أدب السجون بولص آدم - حدث ذات مرة في الممر.. (ملف أدب السجون العراقي)

حضر السجان الى الزنزانة وقرأ عددا من الأسماء، طلب منا تهيئة أنفسنا وتكييس ما يعود لنا..
إنتابني فَرَح وفكَّرتُ بأن هناك أطلاق سراح غامض، كالذي يحصل أحياناً، حيث يتم ذلك فجأة، ويخرج السجين تاركا أبو غريب بكُل مايتعلق به ، خلف ظهره، قبل أنتهاء مُدة المَحكومية، وسر إطلاق السراح يأخُذهُ معه!
ودعتُ المسجونين الذين قضيتُ معهُم أكثرَ من عام، وسط أستغراب باد على وجوه من تبقى في الزنزانة، قال دَحام، الذي أتخذ دوماَ مَبدأ عدم المودة والتحاشي في أيامه هُنا، مُخاطباً السجان:
ـ أراك مُبتَسِماً هذا الصباح ياأُستاذ، هل كان الفطور قيمر؟
ـ نعم، قيمر مع الدبس!
ونحنُ نَهبطُ الدَرَج المؤدي الى باب الخروج من قسم، شيَّعتُ من كوة صغيرة ماكُنتُ أُسميه شَجَرتي، كانَ الجُزء العلوي منها مايُرى، بعيدة هُناك، مُزرقةٌ في الضباب خَلفَ الأسوار..

نسيرُ والسجان يتقدمُنا بصفير أُغنية حربية رائجة تلك الأيام، تَلَفّتُ وحرصتٌ على أن أرى كل شئ آخرة مرة، وبرغم القَلق وتسارُع دقات القلب، مازالَ هُناك في نهاية الممر، حيثُ إدارة السجن، مُتسع من الوقت المُمِل حتى إطلاق السَراح، علَيَ أن أغبط نفسي على هذه اللحظاتِ التاريخية! على مُغادرة القُبح الموزع على جانبي هذا الممر الصقيل، الذي يتكرر غسلُه ومَسحُه بشكلٍ مُتكرر كعقوبات ليس لها نهاية..
هل سيكون في هذا اليوم، موعدُ نهاية الرحلة الذهنية والجسدية المُضنية، من الذي سيُجيبُ على تَساؤلاتي؟
مَن فوري تخيّلتُ مساحاتُ على مَدِّ البصَر، مماأعشقُهُ في بلادي، شوارِعَ مُكتظة، مُدُناً نختَرقُ ضواحيها، بأنتظارِ النزول وسطها، حيثُ الخياراتُ التي تنتظرُنا في كُلِّ الجهات، ستندَحِرُ كُلُّ الذكريات المُشبعة بالشُّكوك والخديعة هُنا، أمامَ مَدى الفيافي والسهول وزرقة على امتداد البصر حتى السماء..
وأنا أمرُّ بقاعة النجارة، التي تبقى منها الأسمُ فقَط، فهي مُزدحمة بالمساجين المرصوفينَ لضيق المكان، كالسردين في عُلبة ضخمة، من هُنا قدِمَ سَعدون راكضا، تلك الظهيرة المشؤومة، وجهُهُ مُدمى، وكانَ قَد حصلَ على أذن زيارة قريب له هُناك، حيثُ وجد نفسه وسطَ قتال جماعي بين تُجار الحبوب المُخدرة، دخَل زنزانتنا التي ودعتُها قبل قليل، مُحتضناً رَحيم، مُقبلاً أياه من الرأس حتى الخدين.. عَلَّقَ مٌتَبلد الأحساس، دحام:
ـ هل وصل العشقُ الى التَقبيل؟!
ـ فلتَعلَم أيها الغبي، إنهُ ولَدي!
مَرَّ بنا سجانٌ يشبَهُ ممثلا في السينما الهندية، نسيتُ أسمهُ بحق الجحيم!
ظننتُ أنني سأكونُ أحسَنَ حالاً، سألتقي خَلفَ الأسوار، ضؤ نهار ينتشر،
رُغمَ أنف الحَرب، ستَزولُ تعاسةٌ وانقباض لايُمكن تصور مداها، شعرتُ بشئ يشبهُ الرغبة في الصلاة، أنالُ حريتي قريباً..
هذا الممر طويل، ولكن في نهايته، أُمسِكُ مفتاح الحرية، أتصرف كما أشاء، على الأقل في الأيام القليلة القادمة، قبلَ أن يُقرر المجهول كُل شئ، إصطفت خطط المُستَقبَل بعضها مع بعض كالجنود، وغمَرني فَرَحُ جُندي بأنتهاء حَرب.
لَم يَعُد هنا شئ يُمكن عملُه.. عند تَركِكَ لتكون لنفسك، جُلوسٌ على السرير المُزعج وتدخين سيجارة أُخرى طعمُها ردئ.. في كُلَّ ليلة، لم أَنَم طويلَا، أمس، كابوس فيه أختي الصغيرةُ، تُعانقُ شجرة وصدرها يختلجُ بالبُكاء، أسيقظُ على نفس السرير والزنزانة، لأعودَ الى التدخين ثانية وشعور بجوع شديد..
كلما أعتقدتَ بأن الهدؤ سيحل، يكون الضجيج في الرأس، أشد وطأة إشتَقتُ الى مَسكِ سماعة الهاتف والثرثرة حول أي شئ..
إستيقظتُ من خيالات المسير البطئ في الممر على أمر من السجان، قِف.. كُنتُ في المُستقبل وهم قد توقفوا، بأنتظار أن يُنهي السجان حديثاً قصيراً مع زميلٌ آخر، وكلاهُما يتحدثُ الى الآخر مع ضرب جانب الفخذ بالمفاتيح الكبيرة المربوطة بحلقة حديدية، كانَ السجانُ الآخرَ، شبيهاً بسجانٍ في فيلم الفراشة، وتلك الرواية التي في كيس أمتعتي بيدي، ستُركَنُ
على الرفِّ، لن أقرأها ثانية!
هانحنُ نُكمِلُ طريقَ الفَرَجِ ثانية، والأسوارُ بدأت تتلاشى تدريجياً، سيزولُ كابوس أن الليلَ سيستمرُ ولن يكون هناك نهار ثانية في هذا السجن..
هُناك حُرية، حتى في التخلي عن التفكير بأسوأ مايُكن أن يَحدُث
حتى ما أرتديه وأنتَعِلٌه، سأرميه في أقرب نار
أوقفنا السجانُ قبل أمتار قليلة فقط تبعد عن غُرفة الأدارة الواسعة أمامنا، أختار مفتاحا من حلقة المفاتيح المُخيفة، فتح بابا ثقيلة على يسارنا، أمرنا بدخول الساحة الرصاصية، الضبابُ لم ينجلي تماما من بعد، أشار بأصبعه الى عُمق الساحة حيثُ الزنازينُ المجهولة وقال:
ـ إذهبوا وابحثوا لكم عن مكان هُناك!
كان سقوط نيزَكٍ على الرأسِ أرحم، أدركتٌ بما لايقبلُ الشك ثانية، بأن علي شق طُرق جديدة في غابة واسعة،
كان الحلم وهما، وتلك أقسى لحظة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى