عبد الجواد خفاجي - "لحس العتب" وسلطة العنوان.. دراسة تحليلية لرواية "لحس العتب" لخيرى شلبى

إن سلطة عنوان العمل الروائى عمومًا تنبع من مركزيته، بمعنى ارتباطه دلاليًّا بكافة جوانب الأبنية السردية ومستوياتها، وهذا من شأنه أن يعطى للعنوان قيمته الجوهرية، ويجعل منه عمدة فى عملية التلقى، كما يجعل منه بوابة لازمة للولوج إلى العالم السردى، وهو فى الغالب بوابة ضوئية مركزية، تنبثق منها خيوط كثيرة تمتد، لتضىء كافة ما يمكن أن يطأه ذهن المتلقى، ومن ثم ليس بمستغرب أن ترتكز مثل هذه الدراسة على العنوان بصفة رئيسة، وقد لاحظت أثناء قراءتى الأولية للرواية أن عنوانها يتمتع بحضور دائم أينما اتجهت، سواء بقدرته على إثارة الأسئلة، أو بتجسُّده الحى كفعل يرقى إلى مستوى الحدث الجوهرى غنى الدلالة، أو بتخفيه كمعنى تحتى لكل ما يتراكم على السطح.

والأمر على هذا النحو جعلنى أتوقف عند سلطة هذا العنوان وإمكانية استثمار سلطته لصالح هذه الدراسة التى تسعى إلى تحصيل الدلالة بصفة كلية.

"لحس العتب" مفردتان تحيلان اجتماعيًّا فى اجتماعهما إلى طقس عجائبى مفارق، فأولاهما مصدر للفعل " لَحَسَ " بمعنى لعق، واللعق يكون بالإصبع أو اللسان، وهى مفردة شائعة فى القاموس الشعبى المصرى بنفس دلالتها المعجمية هذه، وإن كانت تتسع عن ذلك لتشمل دلالات أخرى كثيرة.

"والعتب " جمع عتبة، وهى ما يوطأ عليه فى مداخل البيوت والأبنية، غير أن التركيب النحوى على هذه الشاكلة يعطى اللحس للعتب، ويعطى للعتب إمكانية اللحس، وهو استخدام مثير للتساؤل: لماذا يُلحَسُ العتبُ، وأى عتب يمكن أن يُلحَس، وكيف يكون اللحس مقبولاً للعتب.. وما دوافعه؟!.

أسئلة محيِّرة.. فالعملية يمكن أن تتم لو كان العتب مدهونًا بما هو مقبول طعمًا، وهذا مستبعد، ومن ثم فهى عملية مفارقة لإمكانية أن يكون ما تطأه الأقدام مدهونُا بغير القاذورات، والأوساخ والأتربة.

ومن هنا فكل ممكنات الإجابة تبدو مجافية للعقل، ومولدة للحيرة والدهشة، ومن هنا يمكننى التوقع أننى بصدد معاينة طقس روائى مجافٍ للعقل، ومثير للدهشة، بقدر إثارته للأسئلة. أيضًا يمكننى أن أتوقف مع هذا العنوان باعتباره مثيرًا لشهية القراءة، ولعل هذه هى الخصيصة الفنية الأولى لهذا العنوان المثير والمحفز، والذى يسلمنا لبراح سرد لا يقدم أية أجوبة عن أية أسئلة، وحتى قرب منتصف الرواية، وقد فاجأنا السارد بذلك الحدث العجيب البعيد فى طفولته، وقد استبد به وبأخيه الأصغر مرض عضال، فى وقت كان يستبد فيه الفقر بأسرته، حتى لأنها عجزت عن حملهما من قريتهما إلى البندر (مركز دسوق) لعرضهما على (ألبير فهمى) الطبيب أو ـ كما كان يسمى قديمًا "الحكيم" الذى يذهب إليه المرضى القادرون على دفع أجر كشفه عليهم، وشراء الدواء.

وقد عبر والد السارد (الحاج عبد الودود زعلوك) عن عجزه صراحة عن دفع تكاليف علاج ولديه، فى معرض حديثه مع نفر من أصحابه الذين يشاركونه السهر كل ليلة، كانوا قد أشاروا عليه بضرورة أن يذهب بالولدين إلى الطبيب.. قال الوالد: "يا أسيادنا هو الحكيم ده مش هياخد فلوس؟ ولا حيكشف عليهم لوجه الله؟ " صـ 16، وعلى الرغم من أن أربعة من الصحب كان بإمكان أى منهم إغاثة صديقهم وإقراضه مبلغًا يعالج به ولديه، إلا أن واحدًا منهم لم يفعلها، بل نصحه أحدهم ( عبدالفتاح الزيات ) بضرورة بيع الترابيزة العتيقة (المنضدة) وهى ترابيزة قديمة من مقتنيات والد السارد التى ورثها بدوره عن أبيه، وهى الوحيدة الباقية من ذلك الماضى البعيد الذى كانت فيه عائلة " الزعالكة " تعيش فى العز والثراء، لذلك هو يرفض فكرة بيعها، ومهما يكن الأمر.. فكل ما قدمه السارد منذ بداية الرواية عن هذه الترابيزة يبرر هذا الرفض ويؤكده، فالتربيزة التى يريدونه أن يبيعها ـ ورغم كونها تكوينًا خشبيًّا باليًا مهملاً فى أحد أركان الخزنة (الغرفة الخلفية للمندرة) ـ بدت كما لو كانت شخصية محورية من شخوص الرواية، ويمكن أن يثار حولها الحكى، وبإمكانها أن تتحكم فى مصير الشخوص الآخرين، ومن ثم تفرض أحداثًا ومواقف، ويدور حولها النقاش، وتتجه إليها الأنظار، وتتفتح باتجاهها شهية التملك، وهى رمز للعراقة والبغددة التى كانت.

لم يستجيب الأب لمقترح عبد الفتاح الزيات ببيع الترابيزة ذلك لأنه يعتقد أن عبدالفتاح الزيات وأمثاله طامعون فى تربيزتة هذه، ليكملوا بها وجاهتهم، ويسلبوه من ثم دلائل مجده التليد، فالترابيزة تمثل للأب قيمة معنوية عظمى لا تتساوى مع قيمتها المادية مطلقًا، فهى معلم تاريخى، وأثر حى من آثار الجد "زعلوك"صاحب الأطيان وتاجر الغلال الذى كان يعيش كالبرنس. ومهما يقال إن هذا العز والثراء قد انمحى إلا أن الترابيزة هذه شاهدة عليه، ولهذا يرفض والد السارد التفريط فيها بأى ثمن.

فى مثل هذه الظروف التى يمر بها السارد وأسرته مع الفقر والمرض والعجز عن الذهاب إلى حكيم البندر، وبعد ما فشل "حلاق الصحة " الذى يطبب المرضى فى القرية، وأمام سلبية أصحاب الوالد وجلسائة فى قعدة المساء، الذين بدوا طامعين فى الترابيزة أكثر من كونهم معنيين بصاحبهم وولديه، كان لابد أن يستمر الطفلان فى المرض.

وفيما بدا الأب مستسلمًا لفقره وسطوة وَهْمِه بأنه ابن عـزٍّ ومجد تليد، كان لابد أن تتصرف الأم، خاصة بعدما استفحل المرض، وساءت حالة ولديها، وانتفخت بطناهما، وصارا جِلْدًا على عظم.

وتصرفُ الأمِّ كان بدايةً فى حدود تنفيذ النصيحة التى تلقتها من الشيخ " على بقُّوش " الشهير " كعْبِلْهَا " وهو شيخ ضرير من جلساء الأب فى قعدة المساء، وكانت نصيحة الشيخ " كعبلها " هى لَحْسُ عتب أضرحة الأولياء، وقد نصح الشيخ كعبلها بهذا الأمر الذى رأى فيه شفاء الصبيين بناء على ما سمعه من واحد من الأعيان فى أحد النجوع، حيث مرض ابن له وفشل حكماء البندر فى تطبيبه، بيد أنه شفى بتقربه للأولياء، بعدما رأى الرجل فى منامه إلهامًا يوجه أنظاره إلى بيوت أولياء الله الصالحين. وعلى الرغم من أن رواية الشيخ " كعبلها "هذه ـ ولو صحت ـ لم تحدد الكيفية التى يتم بها استرضاء الأولياء، وطلب وساطتهم بين الله وعباده، إلا أن الشيخ كعبلها أفتى ـ من عندياته ـ بأن الأمر يمكن أن يتم بلحس عتب أضرحة الأولياء.

