الأدبية ضاعت وتشابكت وتماحت وحصل بينها تناسل أدبي ، إذ ليس هناك حدود ؛ لأن الحدود في الفن وخصوصاً الحدود بين الألوان الفنية تعتبر بنية متغيرة وغير ثابتة تاريخياً . * التداخــل قــديمـــاً :

يُعد تداخل الأجناس الأدبية أمراً قديماً على المستويين الإبداعي والنقدي ، ومن الذين أقروا بهذه الظاهرة الرومانسيون متأثرين بفلسفة ” شليغل” الذي يرى أن تقسيم الأدب إلى أجناس ، نوع من الحكم لا يمكن قط أن يخضع له التأليف الأدبي .

كما هاجم أيضاً ” كروتشيه ” الأجناس الأدبية ورفض حدودها ، وزعم أنها غير ذات فائدة في عملية الإبداع ، وأنها تشكل عقبة أمام المبدع في إبداعه .

أما تداخل الأجناس عند العرب تمثل في ما لاقته القصة الشعرية من حضور في التراث الشعري العربي ، وكذلك المقامات ، والسير الشعبية ، وقصة ألف ليلة وليلة وغيرها ، إذْ تجمع بين تقنية السرد والشعر .

ولا تقتصر إشكالية التداخل على حشد أجناس أدبية في فضاء أدبي مركب ، وإنما تمتد إلى تشظي الجنس الواحد إلى أجناس متناغمة في جيناتها في كتاب واحد نحو تشظي القصة القصيرة ، إلى قصة قصيرة ، وقصة قصيرة جداً.. وأقصوصة ، ما يضع إشكالية التداخل في مسارين : مسار خارجي يشمل تداخل أجناس أدبية متجانسة .

ووقف النقاد عند ظاهرة تداخل الأنواع الأدبية كالشعر الذي تطور إلى أنواع أخرى مثل شعر الفتوح ، والشعر العباسي وغير ذلك . ثم قصيدة الشعر الحر ، وقصيدة النثر ، كما تنوع النثر إلى الخطابة التي تطورت إلى المقالة ، والمسرحية ، والرواية .

إنَّ تداخل الأنواع الأدبية في ما بينها أمر حتمي ، إذْ إنَّ الأدب – بصفته – نتاجاً إنسانياً – يصدر عن فكر ، وروح ، وعاطفة ، ووجدان ، ويحدد كل عنصر من هذه العناصر صفته الخاصة ، أو نوعه ، فلا يخلو شعر من فكر ، ولا يخلو نثر من وجدان وعاطفة ، وإنما تتفاوت الأنواع الأدبية في ما بينها في السمات التي تغلب عليها ، كما تختلف فيما بينها بعناصر تكوينها ، والأسس التي تقوم عليها ، إذ إنَّ لكل فن قواعده وعناصره المحددة التي تشكل قوامه وتعطيه قالبه ، فتكون القصة ، ويكون المسرح ، ويكون المقال ، ولكلٍ شكله وهيئته التي يظهر عليها ، ولكلٍ عناصره الداخلية التي تحدد موقعه من خريطة الأنواع الأدبية .

فن الســـرد :

إن السرد واحد من أقدم الفنون ، وهو أحد أهم العناصر القصصية التي حازت على اهتمام الكثيرين من الباحثين منذ القدم ، فهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان عنصراً من عناصر الخطاب ، سواء أكان مكتوباً أم شفوياً ، ويستعين به الأشخاص في التعبير عن أنفسهم ، وترجع أهميته – بالإضافة إلى ذلك – إلى أنه المسؤول عن تنظيم الشخصيات ، والأحداث ، والأـزمنة ، والأمكنة ، ونعُدُّه موازياً للنص ، بل إنه من أقوى المؤثرات المنشئة للدلالة فيه ، ومن ثم فإن دراسته تكشف الأدوات التي يستخدمها القاص في تحميل النص بالمضامين والدلالات .

