أكتبُ هذه التدوينة إلى كلّ الناس الذين لم تبدّلهم الحياة ولم تفرقهم الطرق ولم تغيّرهم الظروف. أجدد السلام عليهم وأحيّيهم كما حيّاهم جبران من قبلي.. أخصّ بالذكر قاهري الحياة، بهمومها وجروحها ومشاقِّها وقسوة لدغاتها، الذين تحدّوا التغيير ، الذي لم يرغبوا به وقاوموه كي يُحافظوا على أنفسهم، الذين لم يستسلموا للجروح ورفضوا الغرق في دمائها، الذين استطاعوا الخروج من الظلام إلى النّور بأقل الأضرار.. سلاماً عليكم!
من منّا لم تصفعه الحياة بأقسى التجارب؟ منذ بداية الحياة إلى نهايتها ونحن نتخبط بين حلقات مسلسل بعنوان مجهول؛ هذه الحياة التي لا تخلو من خيبات الأمل: فالأب يموت والزوج يخون والأخ يرحل والصديق يطعن والابن يمرض والجار يسرق والأم تصرخ من شدة الألم... لكن الحياة تستمر! تقصف ولا تنظر إلى ما خلّفت من ورائها. عندما تزول غيمة الظلام ونعتقد أننا تخطينا العاصفة، نكتشف أننا خرجنا بجروح مفتوحة، علاماتها مرسومة وعمقها مخيف.. لا تطيب ولا تلتئم مهما حاولنا معالجتها. تُرافقنا لعنةُ الأحداثِ من خلال تلك الجروح التي تشوه مظهرنا، مُصمَّمة على ألّا تتحوَّل إلى ذكريات، فنخرج مرغمين غير مخيّرين بنظرة تختلف عن نظرتنا للحياة من قبل.. ويبدأ الصراع!
نحن البشر أنواع، فهناك المُستسلم الذي يُسلّم نفسه لظروف الحياة على طبق من ذهب ويُعطيها الضوء الأخضر كي تُغيّر فيه كما تشاء وتنزع منه كلّ شيء كان يجعل منه نفسه؛ فتأخذ منه الثقة بالله وبالنفس وبالناس.. كي تزرع فيه اليأس والسواد وقلة الحيلة والتهرّب من تحمّل مسؤولية ما يعيشه، تُنسيه معنى الأمل والتفاؤل والطموح والاستمرار، تحجب عنه رؤية أي شيء جميل يستحق النهوض والمحاولة من جديد، وتقنعه أنه هو الضحية الوحيدة في هذا العالم. فيصبح سلبيّا في تفكيره ومتزعزعا في خطواته ومُتعصّباً في آرائه، لا يُجيد سوى إلقاء اللوم على كل ما يحيط به في كل شيء يُصيبه، ويُلغي وجوده وتحكّمه فيما يخصه ويسمح للظروف بالسيطرة على كل شيء كان له.
وهناك النوع المُحارب الذي يُواجه الظروف بآلامها، يُدرك بسرعة مدى عمق الطعنات التي خَلَّفتها تجاربه، ويتبع مسار الجرح إلى أن يعثر على منبعه فيحتضنه، يقف عنده مُطوّلا ويحاول فهمه. تتعالى الأصوات ويشتدّ النقاش بين الجُرح والمجروح ولا يظهر على الوجه سوى صدى ذاك الصراع الداخلي. غالبا ما يكون الحق مع الطرفين فيسهل التصالح بينهما ويضمدان بعضهما البعض بعناية من أجل غدٍ أفضلٍ. ولكن أحيانا ما يكون الجرح أعمق من أن يُناقش، والوجع أكبر من أن يُصغِي ويَتفهّم، فيصعب التضميد؛ مثل جرّاح طالت ساعات عمله في غرفة الجراحة من شدة غَضَب الجرح، ينزف بجنون ولا يؤثّر فيه دواء، فيأخذ الكثير من جهد الجرّاح ووقته إلى أن يهدأ ويستجيب للإبرة والخيط.
تُشكل المواجهة أصعب مرحلة من مراحل التعافي وأهمّها؛ ليس من السهل علينا الحفر في جروحنا والخربشة في ثغورها من أجل معالجتها كما يجب، لأن الجرح يحدث في لمح البصر ، ولكن التحامه يستغرق الكثير من الوقت ويُسبّب الكثير من الألم. لذلك يستلزم الوضع شجاعة كبيرة كي نستطيع إعادة المشاهد بعرض بطيء، والوقوف عند الأخطاء وفهمها والتصالح معها على أمل التعلّم منها لتفادي الوقوع في مثلها مُستقبلاً. ليس سليمًا أن يكون هدفنا هو نسيان تجاربنا، وإنما الأصح هو التعايش معها وتقبّلها مهما كانت مؤلمة، لأننا مهما خدعنا أنفسنا فإننا لا نقدر على نسيانها. فكلّما أعطينا جهداً لفهمها وتقبّلها، كلّما سهُل العيش من بعدها وتَحسَّن!
تأتينا دروس الحياة على شكل أحداث نعيشها أو أشخاص نرتبط بهم أو قصص نسمعها عن بعد أو نشاهدها عن قرب. ففي الحياة تجاربٌ وفي التجارب حياةٌ... جروحك ستترك أثرها في وجهك شئت أم أبيت ولكنّك تستطيع أن تتحكَّم في شكل الأثر وفي موقعه. تستطيع أن تجعل منه شامة بارزة لا يُهمّك أن يرى جمالها الناظرين ما دمت قادرا على رؤيته أنت، كما تستطيع أن تجعل منه ندبة قبيحة تفضح ماضيك ومخاوفك مهما أخفيت وجودها عن الناظرين.
مهما كانت تجارب الحياة قاسية تبنّاها وغيّر فيها كما تُحاول التغيير فيك. لا تُحاول إخفاءها واجعل منها دافعاً لتصبح أفضل. لا تنسى أن المقود بيدك أنت، أنت من يُقرر الوِجهة. إن لم تؤمن بأنك تملك هذه القوة، لن تنجح في التغلّب على جروح الحياة، لن تستطيع الحفاظ على نفسك بين الظروف والمطبّات، لن تعيش حياتك بطلاقة وعفوية. ستظلّ الندبات التي على وجهك عائقاً يحول دون رؤيتك لنفسك ولأشخاص تُحبهم ولهوايات تستمتع بها.. فلا تعطي الظروف أكثر ممّا تستحق، كن عادلاً مع نفسك ولا تكون حليفا مع الظروف عليها.
هدى بوحمام
من منّا لم تصفعه الحياة بأقسى التجارب؟ منذ بداية الحياة إلى نهايتها ونحن نتخبط بين حلقات مسلسل بعنوان مجهول؛ هذه الحياة التي لا تخلو من خيبات الأمل: فالأب يموت والزوج يخون والأخ يرحل والصديق يطعن والابن يمرض والجار يسرق والأم تصرخ من شدة الألم... لكن الحياة تستمر! تقصف ولا تنظر إلى ما خلّفت من ورائها. عندما تزول غيمة الظلام ونعتقد أننا تخطينا العاصفة، نكتشف أننا خرجنا بجروح مفتوحة، علاماتها مرسومة وعمقها مخيف.. لا تطيب ولا تلتئم مهما حاولنا معالجتها. تُرافقنا لعنةُ الأحداثِ من خلال تلك الجروح التي تشوه مظهرنا، مُصمَّمة على ألّا تتحوَّل إلى ذكريات، فنخرج مرغمين غير مخيّرين بنظرة تختلف عن نظرتنا للحياة من قبل.. ويبدأ الصراع!
نحن البشر أنواع، فهناك المُستسلم الذي يُسلّم نفسه لظروف الحياة على طبق من ذهب ويُعطيها الضوء الأخضر كي تُغيّر فيه كما تشاء وتنزع منه كلّ شيء كان يجعل منه نفسه؛ فتأخذ منه الثقة بالله وبالنفس وبالناس.. كي تزرع فيه اليأس والسواد وقلة الحيلة والتهرّب من تحمّل مسؤولية ما يعيشه، تُنسيه معنى الأمل والتفاؤل والطموح والاستمرار، تحجب عنه رؤية أي شيء جميل يستحق النهوض والمحاولة من جديد، وتقنعه أنه هو الضحية الوحيدة في هذا العالم. فيصبح سلبيّا في تفكيره ومتزعزعا في خطواته ومُتعصّباً في آرائه، لا يُجيد سوى إلقاء اللوم على كل ما يحيط به في كل شيء يُصيبه، ويُلغي وجوده وتحكّمه فيما يخصه ويسمح للظروف بالسيطرة على كل شيء كان له.