وبناء على ذلك قررت الأم أن تفعلها، فركبت الطفلين على حمار، وأردفتهما بأحد صبيان العائلة، وأردفت هى نفسها خلف صبيين آخرين على ظهر حمار آخر، ومضت ميممة وجهها صوب الأضرحة، ضريحًا ضريحًا، وعتبة عتبة فى مركز دسوق، والمراكز الأخرى المجاورة.. يفتح لها خادم الضريح الباب، تدلف إلى صندوق النذور، تفك عقدة فى نهاية ضفيرة شعرها.. تُخرج منها مليمين أو أكثر.. تضعهما فى صندوق النذور، ثم تطلب من الخادم حَلَّة ماء.. تغسل عتبة الضريح جيدًا بالماء، ثم تأمر الصبيين بلحسها.. هى عملية شاقة ومرهقة، ورغم تنفيذها بدقة وحرص، إلا أنها لم تؤتِ ثمرة مرجوَّة، ولم يُشفَ الصبيان، وظلا على مرضهما إلى أن راجعت الأم الشيخ " كعبلها " فى الأمر، فطلب منها أن تقص عليه تفاصيل ما كانت تفعله.. وبينما هى تحكى تفاصيل ما حدث اكتشف الشيخ كعبلها سر فشل المحاولة، وبادرها بالقول: " بس.. هى دى الغلطة.. إزاى تغسلى عتبة مطهَّرة؟!.. لازم تتلحس على وضعها!.. علشان الولى ما ينجرحش شعوره!! " صـ 41.

وهكذا كان على الأم أن تعيد الكرَّة مرة أخرى، وكان على الصبيين هذه المرة أن يلحسوا أعتاب الأضرحة بقاذوراتها، وترابها، حتى لا تنجرح مشاعر الأولياء!.. وهكذا وبعد أن أضحت أعتاب الأولياء نظيفة كالفل، يموت أحد الولدين، ويظل ( السارد ) الولد الآخر أكبرهما.. يظل حيًّا وإن لم يشف بعد.

وهكذا كان علينا فى معرض بحثنا عن الإجابات المرجأة للأسئلة التى تولدت حول غرابة العنوان، وغرابة الحدث الذى ينطوى عليه.. أقول كان علينا أن نتابع القراءة، وكان علينا أن نخوض غمار النص دونما كلل أو ملل، مشمولين برغبة الوصول إلى لذة الكشف، التى تقف دافعًا وراء كل فعل قرائى حرٍّ.
( 2 )

لا شك أن النص السردى ـ وقد خضنا غماره ـ يثير أسئلة أخرى حول فعل اللحس الذى بدأ به العنوان، وقد تكشفت دوافع اللحس، كما تكشفت مسبباته أمام عجز الأسرة عن أى اختيار آخر.

والأسئلة المثارة هذه المرة عن الاختيار الطوعى لفعل اللحس، رغم غرابته ومشقته، وعن المحفزات الميثولوجية التى توجه أفكار الشخوص، وتتحكم فى اختياراتهم، وعن المستوى الثقافى الذى مهد الأرضية لهذا الاختيار لعجيب.

والملاحظ أن الأمر كان يمكن ألا يتم لو توفرت بدائل طبية أخرى فى قرية السارد ـ كالمستشفيات مثلاً ـ وكان يمكن ألا يتم لو تنازل الأب عن وهمه الزائف، وكف عن التمسك بأهداب ماضيه وباع " الترابيزة " وعالج بثمنها ولديه عند طبيب البندر، وكان يمكن ألا يحدث لو خَلُصَت العقيدة الدينية من سطوة الدجل والخرافة عليها، وكان يمكن ألا يحدث لو كان للأم مستوى ثقافى يؤهلها لإعمال عقلها فى كلام الشيخ " كعبلها " ونصائحه، وكان يمكن ألا يحدث لو تطوع أحد الأصدقاء أو جلساء الأب فى قعدة المساء ـ ومعظمهم من أثرياء الحرب القادرين ـ بإقراض صديقهم ما يعالج به ولديه، ولكن لأن شيئًا من ذلك لم يحدث كان لابد أن يحدث اللحس.

ولعل الأسباب التى كان من الممكن أن تَحُولَ دون حدوث اللحس امتنعت امتناعًا يتعلق فى الغالب بالشخوص وظروفهم النفسية وتركيبتهم الاجتماعية والثقافية، وإن كان يتعلق أيضًا بأسباب مجتمعية وسياسية.

ولعل الوقوف على تلك الأسباب مجتمعة يستوجب الوقوف أولا عند السلطات التى تحكمت فى الشخوص، ومارست سطوتها عليهم، وفرضت فعل اللحس عليهم وسوغته.. ولعل أهمها:

1 ـ سلطة المرض:

وقد وضح أنه مرض معدٍ، انتقل من أحد الطفلين إلى الآخر، وأنه مرض عضال، استمر طويلا، وقد عجزت أمامه الحيل الطبية، والإمكانيات البدائية المتاحة، مثل حبوب " الكينين " الصغيرة الصفراء التى سلمها لهم حلاق الصحة، تلك الحبوب التى صبغت ـ كما يقول السارد ـ لون عينيه بالاصفرار، وهدلت كل أطرافه.. من الواضح أن بيئة الشخوص عمومًا بخلوها من الأطباء، ومن العلاج هى بيئة مناسبة لتفشى الأمراض التى يواجهها حلاق القرية وحده بوسائله البدائية وحبوب الكينين التى فيما بدا لا يملك غيرها.

2 ـ سلطة الفقر:

وقد وضح مدى العوز الشديد والفقر المدقع فى حياة الأسرة التى بدأت حياتها مع أب تنقصه ـ كما أوضح السارد ـ البراعة والحصافة، أو النصاحة، كما تنقصه الهمة والنشاط، فهو نموذج للأب الخمول العاطل، السلبى، بدأ يبيع أملاكه قطعة قطعة، لتدبير نفقات معيشته حتى أنه لم يجد ما يبيعه، وظل هكذا بلا عمل أو دخل، اللهم إلا ما ذكره السارد: " فنحن لم نره إلا وهو يأكل القديد والمش، فيحمد الله ويقبل يديه ظهرًا لبطن، ثم يبرم سيجارة كعود الكبريت، يعفرها فى استمتاع، ويقضى النهار والليل بالفانلة والسروال والصديرى، وفى آخر الليل يتمدد على الكنبة فى المندرة متوسدًا حشية من القش متغطيًا بحرام متهرئ، لا يشتغل سوى يومٍ واحد فى الأسبوع هو يوم سوق البلد، حيث يخطف رجله إلى السوق من صبيحة ربنا، ليحشر نفسه بين باعة الحبوب والبذور والمحاصيل، مختلقًا لنفسه سمسرة من البائع والمشترىعلى السواء بصنعة لطافة، ومعجزة لا يقدر عليها سواه " صـ7.

وغير ذلك كانت الأم ـ مثل بقية نساء الريف ـ تتكسب بعض قروش من بيع بيض دجاجاتها، وكثيرًا ما كانت تواجه رذالة زوجها الذى يلجأ إليها كلما ضاقت به السبل لاقتراض ثمن الدخان.. يقول السارد: " كثيرًا ما كان أبى يفاتحها فى اقتراض ثمن ورقة دخان لف... " صـ11.

هذه الأم المسكينة كان عليها أن تتصرف ـ أمام عجز الأب ماديًّا وأمام سلبيته وكسبه اللذين لا يسلمانه إلا إلى مزيد من العوز ـ فى مشكلة مرض ابنيها خاصة بعدما مات أصغرهما، وفشلت عملية لحس العتب فى جلب الشفاء، فباعت طست النحاس الذى يخصها، وحملت الصبى الذى لم يمت بعد إلى حكيم البندر ( ألبير فهمى ) فى مركز دسوق، ولكن ـ للأسف ـ لم يكن ثمن الطست يفى إلا لدفع أجر الطبيب، دون أن يتبقى شىء من ثمنه لشراء الدواء، وفشلت بالتالى غزوة الأم للبندر، وعادت ـ كما جاءت ـ خائبة الرجاء.

