التراثية والحداثية تصنيف زمني غير منطقي وغير مُنصف للشِعر العربي، فالزمن متغير، ومعيار الحداثة والقِدم متغير أيضا، فالحديث سيصبح قديما، والقديم كان حديثا في عصره، وليس من المنطقي رفض النص الشعري أو قبوله نظرا لـقـِدمه أو نظرا لحداثته، ولا بد من اعتماد معايير أخرى، كأنْ يُنظر إليه مِن حيث مدى استجابته للشروط الأدبية الأساسية: كالسلامة اللغوية، والوزن والإيقاع الموسيقي، والعاطفة الجامحة، والانفعال الداخلي، أو ما يُسمّى بالتجربة الشعورية للشاعر، والمشاركة الوجدانية، والقدرة على التأثير في المُتلقي، ومخاطبة عقول الطبقة المثقفة من الناس، وإحداث خلخلة في المفاهيم والقيم السائدة في المجتمع، لأنّ الشعـر منذ القِدم صاحب رسالة وهدف، فمنذ العصر الجاهلي كان الشاعرُ ساعيا بشعره للدفاع عن قبيلته والذود عن حماها، كما كان مُعبّرا بحرارة وصدق عن خلجات قائليه، فالشعرُ بوصلتـُه القلبُ وأحاسيسُه، وهو الذي يهَبـُنا الإحساسَ بوجودنا، ويجعلنا نعيش الحياة مرة أخرى؛ لأنه كما يراه (هدسون) سجلّ حيّ للحياة. ويرى (تي. إس. إليوت) أنّ تحديد عظمة الأدب لا يمكن أنْ تتم بالمقاييس الأدبية وحدها، بل لا بدّ من تدخـّل التجارب والقيم التي يختزنها ويُعبـّر عنها. وإذا كان لا بد مِن تجنـّب المباشرة في الشِعـر فليكن بقدر معقول، ولا يصل حدّ الإغراق في الغموض؛ يقول الشاعر أكرم قنبس: النص المغلق هو نتاج نفسية مغلقة. ويرى الدكتور وليد قصّاب أنّ الغموض السلبي يقيم جدارا صفيقا بين الشعر وجمهوره، ويرى الشاعر بلند الحيدري أنّ الغموض المقيت يقطع الشعر عن جمهوره العربي. وإذا كان لا بدّ مِن شيء من الغموض فليكن بهدف تحدّي عقلية المتلقي واستثارتها، وألا يخلو النص من إشارات ومفاتيح تقود إلى المقصود وشوارد المعاني، يقول الدكتور إبراهيم الوحش: إنّ الانغلاق في القصيدة ليس عيبا شريطة أنْ تتوفرَ له المفاتيحُ التاريخية والدينية والأسطورية؛ فالشعر القديم تضمّنَ انغلاقـًا سُمِّيَ بالمعاظلة. فإنْ كان المتنبي يستمتع بانشغال الناس في تفسير ما يكتب لقوله: " أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الناس جرّاها ويختصموا " فإنّ شعرّه لم يكن مُغلقا ولا طلسما، فهو الذي يُمتـِّعنا حين يقول واصفا معركة (الحدث الحمراء):
بناهـــا فأعــلى والقــنا تقــــرع الـقــــنا ومَــــوج الـمـنـايــا حــولــها يـتــلاطــمُ
ويخاطب سيفَ الدولة فيها:
تــمــرُّ بــك الأبـطــال كلــمى هــزيـمـة ووجــــهـُـكَ وضـّـــاح وثــغـــرك بـاسمُ
ويصف جيش سيف الدولة:
خـمـيسٌ بـشرق الأرض والـغـرب زحفه وفــــي أذن الـجــوزاء مـنــــه زمـــازمُ.
