سُلطة القانون تتعامل مع اللصوص في نابلس
The Authority of Law Deals with the Thieves in Nablus
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة التي رواها ماجد بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (هليل بن بنياميم بن شلح صدقة الصفري ١٩٤٠- ، من مثقّفي حولون، معلم اللغة العربية، ناظم شعر ديني، ناشر صفوة الأدب السامري) بالعبرية على بنياميم صدقة (١٩٤٤- )، الذي أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٢٨-١٢٢٩، ١ شباط ٢٠١٧، ص. ٢٦- ٣٠، ١٢٣٤-١٢٣٥، ١٥ آذار ٢٠١٧، ص. ٤٣-٤٧.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّرين الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي (رتصون) صدقة الصباحي (الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”الفرق بين النظام والفوضى
أُنظر، شاهد أخبار التلفزيون الأردني، إقرأ صحف الأردن! نعم، ما ترى هناك؟ لا أنباءَ عن النهب والسرقات وجرائم أخرى. عندنا، افتح الصحف، شاهد المرناة واسمع المذياع، لا يمرّ يوم بدون خبر عن نهب أو سرقات، هكذا الوضع عندنا دائما. إنّي لا أقول إنّ أمورًا كهذه لا تحدث في عمّان، لا حوادث نهب وسرقات هناك. أعلم أنّ هناك رقابة على الأخبار المنشورة في التلفزيون وفي الصحافة، ولكنّي أستطيع أن أُأكدّ لك أنّ عدد الحوادث هناك، لا يمكن مقارنتُه بما يجري هنا.
لا ريب، تسألني لماذا هذا الاختلاف؟ الجواب بسيط، الفرق في ردّ فعل الشرطة. لا مجال للمقارنة بين ردّ السلطة في عمّان وبين ردّ السلطة عندنا. في معظم حالات إلقاء القبض على سارق أو لصّ، تكون أحكام القضاة خفيفةً في أحسن الحالات، أو مضحكة في أسوأها، مثلا ثلاثة شهور مع وقف التنفيذ وغرامة مضحكة. كيف يُمكنك إدارة دولة هكذا!
في الأردن لا حلول وسط. من يسرِق لا يقطعون يده كما في السعودية، إلا أنّه يمثُل بين يدي القاضي مطأطىء الرأس حتى الأرض، ويسمع الحُكمَ القاضي بسجنه لمدّة لا يُستهان بها. النتيجة واضحة لحدّ يجعلك تعي الفرق بين الوضع هنا وهناك. هذا لا يعني، أنّي أشتاق للحكم الأردني، ولكنّي أريد قطعًا أن يكون لدينا الحزم الكافي، ليكن من يُشعرنا بأنّه مسيطر على الوضع وقادر على تسيير الأمور.
يقتحمون حانوت الكاهن عطا الله (نتنائيل)
لماذا أذهب بعيدًا؟ دعني أسرُد عليك حوادث جرت لنا في نابلس قبل حرب ١٩٦٧ [في الأصل كالعادة في الصحافة العبرية: حرب الأيّام الستّة] في عهد حُكم الحسين. إنّك تعلم تمامًا أنّ هناك نقدًا كافيًا على ما كان آنذاك، ولكن كما في كل شيء لا شرّ بدون خير. في يوم من الأيّام راح الكاهن عطا الله ليفتح بِقالته في الحيّ. فوجىء وأصيب بصدمة شديدة، عند رؤيته باب الدكان مفتوح. يظهر أنّ لصوصًا دخلوا الحانوت ليلًا وأفرغوها بالكامل تقريبًا، في حين غطّ سكان البيت المجاور في سبات عميق في فصل الشتاء. الكاهن عطا الله ”دبّ الصوت“ فهرول إليه فورًا كلّ سكّان الحي، بدأ الهرج والمرج. وبدلًا من تهدئة الكاهن، أصبح معظمهم مستشارين فورًا، والباقون هزّوا برؤوسهم رحمة وشفقة ولسان حالهم يقول: لا حول ولا قوّة. هكذا كان الوضع إلى أن مرّ شخص فاقترح على المتجمّعين استدعاء الشرطة، استغرب الجميع كيف لم يطرأ ذلك ببالهم. ذهبوا واستدعوا الشرطة من مركز المدينة. حضرت الشرطة بسرعة، ماسكة بأيديها ثلاثة أحزمة مربوطة بثلاثة كلاب أثر. دارت الكلاب بضع لحظات في الدكّان المنهوب ”شَمْشَموا“، وعلى حين غِرّة انطلقت الكلاب الثلاثة بقوّة إلى الخارج ساحبة قصّاصي الأثر من الشرطة في أعقابها. الجمع في الخارج الذي انتظر ماذا سينجلي أسرع ولحق الشرطة. قفزت الكلاب نحو السفوح الغربية لجبل جريزيم، ومن هناك نزلنا كلّنا نحو وادي التفاح.