ويُعرَّف سعيد يقطين ، السرد أنه : ” فعل لا حدود له ، يتسع لشمل مختلف الخطابات سواء كانت أدبية أو غير أدبية ، يبدعه الإنسان أينما ، وحيثما كان ” معنى هذا أنه يحتوي على مختلف الأنواع الأدبية من قصة ، ورواية ، ومسرحية ، وشعرها وغيرها من الأنواع الأدبية الظاهرة ، ولا يقتصر على نوع دون غيره باعتباره نمطاً من أنماط الخطاب . إلا أنه يحتاج كاتباً مبدعاً في بنائه السردي ، ويعبر عنه تعبيراً إما حقيقياً أو خيالياً ، فهو ” المصطلح الذي يشتمل على قص حدثٍ أو أحداث أو أخبار ، سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال ” .

فهو مفهوم أدبي متصل بالفن النثري ، يُعتبر الثمرة التي نتجت عن عنابة الكاتب المبدع لفكرته ، هذا نتاج البذرة القيمة لدى كل كاتب حقيقي مبدع ، حيث إنه يعمل على ” نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية ” .

نظرياً ، يمكن القول إنَّ عنصر السرد يتحقق كيانه في القصة من خلال العلاقة بين الكاتب والمتلقي ، ويكمن ذلك في مدى استمرارية الكاتب المبدع في تحقيق ما يسعى إليه .

والقصة بدورها ماهي ” إلا سرد لمجموعة من الأحداث ، ورصد لشخصيات ولعلاقات معينة ، تحكمها مجموعة من الروابط السردية ، التي تكون عالم القصة ، لذلك لا يمكن الولوج لهذا العالم ، إلا انطلاقاً من الرمــوز التي يشكلها الســرد ، وهكذا يتحول مفهوم الســـرد من مجرد عرض للأحداث ، إلى نظام من التواصل ، وصياغة جديدة للواقع الذي يتكلم عنه وينطلق منه ” .

تداخــل الأنواع الأدبية / مقاربة مفهومية :

يعد تداخل الأنواع الأبية منهجاً نقدياً واسعاً ، فهو تداخل فرضته طبيعة التطور التي مرت بها العصور ، ولذا يمكن القول إنَّ إمكانية التداخل بين الأنواع الأدبية قائمة ، ولكن في الحدود التي تحتوي الحفاظ على هوية كل نوع ، فهذا التداخل لا يعني فقدان هوية وخصوصية النوع ، بل كلٌ محتفظ بهويته ، وإنما يزيد التداخل من جواهر النوع وحلاوته .

ستبقى آليات التداخل تمارس عملها في تغيير أو تبديل الخصائص والأنظمة الفنية القديمة القابلة للتجدد إلى أنواع أدبية جديدة ؛ فكل منا ربما يدرك أنَّ النوع وآليات التداخل فيه يعد بنية متعالية في علاقات تفاعلية بين الأنواع المجاورة وغير المجاورة ، وهذا التفاعل يستعير موضوعات جديدة تغير من طبيعة النوع ، ولقد استطاعت تلك الأنواع أن تملك مؤهلات بنائية تساير حركة المجتمع وتغيراته .

إنَّ من يمعن النظر في مصطلح التداخل يجده مجالاً للسجال في ميادين النقد والتنظير ، وما يزال قيد المراهنة بفعل الإنتاج الأدبي الحديث المتفاعل مع محيطه العالمي ، فالحقيقة أنَّ إبداع التداخل في الأنواع الأدبية ينبع معناه من تجسيد حلم الكاتب المبدع صاحب الموهبة المبتكرة .