وهناك النوع المُحارب الذي يُواجه الظروف بآلامها، يُدرك بسرعة مدى عمق الطعنات التي خَلَّفتها تجاربه، ويتبع مسار الجرح إلى أن يعثر على منبعه فيحتضنه، يقف عنده مُطوّلا ويحاول فهمه. تتعالى الأصوات ويشتدّ النقاش بين الجُرح والمجروح ولا يظهر على الوجه سوى صدى ذاك الصراع الداخلي. غالبا ما يكون الحق مع الطرفين فيسهل التصالح بينهما ويضمدان بعضهما البعض بعناية من أجل غدٍ أفضلٍ. ولكن أحيانا ما يكون الجرح أعمق من أن يُناقش، والوجع أكبر من أن يُصغِي ويَتفهّم، فيصعب التضميد؛ مثل جرّاح طالت ساعات عمله في غرفة الجراحة من شدة غَضَب الجرح، ينزف بجنون ولا يؤثّر فيه دواء، فيأخذ الكثير من جهد الجرّاح ووقته إلى أن يهدأ ويستجيب للإبرة والخيط.
تُشكل المواجهة أصعب مرحلة من مراحل التعافي وأهمّها؛ ليس من السهل علينا الحفر في جروحنا والخربشة في ثغورها من أجل معالجتها كما يجب، لأن الجرح يحدث في لمح البصر ، ولكن التحامه يستغرق الكثير من الوقت ويُسبّب الكثير من الألم. لذلك يستلزم الوضع شجاعة كبيرة كي نستطيع إعادة المشاهد بعرض بطيء، والوقوف عند الأخطاء وفهمها والتصالح معها على أمل التعلّم منها لتفادي الوقوع في مثلها مُستقبلاً. ليس سليمًا أن يكون هدفنا هو نسيان تجاربنا، وإنما الأصح هو التعايش معها وتقبّلها مهما كانت مؤلمة، لأننا مهما خدعنا أنفسنا فإننا لا نقدر على نسيانها. فكلّما أعطينا جهداً لفهمها وتقبّلها، كلّما سهُل العيش من بعدها وتَحسَّن!
تأتينا دروس الحياة على شكل أحداث نعيشها أو أشخاص نرتبط بهم أو قصص نسمعها عن بعد أو نشاهدها عن قرب. ففي الحياة تجاربٌ وفي التجارب حياةٌ... جروحك ستترك أثرها في وجهك شئت أم أبيت ولكنّك تستطيع أن تتحكَّم في شكل الأثر وفي موقعه. تستطيع أن تجعل منه شامة بارزة لا يُهمّك أن يرى جمالها الناظرين ما دمت قادرا على رؤيته أنت، كما تستطيع أن تجعل منه ندبة قبيحة تفضح ماضيك ومخاوفك مهما أخفيت وجودها عن الناظرين.
مهما كانت تجارب الحياة قاسية تبنّاها وغيّر فيها كما تُحاول التغيير فيك. لا تُحاول إخفاءها واجعل منها دافعاً لتصبح أفضل. لا تنسى أن المقود بيدك أنت، أنت من يُقرر الوِجهة. إن لم تؤمن بأنك تملك هذه القوة، لن تنجح في التغلّب على جروح الحياة، لن تستطيع الحفاظ على نفسك بين الظروف والمطبّات، لن تعيش حياتك بطلاقة وعفوية. ستظلّ الندبات التي على وجهك عائقاً يحول دون رؤيتك لنفسك ولأشخاص تُحبهم ولهوايات تستمتع بها.. فلا تعطي الظروف أكثر ممّا تستحق، كن عادلاً مع نفسك ولا تكون حليفا مع الظروف عليها.
هدى بوحمام