عُثر على السارقين بين الأشجار وهما مشغولان بتقسيم الغنيمة بينهما. لم تكن هناك حاجة ليُسألا فيما إذا قاما بالنهب أم لا. أمامنا جميعًا ضربتهما الشرطة بالهراوات ضربًا مبرّحًا، اقتيدا محطّمين منهكين إلى سجن نابلس، وأصدرت المحكمة حكمًا بالسجن لعشر سنوات، ليتّعظ الجميع ويسمع عن القضاء على الشرّ من بين ظهرانيهم.
سرقة في جبل جريزيم
نعيش اليوم جميعًا في بيوت مؤثّتة على جبل جريزيم. لكن، من لا يتذكر أيّام ما قبل الحرب وسنوات ما بعدها، حينما كانت كل عائلة ترزِم أمتعتها وتضعها في شاحنة وتسافر إلى الجبل، حيث نصبت لها خيمة أو أقامت تخشيبة. تلك كانت أيّام ما قبل العصر الحجري. وهكذا، في إحدى سنوات الخمسينات الأخيرة في القرن العشرين، رزمنا كما في كل عام كل أغراض المنزل الضرورية، وضعناها في الشاحنة، وصعدنا إلى الجبل. تلك الأيّام، ما قبل الفسح، كانت بالنسبة لي ولشقيقي الأكبر سميح (سلوح) أسعد أيّام السنة. عرفنا أن لقاءنا بالشقيق الأكبر راضي (رتصون) القاطن في حولون قد اقترب، يحضر من هناك لمشاركتنا الاحتفال بعيد القربان. الكل شاركنا فرحتنا، وكانوا ينتظرون مجيء أقاربهم في زيارة لأسبوع، ومن ثم الفِراق المؤلم الممتدّ لسنة كاملة حتى الفسح القادم.
وقف عتّالان على الشاحنة، من شركة الشاحنات النابلسية، حمّلا الأغراض عليها. في البيت في نابلس، لم نُبق أية نقود أو مجوهرات لأسباب مفهومة. لذلك أخذ شقيقي سميح معه دخل حانوت القماش التابعة للعائلة وحوالي ٨٠ دينارًا، وكذلك عشرات من الدولارات والجنيهات الإسترلينية التي كنّا نستخدمها للتسهيل على أقاربنا القادمين من حولون في تبديل العملات التي بحوزتهم لتمويل مشترياتهم في غضون أيّام العيد. شقيقي سميح خبّأ النقود في أحد جوارير الخِزانة التي حُمّلت على الشاحنة وفيه أيضًا علبة مجوهرات شهلة زوجته. بعد تفريغ الحُمولة على الجبل عادت الشاحنة وعليها العتّالان إلى نابلس، ونحن شرعنا في نصب خيمتنا. فجأة بدا شقيقي سميح يفتح ويُغلق الخِزانة وجواريرها محدثًا ضجة كبيرة. ماجد، صاح نحوي، ربّما رأيتَ أين النقود؟ ها هي عُلبة مجوهرات شهلة ولكن أين النقود؟ ماذا تقول؟ ركضت نحوه ونفضنا معًا كل جوارير الخِزانة، بدون نتيجة، لم نعثر على النقود. شاركت كل العائلة في البحث، بين الأغراض، وفي أماكن لا تخطر على بال أحد. في النهاية تعبنا من التفتيش، خيبة أمل وشعور بالعجز استوليا علينا. نظرتُ إلى وجه شقيقي وهو نظر إليّ وعندها عرفنا. نعم، يدا العتالين وراء هذا النهب.