إنَّ من شأن التداخل أنْ يسهم في بعث الأنواع ، وجعلها تتمتع بحيوية أكثر . خلافاً لانحصارها ضمن نطاق محدد شكلاً ومضموناً ، لأنه قد يحدُّ من استمراريتها ، وعلى هذا الأساس ” ما يزال تصنيف الأجناس والأنواع مرتبطاً بتصنيفات شكلية ، أي جدلية البنية والمنظور، وهذا التصنيف أضعف هوية الجنس ، وجعل الشكل هو المرجعية للنوع الأدبي مما ولد ثنائية الداخل والخارج ، وانطلاقاً من ذلك يتجلى لنا أن الفصل بينها أمر صعب يحتاج كثيراً من الممارسة والعمل ؛ لأن التداخل قائم بين الأنواع ، سواء تصورناها أم لا ، فهو يُعد تداخل توازٍ ، أو تبادلاً وتفاعلاً وتأثيراً وتأثراً عبر العصور ، لذا تبذل الدراسات الأدبية جهدها لتوضِّح مناطق التلامس والتفاعل بين الأنواع الأدبية الممكنة بينها .

لعل أقدم الجهود التي وصلت إلينا في هذا المجال ، هو ما خلَّفه أفلاطون وأرسطو فعندهما نجد تقسيماً للأدب إلى أنواع ، وتفريقاً بينها استناداً إلى مقاييس شتى ، وقد وضع أرسطو في ذلك قوانين للأنواع أثرت بعمق على مجرى النقد طيلة العصور الوسطى ، وما زالت الإشارة إليها مستمرة ، وهذا يؤكد أن قضية الأنواع غير جديدة ، بل إنها من أقدم القضايا الشعرية ” poetique ” على حد تعبير تودوروف “Todorvo” .

ولعل النوع بمفهومه الأدبي يمثل أهم خطوة مفاعلة في ساحة الحركة الأدبية ، لذا “عرف النوع الأدبي تعريفات عدة على مر العصور واختلاف الأمكنة ، وازداد أمر تعريفه صعوبة في العصر الحديث مع ظهور كثرة الأنواع الأدبية المختلفة ، وتداخلاتها ، ففي كل مرة يظهر نوع أدبي جديد ، يظهر معه تعريف جديد للنوع يتجاوز القديم إن لم يبلغه كليةً ” .

إنَّ المصطلح – مهما يُغرق في الابتعاد عن وصفه اللغوي العام – يبقى مرتبطاً بالمستوى المعنوي لهذا الأصل الوضعي ؛ لذلك لا بدَّ من العودة إلى المعجم لاستيضاح الدلالة اللغوية الدقيقة للمصطلح الذي نتناوله في تلك الدراسة ، وللوصول إلى اختيار الدال الأكثر دقة بين الدالين التاليين : الجنس ، النوع .

وقبل الوصول إلى مفهوم النوع الأدبي وتدخلاته مع الأنواع الأدبية الأخرى ينبغي استحضار الدلالة المعجمية التي نسجت خيوطها في بساط النوع .

يشير سعـيد علوش في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ، إلى أن ” النوع أو الجـنس ، تنظيم عضوي ، لأشكال أدبيــة ، كما يمكن تمييـز (الأنـواع الكبرى) عـن (الأنواع الصغرى) في (نظرية الأنواع الأدبية) التي تقوم على محورين متمايزين هما : مفهوم كلاسيكي ، ويقوم على تعريف غير علمي لـ (الشكل ، المضمون) ، ولبعض طبقات الخطاب الأدبي كــ (الكوميديا ، التراجيديا) ، ومفهوم واقع الأـصالة التي تكشف عن العوالم المختلفة ، والتسلسل السردي ؛ فنظرية الأنواع تُعد مبدأ للتنظيم ، كما زعم “رنيه وليك” لأنها ” تصف الأدب وتاريخ الأدب لا على أساس الزمان والمكان (العصر أو اللغة القومية) ولكن على أساس أنماط أدبية خاصة من التنظيم والبناء ” ، وكلام وليك هذا يقصد به أية دراسة نقدية وتقويمية مميزة عن الدراسة التاريخية تنطوي بشكل أو آخر على الرجوع لهذه الأبنية .