فبلاغة الشاعر وروعة النظم تلِجُ بنا مباشرة إلى الحال الذي بُنيت فيه قلعة الحدث، وهو: (القنا تقرع القنا) و (موج المنايا حولها يتلاطم).ويُصوِّر لنا أبطال جيش العدو منهزمين مدحورين لا يلوون على شيء، في حين أنّ القائد العربي وضاح الوجه مبتسم الثغر. وجيشه عرمرم يملأ الأرض، تصدر عنه زمازم تقرّ في أذن برج الجوزاء، وهي جلبة ناجمة عن أصوات غير مفهومة على وجه التحديد؛ لأنها خليط من أصوات الجند وقعقعة السلاح ووقع حوافر الخيل. وهكذا فإن غرابة بعض الألفاظ في شعر المتنبي لا يلبث أنْ يفك (شيفرتها) السياقُ ليقودنا إلى استيعاب جماليات الصورة. وإذا كان الحداثيون يشغلون أنفسَهم كثيرا بظاهرة الانحراف الدلالي، وهي ظاهرة تقوم على خروج اللفظة عن معناها الحقيقي إلى معنى مجازي جديد، فإنّ هذه الظاهرة ليست غريبة عن أشعار القدماء، ألا يتضمن شعرُ المتنبي انحرافات دلالية؟! ألمْ تنحرف كلمتا (موج) و(يتلاطم) عن معناهما الحقيقي؟! فالموج أصْلا لماء البحر، و (التلاطم) لماء البحر أيضا، ولكنهما في أبيات المتنبي السالفة استعمِلتا مجازا للمنايا التي شبّهها الشاعر بالبحر، والقرينة التي تقودنا إلى ذلك قوله: (والقنا تقرع القنا)، فتقارُعُ القنا يعني تصادُم السلاح، وهذا يستلزم مزيدا من الموت الذي طغا موجه الطامي كطغيان موج البحر المتلاطم.وكذلك الحال مع الفرزدق الذي كان يُردّد: " لنا أنْ نقول ولكم أنْ تتأوّلوا "، ومع ذلك فشِعره ليس نـَفـَقا مُظلما ولا يُشكـِّلُ تيها مجهولا، فهو الذي يقول في مدح زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتـَه والبيتُ يعرفه والحلّ والحرَمُ
يُغضي حياءً ويُغضى من مهابتِهِ فـمــا يُـكلـّــمُ إلا حيـن يبتـَسِمُ
الله شرّفـَــهُ قِـــدمًــا وعـظـّـــمَـهُ جرى بذاكَ لهُ في لوحِهِ القـَلـَمُ
فعندما يتأمل القارئ جملة (والبيتُ يعرفه..الخ) يدرك أنّ كلمة (البيت) انحرفتْ عن دلالتها، فالبيتُ بناءٌ جمادٌ لا يعرفُ الناس، والشاعر إمّا أنّه شبّه (البيت) بالإنسان فحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو الفعل (يعرف) على سبيل الاستعارة، أو أنّه ذكر البيت وأراد زوّارَ البيت، وهو الأرجح على سبيل المجاز المرسل.
والحال ذاته مع أبي تمام الذي قيل له: " لماذا تقول مالا يُفهم "، فيجيب: " ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟! نعم هؤلاء هم أعلام الشعر العربي، ومع ذلك كان شِعرُهم مقروءًا ومفهومًا لدى طبقة المختصين بالأدب ولدى من يمتلكون أدوات التحليل والفهم، وهذا أمرٌ ملموس إلى حد كبير لدى كثير من روّاد الشعـر العربي المعاصر، من أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة ومحمود درويش، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، وأمل دنقل ومن ترسّمَ خطاهم.