تعذيبات واعترافات
عُدنا في إحدى السيارات إلى نابلس رأسًا إلى موقف شاحنات الشركة. وجدنا العتّالين جالسين باسترخاء يلعبان الشيش بيش. ذُهلا عندما رأيانا للحظة، وسرعان ما استرجعا ثقتهما. كان جليًا لنا أنّهما اللصّان الحقيران. تقدّمنا نحوهما بخوف ما مطالبين بنقودنا. كأنّهما تحدّثا عن الأمر من قبلُ، أقسما أولًا بنبيّهم محمد أنّهما لم يمسّا النقود، ولا علم لهما عمّا نتحدّث. بعد الطلب حاولنا طريقة التوسّل إذ أنّ تلك النقود هي كلّ ما نملك في آخر المطاف. ولكن كلّما أكثرنا من التوسّل كلّما عظُم غضب العتّالين ووقاحتهما، وأخذا بالصياح، فتجمهر كل سائقي الشاحنات ومجموعة العتّالين الذين أيّدوا الاثنين. ”ما لكم أيّها السامريون الكفّار تُضايقون مسلمين مؤمنين وتتهمونهما بالسرقة“؟
”تعال نهرب من هنا“، قلت لشقيقي، ”لا يكفي أنّ نُقودنا قد سُرقت بل سنتعرّض لضرب مبرّح إن لم نهرب على وجه السرعة“. استجاب شقيقي لي حالًا. انصرفنا من هناك ونحن نسمع صيحات كل أفراد المجموعة وشتائمهم. بلّغنا ضباط شرطة نابلس عن مصيبتنا، وللتوّ أرسلوا معنا شرطيًا مسلحًا وعُدنا إلى موقف الشاحنات. حركة يد وإشارة خفيفة نحو العتّالين المتّهمين كانتا كافيتين ليقوما ويلتحقا بنا للعودة إلى بناية الشرطة. حقّق الضابط بصرامة مع العتالين، إلّا أنّهما عادا وأنكرا المرّة تلو الأخرى تُهمة سرقة النقود قائليْن للقاضي: ”هل تُفضّل شهادة كفّار على شهادتنا نحن المسلمين المؤمنين؟“
بعد إصرارهما على الإنكار، قام ضابط الشرطة وأشار إلى أحدهما بالذهاب معه إلى غرفة أخرى. هناك نزع الضابط من على الجدار هراوة خشبية ضخمة، وقال للعتّال المرعوب: ”لا أصدّقك، إمّا أن تعترف بالسرقة للحال، وإمّا أن تتذوّق ضرباتِ هذه الهراوة “. ”أنا طنيب على محمد يا شاويش، لم أفعل شيئا“، زعق الحمّال. ”محمّد لا يساعد الحرامية“، ردّ الضابط وضربه بالهراوة الثقيلة على رأسه، فوقع على ركبتيه وبسقوطه تبعثرت من حضنه أوراق نقدية مختلفة، دنانير، دولارات وجنيهات إسترلينية. ”من أين لك هذه النقود؟“ صاح القاضي. ”إنّها لي“، أجاب الحمّال. ”إنّها ليست لك بل ما سرقت!“ ردّ الضابط مشيرًا إلى فئات الدولارات ”كم عندك من هذه الأوراق؟“. ”لا أعرف، يا شاويش من أين وصلتني (تدحرجت إليّ) هذه الأوراق النقدية“ انفجر الحمّال بالبكاء، وقال إنّه لم يعرف شكل الدولارات. ضربتان أُخريان بالهراوة أدّتا إلى انتزاع اعتراف بالسرقة ولو مغمغم. رفيقه في الغرفة الأولى، الذي سمع الصياح والزعيق لم ينتظر ليُضرب أولًا بل أسرع معترفًا بالسرقة، قاد الضابطَ إلى بيته حيث خبّأ نصيبه من السرقة.
”ها هما بين أيديكما، قولا وسنفعل ما يروق لكما“، قال ضابط الشرطة. ”لا“ قال شقيقي سميح ”من جانبنا هما تلقّا عقابهما، قم أنت بما يحلو لك“؛ لم نرض بإصدار حُكم العقاب، إنّنا نعيش بين شعبنا، وكفانا استرجاع نقودنا. ضابط الشرطة، مع كل ذلك، لم يتنازل، اقتيد الاثنان بعد هذا ”الاحترام“ إلى السجن وقد سُرّحا بعد أسابيع كثيرة من التعذيب.
نحن الاثنان، رجعنا فرحين راضيين إلى الجبل لمتابعة نصب خيامنا ولدينا قناعة بأنّ الله كان في عوننا، وأنّ هذا العيد سيكون سعيدا جدًا لنا جميعا. أترى؟ هذا ما يحدث عند وجود السلطة التي تعي كيف تدير الشؤون“.