ومن الواضح أن سلطة الفقر لم تكن فقط دافعًا للحس العتب، بل هى قبل ذلك كانت سببًا فى سقوط الولدين فى براثن المرض، وماذا ينتظر أن يكون عليه حال أبناء أسرة تأكل القديد والمش، وتعيش فى مكان رطب ظليل سىء التهوية، وماذا ينتظر أن يكون عليه حال أبناء أسرة كثيرة العدد مع هذا الشح غير أن يصابوا بالأمراض؟ خاصة أن المكان الذى تعيش فيه الأسرة ـ ورغم أنه بيت الجد ـ أضحى ردىء التهوية، وقد تقاسمه الورثة، وأقاموا حواجز ومداخل، ومع كثرة العيال أضحى السارد وإخوته ينامون على الأرض فى المندرة ( المضيفة ).. يقول السارد: " هذه الظلال التى باتت تسكن المندرة منذ سنوات طويلة. منذ أن كفت مندرتنا عن استقبال الضيوف المهمين من الأغراب والتجار الكبار، فبقيت الشبابيك مغلقة على الدوام، إلا ضلفة من الشباك البحرى لكى يدخل الهواء الطيب لأبى.." صـ9.

وفى موضع آخر يقول: " وحينما زاد عدد أفراد عائلتنا واقتسموا الدار ضاقت بنا القاعات، وتزايد عدد إخوتى فصرنا ننام فى هذه الخزنة، نفترش حصيرًا تآكلت أطرافه وبقع كثيرة فى وسطه، فبرزت خيوط الدوبارة من كل ناحية، وصارت تشتبك فى أصابع أقدامنا، وتلف عليهما كلما تقلبنا أو تمددنا، وكانت نومتى تجىء دائمًا فى الطرف بجوار الترابيزة، فأظل طوال الليل منكمشًا خشية أن يزحف علىَّ مجهول قادم من تحت الترابيزة يقرصنى، أو يلحسنى، أو يأكلنى... " صـ 14.

هى ولا شك مشاهد تؤكد سلطتى الفقر والمرض معًا.

3 ـ سلطتى الجهل والثقافة السلفية:

سلطتان متعاضدتان متحكمتان فى واقع الشخوص، فعلى الرغم من أن مجلس الأب يضم أشخاصًا من أمثال الشيخ زيدان وهو من علماء الأزهر، ويقوم بمهمة القاضى فى البلد، وكان بمثابة القاموس السياسى والتاريخى والدينى فى مجلس الأب، وغير ذلك هو يحفظ ويستظهر كثيرًا من كتب التراث والسلف، وكثيرًا من المعلومات الشرعية والفقهية والتاريخية حتى لأنه بدا موسوعى الثقافة، بيد أنها ثقافة سلفية لا ترى الحاضر ولا تستبصره إلا بعين الماضى، حتى لأننا لاحظنا أن شخصية هذا الشيخ الضرير هى وعاء الثقافة فى تلك الحقبة، ولم تكن معبأة بغير هذه السلفية، حتى لأنه فيما يختص بعلاج الولدين كان يفتى فى مرضهما مقترحًا ألوانًا من العلاج، وهو يقرأ من ـ دماغه ـ نصوصُا من كتب الطب والحكمة من مأثورات أبى قرط وأبى بكر الرازى وابن سينا، بَيْدَ أن الأم ـ التى كانت غالبًا ما تسترق السمع وهى الجالسة خلف باب يفصل الخزنة عن باقى المندرة ـ لم تكن رغم إصغائها وفرط انتباهها تفهم شيئًا من أقوال الشيخ زيدان، فهى أمية فى الأساس.. هذه الأمية انجذبت لكلام شيخ ضرير آخر فى الجلسة هو الشيخ " كعبلها " الذى يختلف فى مستوى ثقافه السلفية عن الشيخ زيان.. وكان أن نصحها بلحس عتب الأولياء، وكان أن استجابت.

والذى نصح به الشيخ " كعبلها " لم يكن علمًا، ولا خاضعًا فيه لرأى فقهى، فهو لم يكن عالمًا، وإن كان ممن حفظوا القرآن فى الصغر.. يردده شفاهة دون علم حقيقى به، وغير ذلك ـ كما أخبر السارد ـ لم يكن حسن الصوت، لذلك كانت معظم قراءاته للقرآن تتم فى المقابر، حيث لا أحد يسمعه.. كان رأيه خضوعًا لسلطة أخرى روحية تعتمد على الخضوع للغيبيات، وسلطة الأولياء التى تجد مسوغات لها فى عالم الدراويش وفى المستويات الدنيا من الثقافة الشعبية، وإن كانت فى النهاية تمتاح من الاعتقاد الخاطئ، والفهم غير الحقيقى للدين ولمفهوم الولاية نفسه.. والشيخ " كعبلها " نفسه لم يقل أن ما قاله علم، بل قال إنه سمع هذا الذى نصح به من أحد الأعيان الذى رأى بدوره فى المنام أنه هكذا يفعل.. ولعل مفردة " الأعيان " وما تدل عليه من ثراء تؤكد مفهوم السلطة الروحية ونجاعتها فى استجلاب الشفاء، باعتبار أن الثرى يملك المال الكافى الذى يؤهله للكشف الطبى عند أكبر أطباء زمانه، وقد أكد الشيخ كعبلها ذلك عندما قال إن الثرى لم يجد طبًا ولا دواءً لعلاج ابنه المريض رغم بحثه الدءوب، وترددهى على أكبر الأطباء، إلى أن رأى فى المنام أن يتجه صوب الأولياء، فنفذ الرؤيا، وبرأ ولده من مرضه.

من الواضح أن ثمة سلطة للرؤيا أيضًا بغيبياتها، وغموضها، وإبهامها وخيالاتها.. لنقل إنها سلطة للا وعى على الوعى المعطل، أو ثمة سلطة لثقافة غيبية على عقل معطل. أو لنقل سلطة للمنام على اليقظة، هى نفسها سلطة الأولياء الموتى على البشر الأحياء.. هذه السلطة تعتبر مسوغًا من مسوغات الدجل والخرافة اللتين لا تزالان تزاحمان العقيدة الدينية، وتفسدان معنى التدين خاصة فى المجتمعات البدائية والمعزولة والمتخلفة على السواء.

4 ـ سلطة الثقافة القبَلَّية:

هذه السلطة تحكمت الأب، وصارت ديدنه وهاجسه الذى لا يفارقه، فهى التى جعلته يتمسك بعدم بيع الترابيزة، ومن ثم استمر المرض، وطالت المعاناة، وحدث ما هو مؤسف، فقد مات أحد ولديه بعد مذلة لحس العتب.

لا شك أن الترابيزة، واسم " زعلوك " الذى يردف اسم الأب " الحاج عبد الودود زعلوك " هما معًا وراء مأساة السارد وبقية الأسرة ولولاهما لعاشت الأسرة حياة اعتيادية.

هذه السلطة أيضًا تحكمت فى نظرة الأب إلى الحياة والآخرين من حولهم، فهو ينظر إلى أصحابه على أنهم حقراء استغلوا ظروف الحرب وباغتوا الناس بثرائهم المفاجئ.. ليس لديهم ماضٍ عائلىٌّ أو قبلى، ولذلك هم يحاولون سلبه ترابيزته / دليل مجده العائلى.

ولماذا نذهب بعيدًا والسارد منذ اللحظة الأولى فى السرد يؤكد أنه من عائلة تتمتع بدماء زكية تحرص على صونهم من الاختلاط بالآخرين ومن ثم فالبلدة أو الناحية التى يقطنون فيها تسمى باسم " الزعالكة ".. لا يسكنها أحد لا ينتهى اسمه " بزعلوك "، وكل شبان النواحى المجاورة يتمنون أن يتزوجوا من بنات الزعالكة، والبنات أيضًا يحلمن بالزواج من شباب الزعالكة، ولكن هيهات.

