حسام المقدم - المكتبة.. الزمن الحي

بالنسبة للعازب المصري الريفي، في جيل ما قبل الفضائيات والنت، الفوضوي الطيب، الثائر داخل حدود حجرته على نفسه وعلى الظروف؛ تعني المكتبة في البداية كُتبا مرصوصة على مكتب صغير. هل كانت دائما صفراء وقديمة؟! ثم تأخذ معنى كرتونة تحت السرير أو الكنبة. مع الوقت تتجاور الكراتين، وتُترَك، تبعا للانشغال عنها، زادا وافرا لفئران الثمانينيات وأول التسعينيات ذوات البطون والأسنان الدؤوبة! هل نسيت؟ لحظة أن تتذكر كتابا ما، وتمد يدك لتسحبه من قلب الكرتونة المُعفرة، لتجد حوافه قد اختفت وتركت أقواسا تشبه التروس، التي صنعتها على راحتها أسنان تعرف عملها في قرض متواصل وملتهب. مع أول مكتبة خشبية، حتى لو كانت مجرد ألواح متراصة ببدائية شديدة، تأخذ الأمور شكلا آخر.. ترتفع الكتب من تحت إلى فوق، تأخذ مكانها المُستحَق على الجدران، واقفة مرصوصة في جمال، وشاهدة لصاحب الحجرة بأنه ابن مدارس، غالبا في الثانوي العام أو في الجامعة.

لن ينقطع النظر لكعوب الكتب الملونة كلما كُنتَ جالسا أو واقفا في شرود. ربما، بدون تلك النظرات، وما كان يتبعها من سفر وسرحان، لما تمَّ تجاوز الإحباط والإمكانات المحدودة. بمرور الزمن ستتغير الأمور كُليا.. ستكبر المكتبة، ورفوفها الخشبية ستنتصب قائمة بطول جدار أو جدارين، تتبعثر الكتب هنا وهناك، في شقة الزواج الصغيرة. البطل هو من سيتمكن من المحافظة على مكتبته، وسيُحارب من أجلها ضد نظرات الأهل والأصدقاء، النظرات المترصدة للاتساع المتواصل. كل الذين صمدت مكتباتهم ضد تلك النظرات، وضد نظام حياة كامل، ونظام بلد لا ينشغل بإعداد أحد من الداخل؛ هُم أبطال الأبطال.. حتى إذا مرت السنوات، وجاءت طفرة الفضائيات والنت؛ دخلت ضيوف جديدة جنب الكتب والمكتبة: الكمبيوتر واللاب، ولاحقا التليفون والتابلت. ستقل الكتب الجديدة الواردة للمكتبة، قياسا بما كان في زمن مضى، لأن كُتب ال “بي دي اف”، المُتاحة على “جوجل”، وغير المُحتاجة لمكان أو نقود، ستدخل وتتصدر المشهد كأعظم اختراع اخترعه الإنسان. الغريب أن ذلك تمَّ بالتكنولوجيا الرأسمالية، ليحقق أكبر اشتراكية ثقافية في التاريخ. لن يكون ابن العاصمة هو المتفرد بقراءة الترجمات الحديثة والكتب الرائعة وحده، في مقابل الإقليمي ملتقط الفُتات الذي يصل بصعوبة لبلده أو مدينته الصغيرة، والمفروض عليه كُتب رسمية في مكتبات المدارس أو المكتبات الأخرى. بضغطة صغيرة، مع بحث محدود على “جوجل” هناك كل الكُتب الحديثة والقديمة، وعلى “يوتيوب” تكاد لا تصدق وجود روائع الموسيقى العالمية كلها، والأغاني للسمِّيعَة (هل تذكر زمن الردايو وشرائط التسجيل؟!).. والفن التشكيلي وأفلام السينما، وغيرها من ثقافات النُّخبة في أزمنة ما قبل النت. ألم يُمثّل ذلك راحة نسبية لأهل البيت من هَمّ الكُتب الجديدة التي قلَّتْ كثيرا؟!

حسام المقدم


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى