حوار أجراه – جعفر الديري
كانت السماء ليلتها صافية والطقس على أحسنه، كان الهدوء الذي يأخذ من اقتراب الليل لونه وطبيعته مخيما على الجميع والسفينة واقفة منتصبة في عرض البحر، وكان النوخذة مستلقيا على سريره الحديد، غارقا في حديث مع أحد خواصه، وكان بعض البحارة انتبذوا أماكن متفرقة في مؤخرة السفينة وأخذوا في الحديث وآخرون منهم غطوا في سبات عميق بعد أن تناولوا وجبة العشاء المكونة من الرز المحمر والأسماك المشوية ذات الألوان والأشكال، بعد أن أدوا فريضة الصلاة. وكان الغلام ذو الخامسة عشر ربيعا واضحا ذراعيه على قائمة السفينة وأخذ بتأمل النجوم واهتزاز الموج تحت السفينة مستحضرا صورة قريته وعائلته...
هذه الصورة النابضة بالحياة لاتزال عالقة بذهن السيدعلي السيدحسن البحراني وكأنها حدثت بالأمس القريب، وهو في هذا الحوار يأخذ بنا إلى تلك الفترة الجميلة من تاريخ البحرين، مؤكدا أن البحر لم يكن يشكل مصدر الرزق الوحيد فحسب وانما كان يمثل حياة أخرى متكاملة الجوانب...
* متى تعرفت على حياة البحر وزاولت أعماله؟
- لقد عشت أنا كما عاش أقراني على البحر، اذ كان يشكل لنا مصدر الرزق الوحيد مع بعض الاستثناءات بالنسبة إلى اولئك الذين يمتلكون المزارع والدوالي، فالبحر لم يكن يوما غريبا عنا، فقد نشأنا وتربينا في البحر وكبرنا وأصبحنا رجالا بفضل خيراته، لذلك ما أن يبلغ أحدنا أشده حتى تكون لديه رغبة كبيرة في أن يصبح بحارا. وكان عمري عندما قررت العمل على ظهر السفن خمسة عشر ربيعا، وهو سن لا يؤهل للعمل غواصا، لأن وظيفة الغواص كانت أكبر مرتبة من وظيفة «السيب»، التي لم أكن مؤهلا لها أيضا، لذلك عملت نصف سيب، والفرق بين الاثنين أن نصف السيب يأخذ نصف ما يتسلمه السيب من مال نظير عمله.
الدخول مع فصل الصيف
* ومتى كنتم تخرجون إلى موسم الصيد على ظهر السفن؟
- مع دخول فصل الصيف، يكون النواخذ - وهم ربابنة السفن وقتها - أكملوا عدة السفر والغوص على ظهر مراكبهم، وسفنهم جاهزة وطاقمها متكامل وكل ما يتعلق بها متوافر، فتبدأ الرحلات طوال أربعة شهور بين الذهاب والاياب.
* وكيف كانت انطلاقتكم من مكان الى آخر؟
- لقد كان الهدف الأساسي لكل الرحلات هو البحث عن اللؤلؤ الى جانب السمك الذي يعتاش منه البحارة أنفسهم في عرض البحر، لذلك ما أن نصل الى منطقة يغوص الغواصون فيها ويخرجون بالمحار فلا يجدون فيه شيئا من اللؤلؤ حتى يأمر النوخذة برفع السن بقوله «فوق» فيتعاون على رفعه ثلاثة من الرجال الأشداء، لتتجه السفينة إلى منطقة أخرى، وهكذا دواليك.
عدد العاملين بسعة السفينة
* وما هو طاقم السفينة الذي يجب أن يكتمل على ظهرها، وكم كان عدد العاملين عليها ووظائفهم؟
- يختلف عدد العاملين على السفينة بحسب سعتها، فقد يكون عدد الغواصين عشرة وأحيانا اثني عشر ويصلون إلى عشرين غواصا، بينما يكون عدد السيب متجاوزا لعدد الغواصين، وهناك أيضا الطباخ الذي لا تتغير وجبته عن الرز المحمر غالبا، والمقدمي الذي كنا نعبر عنه «بشاطر السيوب» والذي كان في الوقت نفسه نائبا للنوخذة، هذا الى جانب النهامين الذين كانت أصوات غنائهم وهم يغنون الزهريات مهمة في تيسير العمل بدقة ونظام، وصباغ السفينة والنوخذة الذي هو صاحب السفينة والمال والمشرف العام على العمل، والمتحكم في أرزاق من معه.
* وعلى أي هؤلاء يعتمد العمل أكثر؟
- يعتمد العمل لا شك على الغواص والسيب. أما عن الغواص فإنه يضع «الشباص» على أنفه اتقاء لدخول ماء البحر إليه، ويمسك بـ «الديين» ويغوص في البحر بحثا عن اللؤلؤ وعن الأسماك في «القرقور» حتى إذا خرج جمع البحارة المحار وبدأوا بفتحه فإن ظهر منه لؤلؤ أعطوه للنوخذة والا فانصرفوا الى أعمالهم في حين يتناول الطباخ السمك فيجهزه للوجبات والباقي يعمل منه «حلا»، بينما يقوم السيب بالامساك ومراقبة الحبل المربوط في ابهام الرجل اليمنى من الغواص كي لا يغرق.
الغوَّاص رجل مخاطر
* وهل كان الغواص حقيقة عرضة للمخاطر؟
- لقد كان الغواص في الحقيقة رجلا مخاطرا، فهو يعلم أن البحر لا أمان له، فماذا لو ظهر له «جرجور»، وماذا لو علقت رجله بنبات من نبات أو صخور البحر؟ ثم أن هناك حالات وان كانت نادرة تسببت في غرق الغواص خطأ، فأكبر خطأ يمكن أن يرتكبه السيب هو غفلته عن الحبل الذي يربطه بالغواص، فمعنى ذلك اختناق الغواص في عرض البحر وموته.
* وتتم محاسبته طبعا؟
- في الغالب لا يترك السيب مكانه الا متى ما أمره المقدمي أو النوخذة بعمل آخر، فهو غير مسئول عما يحدث بعد ذلك، كما أننا كنا إخوة وأبناء منطقة واحدة، فلم نكن لنحدث المشكلات ولم نكن لنفكر في أن أحدنا ترك الحبل عمدا أو بقصد القتل، حتى أهل الفقيد لا يلومون السيب المعني الذي يحضر الفاتحة ويشارك في العزاء ويتلقى التعازي شأنه شأن أهل الفقيد، فقد كانت القلوب وقتها قلوب مؤمنة موكلة أمورها لله سبحانه.
* ومتى تنهون أعمالكم على ظهر السفينة؟
- عملنا ينتهي مع اقتراب أذان المغرب، حيث يكون الرز جاهزا مع السمك المشوي، فنقوم بالصلاة والدعاء ثم نتناول وجبتنا الأخيرة في كل يوم.
* وكيف كنتم تقضون ساعاتكم المتبقية من اليوم؟
- أكثرنا يكون التعب أخذ منه كل مأخذ لذلك يبادر بالنوم، وآخرون وهم قليلون يجتمعون عند «التفر» في مؤخرة السفينة، يتبادلون الأحاديث والقصص.
* وعلى ماذا كنتم تنامون؟
- كنا ننام على «خيش» أو بساط بسيط.
* ماذا عن ملابسكم؟
- ما عدا النوخذة الذي يلبس الثوب تحته ازار، كان لباسنا جميعا الإزار فقط، فصدورنا لم نكن نغطيها بشيء.
الإصابة بالمرض شاقة جدا
* وماذا لو تعرض أحدكم للمرض؟
- لقد كنا جميعا نحاول ما أمكننا مقاومة المرض لأن المرض على ظهر السفينة كان شاقا جدا، ولهذا كان النواخذ يختارون الأجسام القوية القادرة على مقاومة الأمراض، ومازلت حتى هذه اللحظة أتذكر بضع كلمات لأحد النواخذ يقول فيها: "لا تتمارضوا فتمرضوا فتخسروا فتكونوا من أصحاب الجحيم"، وهذا كلام يدل على شدة وقسوة النوخذة في التعامل مع البحارة المرضى.