الأمر المؤكد لقبلية النظرة عند الأب أنه وعندما كان يمزح معه أصدقاؤه خلعوا عليه لقب رئيس وزراء مصر، وسألوه: " ماذا أنت فاعل بنا؟ " فأجابهم: "كنت ألمُّ الشعب كله فى ميدان عابدين ( ميدان القصر الملكى بالقاهرة )، وأهتف: تحيا الوزارة الزعلوكية.." صـ 33، وطالب أصحابه أن يرددوا وراءه: " تحيا الوزارة الزعلوكية " والغريب أنه طردهم من بيته وخاصمهم شهورًا عدة لمجرد أنهم امتنعوا عن الهتاف وراءه!!.

5 ـ السلطة الروحية:

وقد وضح أمامنا من خلال ما ذكره السارد أن أول شىء كانت الأم تفعله بعدما يفتح لها خادم الضريح الباب هو اتجاهها فورًا إلى صندوق النذور، لتضع فيه ـ وهى المعدمة ـ نذرًا ( فلوسًا ) للولى، وهى من المؤكد أنها لخادم الضريح الذى يتلصص بعينيه على الأم، وهى تفك عقدة فى عَصْبة رأسها، لتنتزع منها الفلوس.

لا شك أن ثمة سلطة روحية تُمارَس باسم الدين،هى امتداد للسلطة الكهنوتية من عصور الفراعنة، وعصور ما قبل الإسلام، تمارس لأغراض فى أعلاها سياسية،وفى أدناها بهدف التكسب الرخيص السهل، وهذه السلطة يُسَلِّم بها أشخاص من عينة الشيخ " كعبلها " ومن عينة الأم، حيث يجتمع فى شخصيتيهما السذاجة والجهل معًا، يعززهما وعدم الوعى بجوهر الدين الذى يرفض الخضوع والمذلة لغير الله، كما يرفض الوساطة بين الله والناس.

لا شك أن استعراضنا للسلطات التى تحكمت فى شخوص الرواية يقودنا إلى فهم هذه الشريحة من مجتمع هى تمثله طبقيًّا وثقافيًّا، وهى تضم الجاهل والمتعلم والمثقف، ومن هو ضحل الثقافة، وما بين بين، فيها التاجر والمعدم والعاطل، وفيها من له اهتمامات سياسية، ومن لا يعبأ بالسياسة، وهم جميعًا على اختلاف مستوياتهم خاضعون لهذه السلطات، ومن ثم فهم جميعًا من لُحَّاس العتب وإن اختلف الأولياء، واختلف العتب.

ولنا أن نتوقف عند هؤلاء الشخوص لنرَ إلى أى مدى تقترب هذه الشريحة من المعنى الحقيقى للوطنية، وهل هى راغبة فعلاً فى التغيير والثورة، أم لا؟.

1 ــ عبد الفتاح الزيات:

كان بقالاً صغيرًا من عائلة كثيرة العدد كلها من الفلاحين ذوى القراريط والفدان ونصف الفدان، ومنهم عدد كبير من الأجرية والأنفار، باع فدانه وافتتح بثمنه دكانا صـــ 18 يقرأ الجر نال بطلاقة لكنه يعجز عن الكتابة، والغريب أيضا أنه رغم انشغاله بالتجارة خطيب سياسى مفوَّه، وكان نواب الدائرة يسعون لكسبه وكان رئيسًا لجمعية تعاونية يجتمع أعضاؤها فى مندرته يستقبلون أفندية وعمالاً من كفر الدوار والمحلة ودسوق يخطبون ويتكلمون كلاما كبيرًا فى الوعى العمالى، وجهل الفلاح، وساعات العمل والاستعمار والصهيونية ًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً ًًًًًًًًًًًًًًًًًصـــ20.

عبد الفتاح بدأ حياته التجارية بجمع محصولات كثيرة استطاع تخزينها كى يبيعها للتجار جملة، فأدركته الحرب فارتفعت الأسعار خمسة أضعاف، فصار يبيع هذه المحاصيل بالقطاعى للآكلين بسعر السوق السوداء، ليصبح فى وقت وجيز من أغنياء الحرب صــ19.. ومن الواضح على هذا النحو أن اهتمامات عبد الفتاح الزيات بالسياسة لم تكن تتعدى الهواية المرتبطة بمصلحته كتاجر ارتباطا مباشرًا، وعلاقته بالنواب علاقة مصلحة متبادلة.. علاقة تحافظ على وضعيته كرئيس جمعية تعاونية، وتحفظ له وجاهته الاجتماعية، ومن الواضح أنه بصفته خطيبًا سياسيًا مفوَّها كان بالنسبة للنواب وغيرهم ـ من محترفى السياسة ـ مجرد بوق دعائى، ومندرته هى منبر يجتمعون فيه. ومن الواضح من خلال تركيز الحديث فى الاجتماعات على الوعى العمالى والفلاح أنه وطنى، بيد أنها وطنية مزيَّفة لا تتورع عن استغلال العمال والفلاحين، وهو لا يقل وطأة على هؤلاء من كافة المستغلين، ومن الواضح أن وطنيته المزيفة هذه إفراز لطبقته الاجتماعية كثرى حرب ومحدث نعمة وجد نفسه صاحب أموال وواجهة اجتماعية لامعة نسبيًّا.

ومثل هذه الطبقة غير راغبة حقيقية فى التغيير، بل أن بقاء الحالة على ما هى عليه فيه استمرار ومحافظة على وضعية هؤلاء وامتيازا تهم.

2ــ الحاج عبد الودود زعلوك (والد السارد):

من عائلة عريقة، أجهزت عليها الظروف، يعيش فى فقر مدقع، وهو من حاملى الشهادات الأزهرية العليا ( العالمية ) بدا ناقمًا على الأوضاع السياسية، وعلى الواقع الذى قلب الميزان الاجتماعى لغير صالحه، وهو ميَّال إلى الثورة والتغير على أمل أن تنصلح الحال، أو تنعدل لصالحه، بل هو من الحالمين بهذا، وكثيرًا ما كان يقول عندما يعرض عليه أصحابه بيع الترابيزة: " يا إخوانا هو معقول الحالة حتفضل كده؟ أكيد ربتا حيكرمنا ونفسنا تنفتح للأبَّهة ونبقى نعرضها فى المندرة " صــ 32 غير أنه كثيرًا ما كان يزاحم الشيخ زيدان فى الحديث السياسى ويجبره على الإنصات إذا ما كان الحديث حول أحمد عرابى وثورة 19، وسعد زغلول ورفاقه فهذه الأرضية من الحديث يخبرها جيدًا.

من الواضح أن شخصية الحاج عبد الودود زعلوك شخصية ناقمة أساساً على الأوضاع السياسية والاجتماعية لأنها أضيرت اجتماعيًّا بعد الحرب، وكما يقول السارد عن أبيه " كان إذا جاءت سيرة الحرب راح يصب جام غضبه على الحرب وسنينها السوداء، وكيف أنها قلبت الموازين، فجعلت عليها واطيها وجعلت النذل يتحكم فى ابن الأصول.." صــ 32 ومن ثم فهو يؤيد الثورة على الحكم والإنجليز ويطمح إلى تغيير وجه الحياة السياسية والاجتماعية وقد وضح ذلك من خلال تركيزه الحديث على أحمد عرابى وسعد زغلول وبصفتهما زعيمين وطنيين، بيد أن وطنية الحاج عبد الودود زعلوك أيضاً ليست وطنية حقيقية، بل إن ثورته وليدة حقد وغل اجتماعى، ويهمه التغيير الذى يرد له امتيازاته، ويخسف بالآخرين الأرض.

3 ـ محمد مصباح:

كان من المستغلين أيضًا لأبناء بلده، لا يعبأ بالسياسة، وإن كان محبًا للنكتة السياسية الهمجية، وهو من أثرياء الحرب، لديه رأس مال يحركه فى المجتمع بنظام الربا، غير أنه شهوانى محب للطعام واقتناء الأشياء، ومن الواضح أنه ضحل الثقافة، وإن كان يستطيع القراءة، فعندما كان يجلس بجوار الحاج زيدان الذى يقرأ الجرنال، ووقعت عينه على خبر اختفاء هتلر علق بالقول: " يعنى يا خويا الحاج محمد هتلر مش باين له حس ولا خبر، يكونش بيدبر فرتينة جديدة.. " صـ17.