فالنوع هو ذلك التجسد العيني لمفهوم الأدب ووظيفته ، ويظل مفهوم الأدب مجرد افتراض إن لم يُقيَّض له أن يتعين في أنواع واضحة الملامح ، متمايزة الخصائص ، متلونة السمات . فمفهوم الأدب يتغاير بين الثقافات والحضارات المختلفة ، فيتغاير تبعاً لذلك مفهوم النوع وتجربة التنوع الأدبية بالضرورة . أما هل يُعد التداخل بين الأنواع الأدبية ظاهرة قديمة أم حديثة ؟ وهل لتلك الظاهرة دواعٍ ؟ إن الراصدين من النقاد وجدوا أن الجدل حول تلك التساؤلات كان قديماً دائماً ، وببساطة شديدة ودونما إطالة نجد أنَّ التداخل ليس ظاهرة جديدة ، وإنما نطلق عليه ” ظاهرة قديمة مستجدة “. فمسألة تداخل الأنواع الأدبية قديمة قدم الأدب نفسه وتكاد تكون مقصودة ، وطورت تلك المسألة بوجه خاص حركة تجديد (Abstraction) ثابتة ، غايتها توسيع الأدب في نظام التاريخ . فنظرية الأنواع الأدبية وتداخلاتها من أقدم القضايا المطروحة في الساحة النقدية ، وهي قائمة على البحث والتنظير بدءاً من تنظيرات النقد اليوناني وصولاً إلى ما يُسمى بالحداثة وما بعدها .

ومن البديهي أن يكون تقارب الأنواع الأدبية وتسلسلها من نوع رئيس واحد سبباً في تقارب خصائصها الصياغية أكثر من غيرها ؛ فالأنواع النثرية تكون أكثر تشابهاً في تشكيلها وطبيعة موضوعاتها ، وبذلك فمن المنطق أن نجد بين تدخلاتها ملامح مشتركة ؛ وهذا ما نجده بين المسرحية والرواية مثلاً .

يقول أحمد أمين في كتابه الموسوم بـ (النقد الأدبي) أنَّ ” المسرحية والرواية تتكونان من عناصر واحدة ” . إضافة إلى ما تتمتع به الرواية من سمات الانفتاح على الأنواع الأخرى كافة ، حتى غدت السمة الحوارية بمفهومها العام واحدة من لوازمها . فالدرامية مثلاً من أهم سمات المسرحية ، وحضورها في الرواية يقربها إلى المسرحية أكثر من غيرها ، ولعل ذلك التداخل يتأكد بظهور نوع جامع تتعاقب فيه الصيغتان المسرحية والسردية على نحو ما نجد في ” المسراوية “

والفن الشعري ينتمي من حيث مادته إلى جنس الكلام ، ومن حيث غايته إلى جنس الفن ، فهو إذن فن كلامي مادته اللغة ، وهو بهذه الصفة يشترك مع أجناس الكلام الأخرى التي مادتها اللغة ، وغرضها التواصل والتأثير والإمتاع أحياناً ، ووسيلتها إلى ذلك ألوان من الاستثمار الخاص لطاقات اللغة الصوتية ، والخيالية ، والعاطفية ، والجمالية المختلفة ، والتي عَرَف تاريخ الأدب منذ القدم بعضاً منها ، وهي : الخطبة ، والرسالة ، والحكاية ، والمسرحية ، وأضافت التجارب بعضاً آخر ؛ كالمقالة والمقامة والقصة والرواية ، فهذه الأنواع الأدبية جميعها تُسقى بماء واحد ، ولكنها تختلف ، وتصبو إلى غايات شتى ؛ أما ماؤها الذي تسقى به ويمدها بالحياة فهو اللغة ، وقوامه جسماً الأصوات والتراكيب ، وروحاً قوامه الدلالات والمضامين . وأما الذي هو غاية تصبو إليها فأدناه الإبلاغ والإفهام ، وأوسطه الإقناع والتأثير ، وأعلاه وأبعده في طريق الفن هو الإمتاع الحسي والمعنوي ، النفسي والمعرفي .

