محمد الزنتاني - الصــبي/ الـــوردة.. قصة قصيرة

تأمل الصبي المنظر أمامه..

الشجرة الملونة على شكل نصف كرة مقلوبة.

الحديقة الدائرية الصغيرة.

الرجل المسن.

الورود المتشابكة، المتعددة الألوان.

تأمل الصبي المنظر حوله. السيارات المختلفة الأشكال والأحجام، تدور حول الحديقة الدائرية الصغيرة، تغمز بأنوارها في انتظام عجيب. الرجل المسن، يدور حول نصف الكرة المقلوبة.

تراجع الصبي قليلاً. جاهد كي يتألف مع المشهد المثير.

تراجع إلى الجدار الفاصل بين الحديقة ورصيف الميناء الواسع العريض.

الجدار المزركش الفتحات. التي اتخذت أشكال القلل المتراصة إلى جانب بعضها في استعراض.

الجل المسن يدور، يدور، يرش الماء، يتأمل – للحظات – الجسد النحيل الملتصق بالجدار.

السيارات تدور، تدور بعصبية واضحة، الوقت يمضي بطيئاً مملاً، الرتابة تطغي على المكان.

اضطربت مشاعر الصبي، تذكر باقات الورد في التلفزيون، السيارات الفارهة. الأزرار الملونة، اللامعة.

الملابس العجيبة.

الرجال الذين يحملون كروشاً ثقيلة، مدلاة أمامهم.

الرجال الذين يسيرون بطريقة عجيبة.

الرجال غير متزني الخطوات.

الرجل المسن يدور، يرش الماء، يتحدث إلى نفسه، ونظراته لا تهمل الصبي الملتصق بالجدار، الصبي يغالب الموقف، مسترجعاً تجواله في الشوارع.

باقات الورود تدخل السيارات الفارهة.

باقات الورود لا تدخل السيارات القديمة.

الرجل المسن – هناك – يبصق.

انساب الظل قليلاً على الرصيف، استشعر الصبي بهجة غامرة، انتابه حبور ما قبل اللعب، استظل باللحظة المتوهجة الطاغية، عقد يديه على صدره، مغموراً بدفء لذيذ، يستشري في الأعماق، كأشعة الشمس

الخجولة، في الصباحات الشتوية الباردة.

باقات الورود تنام على الأدرع اللينة الطرية في استرخاء.

الرجل المسن يشعل سيجارة، السيدات الملفوفات بالفراء، يحتضن باقات الورود.

الورود تتكاثر على الأرصفة المصقولة.

الورود تتكاثر في الشوارع الواسعة المضاءة.

الورود لا تتكاثر في الشوارع المتربة.

الورود لا تتكاثر في الأزقة الضيقة، المظلمة.

الورود تنتشر على الأسوار العالية، للبيوت الكبيرة.

الورود لا تنتشر على البيوت القديمة.

الورود لا تنتشر على البيوت الصغيرة.

البيوت القديمة لا توجد حولها أسوار..

البيوت الصغيرة لا توجد حولها حدائق.

الرجل المسن يخرج الدخان من أنفه بقوة. الدخان ينتشر، سحابات باهتة تتصارع.

تكوينات غريبة تنتشر في الفضاء.

الرجل المسمن، يرمي السيجارة بعيداً، بحركة غريبة من أصابعه، أرتفع عقب السيجارة على شكل قوس، ثم سقط على الرصيف، الدخان يخبو، السحابات الباهتة تتلاشى، التكوينات الغريبة تختفي.

الرجل المسن يتأمل الفضاء.

الرجل المسن يتأمل الرصيف.

الورود ترمى على الرصيف.

الورود ترمى في كل مكان.

أمام مدخل الفنادق الكبيرة.

أمام المحلات الباهرة الألوان.

أمام الساحات النظيفة المبهرجة.

أمام القاعات الفسيحة، المزدانة بالصور.

باعة الورود لا يمنحونها لكل الناس.

الرجل المسن، يخرج آلة حادة من حقيبته الجلدية، يدور، يدور، يشذب الأوراق الخضراء، يتلمس الورود بيديه، يقطع الأغصان اليابسة، تصلبت يدا الصبي على صدره، تسربت البرودة إلى الأطراف، فقد الإحساسا بأصابعه، صرير الآلة الحادة يتناهى برتالة.

الرجل المسن يدور، يدور، يتحسس الورود.

السيارات تدور، تدور، تغمز بأنوارها.

تحرك الصبي في مكانه، فرك أصابعه بحثاً عن الدفء، استشعر بعض النشاط، تقد خطوات، تراجع، اتسع صدره، أجال النظر في كل الاتجاهات.

..تذكر جدته،

تذكر حكايتها.

.. طريق سارق التبن الذي فضحه الله وعلق أثره في السماء.

تنفس بعمق، كأنه يغرف الهواء من قعر بئر عميقة، تحفز، أخذ وضع الاندفاع، انطلق بقوة صوب الكرة المقلوبة.

توقفت السيارات عن الدوران.

توقف الرجل المسن عن الدوران.

توقفت الأنوار عن غمزاتها المضحكة.

اقتلع الصبي جذعاً كاملاً، مثقلاً بالورود، احتضنه بقوة، اندفع به إلى الجدار، مخلفاً أثراً ترابياً متموجاً على الرصيف.

.. تذكر جدته.

تذكر حياتها.

اندفع بتثاقل، نظر خلفه بخوف، تعثرت خطواته، واصل اندفاعه بثبات، انطلق الرجل المسن وراءه، عادت السيارات إلى الدوران، شرعت تغمز بأنوارها من جديد.

اندفع شرطي المرور، اندفع بعض المارة، انغرس الصبي في مكانه، التحم بالجدار، احتمى بالجذع، لاح للجميع، كوردة كبيرة على شكل نصف كرة مقلوبة.

من بين الرؤوس، الأذرع، الأرجل المتراصة، التي أحاطت به، كجدار صلد، لمح الصبي، الرجل ذو الكرش المدلاة، يقف هناك:

..بعيداً عن الجدار.

.. قريباً من المكان السابق لنصف الكرة المقلوبة.

من ثغرة – لاحت – في الجدار، اندفع الصبي نحوه بقوة، صرخ بصوت نزق. هازاً الجذع بعنف، ركض، ابتعد عن الجدار، ركض، اقترب من نصف الكرة المقلوبة.

ركض، في قفزات متعرجة، توقف، التقط أنفاسه، اندفع من جديد، في اتجاه مستقيم ثابت، حملق في الرجل ذي الكرش المدلاة، المنتصب أمامه، بوغت الأخير، حملق بذهول، باغته الصبي، رمى إليه الجذع المثقل بالورود، احتضنه الرجل بذهول وارتباك، تناثرت الورود، تناثر التراب، ارتفع الغبار، اختفت قامة الرجل.. غابت كرشه المدلاة.

انهار كل شيء.

انهار الجدار الصلد، تفتت إلى قطع، بعضها اتجه في فضول صوب نصف الكرة المقلوبة، البعض الأخر، تناثر في كل الاتجاهات. وذاب الصبي ف الزحام.


أعلى