إنّ كثيرا مِمّا يكتبه الحداثيون ليس إلا غمغمات وتهويمات نثرية منغلقة على نفسها، تخلو من الوزن والإيقاع والمشاركة الوجدانية، وتتخذ من الـرمزية قناعا لها تتستر وراءه، ومِن الأسطورة زخرفا ثقافيا تتزيّن به، وفوق ذلك يختلق هذا النفـرُ مِن الكـُتـّاب خصومة مع غيرهم مِمّن يكتبون الشعري العمودي، وينعون عليهم ما يكتبون من أوزان وقوافٍ، وما يفيضون به مِن خيال وصُوَر، وما يجيشون به مِن عواطف وأحاسيس، مُعتمدين ما يقوله النقاد الغربيون في هذا السياق، ومُردّدين أسماءَ بعضَ أؤلئك النقاد في كل مجلس؛ كشاهد على ثقافة التغريب التي يمتلكونها و لا يمتلكون سواها. فالشاعر العراقي شوقي عبد الأمير يرى أنّ قصيدة النثر صارت واقعاً أدبيا، تتعاطاه الغالبيّة العظمى من الشباب، ويتنبأ عبد الأمير بانقراض القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة قبل نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذه نماذج من قصيدة النثر التي يتوقع لها عبد الأمير أنْ تحلّ محل القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، تقول آمال رضوان: (عذارى الأشجان تولم محافل الحزن، تقضم تفاحة الفؤاد، يندس نبيذ حسنها في دم الموج، يثمل بحر القلب رهبة، وعلى أمواج سادرة تراقص مسوح الخيال، تستمطر عفوك الصخري). ويقول زياد العناني: (شمس حامضة وصباحْ، ما بال الكون بلا راو ٍ، ما بال الكون بلا مفتاحْ). ويقول حسين القباحي: (ثغاؤك الذي تقول موحش، وبعض ما احتسيت من وساوس يُعنكبُ الفؤاد، ويصهرُ انتصابَ ما تظنّ أنْ يظلّ واقفاً، يُذيب بقعة الجنون في دمائنا، وأنت سيدي تخاف من تعقــّل الزمن، فمَن ترى يبيعنا المساء، لو أنك انتبهت للذي يُدس في حوافر الكلام ما احتملت أنْ تعيش هكذا موزّعاً رغيفك النظيف في موائد النزق). ويقول سلمان الشعشاع: (تذبذبَ الأفق، وأسدلَ القلب ملاءة الشفق، بصرخة حالمة استنهضَ الهممَ العجاف، ظلّ يبدي انبهار الظلّ، شفق حُلمٌ ملحمة واحتمال بلا احتمال، تبدي المتناغماتُ استياءَها، نهرٌ على الجدران، وتسحقُ الكلمات المجففـّة ذاتـَها). ويقول آخر: (الوردة البنفسجية أكلتـْها القملة ُ القرمزية، والباص لم يأتِ بعد، وبائع السجائر باع ما لديه).وكم يكون مثيرا للدهشة ما يراه بعضُ هؤلاء مِن أنّ قصيدتـَه لا ينبغي لها أنْ تـُسْلـمَ نفسَها لقارئها إلا بشق الأنفس.! والأكثر غرابة واستهجانا أنهم يعيبون على المُتلقي غباوتـَه وجهله إذا لم يفلح في فك (الشيفرة) لتلك القصائد وإنْ كان مثقفا أو ناقدا أو أستاذا جامعيا، وليسَ بعيدًا عن هذا الطرح ما يراه الدكتور الوحش مِنْ أنّ الشاعرَ يكتبُ ما يريده هو لا ما يريده القارئ؛ لأنّ كثيرًا مِن القرّاء يميلون إلى السطحية. إنّ المتلقي يَنشـُدُ أنْ يجدَ في الشِعر ذاتـَه وهمومَه، ويبحث عمّا يُمتـِّعُه ويُفيده، وحتى يتسنـّى له ذلك لا بدّ له أنْ يتسلـّحَ بمعطيات الاستيعاب والتذوق. يقول أحد شعراء الحداثة: لو كنتُ أعلم أنّ قصيدتي سيستبيحُ القارئُ معانيها لمزقـتـُها..! تـُرى لمن يكتبُ هؤلاء إذن؟! أليسَ الشاعرُ والمتلقي في حاجةٍ كلاهما للآخر؟! ألا يُمثـِّلُ الشِعرُ نوعا من البَوْح مِن شاعر يحتاج مَن يشاركه تجربته الشعورية؟! وكم يكون مُتكلـَفا ما يراه آخرون مِن أنهم يريدون نصّا مُنغلقـًا شرسا يَعْـركـُهم ويعـركونه، ولا يريدون نصا طيّعا سهل المنال. تـُرى ماذا يَـرى هؤلاء في قراءة الشعـر؟! أهيَ سياحة ثقافية تفضي إلى مُتعة وارتياح، أم إنّها معـركة تـُستنزفُ فيها القوى والطاقات؟! لقد نسي هؤلاء أو تناسَوا أنّ الشعر حتى يكون مفيدا لا بدّ له أنْ يكون ممتعا.