يوحي لنا كلام بومنجل أن الأنواع الأدبية بعضها قديم كما ذكرها آنفاً ، وبعضها الآخر حديث مكتمل إلا أنه قديم الجوهر ، كالقصة والرواية والمقالة . فالشعر أغنى العرب في الجاهلية عن الأنواع الأدبية الأخرى كالقصة والمسرحية ، استمرت سطوته على تلك الأنواع في عصورنا الذهبية الحالية .

أما تداخل القصيدة والقصة فقد أشار الدكتور عبد الله بو منجل إلى أنَّ بين ” القصيدة والقصة صلة رحم قديمة وحميمة ، فقد ولدت القصة من رحم القصيدة ، وصادف أن أكدت العربية هذه الصلة ، ولو من باب حسن التعليل ، حين جعلت حروف القصة متضمنة في حروف القصيدة .

المبحــث الثالــث

تداخـل الأجناس الأدبية وتأثيرها في القصة القصيرة

ليس من الممكن الحديث عن القصة القصيرة بمعزل عن الرواية ، فثمة تداخل بينهما . بل إن هناك من يرى أنه من المستحيل تمييز القصة القصيرة من الرواية على أساس معين غير الطول ، إلا أنَّ المشكلة تكمن في أنه لا يوجد تحديد لطول أي منهما .

وفي أدبنا العربي المعاصر ، نجد عدداً من الكُتَّاب تتداخل قصصهم القصيرة مع أعمالهم الروائية ، وذلك على سبيل المثال ، يحيى الطاهر عبد الله ، وإبراهيم أصلان ، ومحمود الورداني . ففي كتاب ” تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة “للدكتور خيري دومة ، قد أشار إلى أنَّ يحيى الطاهر نشر قصصاً قصيرة في مجموعة (الدف والصندوق) ، ثم أدخلها بعد ذلك في سياق روايته (الطوق والأسورة) ، ونجد إبراهيم أصلان ينشر كثيراً من نصوص (وردية ليل) في الدوريات ، ثم يعيد تجميعها وإكمالها لينشرها تحت اسم رواية ، وينشر الكاتب محمود الورداني بعض قصصه القصيرة في الدوريات وضمن مجموعاته القصصية ، ثم يدخلها بعد ذلك في سياق روايته (نوبة رجوع) .

يقول عبد المنعم تليمة بمبدأ ” التآثر والتآزر” بين الفنون في أصلها وفي طبيعتها ، وذلك يظهر في القصة القصيرة ، حيث نجدها قد أخذت من الدراما الخبرة والمباشرة والتركيز ، وأخذت الطاقة الغنائية والشاعرية من القصيدة ” .

وعندما نستبين عن استفادة جنس أدبي من آخر ، أو بيان جنسه وتطوره أو تلاشيه في جنس آخر أو انقراضه ، عندئذٍ ينبغي أنْ نتساءل : لماذا تختلف الأنواع ؟ فالأدب عموماً تشكيل لغوي فلماذا نجد هذا التشكيل ينصرف إلى أنواع ، وإلى أجناس أو فنون ؟ والجنس الأدبي ينشأ استجابة لوضع تاريخي اجتماعي محدد ، وربما يتطور في أوضاع أخرى ، أو ينبث في جنس أدبي جديد ، أو جنس أدبي آخر .

يظل في الأدب والفن ما هو ثابت ، والجنس الأدبي متغير ما دام قد ارتبط بوضع معين ، ما الثابت في الأدب لكي نراه في المتغير؟

الثابت في الأدب والمواقف الثلاثة الكبرى ، الثابت في أي إنشاء أدبي قديماً أو حديثاً ، بدائياً أو متحدثاً أو عصرياً ، شرقياً أو غربياً في أية لغة ثلاثة مواقف :

* الموقف الغنائي : وهو موقف الذات إزاء العالم ، الذات المفردة أمام العالم .

* الموقف الملحمي : وهو الموقف البطولي ، أو الموقف الجمعي إزاء العالم ، الذي يلخص مواقف الجماعة إزاء عالمها .

* الموقف الدرامي : هو الموقف التجادلي ، أو بيان التناقض في الطبيعة والمجتمع بعد ذلك تتحقق هذه المواقف الثلاثة في عمل فني ، مهما تكن طبيعة هذا الفن ، لا بد للعمل الفني لكي يكون فناً ، أن يحتوي على هذه المواقف الثلاثة ، ولكن حينما يغلب موقف من هذه المواقف الثلاثة فيدخله في جنسه ، تغلب الغنائية على الموقفين الآخرين فتصبح أمام القصيدة يغلب الموقف الملحمي ، فتصبح أمام الملحمة ، أو السيرة أو الرواية أو القصة القصيرة عندما يغلب القص تغلب الدرامية ، فتصبح أمام المسرحية (كوميديا ومأساة)، وعلى هذا الأساس هناك ثلاثة مواقف أصيلة تتجدى في كل عمل أدبي ، والذي يحدد نوع هذا العمل هو طغيان موقف على موقفين .

انقضى زمن (الملحمة) في العصور القديمة ، وانقضى زمن (السيرة) في العصور الوسيطة ، وجاء عصر (الرواية) و(القصة القصيرة) بمبدأ تاريخي جمالي واحد ، وهو نشوء الطبقات الوسطي ، النوع أو الجنس الأدبي الأثير ، والممثل لنشوء هذا الحدث التاريخي الخطير في تاريخ البشرية هو (الرواية) و (القصة القصيرة ) ، إذا المبدأ الجمالي الواحد ، لكن جماليات التشكيل تتفاوت وتختلف القصة القصيرة بوراثتها للملحمة ، بوراثتها للسيرة ، لكن كل القص كل الحكي يأخذ من (الدراما) ، يأخذ من (الغنائية) ، ولم يحدث هذا التأثر، وهذا التداخل ، وهذا التشابه ، وهذا الامتصاص ، وهذا العطاء بصورته المثلى والرفيعة إلا في (القصة القصيرة) ، فنجد في هذه الأخيرة من الدراما المباشرة والتركي المسرحي ، لو أنك رفعت لفظة واحدة من البناء المسرحي لتهدم البناء المسرحي كله ، أم في الرواية يمكن رفع الصفحات فالخبرة والمباشرة والتركيز أخذتها القصــة القصيرة من الدرامـــا ، وأخذت الطاقـة الغنائية والشاعـرية من القصيدة .

إنَّ القصة القصيرة أدنى إلى أن تلخص المواقف الجمالية الثلاثة التي ذكرنا : إنها لابدَّ أن تتجدى في كل عمل فني ، وإنها أقرب الأجناس الأدبية إلى ظهور الأجناس الأدبية الأخرى فيها .

لهذا فإن التقسيم الموجود عندنا بين الرواية وبين القصة القصيرة لم يعد موجوداً في الغرب بالشكل الحاد الموجود عندنا حالياً ، مثال (ماركيز) فهو لا يُقال عنه إنه كاتب قصة قصيرة ولا يُقال عنه إنه كاتب رواية ، ولكن يُقال عنه إنه كاتب قصة فلديه قصص مثل (مئة عام من العزلة) تقع في مئات الصفحات ، وأيضاً (خريف البطريريك) وقصص أخرى تقع في عشرين صفحة مثلاً ، والأمر نفسه موجود عند نجيب محفوظ ، سواءً كتب الرواية الطويلة ، أو كتب مجموعة من الأقاصيص ، فأنت تجد في قصصه أن القصة فنياً هي التي تفرض عليه عدد صفحاتها ، لأنها طاقة فنية تنتهي عندما تطلب هي ذلك ، الأحداث نفسها تطلب ذلك .