The Authority of Law Deals with the Thieves in Nablus
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة التي رواها ماجد بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (هليل بن بنياميم بن شلح صدقة الصفري ١٩٤٠- ، من مثقّفي حولون، معلم اللغة العربية، ناظم شعر ديني، ناشر صفوة الأدب السامري) بالعبرية على بنياميم صدقة (١٩٤٤- )، الذي أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٢٨-١٢٢٩، ١ شباط ٢٠١٧، ص. ٢٦- ٣٠، ١٢٣٤-١٢٣٥، ١٥ آذار ٢٠١٧، ص. ٤٣-٤٧.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّرين الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي (رتصون) صدقة الصباحي (الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”الفرق بين النظام والفوضى
أُنظر، شاهد أخبار التلفزيون الأردني، إقرأ صحف الأردن! نعم، ما ترى هناك؟ لا أنباءَ عن النهب والسرقات وجرائم أخرى. عندنا، افتح الصحف، شاهد المرناة واسمع المذياع، لا يمرّ يوم بدون خبر عن نهب أو سرقات، هكذا الوضع عندنا دائما. إنّي لا أقول إنّ أمورًا كهذه لا تحدث في عمّان، لا حوادث نهب وسرقات هناك. أعلم أنّ هناك رقابة على الأخبار المنشورة في التلفزيون وفي الصحافة، ولكنّي أستطيع أن أُأكدّ لك أنّ عدد الحوادث هناك، لا يمكن مقارنتُه بما يجري هنا.
لا ريب، تسألني لماذا هذا الاختلاف؟ الجواب بسيط، الفرق في ردّ فعل الشرطة. لا مجال للمقارنة بين ردّ السلطة في عمّان وبين ردّ السلطة عندنا. في معظم حالات إلقاء القبض على سارق أو لصّ، تكون أحكام القضاة خفيفةً في أحسن الحالات، أو مضحكة في أسوأها، مثلا ثلاثة شهور مع وقف التنفيذ وغرامة مضحكة. كيف يُمكنك إدارة دولة هكذا!
في الأردن لا حلول وسط. من يسرِق لا يقطعون يده كما في السعودية، إلا أنّه يمثُل بين يدي القاضي مطأطىء الرأس حتى الأرض، ويسمع الحُكمَ القاضي بسجنه لمدّة لا يُستهان بها. النتيجة واضحة لحدّ يجعلك تعي الفرق بين الوضع هنا وهناك. هذا لا يعني، أنّي أشتاق للحكم الأردني، ولكنّي أريد قطعًا أن يكون لدينا الحزم الكافي، ليكن من يُشعرنا بأنّه مسيطر على الوضع وقادر على تسيير الأمور.
يقتحمون حانوت الكاهن عطا الله (نتنائيل)
لماذا أذهب بعيدًا؟ دعني أسرُد عليك حوادث جرت لنا في نابلس قبل حرب ١٩٦٧ [في الأصل كالعادة في الصحافة العبرية: حرب الأيّام الستّة] في عهد حُكم الحسين. إنّك تعلم تمامًا أنّ هناك نقدًا كافيًا على ما كان آنذاك، ولكن كما في كل شيء لا شرّ بدون خير. في يوم من الأيّام راح الكاهن عطا الله ليفتح بِقالته في الحيّ. فوجىء وأصيب بصدمة شديدة، عند رؤيته باب الدكان مفتوح. يظهر أنّ لصوصًا دخلوا الحانوت ليلًا وأفرغوها بالكامل تقريبًا، في حين غطّ سكان البيت المجاور في سبات عميق في فصل الشتاء. الكاهن عطا الله ”دبّ الصوت“ فهرول إليه فورًا كلّ سكّان الحي، بدأ الهرج والمرج. وبدلًا من تهدئة الكاهن، أصبح معظمهم مستشارين فورًا، والباقون هزّوا برؤوسهم رحمة وشفقة ولسان حالهم يقول: لا حول ولا قوّة. هكذا كان الوضع إلى أن مرّ شخص فاقترح على المتجمّعين استدعاء الشرطة، استغرب الجميع كيف لم يطرأ ذلك ببالهم. ذهبوا واستدعوا الشرطة من مركز المدينة. حضرت الشرطة بسرعة، ماسكة بأيديها ثلاثة أحزمة مربوطة بثلاثة كلاب أثر. دارت الكلاب بضع لحظات في الدكّان المنهوب ”شَمْشَموا“، وعلى حين غِرّة انطلقت الكلاب الثلاثة بقوّة إلى الخارج ساحبة قصّاصي الأثر من الشرطة في أعقابها. الجمع في الخارج الذي انتظر ماذا سينجلي أسرع ولحق الشرطة. قفزت الكلاب نحو السفوح الغربية لجبل جريزيم، ومن هناك نزلنا كلّنا نحو وادي التفاح.