من الواضح أن هذا الأسلوب لا يتأتى إلا من شخص ضحل الثقافة، لا يفرق بين العربى والأجنبى من زعماء العالم المشاهير.
لو سُئل محمد مصباح عن رأيه الحقيقى فى التغيير وأجاب بصراحة، فلا نعتقد أنه سيؤيد التغيير الذى يسلبه امتيازاته، كواحد ممن أثروا فى السوق السوداء التى نشأت بعد الحرب، وتحول على أثرها من شخص معدم إلى صاحب أموال يحركها فى وسط معوز دائمًا.

4 ـ محمود النجار:

تاجر أخشاب، ومن أثرياء الحرب أيضًا، بدأ حياته نجار سواقى بسيط، خَدَمته الظروف وأصبح من الأثرياء، وعندما حَوَّل ورشته إلى شادر يمتلئ بجميع أنواع الأخشاب وأدوات البناء التى جلبها من تاجر كبير فى دسوق، ولم يدفع سوى جزء يسير من ثمنها فقد كانت النـيَّة أن يقسط ثمنها على دفعات، ثم قامت الحرب بعدها فجأة، فأخفى ما لديه من بضائع، وصار يبيعها لمن يريد، وبأغلى سعر يحب أن يبيع به، بَـيْدَ أن محمود جميل أقرب إلى شخصية الفنان فهو محب للمكتشفات والمخترعات التى تتعلق بمهنته، استطاع اختراع أرجوحة الصناديق وماكينة للتذرية وغيرها من ابتكارات مفيدة كانت تدر عليه ربحَا، لكن المؤسف فى شخصيته أن زير نساء، تحال حوله حكايات لا تنتهى بهذا الشأن ومدمن أفيون إلى جانب ذلك. هو من خاصة والد السارد واقرب الأصحاب إلى قلبه لا لشىء إلا لأن والد السارد نظره ضعيف ومحمود جميل يستطيع القراءة على المصباح نمرة خمسة ( نوع قديم من مصابيح الكيروسين ضعيف الإضاءة، يفوقه إضاءة مصباح آخر نمرة عشرة )، ومن ثم فمحمود ا لجميل يأتى إلى بيت صاحبه قبل مجىء بقية الأصحاب، ويذهب بعد ذهابهم، ليتمكن هو ووالد السارد من قراءة بعض كتب الأدب الشعبى والروايات الشعبية التراثية.

ومن الواضح أن محمود الجميل إنسان يعيش لحظته، غير عابئ بالسياسة وليس لديه أدنى اهتمام بها، كما لا يعنيه من الدنيا غير اصطياد متعته والإغراق فى المخدرات، وفوق ذلك وعيه السياسى معدوم، وإن كان الثبات وعدم التغيير يخدمان مصالحه لأنه من أثرياء الحرب.

5- الشيخ زيدان زيدان:

وهو شيخ ضرير حاصل على شهادة العالمية من الأزهر، وهو قاضى البلد ومفتيها، يحكم فى مسائل الزواج والطلاق وغيريهما حتى لا يكلف الناس مشقة الذهاب إلى المحكمة فى البندر.. غارق فى كتب السلف والتراث، يحفظ كثيرًا منها عن ظهر قلب وهو قوى الذاكرة، وإن كانت لا تعنيه علوم العصر وثقافته، كان رأيه أن يعالج الولدان بالطب القديم حسبما جاء فى كتب الرازى وابن سينا وغيريهما.

والملاحظ أن الشيخ زيدان شخصية مغيبة بفعل الثقافة الماضاوية، ليس لديه وعى بالواقع ومتغيراته، ولا يعنيه التغيير إلا إذا كان سيجره إلى الخلف نحو السلف.

6 - الشيخ على بقوش (كعبلها):

وهو ضرير آخر من جلساء والد السارد وأعلام قعدته، من حفظة القرآن الكريم وإن لم يكن عالما به، هو فقط يتلوه من أجل التقوت، ولم يذكر السارد أنه من حملة الشهادات العلمية،وإنما ذكر أنه يقرأ القرآن فى البيوت والقرافات ويعود محملاً بالقُرَص والتمر والخروب والقروش.. من الواضح أن الشيخ كعبلها معدم، غير أنه مغيب أيضًا تحت غمار الخرافة التى تستولى على مخيلته، فهو الذى أفتى بضرورة لحس العتب، ثم لحسه بقاذوراته حتى لا تنجرح مشاعر الأولياء!، وإن كان لدى الشيخ كعبلها ثورية ما فهى لا تتعدى الرغبة فى نفض حرمانه المادى والطبقى، ولأنه يحتكم إلى الضمير لا العقل تأتى أحلامه فى هذا الصدد غير متسقة مع الواقع وقدرات الشخوص، هو يقول مثلا: " مصيبتنا يا إخوانا إننا لا ندقق فى اختيار من يحكمنا، يضربنا الحكام بالنعال صبح ومساء،فلا نفكر فى محاكمتهم أو حتى نعمل على إسقاطهم، فمن باب أولى يكون لنا رأى فى اختبارهم قبل اختيارهم.."صـ 35.. هكذا يحلم الشيخ كعبلها بالديمقراطية فى مستواها الأعلى، دون أن يتساءل متى حدثت هذه النوعية من الديمقراطية من قبل فى تاريخ مصر كله حتى يقال بإمكانية حدوثها أو تكرارها، وكيف نصل إليها ونحن لا نزال بعد نلحس العتب؟!.

إننا قد لاحظنا أنهم شخصيات ذات مستويات متباينة ثقافيًّا وأخلاقيًّا وطبقيًّا، وإن كانوا ينتمون لنسيج واحد هو القرية، الأمر الذى شكل مستويات متباينة من الوعى لدرجة أننا نحار: كيف يكون بين هذه الشريحة ـ المتنافرة فى الأساس ـ ترابط روحى ما؟.. وفيما أظن أنه ترابط واهٍ يتعرض لهزَّات حرجة، فقد أخبرنا السارد أن والده طرد هؤلاء جميعًا من منزله ذات ليلة، واتهمهم فى أخلاقهم عندما قال: " علىَّ الطلاق بالتلاتة إنتو بتكرهونى!.. يلا قوموا.. أنا ما أعاشرش ناس بتكرهنى، وتكره لى الخير ّ.. يلا تفضلوا مع السلامة!! " صـ 34 واستمر الخلاف بينهما لفترة ليست بالقصيرة.

الأمر الذى نؤكد معه أن مجتمع السارد كان شتاتًا بين مستويات متخالفة واهتمامات ثقافية وسياسية متنافرة، وأخلاقيات متعاكسة، ومن ثم كان الوعى متنافرًا ومتضاربًا، وكذلك الوطنيات.. بَيْد أننا قد لاحظنا أننا أمام نسيج ليس من بين عناصره وطنى واحد صادق، وليسوا جميعهم راغبين فى تحرير البلد من الإنجليز، أو التغيير أو الثورة على الملك وأعوانه من الإقطاع وأصحاب الامتيازات، بل على العكس من ذلك، منهم من يرغب فى الثبات ودوام الحال، أما من ظهر راغبًا فى التغيير منهم فقد كانت رغبته نابعة أساسًا من أمراضهم وأحقادهم النفسية على بقية الطبقات الأخرى.

وإلى هنا نكون قد وضعنا أيدينا على عينة أو شريحة من مجتمع السارد تمثل هذا المجتمع أصدق تمثيل لانتماءاتها إلى مستويات عدة، اجتماعيًّة وثقافية، وقد وضح أنها ليست معنية بالوطنية الحقيقية أو الصادقة، وليس لديها الوعى الكافى أو الثقافة المؤهِلة لاحتضان مثل هذه القيمة العليا التى تجعل الفرد منتميًّا لما هو أعلى من مصلحته الشخصية، ورغباته الحسية، ونزواته النزقة، وغير ذلك هى شريحة ترتع فى البدائية، تتحكم فيها سلطات قاهرة كثيرة سبق تفنيدها.
( 3 )

أما وقد لاحظنا أن ثمة سلطات متعددة قاهرة تحكمت فى الشخوص وفرضت عليهم أو سوَّغت لحسَ العتبِ كفعلٍ جو هرى وأساسى فى عملية السرد، وكفعل غرائبى مفارق فى ذات الوقت، فإن الذى نود تأكيده بجانب هذا أن ثمة سلطة أخرى كانت تعتمل فى المجتمع المصرى كله تضاف إلى السلطات السابقة ألا وهى السلطة السياسية الحاكمة، وإن شئنا المتحكمة التى تستقوى على الشعب بالإنجليز ــ كما ذكر السارد على لسان بعض الشخوص فى ثنايا حوارا تهم.