أما عن استفادة (القصة القصيرة من الأجناس الأدبية الأخرى والشعر) خاصة أن بعض القصص القصيرة تكاد تكون قصائد شعرية ، ينبغي لأن نعلن أن القصة القصيرة في حدها الحقيقي ، وعند منتجيها الحقيقيين ما هي إلا قصيدة ، والشعر ما هو إلا كيفية مخصوصة في التعامل مع اللغة ، ليست هناك لغة شعرية ، إنما تعامل شعري مع اللغة ، فالتعامل الشعري مع اللغة عند الشاعر هو عند القاص من أضراب يحيى الطاهر عبد الله ، ويبقى الفارق الذي يفرق الشعر عن النثر العظيم هو الإيقاع ، وسنرى هنا إيقاعاً ، وسنرى عند القصاصين القدماء إيقاعاً، إنه ليس الإيقاع من الأبحر الشعرية المتوارثة ، إنه إيقاع مستمد من جماليات اللغة ، إنه ليس مستمداً من جماليات الأعاريض ، مقررات الأعاريض تفصل فصلاً حاداً بين الأمرين ، أما القاص الموفق المقتدر جمالياً فهو يتعامل مع اللغة تعاملاً جمالياً ، مضافاً إليه التعامل الشعري الذي يتعامل به الشاعر مع اللغة ، ولعل هذا يفصل بين النوعين .

يقول الدكتور عبد المنعم تليمة : ” لو قرأنا شيئاً من عمل يحيى الطاهر عبد الله لوجدنا هذا الأفق ، وبتحديد شديد لديه قصة في مجموعته الثانية (الدف والصندوق) بعنوان “حج مبرور” يكاد القاريء العاجل يمر مروراً سريعاً ، أو إن وقف فإنه سوف يقف مأخوذاً أمام التشكيل اللغوي المعجب ، وهذا ما لا أقصده ، لكننا نقف على شيء آخر،… رجل عادي يأتي من الحج ، وقبل ساعات من وصوله ، أو قبيل أيام قليلة ، يحاول أهله أن يزينوا ، على نمطنا الريفي ، داره ببعض الرسومات البسيطة المعروفة ، ويأتي النقاش ويرسم جملاً بمحمل على الحائط ، فيتذكر أنه رسم جملاً في العام الماضي ،لأن الرجل يحج كل عام ، ووجد أن هذه الجمل طاغية (لا ينسي الأسية) لا ينسى ما يفعله الإنسان ويصبر ، وينتقم ، إذا لابد من مواجهة الجمل ، كيف يواجه الجمل ؟

النقاش ، كيف يواجه الصبر الطويل للجمل على الانتقام ، أو الترتيب للانتقام ، كيف هذا ؟ منولوج يقول فيه (هو .. هو … الجمل) .

في السنة الماضية ، لابد أن نعيد رسمه بطريق جديدة ، سأجعل الرجل في قامة الجمل ثلاثة مرات وتنتهي القصة والرجل يقول للجمل سوف أرفع العصا ، وسأضع مكان العصا السيف ” .

وهنا تبلغ القصة غايتها عند القارىء المدقق ، فأمام كل ما هو عملاق بالنسبة للطبيعة قوى أخرى الإنسان في جدله مع الطبيعة هو السيد وفي كل قهر يستطيع أن يكون سيداً .

وهذا هو جوهر الجواهر في الموقف الملحمي ، هو سيادة الإنسان وقوته وعظمته ونبله بالنسبة لهذه القصة يمكن للقارىء العادي أن يقف عندما يبدأ هنا أو هناك من إعجاب بتركيبات وهيئات وتشكيلات لغوية ، بذكاء في المتصور في المواقف وتشكيلاتها .

من هنا نتبين كيف يمكن للقصة القصيرة أن تستفيد من المواقف الجمالية الأخرى ، والأجناس الأدبية الأخرى .

في نفس المجموعة قصة (الموت في ثلاث لوحات) القارىء لهذه المجموعة يلمح أن هذه اللوحـات الثلاثة للموت إنْ هي إلا قطعة من رواية يحيى الطاهر عبد الله (الطوق والأسورة) ، وفي اللوحة الثالثة يموت الرجل عن زوجته وتموت الابنة ويصبح العالم بلا مغزى ، الحزن هو الشخصية الأساسية .

