سناء بوختاش - الاستعارة والتّأويل والتّأويل المضاعف 1 من 2

يعَدُّ النّص الأدبي سواء كان شعراً أم نثراً فنًّا مُؤوِّلاً للعالم؛ أي إنّه نص يسعى إلى فهم العالم بوصفه خطاباً لا يتكوَّن من حروف، بل من أفعال تستهدف موضوعات معينة؛ تساير تقلّبات المجتمع في زهوه وانتكاسته، فكانت تجارب أنتجتها عقول الكتّاب المبدعين الذين يحاولون فهم العالم من خلال إرجاعه إلى نسق فكريّ ما مُستنِدٍ إلى سؤال ما، يبحث في الواقع المعيش.
وبالتّأويل يستطيع المبدع كسر أفق التّوقع ليخلق لنا تجربة إبداعيّة فريدة، والتّأويل لا يقوم على قصد النّص، أو قصد الكاتب، أو قصد القارئ، وإنّما يقوم عليها جميعاً، إضافة إلى علاقته بنمط مُعيَّن من الكتابة الإبداعيّة؛ والمقصود بذلك قراءة النّص الإبداعي وتأويله بوساطة النّص نفسه، أي، نصوص عبر التّاريخ، والنّصوص الثقافيّة المُؤسِّسة المُؤثِّرة في الفكر والمعرفة.
ولا يُمْكِن التّفكير في التّأويل في العمل الإبداعي من دون التنبّه إلى أنّ الكتابة تُشكِّل عالماً موسوعيّاً أيضاً؛ فهي تُعَدُّ بمثابة برنامج من التّعليمات والمعايير المُتّبعة، وليس هذا البرنامج مُجرّد آفاق جماليّة فحسب، بل يُعَدُّ تأويلاً مُعيَّناً للكتابة أيضاً، وتأويلاً للعالم من جهة ثانية، ويُعَدُّ خرق أفق الانتظار خرقاً لتأويل مُتوقَّع للعالم من قِبَل القارئ، لأنّ قراءة النّص قراءة تأويليّة تعني أن ندرك حضور الكاتب والقارئ معاً في النّص.
ولهذا فإن ما تظهره النّزعةُ التأويليّة هو صعوبةُ الإلمام بمعنى القراءة الواحدة، أو بالأحرى استحالة اختصار النّص إلى معنى واحد، لأنّ العلامة اللّغويّة مكانٌ يختلطُ فيه المعنى الحرفي والمعنى المجازي اختلاطاً يبلغُ من قوِّتهِ أنّه يصعب على القارئ حين يباشرُ نصّاً ما أن يعرف على وجه اليقين إن كان عليه أن ينشئ تأويله حسب بنيّة الجملة القواعديّة وما تفترضه أنظمة النّحو والصّرف، أو حسب بنيتها الخطابيّة وبنيتها البيانيّة، وهو ما يدرج ضمن شاعريّة اللّغة أو الاستعارة.
وعليه سنحاول في هذه الدّراسة أن نتحدّث عن الاستعارة والتّأويل، والتّأويل المضاعف من خلال كتاب “التّأويل بين السّيميائيّات والتفكيكيّة” لــــ: أمبرتو إيكو، الذي ترجمه سعيد بنكراد.
أولا: حول التأويل والاستعارة
اندرج تحت هذا العنوان ستة عناصر، كل عنصر مرتبط بالعنصر الذي يليه. وللتّوضيح أكثر سنأخذ كل عنصر على حدة.
1- التّوليد والتّأويل: يرى “أمبرتو إيكو” أنه من الصّعب جدّاً أن نخلق نظريّة توليديّة للاستعارة خارج حدود قواعد معروفة، لهذا نحن في حاجة إلى دراسة البنى التي نستند عليها في تأويل الاستعارات، وتحليل المراحل الخاصّة بالإجراء التّأويلي، فبقدر ما يكون الابتكار الاستعاري أصيلاً بقدر ما يؤدي إلى خَرْقِ العادات البلاغيّة السّابقة. وإذا ما أردنا أن نأتي باستعارة ما فعلينا أن نملك تصوراً لها لأول مرّة، أي المؤوِّل النّموذجي للاستعارة هو الذي ينطلق من الموقع الذي يسمعها فيها لأول مرّة.
وللتّوضيح أخذ “أمبرتو إيكو“ مثالاً بسيطاً هو “قدم الطّاولة“؛ هذه الجملة المتكوّنة من (القدم والطّاولة) تمثّل استعارة حيّة. فقولنا عنها إنّها استعارة حيّة يرجع إلى وضعنا هذا الدّال بالذّات “القدم” بدلاً من دال آخر، وليكن مثلاً الذّراع حيال هذا المدلول لأنّنا نتصوّره لأول مرّة. وعليه إذا ما أردنا التّعامل مع الملفوظ الاستعاري فلا بدّ أن ننطلق من المبدأ القائل بوجود درجة صفر للّغة يستند إليها كل تعبير، لكن ماذا نعني بدرجة الصفر للغة؟
2- درجة الصفر والمعنى الحرفي: يرتبط مصطلح درجة الصّفر في الغالب بالدّلالة المتداولة في السّياقات التّقنيّة والعلميّة، أي نعني به المعنى الحرفي وعلاقته بالسّياقات الممكن بناؤها اصطناعياً. ولتوضيح هذا المفهوم أخذ “أمبرتو إيكو“ مثال “عيون مضيئة“؛ فهي تحيل عند كهربائي أو مهندس معماري على الأجسام المضيئة كالمصباح، في حين ينطلق كل من “مونرو بيردسلي (M. BEARDSLEY) 1985، وموري هيس (M. HESSE) 1966، وسرنل ليفين (S. LEVINE) 1977، وجون سورل (J. SEARLE) 1980 وغيرهم، من فرضيّة أنّ المتلقي يؤّول ملفوظاً ما تأويلاً استعارياً عندما يدرك عبثيّة المعنى الحرفي، أما إذا كان المقصود منه المعنى الحرفي، كما يقول “أمبرتو إيكو“، فسنكون حينها أمام شذوذ دلالي مثل “أغميّ على الزّهرة“، أو حالة تناقض ذاتي مثل “الوحش الإنساني”، أو حالة خرق للمعيار التّداولي للنوعيّة، وحينها نكون أمام إثبات مزيف “هذا الرّجل حيوان”.