لقد اختلفت آراء النقاد والأدباء في أمر قصيدة النثر، فبينما يعتبرها الدكتورعزالدين المناصرة جنسا أدبيا مستقلا، وأنّها يمكن أن تتحوّل إلى ظاهرة فنية إذا تمكـّن كتـّابُها من امتلاك أدواتها السليمة معرفياً ورؤيوياً، لأنّ الشعر ليس طريقة خاصة في التعبير وحسب، وإنما هو طريقة خاصة في الرؤية كذلك، وإن التلاعب باللغة وحده لا يكفي لأن يدفع بها إلى مستوى الشعرية. يراها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي خارجة ً عن القواعد العامة لحركة الشعر ومتمردة عليها؛ بحجة عدم التزامها بأوزان الشعر المعروفة. وعلى الرغم من أنّ الشاعر موسى الحوامدة يكتب قصيدة النثر إلا أنه لا يعترض على رفض حجازي لها، بل إنه يرى أنّ عددا كبيراً ممن يكتبونها لا علاقة لهم بالوزن ولا بالموسيقى ولا بالعروض، وبعضهم لا يعرف معنى التفاعيل والأوزان ولا بحور الشعر، فكأنهم بذلك يكتبون خواطر أو قصصا قصيرة. وعلى النقيض ممّا يراه شوقي عبد الأمير من أنّ القصيدة العمودية في طريقها إلى الانقراض، فإنّ عبد القادر القط يرى أنّ الشعر الحديث عموما وقصيدة النثر على وجه الخصوص هي التي في طريقها إلى الانحسار والتراجع بسبب الفجوات التي تفصلها عن جمهورها، ولعلّ هذا هو ما رمى إليه الشاعر نزار قباني بقوله: إنّ أزمة شعراء الحداثة العرب ناجمة عن إضاعتهم لجمهورهم. وهو عينـُه ما قصدَه الدكتور وليد قصّاب بقوله: إنّ الحداثيين يدعون إلى تجريد الشعر من الغايات والمعايير التي تضبطه، فكان أنْ طغتْ إعلاميا موجتـُهم، واحتجبَ المجيدون من فرسان الشِعر الأصيل حتى وقـَرَ في أذهان البعض أنّ الشعرَ هو هذا الغثاءُ المستشري لاغير.!إ ن التطوّر سُنـّة الحياة، يُصيب كل مناحيها بما فيها الأدب، ولا يقول أحدٌ ببقاء المنهج الشعري العربي الذي ساد حياة العـرب منذ العصر الجاهلي على حاله، فقد طرأتْ عليه عبر العصور محاولات مِن التجديد في المقدمة الطللية، وفي تنوّع القوافي، وفي وحدة الموضوع، وفي التلاحم العضوي بين أجزاء النص، وتداخل أجزاء الصورة الشعرية. وأبدع َ الأندلسيون في شِعـر التوشيح، وتأنــّقَ المَهجريون في تنويع القوافي والصور، وأجادَ كثير من المعاصرين شِعرَ التفعيلة. ولكنّ ذلك ظلّ في إطار التجديد مع المحافظة على العلاقة بالتراث الذي يُعدّ الجذور الراسخة للشعـر العربي، ويمثـّل العلامة البارزة في حياة العـرب، ولكنّ ذلك لم يصل إلى حدّ التمرد، وقطع كل الصلات بالماضي الأدبي والتاريخي للأمة العربية
بناهـــا فأعــلى والقــنا تقــــرع الـقــــنا ومَــــوج الـمـنـايــا حــولــها يـتــلاطــمُ
ويخاطب سيفَ الدولة فيها:
تــمــرُّ بــك الأبـطــال كلــمى هــزيـمـة ووجــــهـُـكَ وضـّـــاح وثــغـــرك بـاسمُ
ويصف جيش سيف الدولة:
خـمـيسٌ بـشرق الأرض والـغـرب زحفه وفــــي أذن الـجــوزاء مـنــــه زمـــازمُ.