* وماذا لو اشتد المرض بأحدكم؟
- هنا لا يكون أمام النوخذة مفر من العودة الى الديار لإرجاع المريض الى بيته، والحقيقة أن رجوع المريض الى بيته جراء تدهور صحته كان في صالح البحارة الآخرين، الذين يستطيعون بهذه العودة رؤية عوائلهم بعد انقطاع، إذ غالبا ما يهب النوخذة يوما إلى البحارة للركون الى بيوتهم وعوائلهم، على أن يراهم في فجر اليوم التالي.
* ألم تكونوا تحظون بعطلة أسبوعية أو شهرية؟
- لا عطلة لمن كان على ظهر السفينة وانما كدح وتعب، ولكن متى ما كانت هناك رياح شديدة يخشى منها على السفينة وعلى البحارة، يذهب بالسفينة الى البندر.
* وكيف كنتم تكتشفون هذه الرياح؟
- من خبر البحر لسنوات عدة يعرف تغير الطقس والموج، لذلك ما أن يلمح البحارة الغيوم، غيوم بعينها حتى يدركوا أن السماء في طريقها الى عاصفة، لذلك يسارعون فرحين باخبار المقدمي برغبتهم في التوجه الى البندر، والأمر منوط هنا بالنوخذة الذي يحكم رأيه في أحيان كثيرة ويكمل العمل أو يأذن براحة قصيرة.
* أصحيح أنكم كنتم تشاهدون جنا وعفاريت في عرض البحر؟
- طوال رحلة عمري في عرض البحر لم أشاهد شيئا من هذا الذي يقال له «دعيدع» أو غيره من الجن، كذلك لم أسمع أحدا من زملائي يدَّعي ذلك.
_______________________________________
عبدالله الحداد: حكايات الجن... خيالات المعاناة في عرض البحر
يقول الباحث الاجتماعي عبدالله الحداد عن تخيلات الجن في التراث البحري البحريني: «ان العقل الإنساني معرض دائم للحظات ضعف تجعله يقبل بهذه التخيلات، والمساءلة مرتبطة بقوة الإرادة والزمن المعاش، لكن هذه التخيلات من ناحية تراثية ما هي إلا خيال شعبي معبر عن المعاناة والصراع من أجل البقاء».
ويضيف «تميز دائما ركوب البحر أو صيد اللؤلؤ بالمغامرات، إذ كان من المألوف رجوع غواصي اللؤلؤ فاقدين أحيانا بعض أحبتهم، وكان الأهالي إذا رأوا عائلهم قد رجع سليما يشعرون أن ولادة جديدة كتبت له، لما للبحر من مخاطر جمة، فالسفينة في عرض البحر ما هي الا علبة كبريت في بحر هائج لا تقوى على المقاومة. وفي ذاكرة الشعب البحريني تحديدا على رغم أن المصاب كان خليجيا في (سنة الطبعة) التي راح ضحيتها الكثيرون من أبناء البحرين، لأنهم كانوا أكثر الغواصين ركوبا للبحر من أهل الخليج، إذ تجمعوا في أحد الأماكن البعيدة تهيؤا للرجوع فإذا بعاصفة شديدة تضرب سفنهم فتكسرها ويذهب ضحيتها الآلاف منهم».
ويقول عن ارتباط فكرة الجن بالعلم العربي خصوصا: «نقع هنا أيضا على ملمح آخر من ملامح تلك الأيام وهي مسألة حضور الجن، فالعقل العربي خصوصا مسكون بفكرة الجن باعتبار أن القرآن الكريم ذكر آيات عن هذا المفهوم، علما أن التفسير للآيات القرآنية يأخذ منحى آخر، فالجن في اللغة العربية مصدره «جنا» أي خفي، أي ما تستر فلم يكن بالإمكان معرفة قوته، لذلك يمكن أن تكون هناك قوة عصية على التفسير في وقت معين يعبر عنها بالجن، حتى إذا انكشفت لم تعد جنا، مثال على ذلك ظاهرة البرق الكهربائي، فقد كان الناس يعتقدونها حركة من الجن، حتى أصبحت بعد فترة من الزمن ظاهرة طبيعية، كذلك الحكاية التي ذكرها القرآن الكريم عن الجني الذي قال لنبي الله سليمان عليه السلام، متحدثا عن عرش بلقيس «أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك» (النمل: 40)، إذ يمكن قبول تفسيرها اليوم بشكل علمي، ولنأخذ مثلا وان كان من قبيل تقريب المعنى لا غير، أن زين الدين زيدان لاعب كرة القدم متى ما ركل الكرة في أحد الملاعب الإسبانية مسددا، تصرخ الكرة الأرضية كلها هدف هدف. والناس المصابون أيضا بأمراض نفسية عصبية كانوا مسكونين في تصور الناس بالجن، بينما وجد الطب النفسي الحديث تفسيرات لها فعالج المريض على أساسها فرجع معافى».
ويتابع القول: «ان هذه الأفكار مع الجهل العلمي وعدم القدرة على تفسيرها، جعلت الكثيرين ممن يتعرضون لها يتخيلون أن الظلام الدامس والخطر البحري الذي يشبهه أهل البحر أنه خطر غدار، والأصوات الغريبة التي تصدرها الأمواج والرياح، جنيا يتمثل أحيانا في صورة «دعيدع» الذي يظهر في غب البحر، أو أبو درياه الخاص بسيف عراد أو عبدالقادر الذي يتلبس الانسان»!
________________________________________
شرح لبعض الكلمات البحرية الشفهية
التفر: مؤخرة السفينة الشراعية.
دعيدع: اسم لجني تكرر كثيرا في تراث البحر في منطقة البحرين.
الشباص: مشبك يضعه الغواص على أنفه اتقاء لماء البحر.
حلا: طريقة متبعة لحفظ الأسماك بتمليحها وتعليقها في الهواء الطلق.
السن: حجر تعمل عمل المرساة في البحر لإيقاف السفينة عن السير، وهي حجر ضخمة مشبكة بسلسلة إلى ظهر السفينة.
السيب: هو البحار المسئول عن الإمساك بالحبل الذي يربط بالرجل اليمنى للغواص، والذي يقوم بسحب الغواص حال انتهائه من الغوص.
كانت السماء ليلتها صافية والطقس على أحسنه، كان الهدوء الذي يأخذ من اقتراب الليل لونه وطبيعته مخيما على الجميع والسفينة واقفة منتصبة في عرض البحر، وكان النوخذة مستلقيا على سريره الحديد، غارقا في حديث مع أحد خواصه، وكان بعض البحارة انتبذوا أماكن متفرقة في مؤخرة السفينة وأخذوا في الحديث وآخرون منهم غطوا في سبات عميق بعد أن تناولوا وجبة العشاء المكونة من الرز المحمر والأسماك المشوية ذات الألوان والأشكال، بعد أن أدوا فريضة الصلاة. وكان الغلام ذو الخامسة عشر ربيعا واضحا ذراعيه على قائمة السفينة وأخذ بتأمل النجوم واهتزاز الموج تحت السفينة مستحضرا صورة قريته وعائلته...
هذه الصورة النابضة بالحياة لاتزال عالقة بذهن السيدعلي السيدحسن البحراني وكأنها حدثت بالأمس القريب، وهو في هذا الحوار يأخذ بنا إلى تلك الفترة الجميلة من تاريخ البحرين، مؤكدا أن البحر لم يكن يشكل مصدر الرزق الوحيد فحسب وانما كان يمثل حياة أخرى متكاملة الجوانب...
* متى تعرفت على حياة البحر وزاولت أعماله؟
- لقد عشت أنا كما عاش أقراني على البحر، اذ كان يشكل لنا مصدر الرزق الوحيد مع بعض الاستثناءات بالنسبة إلى اولئك الذين يمتلكون المزارع والدوالي، فالبحر لم يكن يوما غريبا عنا، فقد نشأنا وتربينا في البحر وكبرنا وأصبحنا رجالا بفضل خيراته، لذلك ما أن يبلغ أحدنا أشده حتى تكون لديه رغبة كبيرة في أن يصبح بحارا. وكان عمري عندما قررت العمل على ظهر السفن خمسة عشر ربيعا، وهو سن لا يؤهل للعمل غواصا، لأن وظيفة الغواص كانت أكبر مرتبة من وظيفة «السيب»، التي لم أكن مؤهلا لها أيضا، لذلك عملت نصف سيب، والفرق بين الاثنين أن نصف السيب يأخذ نصف ما يتسلمه السيب من مال نظير عمله.