أمّا بالنّسبة لقبول المعنى الحرفي للتّعبير عن المعنى الاستعاري، فقد أخذ “أمبرتو إيكو” مثال قصيدة “بول فاليري”، المقبرة البحرية:
وذلك السطح اللازوردي الهادئCe toit tranquille, où marchent des colombes,
الذي تمشي فوقه الحمائم
يرتجف بين أشجار الصنوبر والقبور.Entre les pins palpite, entre les tombes,
البحر، البحر، هو البحر.la mer, la mer, toujours recommencée.
البيت الأول يحمل معنى حرفيّاً لأنّ السّطح تمشي فوقه الحمائم، أمّا البيت الثاني فيحمل معنى استعاريّاً، لأنّ حركة الحمائم فوق السّطح تعطي انطباعاً بأنّ السّطح يتحرّك، ولكن الملفوظ الاستعاري لم يأخذ معناه الصحيح إلاّ في البيت الرّابع عندما يؤكّد الشّاعر وجوده أمام البحر.
– لأنّ السّطح الهادئ هو البحر.
– أمّا الحمائم فهي الأشرعة والبواخر، وهنا تتجلّى الاستعارة الحيّة.
3- الاستعارة ظاهرة خاصّة بالمضمون والموسوعة: هذا يعني أنّ الاستعارة هي التي تربط علاقة تطابق معين بين مضامين التّعابير أي بين موضوعات العالم، ومثال على ذلك قول سيدنا سليمان في نشيد من الأناشيد في كتاب الانجيل:
“إنّ أسنانك شبيهة بقطيع غنم عائد من الحمّام“. في الوهلة الأولى لا نفهم شيئاً من هذا المثال، لكن فيما بعد، وإذا كنّا نمتلك الحس التّأويلي الاستعاري الذي يستند على المؤّولات، يمكن أن نربط هذا المثال بالمعنى الثاني أو المعنى الخفي الذي نستنبطه من خلال تأويلنا الأسنان الشّبيهة بقطيع غنم عائد من الحمّام بالبياض، أي شبّه بياض الأسنان ببياض النّعاج عندما تكون نظيفة، وهو ما يجعل هذه الاستعارة تستند في وجودها إلى المماثلة في الأثر المعنوي لا المحسوس، لأنّنا نلتمس الاستعارة في هذا المثال من خلال المعنى دون التّصريح به مباشرة، أي المضمون هو الذي أكدّ على وجود استعارة، فكأنّه يقول: رطوبة الأسنان وبياضها ولمعان لعابها تدخل في تفاعل مع رطوبة النّعاج الخارجة من الماء.
وللتّوضيح أكثر نأخذ البيت الأول من “الكوميديا الإلهية“ لـــ: دانتي:
“وسط درب حياتنا”: هذا البيت يمثّل استعارة لأنّ الحياة تتضمّن بعداً زمنيّاً، في حين أن الدّرب يتضمّن بعداً فضائيّاً. وهذا ما يحيل على أنّ كلاً من “درب وحياتنا” يحملان معنى السّيرورة، ويدلاّن على الانتقال من (أ) إلى (ب)، أي قولنا عن هذا البيت إنّه يحمل في مضامينه استعارة يرجع إلى التّحولات التي حدثت على الجملة من ناحيّة الخصائص ومن ناحيّة المقولات. فلفظة وسط لم تكن لتدلّ على استعارة لو نظرنا إلى درب في بعده الفضائي، لكن مجيء لفظة حياتنا بعدها مباشرة جعلها تتحوّل من البعد الفضائي إلى مقولة الزّمن، ومقولة الزّمن بدورها تحوّلت إلى فضاء خطيّ. وعليه، يمكن أن نمثّل لهذه الجملة على النّحو الآتي:
السّيرورة.
مجرى داخل الزّمن (حياة) حركة داخل الفضاء (درب)
نحن هنا أمام تحويل من فصيلة إلى فصيلة، وفي الآن ذاته نحن أمام تشبيه بين حياة ودرب، لأنّ كليهما سيرورة.
الاستعارة في هذا المثال، إذن، هي التي تؤّول باعتبارها حالة تناسب، شرحت من خلال حدود معجمية لها خصائص موسوعيّة مركّبة تتمثّل في أنّ السّفر مرتبط بالفضاء، والحياة مرتبطة بالزّمن. فكأنّه يقول إنّ الحياة شبيهة بالسّفر. ومن أجل الوصول إلى نتيجة تأويليّة يكفي تنشيط خاصيّة أو خاصيّتين حتّى تتحقّق الاستعارة. وعليه، فإن السّياق وتجلّي بعض الخصائص في النّص الاستعاري هما اللذان يفرضان علينا المعنى.



* سناء بوختاش (جامعة بسكرة / الجزائر)
* أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيّات والتفكيكية، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، ط 2، 2004.

أعلى