فبلاغة الشاعر وروعة النظم تلِجُ بنا مباشرة إلى الحال الذي بُنيت فيه قلعة الحدث، وهو: (القنا تقرع القنا) و (موج المنايا حولها يتلاطم).ويُصوِّر لنا أبطال جيش العدو منهزمين مدحورين لا يلوون على شيء، في حين أنّ القائد العربي وضاح الوجه مبتسم الثغر. وجيشه عرمرم يملأ الأرض، تصدر عنه زمازم تقرّ في أذن برج الجوزاء، وهي جلبة ناجمة عن أصوات غير مفهومة على وجه التحديد؛ لأنها خليط من أصوات الجند وقعقعة السلاح ووقع حوافر الخيل. وهكذا فإن غرابة بعض الألفاظ في شعر المتنبي لا يلبث أنْ يفك (شيفرتها) السياقُ ليقودنا إلى استيعاب جماليات الصورة. وإذا كان الحداثيون يشغلون أنفسَهم كثيرا بظاهرة الانحراف الدلالي، وهي ظاهرة تقوم على خروج اللفظة عن معناها الحقيقي إلى معنى مجازي جديد، فإنّ هذه الظاهرة ليست غريبة عن أشعار القدماء، ألا يتضمن شعرُ المتنبي انحرافات دلالية؟! ألمْ تنحرف كلمتا (موج) و(يتلاطم) عن معناهما الحقيقي؟! فالموج أصْلا لماء البحر، و (التلاطم) لماء البحر أيضا، ولكنهما في أبيات المتنبي السالفة استعمِلتا مجازا للمنايا التي شبّهها الشاعر بالبحر، والقرينة التي تقودنا إلى ذلك قوله: (والقنا تقرع القنا)، فتقارُعُ القنا يعني تصادُم السلاح، وهذا يستلزم مزيدا من الموت الذي طغا موجه الطامي كطغيان موج البحر المتلاطم.وكذلك الحال مع الفرزدق الذي كان يُردّد: " لنا أنْ نقول ولكم أنْ تتأوّلوا "، ومع ذلك فشِعره ليس نـَفـَقا مُظلما ولا يُشكـِّلُ تيها مجهولا، فهو الذي يقول في مدح زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتـَه والبيتُ يعرفه والحلّ والحرَمُ
يُغضي حياءً ويُغضى من مهابتِهِ فـمــا يُـكلـّــمُ إلا حيـن يبتـَسِمُ
الله شرّفـَــهُ قِـــدمًــا وعـظـّـــمَـهُ جرى بذاكَ لهُ في لوحِهِ القـَلـَمُ
فعندما يتأمل القارئ جملة (والبيتُ يعرفه..الخ) يدرك أنّ كلمة (البيت) انحرفتْ عن دلالتها، فالبيتُ بناءٌ جمادٌ لا يعرفُ الناس، والشاعر إمّا أنّه شبّه (البيت) بالإنسان فحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو الفعل (يعرف) على سبيل الاستعارة، أو أنّه ذكر البيت وأراد زوّارَ البيت، وهو الأرجح على سبيل المجاز المرسل.
والحال ذاته مع أبي تمام الذي قيل له: " لماذا تقول مالا يُفهم "، فيجيب: " ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟! نعم هؤلاء هم أعلام الشعر العربي، ومع ذلك كان شِعرُهم مقروءًا ومفهومًا لدى طبقة المختصين بالأدب ولدى من يمتلكون أدوات التحليل والفهم، وهذا أمرٌ ملموس إلى حد كبير لدى كثير من روّاد الشعـر العربي المعاصر، من أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة ومحمود درويش، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، وأمل دنقل ومن ترسّمَ خطاهم.