الدخول مع فصل الصيف
* ومتى كنتم تخرجون إلى موسم الصيد على ظهر السفن؟
- مع دخول فصل الصيف، يكون النواخذ - وهم ربابنة السفن وقتها - أكملوا عدة السفر والغوص على ظهر مراكبهم، وسفنهم جاهزة وطاقمها متكامل وكل ما يتعلق بها متوافر، فتبدأ الرحلات طوال أربعة شهور بين الذهاب والاياب.
* وكيف كانت انطلاقتكم من مكان الى آخر؟
- لقد كان الهدف الأساسي لكل الرحلات هو البحث عن اللؤلؤ الى جانب السمك الذي يعتاش منه البحارة أنفسهم في عرض البحر، لذلك ما أن نصل الى منطقة يغوص الغواصون فيها ويخرجون بالمحار فلا يجدون فيه شيئا من اللؤلؤ حتى يأمر النوخذة برفع السن بقوله «فوق» فيتعاون على رفعه ثلاثة من الرجال الأشداء، لتتجه السفينة إلى منطقة أخرى، وهكذا دواليك.
عدد العاملين بسعة السفينة
* وما هو طاقم السفينة الذي يجب أن يكتمل على ظهرها، وكم كان عدد العاملين عليها ووظائفهم؟
- يختلف عدد العاملين على السفينة بحسب سعتها، فقد يكون عدد الغواصين عشرة وأحيانا اثني عشر ويصلون إلى عشرين غواصا، بينما يكون عدد السيب متجاوزا لعدد الغواصين، وهناك أيضا الطباخ الذي لا تتغير وجبته عن الرز المحمر غالبا، والمقدمي الذي كنا نعبر عنه «بشاطر السيوب» والذي كان في الوقت نفسه نائبا للنوخذة، هذا الى جانب النهامين الذين كانت أصوات غنائهم وهم يغنون الزهريات مهمة في تيسير العمل بدقة ونظام، وصباغ السفينة والنوخذة الذي هو صاحب السفينة والمال والمشرف العام على العمل، والمتحكم في أرزاق من معه.
* وعلى أي هؤلاء يعتمد العمل أكثر؟
- يعتمد العمل لا شك على الغواص والسيب. أما عن الغواص فإنه يضع «الشباص» على أنفه اتقاء لدخول ماء البحر إليه، ويمسك بـ «الديين» ويغوص في البحر بحثا عن اللؤلؤ وعن الأسماك في «القرقور» حتى إذا خرج جمع البحارة المحار وبدأوا بفتحه فإن ظهر منه لؤلؤ أعطوه للنوخذة والا فانصرفوا الى أعمالهم في حين يتناول الطباخ السمك فيجهزه للوجبات والباقي يعمل منه «حلا»، بينما يقوم السيب بالامساك ومراقبة الحبل المربوط في ابهام الرجل اليمنى من الغواص كي لا يغرق.
الغوَّاص رجل مخاطر
* وهل كان الغواص حقيقة عرضة للمخاطر؟
- لقد كان الغواص في الحقيقة رجلا مخاطرا، فهو يعلم أن البحر لا أمان له، فماذا لو ظهر له «جرجور»، وماذا لو علقت رجله بنبات من نبات أو صخور البحر؟ ثم أن هناك حالات وان كانت نادرة تسببت في غرق الغواص خطأ، فأكبر خطأ يمكن أن يرتكبه السيب هو غفلته عن الحبل الذي يربطه بالغواص، فمعنى ذلك اختناق الغواص في عرض البحر وموته.
* وتتم محاسبته طبعا؟
- في الغالب لا يترك السيب مكانه الا متى ما أمره المقدمي أو النوخذة بعمل آخر، فهو غير مسئول عما يحدث بعد ذلك، كما أننا كنا إخوة وأبناء منطقة واحدة، فلم نكن لنحدث المشكلات ولم نكن لنفكر في أن أحدنا ترك الحبل عمدا أو بقصد القتل، حتى أهل الفقيد لا يلومون السيب المعني الذي يحضر الفاتحة ويشارك في العزاء ويتلقى التعازي شأنه شأن أهل الفقيد، فقد كانت القلوب وقتها قلوب مؤمنة موكلة أمورها لله سبحانه.
* ومتى تنهون أعمالكم على ظهر السفينة؟
- عملنا ينتهي مع اقتراب أذان المغرب، حيث يكون الرز جاهزا مع السمك المشوي، فنقوم بالصلاة والدعاء ثم نتناول وجبتنا الأخيرة في كل يوم.
* وكيف كنتم تقضون ساعاتكم المتبقية من اليوم؟
- أكثرنا يكون التعب أخذ منه كل مأخذ لذلك يبادر بالنوم، وآخرون وهم قليلون يجتمعون عند «التفر» في مؤخرة السفينة، يتبادلون الأحاديث والقصص.
* وعلى ماذا كنتم تنامون؟
- كنا ننام على «خيش» أو بساط بسيط.
* ماذا عن ملابسكم؟
- ما عدا النوخذة الذي يلبس الثوب تحته ازار، كان لباسنا جميعا الإزار فقط، فصدورنا لم نكن نغطيها بشيء.
الإصابة بالمرض شاقة جدا
* وماذا لو تعرض أحدكم للمرض؟
- لقد كنا جميعا نحاول ما أمكننا مقاومة المرض لأن المرض على ظهر السفينة كان شاقا جدا، ولهذا كان النواخذ يختارون الأجسام القوية القادرة على مقاومة الأمراض، ومازلت حتى هذه اللحظة أتذكر بضع كلمات لأحد النواخذ يقول فيها: "لا تتمارضوا فتمرضوا فتخسروا فتكونوا من أصحاب الجحيم"، وهذا كلام يدل على شدة وقسوة النوخذة في التعامل مع البحارة المرضى.
* وماذا لو اشتد المرض بأحدكم؟
- هنا لا يكون أمام النوخذة مفر من العودة الى الديار لإرجاع المريض الى بيته، والحقيقة أن رجوع المريض الى بيته جراء تدهور صحته كان في صالح البحارة الآخرين، الذين يستطيعون بهذه العودة رؤية عوائلهم بعد انقطاع، إذ غالبا ما يهب النوخذة يوما إلى البحارة للركون الى بيوتهم وعوائلهم، على أن يراهم في فجر اليوم التالي.
* ألم تكونوا تحظون بعطلة أسبوعية أو شهرية؟
- لا عطلة لمن كان على ظهر السفينة وانما كدح وتعب، ولكن متى ما كانت هناك رياح شديدة يخشى منها على السفينة وعلى البحارة، يذهب بالسفينة الى البندر.
* وكيف كنتم تكتشفون هذه الرياح؟
- من خبر البحر لسنوات عدة يعرف تغير الطقس والموج، لذلك ما أن يلمح البحارة الغيوم، غيوم بعينها حتى يدركوا أن السماء في طريقها الى عاصفة، لذلك يسارعون فرحين باخبار المقدمي برغبتهم في التوجه الى البندر، والأمر منوط هنا بالنوخذة الذي يحكم رأيه في أحيان كثيرة ويكمل العمل أو يأذن براحة قصيرة.
* أصحيح أنكم كنتم تشاهدون جنا وعفاريت في عرض البحر؟
- طوال رحلة عمري في عرض البحر لم أشاهد شيئا من هذا الذي يقال له «دعيدع» أو غيره من الجن، كذلك لم أسمع أحدا من زملائي يدَّعي ذلك.
_______________________________________
عبدالله الحداد: حكايات الجن... خيالات المعاناة في عرض البحر
يقول الباحث الاجتماعي عبدالله الحداد عن تخيلات الجن في التراث البحري البحريني: «ان العقل الإنساني معرض دائم للحظات ضعف تجعله يقبل بهذه التخيلات، والمساءلة مرتبطة بقوة الإرادة والزمن المعاش، لكن هذه التخيلات من ناحية تراثية ما هي إلا خيال شعبي معبر عن المعاناة والصراع من أجل البقاء».
ويضيف «تميز دائما ركوب البحر أو صيد اللؤلؤ بالمغامرات، إذ كان من المألوف رجوع غواصي اللؤلؤ فاقدين أحيانا بعض أحبتهم، وكان الأهالي إذا رأوا عائلهم قد رجع سليما يشعرون أن ولادة جديدة كتبت له، لما للبحر من مخاطر جمة، فالسفينة في عرض البحر ما هي الا علبة كبريت في بحر هائج لا تقوى على المقاومة. وفي ذاكرة الشعب البحريني تحديدا على رغم أن المصاب كان خليجيا في (سنة الطبعة) التي راح ضحيتها الكثيرون من أبناء البحرين، لأنهم كانوا أكثر الغواصين ركوبا للبحر من أهل الخليج، إذ تجمعوا في أحد الأماكن البعيدة تهيؤا للرجوع فإذا بعاصفة شديدة تضرب سفنهم فتكسرها ويذهب ضحيتها الآلاف منهم».
ويقول عن ارتباط فكرة الجن بالعلم العربي خصوصا: «نقع هنا أيضا على ملمح آخر من ملامح تلك الأيام وهي مسألة حضور الجن، فالعقل العربي خصوصا مسكون بفكرة الجن باعتبار أن القرآن الكريم ذكر آيات عن هذا المفهوم، علما أن التفسير للآيات القرآنية يأخذ منحى آخر، فالجن في اللغة العربية مصدره «جنا» أي خفي، أي ما تستر فلم يكن بالإمكان معرفة قوته، لذلك يمكن أن تكون هناك قوة عصية على التفسير في وقت معين يعبر عنها بالجن، حتى إذا انكشفت لم تعد جنا، مثال على ذلك ظاهرة البرق الكهربائي، فقد كان الناس يعتقدونها حركة من الجن، حتى أصبحت بعد فترة من الزمن ظاهرة طبيعية، كذلك الحكاية التي ذكرها القرآن الكريم عن الجني الذي قال لنبي الله سليمان عليه السلام، متحدثا عن عرش بلقيس «أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك» (النمل: 40)، إذ يمكن قبول تفسيرها اليوم بشكل علمي، ولنأخذ مثلا وان كان من قبيل تقريب المعنى لا غير، أن زين الدين زيدان لاعب كرة القدم متى ما ركل الكرة في أحد الملاعب الإسبانية مسددا، تصرخ الكرة الأرضية كلها هدف هدف. والناس المصابون أيضا بأمراض نفسية عصبية كانوا مسكونين في تصور الناس بالجن، بينما وجد الطب النفسي الحديث تفسيرات لها فعالج المريض على أساسها فرجع معافى».
ويتابع القول: «ان هذه الأفكار مع الجهل العلمي وعدم القدرة على تفسيرها، جعلت الكثيرين ممن يتعرضون لها يتخيلون أن الظلام الدامس والخطر البحري الذي يشبهه أهل البحر أنه خطر غدار، والأصوات الغريبة التي تصدرها الأمواج والرياح، جنيا يتمثل أحيانا في صورة «دعيدع» الذي يظهر في غب البحر، أو أبو درياه الخاص بسيف عراد أو عبدالقادر الذي يتلبس الانسان»!
________________________________________
شرح لبعض الكلمات البحرية الشفهية
التفر: مؤخرة السفينة الشراعية.
دعيدع: اسم لجني تكرر كثيرا في تراث البحر في منطقة البحرين.
الشباص: مشبك يضعه الغواص على أنفه اتقاء لماء البحر.
حلا: طريقة متبعة لحفظ الأسماك بتمليحها وتعليقها في الهواء الطلق.
السن: حجر تعمل عمل المرساة في البحر لإيقاف السفينة عن السير، وهي حجر ضخمة مشبكة بسلسلة إلى ظهر السفينة.
السيب: هو البحار المسئول عن الإمساك بالحبل الذي يربط بالرجل اليمنى للغواص، والذي يقوم بسحب الغواص حال انتهائه من الغوص.