السطر الأخير (وتبتسم للرجل الكبير العادي مكشوف العورة) وهذه العملة هي الأخيرة في القصة ، فهاهنا جوهر أصيل من جواهر الدراما ، إن الحياة ، حياة الفرد والجماعة والتاريخ ، بل إن البشر والطبيعة من حولهم إنما هي مسيرة بالتناقص والتجادل ، ويظل الإنسان إلى منتهى عمره ، بل إلى منتهى تاريخه ذلك البطل النبيل الذي يعلم علم اليقين أنه مقهور لا محالة ، وأنه ميت لا محالة ، وأنه مهزوم لا محالة ومع ذلك حتى اللحظة الأخيرة يظل البطل منتصباً في وجه هذا القدر المحتوم .

المقال كجنس أدبي هل تستفيد منه القصة القصيرة ؟ نعم هناك فروق كبيرة بين المقال والقصة القصيرة … المقال في المحل الأول محاولة لطرح وجهة النظر ، لا يعيب المقال على الإطلاق أن تميز فيه شخصية الكاتب بل لعل ذلك أن يكون من مزاياه ، فنحن نقرأ مقالاً للزيات يتطلب فيه شخصية فكرية مختلفة ، عما يتطلبه مقال للعقاد أو غيره ، بمعنى آخر كاتب المقال له أن يزج نفسه في مقاله على نحو واضح ، أما كاتب القصة القصيرة في المفهوم التقليدي ، فإنه لا يزج نفسه ، إنما يقف في المؤخرة ، ويحرك الخيوط على المسرح وكأنها لا تتحرك من تلقاء ذاتها .

في كتاب ( المعذبون في الأرض) للدكتور طه حسين نجد مجموعة من الأحاديث القصصية إن جاز هذا التعبير يصعب تصنيف هذا الكتاب .

لا نستطيع أن نقول أنه مجموعة مقالات ونسكت ، ولا نستطيع أن نقول إنه مجموعة قصص قصيرة ونسكت ، وإنما هو مزاج من هذين الأمرين ، الدكتور طه حسين يُسمي كتابه (حديثاً) وينفي عن نفسه أنه قاص ، فهو يقول مثلاً : ” لا أضع قصة فأخضعها لأصول الفن ، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول ؛ لأني لا أؤمن بها … ولا أذعن لها ، ولا أعترف بأن النقاد مهما يكونوا أن يرسموا إلى القواعد والقوانين مهما تكن … إلخ.

لكن هذا لا ينفي أن بعض هذه الأحاديث قصص قصيرة ، تكاملت لها عناصر القصة القصيرة التقليدية وفي الوقت نفسه نجد الكاتب يتدخل فيها تدخلاً صريحاً فيهاجم أو يدافع فإذا هناك أثر كجنس المقال في هذه الأقاصيص .

اللوحة أو الصورة القصصية جنس أدبي معروف ، ومن أمثلتها قصة قصيرة ليوسف إدريس عنوانها (مارش الغروب) وهي تمثل ثلاث صفحات ، تصور بائع عرق السوس في وقت الغروب إلى أن يسدل الليل ستاره عليه .

أبرز ما يمثل هذه القصة سكونيتها ، أو تجميد اللقطة ، وهذا هو الفرق بين اللوحة والقصة القصيرة ، فالقصة القصيرة تشتمل عادة على تطور ما ، أما اللوحة أو الصورة القصصية فتقدم صورة مثبتة كأنما بالتصور البطيء ، وقد استخدم يوسف إدريس عنصر الصورة القصصية ومع ذلك كتب قصة قصيرة .

حقاً ، إنَّ القصة القصيرة كجنس أدبي قادرة على الاستفادة الحقيقية والفنية من الأجناس الأدبية الأخرى دون أن تفقد هويتها الفنية المميزة .

د. سليمان جادو

أعلى