عُثر على السارقين بين الأشجار وهما مشغولان بتقسيم الغنيمة بينهما. لم تكن هناك حاجة ليُسألا فيما إذا قاما بالنهب أم لا. أمامنا جميعًا ضربتهما الشرطة بالهراوات ضربًا مبرّحًا، اقتيدا محطّمين منهكين إلى سجن نابلس، وأصدرت المحكمة حكمًا بالسجن لعشر سنوات، ليتّعظ الجميع ويسمع عن القضاء على الشرّ من بين ظهرانيهم.
سرقة في جبل جريزيم
نعيش اليوم جميعًا في بيوت مؤثّتة على جبل جريزيم. لكن، من لا يتذكر أيّام ما قبل الحرب وسنوات ما بعدها، حينما كانت كل عائلة ترزِم أمتعتها وتضعها في شاحنة وتسافر إلى الجبل، حيث نصبت لها خيمة أو أقامت تخشيبة. تلك كانت أيّام ما قبل العصر الحجري. وهكذا، في إحدى سنوات الخمسينات الأخيرة في القرن العشرين، رزمنا كما في كل عام كل أغراض المنزل الضرورية، وضعناها في الشاحنة، وصعدنا إلى الجبل. تلك الأيّام، ما قبل الفسح، كانت بالنسبة لي ولشقيقي الأكبر سميح (سلوح) أسعد أيّام السنة. عرفنا أن لقاءنا بالشقيق الأكبر راضي (رتصون) القاطن في حولون قد اقترب، يحضر من هناك لمشاركتنا الاحتفال بعيد القربان. الكل شاركنا فرحتنا، وكانوا ينتظرون مجيء أقاربهم في زيارة لأسبوع، ومن ثم الفِراق المؤلم الممتدّ لسنة كاملة حتى الفسح القادم.
وقف عتّالان على الشاحنة، من شركة الشاحنات النابلسية، حمّلا الأغراض عليها. في البيت في نابلس، لم نُبق أية نقود أو مجوهرات لأسباب مفهومة. لذلك أخذ شقيقي سميح معه دخل حانوت القماش التابعة للعائلة وحوالي ٨٠ دينارًا، وكذلك عشرات من الدولارات والجنيهات الإسترلينية التي كنّا نستخدمها للتسهيل على أقاربنا القادمين من حولون في تبديل العملات التي بحوزتهم لتمويل مشترياتهم في غضون أيّام العيد. شقيقي سميح خبّأ النقود في أحد جوارير الخِزانة التي حُمّلت على الشاحنة وفيه أيضًا علبة مجوهرات شهلة زوجته. بعد تفريغ الحُمولة على الجبل عادت الشاحنة وعليها العتّالان إلى نابلس، ونحن شرعنا في نصب خيمتنا. فجأة بدا شقيقي سميح يفتح ويُغلق الخِزانة وجواريرها محدثًا ضجة كبيرة. ماجد، صاح نحوي، ربّما رأيتَ أين النقود؟ ها هي عُلبة مجوهرات شهلة ولكن أين النقود؟ ماذا تقول؟ ركضت نحوه ونفضنا معًا كل جوارير الخِزانة، بدون نتيجة، لم نعثر على النقود. شاركت كل العائلة في البحث، بين الأغراض، وفي أماكن لا تخطر على بال أحد. في النهاية تعبنا من التفتيش، خيبة أمل وشعور بالعجز استوليا علينا. نظرتُ إلى وجه شقيقي وهو نظر إليّ وعندها عرفنا. نعم، يدا العتالين وراء هذا النهب.