إنّ كثيرا مِمّا يكتبه الحداثيون ليس إلا غمغمات وتهويمات نثرية منغلقة على نفسها، تخلو من الوزن والإيقاع والمشاركة الوجدانية، وتتخذ من الـرمزية قناعا لها تتستر وراءه، ومِن الأسطورة زخرفا ثقافيا تتزيّن به، وفوق ذلك يختلق هذا النفـرُ مِن الكـُتـّاب خصومة مع غيرهم مِمّن يكتبون الشعري العمودي، وينعون عليهم ما يكتبون من أوزان وقوافٍ، وما يفيضون به مِن خيال وصُوَر، وما يجيشون به مِن عواطف وأحاسيس، مُعتمدين ما يقوله النقاد الغربيون في هذا السياق، ومُردّدين أسماءَ بعضَ أؤلئك النقاد في كل مجلس؛ كشاهد على ثقافة التغريب التي يمتلكونها و لا يمتلكون سواها. فالشاعر العراقي شوقي عبد الأمير يرى أنّ قصيدة النثر صارت واقعاً أدبيا، تتعاطاه الغالبيّة العظمى من الشباب، ويتنبأ عبد الأمير بانقراض القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة قبل نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذه نماذج من قصيدة النثر التي يتوقع لها عبد الأمير أنْ تحلّ محل القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، تقول آمال رضوان: (عذارى الأشجان تولم محافل الحزن، تقضم تفاحة الفؤاد، يندس نبيذ حسنها في دم الموج، يثمل بحر القلب رهبة، وعلى أمواج سادرة تراقص مسوح الخيال، تستمطر عفوك الصخري). ويقول زياد العناني: (شمس حامضة وصباحْ، ما بال الكون بلا راو ٍ، ما بال الكون بلا مفتاحْ). ويقول حسين القباحي: (ثغاؤك الذي تقول موحش، وبعض ما احتسيت من وساوس يُعنكبُ الفؤاد، ويصهرُ انتصابَ ما تظنّ أنْ يظلّ واقفاً، يُذيب بقعة الجنون في دمائنا، وأنت سيدي تخاف من تعقــّل الزمن، فمَن ترى يبيعنا المساء، لو أنك انتبهت للذي يُدس في حوافر الكلام ما احتملت أنْ تعيش هكذا موزّعاً رغيفك النظيف في موائد النزق). ويقول سلمان الشعشاع: (تذبذبَ الأفق، وأسدلَ القلب ملاءة الشفق، بصرخة حالمة استنهضَ الهممَ العجاف، ظلّ يبدي انبهار الظلّ، شفق حُلمٌ ملحمة واحتمال بلا احتمال، تبدي المتناغماتُ استياءَها، نهرٌ على الجدران، وتسحقُ الكلمات المجففـّة ذاتـَها). ويقول آخر: (الوردة البنفسجية أكلتـْها القملة ُ القرمزية، والباص لم يأتِ بعد، وبائع السجائر باع ما لديه).وكم يكون مثيرا للدهشة ما يراه بعضُ هؤلاء مِن أنّ قصيدتـَه لا ينبغي لها أنْ تـُسْلـمَ نفسَها لقارئها إلا بشق الأنفس.! والأكثر غرابة واستهجانا أنهم يعيبون على المُتلقي غباوتـَه وجهله إذا لم يفلح في فك (الشيفرة) لتلك القصائد وإنْ كان مثقفا أو ناقدا أو أستاذا جامعيا، وليسَ بعيدًا عن هذا الطرح ما يراه الدكتور الوحش مِنْ أنّ الشاعرَ يكتبُ ما يريده هو لا ما يريده القارئ؛ لأنّ كثيرًا مِن القرّاء يميلون إلى السطحية. إنّ المتلقي يَنشـُدُ أنْ يجدَ في الشِعر ذاتـَه وهمومَه، ويبحث عمّا يُمتـِّعُه ويُفيده، وحتى يتسنـّى له ذلك لا بدّ له أنْ يتسلـّحَ بمعطيات الاستيعاب والتذوق. يقول أحد شعراء الحداثة: لو كنتُ أعلم أنّ قصيدتي سيستبيحُ القارئُ معانيها لمزقـتـُها..! تـُرى لمن يكتبُ هؤلاء