وإذا كانت كل هذه السلطات تحكمت فى الشعب المصرى، أو فى القطاعات العريضة الشعبية على ما بها من ضعف وتخلف وبدائية، وهى الواقعة عند مستوى الضمير والغريزة، ولم ترقَ بعد إلى مستوى العقل. فأية ثورية أوطنية يمكن أن تراهن على هذا الشعب؟!.

الملاحظ ــ من خلال ما تبدى فى السرد ــــ أن هذه السلطات مجتمعة هى ما تحكمت فى المجتمع المصرى بأكمله فى فترة الأربعينيات من القرن المنصرم، وهى الفترة التى تدور فيها أحداث الرواية، ولو صَحَ هذا الافتراض لأمكننا استنتاج أنها كانت فترة لحس العتب.

ولعل هذا التأسيس هو ما يجعل لهذه الرواية قيمة ما , لا لشىء إلا لأن هذا التأسيس سيعطى لأحداث الرواية صفة الحضور الحى , كما لو كانت حركة فى التاريخ يمكنها أن تقدم ضمنيًّا شهادتها على تلك الفترة.

فلم يكن ما تم من لحس عتب أضرحة الأولياء على ما به من مذلة ومعاناة وتسليم أعمى , لم يكن سوى مؤشر دال على ما يتم من لحس عتب على المستوى القومى، ولعل هذا المنعطف الأخير هو ما يسعى السارد للوصول بنا إليه بشكل ضمنى، وإن كان قد صرح به على لسان أبرز شخوص الرواية، وأكثرهم وعيًا بالحياة السياسية فى مصر، وهو عبد الفتاح الزيات حينما قال: " والحالة كما ترى!.. العالم يأكل فى بعضه ومصر غارقة فى الوحل، والعبودية، والجهل، والفقر، والمرض، والمتكئون فيها طائفة من أصحاب الأطيان، والأرصدة يستقوون علينا بالإنجليز فى مقابل أن يكونوا خدامًا وعونًا لهم علينا بالحماية الأجنبية!.. "صـ 33. وفى إشارة إلى الحياة السياسية فى مصر أخبر السارد عن والده بالقول: " ثم يعرج على الوزارة وخيبتها وحزب الوفد وتقاعسه، ورائحة المماينة البادية فى سلوكه واستجابته لغزل الاستعمار، ويشير إلى أننا لو بقينا على هذه الحال سنة أخرى فلابد أن تأكل الناس بعضها، ولابد للمركوب أن يقلب راكبه على الأرض، أو تتهاوى به قواه.." صـ 32.

إن حديث الشخوص على هذه الشاكلة وهم من عامة الشعب يمكن أن نستشف منه أمور كثيرة، أهمها أن السلطات التى تم رصدها فى مجتمع الشخوص ( القرية ) هى نفسها تلك التى تعتمل فى المجتمع المصرى برمته مضافًا إليها السلطة السياسية العميلة وسلطة الملكية، والاحتلال الانجليزى وأعوانه من الإقطاع وأصحاب رؤوس الأموال، ومن ثم فليس من المستغرب أن تكون محصلة هذه السلطات مجتمعة لحس عتب يتم على مستوى الوطن برمته.

كل يلحس عتب أوليائه، الملك والحكومة والإقطاع يلحسون عتب الإنجليز، وثمة متغيرات اجتماعية فرضنها الحرب أدت إلى خلخلة طبقية فى المجتمع المصرى، فظهرت فئة جديدة من أثرياء الحرب والانتهازيين، أثروا على حساب الشعب من أمثال عبد الفتاح الزيات، كانوا يلحسون عتب " القرش " ونواب البرلمان من أجل تحقيق مكاسب مادية واجتماعية، وثمة فئة كانت ذات يسار وعز خسفت بها الظروف فزلت وأضحت تلحس عتب أجدادها ووهمها الذى يوفر لها إحساسًا كاذبًا بأنها لا تزال قيمة اجتماعية، من أمثال والد السارد، وثمة من خاصموا العصر الردىء بعقولهم وعاشوا يجترون وهم أمجاد الأمة السالفة، ومن ثم أغلقوا عقولهم باتجاه الحاضر تمامًا، وثمة فئة من بؤساء الشعب أسلموا قيادهم لسلطة أولياء الله الصالحين والمزعومين على السواء، والذين بإمكانهم خلاص الأمة لو أحسنا لَحْسَ أعتابهم. والمحصلة النهائية قد تصل بنا إلى صورة المجتمع المريض الذى استبدت به مجموعة من السلطات القاهرة، وعلى نحو ما كان مرض الصبيين فى الجوف أو البطن، كان مرض المجتمع بأسره فى العمق، وعلى نحو ما كان الجميع يتوهمون خلاصهم فى لحس العتب، ومن هنا يأخذ العنوان دلالته الرمزية، ومن هنا أيضا يستمد العنوان قيمته الفنية والجمالية.

ولنا أن نبدأ فى تفنيد ما ذهبنا إليه فى هذه الجزئية بتحديد ملامح الفترة الزمنية التى تدور فيها الأحداث (الزمن الطبيعى )، وهى فترة غير محددة فى الرواية تحديدًا كميًّا صريحًا، وإنما قد أشار إليها السارد بما يميزها من أحداث، وبما يمكننا من خلاله أن نستنتج المدى الزمنى لها.

فالسارد أنهى سرده بقيام ثروة يوليو 1956م عندما قال فى نهاية الرواية: "وأصطلح أبى مع أصحابه، فاستأنفوا السهر فى مندرتنا حيث يتكلمون فى الثورة التى قامت فجأة وعن الملك فاروق الذى أزيح عن عرشه، وعن محمد نجيب الذى أعلن الجمهورية وترأسها، وحين كانت الذكريات ترجعهم إلى الترابيزة الشهيرة كان أبى يبتسم قائلا: الملك فاروق نفسه أنزاح عن عرشه.. سبحان من له الدوام.." صــ66 إذن الفترة التى تدور فيها الأحداث هى ما قبل ثورة يوليو 1965 وحيث أن أشار إلى أنه وقت أن كان فى الصف الثانى الابتدائى وقع مريضًا، وظل قابعًا على كنبة فى المندرة، وكان أن تصادف أن شارك فى الحديث عن انتحار هتلر.إذن كانت الحرب العالمية تضع أوزارها وقت أن كان السارد فى الصف الثانى الابتدائى أى كان عمره ثمانى سنوات، ومن المعلوم أن انتحار هتلر كان فى العام الذى انتهت فيه الحرب العالمية الثانية أى عام 1945م، وبحسبة بسيطة يمكننا أن ندرك أن الزمن الطبيعى للأحداث التى رصدتها الرواية يمتد ما بين عامى1945 و1956 أى منذ منتصف الأربعينيات وحتى قيام الثورة مسافة تقرب من أحد عشر عامًا أو تزيد، حيث أن السارد تناول أحداثـًا قبل هذه الفترة وقت أن كان والده يبيع أملاكه قطعة قطعة، وهو يودع الثراء والعز يومًا بعد يوم إلى أن شاهده وهو يأكل المش والقديد، ويقبل يده ظهرًا لبطن.. صـ 7.

