محمد سيد مفتاح - مائدة الرب العظيمة..

اذا قدر لك زيارة مدينة ود مدني ، لا تكّن عجولاً في العودة ، تمهل قليلاً
وأنت تسلكُ طريق شارع النيل نحو الخروج عند جامع الحكومة إنحرف عن مسار سيل السيارات نحو اليمين قليلاً ، حينها ستسير علي الشريط الموازٍ للنيل العظيم ،
الآمر لا يتطلب سيارة خاصة لان الحافلات الهرمة ستقلك ببطٍ محبب ، يتيح لكَ أن تتجوّل بعينيك علي سوق " ام سويقو " العتيق ، معقل السمك ، اتركها وسر غرباً محازياً لشارع الاسفلت ..
أنت الأن في حي العشير القديم ، ستفقد طريق الاسفلت ، وتقطع مايقارب النصفُ ميل وسط شجر الطلح والمهوقني والنيم .. حيثُ بائعي الازيار المدهونة بالحيمور والتي تبدو للناظر وكأنها إهرامات صغيرة .
ترجل الأن من السيارة واطلق العنان لروحك حتماً ستجد ماتحتاجه من دهشة وانفعال وانت تصعد الي الاعلي ، تخطي بأنفك واقدامك رائحة الفضلات الادمية والحيوانية ستجدها بالطبع هنا ، لقله مرور الناس وكما يقال قديماً " أن اي مكان لا يراك فيه الناس فهو مرحاض طبيعي " ،
يبدو المكان موحش وفارغ كفم رجل عجوز ، لا مقاعد ولا ظل تحتمي خلفه ،
لا شيء سوي تلك الازيار التي تختبي تحت تلك النيران العظيمة .
اما هذا الرجل النصفُ عاري فهو العم دودو وتلك المرأة التي تتجوّل بجواره هي زوجته الجميلة ،
وقفنا امامه انا وصديقي والقينا السلام بينما اعيننا تتفحص ارجل الثيران المشوية ، ورؤوس الخراف اللامعة ، رد الينا السلام بطريقة عملية وقال لنا ؛ تفضلو
بينما انشغل بتقديم بعض الطلبات ، اخذتُ اتنزة حول تلك الازيار المدفونة تحت الارض بينما رؤوسها تنظر بعيون مزعورة ،
الازيار المرصوصة بعناية فائقة وحولها النيران ، التي تم ايقادها بالحطب السميك ، والفحم والعظام .
يبدو العم "دودو" في الخمسين من عمرة او يزيد قليلاً ، علي اي حال يتميز العم بموهبة فريدة من نوعها (امكانية طبخ كل شيء تأتي به اليه عدا الإنسان تقريباً ) ويفعل ذلك بطريقة مدهشة وسريعة كانما قد خلق لهذا العمل تحديداً .
بعد ان نلنا نصف انتباهه
قال له صديقي : " راس واربعة كرعين "
اما ما حدث بعد ذلك لن يخطر ببال شيطان رجيم ، او انسان وبسرعة وحرفية الموت امسك العم براس الخروف "غير المسلوخ" وقذف به الي داخل فوهة الزير واتبعه بالارجل ،
التمعت عيني وانا انظر لهذه الطريقة الغريبة في طهي الطعام ، وقبل ان افيق من دهشي قال لنا" عشرة دقايق وتعالو "
ذهب صديقي بعيداً ربما ليجد مكان نجلس عليه ، لكنني لم ابرح مكاني ، ظللت اتابع العم ، وأفكر في مصير تلك الرؤوس داخل تلك الازيار المغلقة باحكام ..في الغالب يعرف العم انها نضجت بطريقة سرية او ربما بالغريزة لا اعرف ، لكن اتذكر امي قد قالت لي قديماً رداً علي سؤالي كيف يعرفنّ النساء ان الطعام قد نضج واصبحَ جاهز فقالت ؛ ( الموضوع بسيط بنعرف الملاح نجض لما يصُر وشو ) قالتها هكذا وصدقتها لان النساء يعرفن كل شيء تقريباً ،
عدت بذهني الي العم الذي وضع السكين المشحوزة وامسك بقطعة قماش معده لذلك ومن ثم قام بفتح الفوهة واخرج منها راس الخروف الذي صار اسود تماماً ولكنه صنع مع الاسنان ابتسامة بيضاء لطيفة ،
وضع الراس في مكان خصص لذلك وعمل عليها بالسكين والفاس الصغير ، حملنا طعامنا وبدأت رحلة البحث عن مكان نجلس فيه ،
يمكن للانسان دوما تسخير الطبيعية بما يناسب اوضاع معينة في ظروف محددة
جلسنا علي الارض واستمتعنا بوجبتنا .. ومن ثم دلفنا الي داخل الراكوبة بحثاً عن الماء، وهنا وجدنا زوجة العم والمرأة الوحيدة في المكان كله وحولها المشروب الذي اعرفه صبت لنا المشروب في اكواب بلاستيكية متواضعة ابتلعناهُ بلذة ووضعنا النقود علي الطاولة وخرجنا ،
قلتُ لصديقي عندما نتوقف عن الاسئلة نموت ، رد ضاحكاً واجاب اعرف ما تقصد ؛ هذه الاغطية البلاستيكة تستخدم كتموية لرجال الشرطة وفي حملات المداهمة الدائمة مثلاً : الغطاء الاحمر يعني أن الحفرة تموية وهي فارغة من الخمر طبعاً ..
الغطاء الازرق يعني ان الحفرة ممتلئة" بالعرقي"
وهكذا وغيرها من الحيل التي تفتعلها صانعات الخمر عموماً للتخفي من مداهمة رجال الشرطة ..
خرجنا من المكان بينما أخرون يتوغلون الي الداخل تمنيت أن اكون واحد منهم .

محمد سيد مفتاح / السودان

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أماكن نسكنها.. وأمكنة تسكننا (شعرية المكان)
المشاهدات
886
آخر تحديث
أعلى