تعذيبات واعترافات
عُدنا في إحدى السيارات إلى نابلس رأسًا إلى موقف شاحنات الشركة. وجدنا العتّالين جالسين باسترخاء يلعبان الشيش بيش. ذُهلا عندما رأيانا للحظة، وسرعان ما استرجعا ثقتهما. كان جليًا لنا أنّهما اللصّان الحقيران. تقدّمنا نحوهما بخوف ما مطالبين بنقودنا. كأنّهما تحدّثا عن الأمر من قبلُ، أقسما أولًا بنبيّهم محمد أنّهما لم يمسّا النقود، ولا علم لهما عمّا نتحدّث. بعد الطلب حاولنا طريقة التوسّل إذ أنّ تلك النقود هي كلّ ما نملك في آخر المطاف. ولكن كلّما أكثرنا من التوسّل كلّما عظُم غضب العتّالين ووقاحتهما، وأخذا بالصياح، فتجمهر كل سائقي الشاحنات ومجموعة العتّالين الذين أيّدوا الاثنين. ”ما لكم أيّها السامريون الكفّار تُضايقون مسلمين مؤمنين وتتهمونهما بالسرقة“؟
”تعال نهرب من هنا“، قلت لشقيقي، ”لا يكفي أنّ نُقودنا قد سُرقت بل سنتعرّض لضرب مبرّح إن لم نهرب على وجه السرعة“. استجاب شقيقي لي حالًا. انصرفنا من هناك ونحن نسمع صيحات كل أفراد المجموعة وشتائمهم. بلّغنا ضباط شرطة نابلس عن مصيبتنا، وللتوّ أرسلوا معنا شرطيًا مسلحًا وعُدنا إلى موقف الشاحنات. حركة يد وإشارة خفيفة نحو العتّالين المتّهمين كانتا كافيتين ليقوما ويلتحقا بنا للعودة إلى بناية الشرطة. حقّق الضابط بصرامة مع العتالين، إلّا أنّهما عادا وأنكرا المرّة تلو الأخرى تُهمة سرقة النقود قائليْن للقاضي: ”هل تُفضّل شهادة كفّار على شهادتنا نحن المسلمين المؤمنين؟“
بعد إصرارهما على الإنكار، قام ضابط الشرطة وأشار إلى أحدهما بالذهاب معه إلى غرفة أخرى. هناك نزع الضابط من على الجدار هراوة خشبية ضخمة، وقال للعتّال المرعوب: ”لا أصدّقك، إمّا أن تعترف بالسرقة للحال، وإمّا أن تتذوّق ضرباتِ هذه الهراوة “. ”أنا طنيب على محمد يا شاويش، لم أفعل شيئا“، زعق الحمّال. ”محمّد لا يساعد الحرامية“، ردّ الضابط وضربه بالهراوة الثقيلة على رأسه، فوقع على ركبتيه وبسقوطه تبعثرت من حضنه أوراق نقدية مختلفة، دنانير، دولارات وجنيهات إسترلينية. ”من أين لك هذه النقود؟“ صاح القاضي. ”إنّها لي“، أجاب الحمّال. ”إنّها ليست لك بل ما سرقت!“ ردّ الضابط مشيرًا إلى فئات الدولارات ”كم عندك من هذه الأوراق؟“. ”لا أعرف، يا شاويش من أين وصلتني (تدحرجت إليّ) هذه الأوراق النقدية“ انفجر الحمّال بالبكاء، وقال إنّه لم يعرف شكل الدولارات. ضربتان أُخريان بالهراوة أدّتا إلى انتزاع اعتراف بالسرقة ولو مغمغم. رفيقه في الغرفة الأولى، الذي سمع الصياح والزعيق لم ينتظر ليُضرب أولًا بل أسرع معترفًا بالسرقة، قاد الضابطَ إلى بيته حيث خبّأ نصيبه من السرقة.
”ها هما بين أيديكما، قولا وسنفعل ما يروق لكما“، قال ضابط الشرطة. ”لا“ قال شقيقي سميح ”من جانبنا هما تلقّا عقابهما، قم أنت بما يحلو لك“؛ لم نرض بإصدار حُكم العقاب، إنّنا نعيش بين شعبنا، وكفانا استرجاع نقودنا. ضابط الشرطة، مع كل ذلك، لم يتنازل، اقتيد الاثنان بعد هذا ”الاحترام“ إلى السجن وقد سُرّحا بعد أسابيع كثيرة من التعذيب.
نحن الاثنان، رجعنا فرحين راضيين إلى الجبل لمتابعة نصب خيامنا ولدينا قناعة بأنّ الله كان في عوننا، وأنّ هذا العيد سيكون سعيدا جدًا لنا جميعا. أترى؟ هذا ما يحدث عند وجود السلطة التي تعي كيف تدير الشؤون“.