يمكننا أن نقول إن الزمن الطبيعى للأحداث يصل إلى ربع قرن قبل قيام ثورة يوليو 52.. وهى فترة مميزة فى التاريخ المصرى، كانت كالبرزخ التاريخى بين عهدى الملكية والجمهورية التى نشأت بعد قيام الثورة.
(4 )

يهمنا أن نتعرض للوسط الذى تم فيه اللحس، أو بالمعنى: صورة المجتمع الذى يضم هذه الفئات الشعبية، وقد وضح أنه مجتمع قروى تابع لمركز دسوق، وهو بالتأكيد صورة من مجتمعات قروية مصرية أخرى إن لم يكن ـــ رغم تخلفه وبدائيته ــ متميزًا عنها، فقد وضح أن ثمة مدرسة لتلقى العلم، ذهب إليها السارد وأمضى بها عامين قبل أن يسقط مريضًا. وعلى ما قد لاحظنا أن الشخوص جميعًا يقرأ ون، وبعضهم حاصل على شهادة العالمية وهى أعلى شهادة أزهرية فى ذلك الوقت. أستطيع أن أحدد أن قرية السارد أكثر حظًا من كثير من قرى مصر فى الأربعينيات. ومع هذا فهى ترتع فى التخلف والبدائية وقد تحكمت فيها كافة السلطات القاهرة التى تكبل المجتمع وتسمه بالذل والعبودية، وما لحس العتب إلا دليل مذله وعبودية وبدائية أيضا عندما يخضع المجتمع للجهل والخرافة وغياب الوعى والفقر والأمراض البدنية، والنفسية، والاجتماعية، والقهر السياسى والسلطوى.. لاشك أنه مجتمع ذليل يحق له أن يثور، وأن يغيِّر، وأن يعلن عصيانه لكل القوى التى تستعبده.. ترى هل حدث هذا؟.. ترى هل هو مجتمع مؤهل لأن يصنع ثورته، وهو الذى يستمرئ لحس العتب، حتى لأن هذا اللحس يُمارس بقبول وتسليم باعتباره شفاءً، أو وسيلة للشفاء!.

ولنا أن نتوقف عند مجتمع السارد كما تبدى فى المنظور السردى، فهو مجتمع ـ كما أخبر السارد ـ التبادل السلعى فيه هو الشائع أكثر من استخدام النقود التى يفتقدها معظم الناس.. يقول السارد: " الناس فى بلدتنا معظمهم لا يملك النقود معظم أيام السنة، ولذا فإنهم يشترون حاجاتهم بالأشياء، أو على ذمة محاصيل قادمة، فأنت تدخل الدكان وتشترى باكو دخان أو ربع شاى بأربع أو خمس بيضات.... الخ " صـ 18. وكوب الماء الكبير الذى يوضع فوق الزير هو المعيار السائد للمكاييل، والباعة الجائلون يبيعون أشياءهم بأشياء أخرى مثل الأرز والفول والقمح وما إلى ذلك من محصولات زراعية.

من الواضح أنه مجتمع زراعى بائس يسيطر عليه اقتصاديا مجموعة مستغلة من أثرياء الحرب، ومن الواضح أنه يسيِّر أموره بعيدًا عن أى تواجد حكومى رسمى، فكل الأمور يتم تسييرها فيما بين الناس بعيدًا عن الهيئات أو المؤسسات الحكومية الغائبة، فالنظام القضائى فى البلد يتولاه الشيخ زيدان عالم الأزهر الذى يحكم فى المسائل الشرعية وفق ما يعرفه من أحكام فقهية، وحين ينطق بالحكم الصحيح المناسب ـ كما يقول السارد ـ فلا يجرؤ أحد على معارضته، ولا يستطيع أحد التشكيك فى ذمته، هكذا الشيخ زيدان لوحده هو هيئة قضائية تستمد من شرع الله قداستها، وحكمه دائما صحيح مناسب، والناس يسلمون بأحكامه دون نقاش أو معارضه.. الرجل يستمد قداسته من قداسة المنهج الذى يطبقه فى أحكامه.

أما النظام الطبى فيتولاه حلاق القرية الذى بدأ بمعالجة الولدين مقدِّمًا ما لديه من خبرة فاشلة.

الأطباء نادرون، وهم فقط فى البندر ( مركز دسوق ) ويتردد عليهم القادرون فقط أو المقتدرون ماديًا، أما المعدمين فيمكن أن تتعرف ضاربة الودع (العَـرَّافة) على أمراضهم وتشخصها، وتصف الدواء لهم، مثلما حدث مع السارد بعدما فشلت الحيل الأخرى!.

المدرسة الوحيدة فى القرية لا تستقبل غير الأصحاء من الطلاب، فالذى يمرض ويتغـيـَّب يحتل تلميذ آخر مقعده.. من الواضح أن ثمة عجز حاد فى عدد المقاعد، حتى لأن السارد عندما تغيب بسبب المرض وأخذته أخته إلى المدرسة ذات يوم ردَّه الناظر إلى البيت، وأخبرها بأن مقعده الآن يجلس عليه تلميذ آخر.

هو مجتمع محافظ كذلك باتجاه المرأة، والمرأة فيه جارية مقموعة مطمورة مغيبة عن المشاركة الفاعلة فى الحياة أو التعليم، فأخت السارد كانت تذهب به إلى المدرسة، وهى الكبرى، ومع ذلك لم تكن من بين تلميذات المدرسة، والدة السارد أيضًا ـ وهى امرأة رجل أزهرى ـ جاهلة، ليس لها رأى، تقف خلف الباب تتسمع أحاديث الضيوف حول مرض ابنيها، وتصل إلى أذنيها كلمات الشيخ زيدان حول التداوى بالطب القديم فلا تفهم شيئًا من كلماته، وتنجذب فى الوقت ذاته إلى الوهم، وإلى كلمات الشيخ "كعبلها" للوهلة الأولى، وتنفذ وصيته دون مراجعة، وتجبر طفليها على لحس العتب، وغير ذلك هى امرأة تعيش حياة أشبه بالأسيرة أو الجارية التى لا يجوز لها رفع صوتها أو الاختلاط بالآخرين من الرجال، وإلا ضُرِبَت وأهينت.. يقول السارد عن عائلته: " لا وكالة عندهم من غير بواب، ولو ظهرت أمى عفوًا، أو ظهر طيفها من باب الدهليز فيما هم جالسون، فإن ليلتها تكون أسود من شعر رأسها، نبيت كلنا فى نكد وعياط يسبقه ضرب مبرح، فما بالك لو باغتهم صوتها فى المندرة ضاحكًا أو متكلمًا أو حتى باكيًا....؟ " صـ 2.

من الواضح أيضًا أنه مجتمع محروم من الحراك الاجتماعى إلا بعوامل قهرية تفرض عليه من الخارج، وهو فى نفس الوقت خاضع لمتغيرات كبرى دون أن يكون له وعى حقيقى بها، وهو دائمًا تابع لمتغيرات خارجية، وليس فعالا ً إلا فى حدود الحرص على البقاء بدافع الغريزة.

مجتمع لا تزال دماء القبيلة تأخذ اعتبارها فى الحكم على صلاحية الفرد وقيمته، كما وضح الأمر من خلال علاقة عائلة السارد بالعائلات الأخرى، ورفضها فتح علاقات مصاهرة معها.

كما أنه مجتمع غير مبرأ من الأحقاد، فوالد السارد يحقد على أصحابه لما بين أيديهم من نعمة محدثة، وهم يحقدون عليه لما يملكه من مجد عائلى تليد.

وغير ذلك هو مجتمع الخرافة، فغير عملية لحس العتب هناك دور فاعل للعرَّافات فى حياة المجتمع، ومن العجيب أن الخرافة ناجعة وناجحة، فقد تصادف مرور عرافة أمام بيت الحاج عبد الودود زعلوك، فخرجت إليها الأم وفاتحتها فى أمر الولد المريض.. قالت العرافة إن الولد مريض بالطحال، ونصحت بضرورة شرب الخل مخلوطًا بالخميرة ثلاث مرات أول كل شهر عربى بعد تنجيم المخلوط (تركه مكشوفـًا طوال الليل تحت النجوم ).

صدفة مرت العرافة، وصدفة يشفى الولد على وصفتها العجيبة!.. هو مجتمع الصدفة إذن، فكل من أثروا كان الأمر بالنسبة لهم صدفة.. صدفة قامت الحرب بالنسبة لهم، وصدفة كانت فى مخازنهم بضاعة ينون بيعها، وصدفة أيضًا ينهار حائط المندرة على الترابيزة، لينتهى ماضى الحاج عبد الودود فجأة، وفجأة قامت ثورة يوليو 52.. ثمة دور للصدفة والفجاءة فى حياة هذا المجتمع تمامًا مثلما أنه مجتمع الخرافة، وتمامًا مثلما أنه مجتمع المتناقضات.