إذن؟! أليسَ الشاعرُ والمتلقي في حاجةٍ كلاهما للآخر؟! ألا يُمثـِّلُ الشِعرُ نوعا من البَوْح مِن شاعر يحتاج مَن يشاركه تجربته الشعورية؟! وكم يكون مُتكلـَفا ما يراه آخرون مِن أنهم يريدون نصّا مُنغلقـًا شرسا يَعْـركـُهم ويعـركونه، ولا يريدون نصا طيّعا سهل المنال. تـُرى ماذا يَـرى هؤلاء في قراءة الشعـر؟! أهيَ سياحة ثقافية تفضي إلى مُتعة وارتياح، أم إنّها معـركة تـُستنزفُ فيها القوى والطاقات؟! لقد نسي هؤلاء أو تناسَوا أنّ الشعر حتى يكون مفيدا لا بدّ له أنْ يكون ممتعا.لقد اختلفت آراء النقاد والأدباء في أمر قصيدة النثر، فبينما يعتبرها الدكتورعزالدين المناصرة جنسا أدبيا مستقلا، وأنّها يمكن أن تتحوّل إلى ظاهرة فنية إذا تمكـّن كتـّابُها من امتلاك أدواتها السليمة معرفياً ورؤيوياً، لأنّ الشعر ليس طريقة خاصة في التعبير وحسب، وإنما هو طريقة خاصة في الرؤية كذلك، وإن التلاعب باللغة وحده لا يكفي لأن يدفع بها إلى مستوى الشعرية. يراها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي خارجة ً عن القواعد العامة لحركة الشعر ومتمردة عليها؛ بحجة عدم التزامها بأوزان الشعر المعروفة. وعلى الرغم من أنّ الشاعر موسى الحوامدة يكتب قصيدة النثر إلا أنه لا يعترض على رفض حجازي لها، بل إنه يرى أنّ عددا كبيراً ممن يكتبونها لا علاقة لهم بالوزن ولا بالموسيقى ولا بالعروض، وبعضهم لا يعرف معنى التفاعيل والأوزان ولا بحور الشعر، فكأنهم بذلك يكتبون خواطر أو قصصا قصيرة. وعلى النقيض ممّا يراه شوقي عبد الأمير من أنّ القصيدة العمودية في طريقها إلى الانقراض، فإنّ عبد القادر القط يرى أنّ الشعر الحديث عموما وقصيدة النثر على وجه الخصوص هي التي في طريقها إلى الانحسار والتراجع بسبب الفجوات التي تفصلها عن جمهورها، ولعلّ هذا هو ما رمى إليه الشاعر نزار قباني بقوله: إنّ أزمة شعراء الحداثة العرب ناجمة عن إضاعتهم لجمهورهم. وهو عينـُه ما قصدَه الدكتور وليد قصّاب بقوله: إنّ الحداثيين يدعون إلى تجريد الشعر من الغايات والمعايير التي تضبطه، فكان أنْ طغتْ إعلاميا موجتـُهم، واحتجبَ المجيدون من فرسان الشِعر الأصيل حتى وقـَرَ في أذهان البعض أنّ الشعرَ هو هذا الغثاءُ المستشري لاغير.!إ ن التطوّر سُنـّة الحياة، يُصيب كل مناحيها بما فيها الأدب، ولا يقول أحدٌ ببقاء المنهج الشعري العربي الذي ساد حياة العـرب منذ العصر الجاهلي على حاله، فقد طرأتْ عليه عبر العصور محاولات مِن التجديد في المقدمة الطللية، وفي تنوّع القوافي، وفي وحدة الموضوع، وفي التلاحم العضوي بين أجزاء النص، وتداخل أجزاء الصورة الشعرية. وأبدع َ الأندلسيون في شِعـر التوشيح، وتأنــّقَ المَهجريون في تنويع القوافي والصور، وأجادَ كثير من المعاصرين شِعرَ التفعيلة. ولكنّ ذلك ظلّ في إطار التجديد مع المحافظة على العلاقة بالتراث الذي يُعدّ الجذور الراسخة للشعـر العربي، ويمثـّل العلامة البارزة في حياة العـرب، ولكنّ ذلك لم يصل إلى حدّ التمرد، وقطع كل الصلات بالماضي الأدبي والتاريخي للأمة العربية