حقيقة هو مجتمع المتناقضات، وحتى لأن جلسة الحاج عبد الودود كل مساء هى تجميع لمتناقضات، كما يقال فى المثل الشعبى تجميع ( للشامى على المغربى ).. الحاج عبد الودود زعلوك نفسه شخصية متناقضة مع ذاتها، فهو يعرف عن " محمود جميل " فساد أخلاقه ومليه إلى الزنا أو كما يقول السارد: زير نساء، غير أنه مدمن للأفيون، ومع ذلك يرتضيه صديقًا، ويؤثره على غيره من جلسائه، ثمة تناقض بالغ بين كون الحاج عبد الودود محافظًا جدًا، ومحافظ على سمعته وصيت عائلته الموروث وهو زعيم هذه العائلة رغم فقره، وبين محمود جميل بأخلاقه ووضاعته الاجتماعية.

ثمة تناقض آخر فى شخصية هذا الرجل الذى يرفض أن يمد يده ليأخذ قرشًا من أحد وقد أخبر السارد أن الموت أهون عليه من ذلك، ويعتبر أن تصرفًا كهذا بمثابة شحاذة، وهو لا يشجع على الشحاذة حتى لو كانت من الأم والأب صـ6، إن رجلاً بمثل هذه الفضيلة كان من المفترض أن يكون صاحب عمل، والحقيقة أنه عاطل، لا يعمل أو يفعل شيئًا يستحق عليه أجرًا، وكل ما أخبرنا به السارد أنه يذهب يوم السوق ( يوم واحد فى الأسبوع ).. يخطف رجله إلى السوق من صبيحة ربنا، ليحشر نفسه بين باعة الحبوب والبذور والمحاصيل مختلقًا لنفسه سمسرة من البائع والمشترى على السواء، بصنعة لطافة ـ كما يقول السارد صـ 7.. والتساؤل: أوليس ما يفعله الحاج عبد الودود هنا عملٌ أقرب إلى الشحاذة، إن لم يكن شحاذة مقنَّعة؟!، وغير ذلك ما لاحظناه منذ بداية السرد فالحاج عبدالودود أزهرى حاصل على أعلى الشهادات الأزهرية فى ذلك الوقت ( العالمية ) ثم أنه وفور حصوله على الشهادة خلع عمامة العلم واشتغل بالفلاحة والتجارة، وعندما تزوج اختار زوجة جاهلة لا تـَفْرق عن أية امرأة أخرى فى القرية، وغير ذلك ـ وهو الرافض للشحاذة ـ كان يمد يده إلى هذه القروية المعدمة يشحذ منها ثمن الدخان، والدليل الآخر لدينا على تناقض شخصية " الحاج عبد الودود زعلوك " كامنة فى لقبه الذى ارتضاه لنفسه، فلم يخبرنا السارد أن أباه قد أدى فريضة الحج، ومع ذلك هو الحاج عبد الودود رغم أنف الجميع.. هو قناع غير حقيقى إذن يتقنع به ليحفظ لشخصيته وقارها، لكنه على أية حالة يعكس تناقض هذه الشخصية التى تصر على التمسك بما هو غير حقيقى، فيما تترك الحقيقى تكبرًا، أو مكابرة.

إن هذا التناقض المُركَّب المربك فى شخصية الحاج عبد الودود صورة من تناقض أكبر فى ذلك المجتمع برمته، وما الحاج عبد الودود وغيره إلا إفراز ذلك المجتمع ونتاجه.
والدليل الآخر على تناقض الشخصيات هى شخصية الحاج عبد الفتاح الزيات الذى لا يتورع عن أن يخطب فى الجماهير عن حقوق العمال والفلاحين، وعن استغلال الحكومة لهم، وعن وعن.. وهو فى الوقت ذاته من المستغليين لهذه الفئة المهيضة من الناس.

إن التناقض الحاد فى تركيبة الشخصيات وطبائع الشخصية، ومكوناتها النفسية، واختياراتها السلوكية، كل ذلك لا يتأتى من فراغ، بل هو إفراز تربية متناقضة فى الأساس، ومزيج من ثقافات متضاربة شتات، ولنا فى موقف الشخصيات من مرض السارد دليل آخر على التناقض، فقد انقسموا إلى فرق ثلاث: الأولى نصحت بالذهاب إلى طبيب البندر، والثانية نصحت باللجوء إلى كتب الطب القديمة، والثالثة نصحت بلحس عتب الأولياء. هذه الفرق الثلاث تمثل ثلاث عقليات متضاربة تجمعها رابطة واحدة هى قعدة المساء بما تدل عليه من ألفة واهية.

هذه هى صورة المجتمع الذى عاش فيه السارد وفرض عليه لحس العتب.. وهى صورة غارقة فى البدائية والتخلف، لا دور فيه للعقل، فيما يبرز إعمال الغريزة والضمير، وهما ما كان يحتكم إليهما إنسان ذلك المجتمع فى تقبله لحقائق الحياة، وهما معا كان يسوقانه إلى الفعل. وقد وضعنا أيدينا على طبيعة إنسان هذا المجتمع ووضعيته، وأهم مقومات شخصيته وثقا فتة.

والتساؤل الآن: هل هذه الصورة المجتمعية مطمئنة باتجاه التغيير، هل بإمكان المعاين لها أن يتفاءل بأن مثل هذا المجتمع قادر على التغيير، أو جاد فى البحث عن لحظة للخلاص، هل هو راغب حقًا فى التغيير، هل شخوص ذلك المجتمع على ما بهم من أنانية وبدائية وتخلف قادرون حقـًا على التغيير، وقد وضح لنا أن ثمة شريحة غير راغبة فى التغيير، لمرضها الاجتماعى والنفسى، ولعجزها أصلاً عن التغيير وهى الفئة المهَّشة فى المجتمع المصرى رغم أنها الفئة الواسعة الموسومة بالشعبية؟ إذا كانت الإجابة بالنفى، فمن الذى سيصنع الثورة ويحرر رأس المال، ويغير الحكومة العميلة والأحزاب المماينة، ويحرر مصر من الإنجليز والملك الفاسد؟.. أسئلة تتبدى لنا الآن لتفتح أفقًا جديدًا على الرؤية السياسية المتضمنة فى السرد، وعلى البعد التحتى له، والذى حاولت الرواية عبر مسيرة تشكل السرد ونموه أن توصلنا إليه.. إنها أسئلة إلى حد ما قد تفتح أفقًا جديدًا على مفهوم الثورة نفسه.. واقترابًا بالمفهوم من ثورة يوليو، ودور الشعب المصرى بصورته التى تبلورت أمامنا فى السرد، وبكل ما أحاطه من سلطات قاهرة، وبكل ما اشتملت عليه الحياة الاجتماعية من سلبيات، وبكل ما تحكم فيه من سلطات، ورغم ما اتسم به من استسلام للقدريات وللصدفة وللفجاءة، ورغم غياب الوعى السياسى القادر على تحريك الجماهير وتثويرها.

وإذا كانت الثورة قد قامت فعلاً، فجأة ـ كما أخبرنا السارد فى نهاية سرده ـ فهل قام بها الشعب فعلا ــ وتلك حالته؟ هل هى ثورة شعبية أم ثورة قدرية؟ وهل كان القدر وحده صانع هذه الثورة أم أنها الصدفة ـ أيضا ـ كأى صدفة أخرى غيَّرت حياة هذا المجتمع؟! أسئلة من هذا النوع تتبدى لنا، ونحن لا نزال بعد متوقفين عند من يعول عليهم التغيير وصنع الثورة من أبناء هذا الشعب وقد لاحظنا أنهم جميعا من لُحَّاس الأعتاب القذرة لكل صاحب ولاية على اختلاف الولاة، وعلى اختلاف اللحس وتنوعه.

1 تموز (يوليه) 2006

عبد الجواد خفاجي
أعلى