وجه الزجال المغربي أحمد لمسيح أسئلة إلى عدد من الكتاب والشعراء المغاربة وهي كالتالي:
1 - لاعتناق الكتابة غوايةٌ سرية: قبل أن يصبح حضورُك راسخا ومتميزا في حقل الكتابة،هل كنتَ تتطلعُ- تفكرُ في أن تصبح كاتبا؟
2 - للانتماء إلى الكتابة بدايةُ الانتساب:كيف انكتب نصُّك الأول، وَمَنْ مِنَ الأوائل المطلعين عليه سواء نشر أم لا؟ من حفزك على النشر؟كيف اقتبلتَ نشرَ أولِ نص لك؟وما هي ردود أفعال الغير من نشر أول نص لك؟وما هي ردود أفعال الغير من عائلة وأصدقاء...الخ؟
3 - الاختيار هوة غامضة بين العفوية والوعي:في البدايات غالبا ما تتجاذب ميولاتٌ مبهمة للعقول في الكتابة، وقد تظل كذلك أثناء الممارسة.كيف تفاعلتَ مع ذلك؟ هل "احتكرك" إبداعُك في حقل معين ولماذا؟ وإذا تعددت انشغالاتك في مجال الكتابة فأين تجد نفسك أكثر ولماذا؟
4 - للكتابة طقوسها:كيف تُنجز نصَّك من لحظة المخاض إلى الولادة فالمراجعة وتجميل النص في جسده " النهائي" وإرساله إلى القارىء؟ أقصد لحظة الإبداع كيف " تهجم"عليك ، كيف تتم عملية الخلق، وكيف تَكُون طقوسُ الكتابة عندك؟
5 - مِنْ زواج المعرفة بالموهبة يولد النص الأصيل:لكل كاتب استراتيجيةٌ ومرجعية، كيف تُوَفِّقُ – تُلائِم بين تدفق العفوية وتلاطمِ الأمواج المعرفية، والصندوق – الجسدَُ الذي يحمل – يحمي النصَّ –الجنينَ إلى مرفأ الورقة، حيث يتدافآن بمتخيلك؟
6 - ليس الكاتب كاتبا فقط: غالبا ما يتعامل مع الكاتب منفصلا عن حياة البشر، وعندما "يحاسب" يطالب بأن يكون أكثر من نبض داخل المجتمع.. في هذا الإطار ما هو الوجه الآخر لكاتبنا: رياضة، موسيقى،رسم، تمثيل،صيد،قنص،اهتمامات أخرى...الخ،وما علاقة ذلك بتجربتك؟
تلقى الشاعر هذه الأسئلة فكان الآتي:
1- حين ٱسْتَنْشَقْتُ نسائمَ الحياة، ككل وافد جديد، كانت رسالتِي إلى الدنيا صرخةً قويةً، كانت موجةً من الأصوات الموزونة، لكنها تفتقر إلى الإيقاع. هذه الصرخةُ، حين يَتمُّ تأويلُها، تُعطي دلالةً رهيبةً، إِنَّها الرفضُ المبكر لِهَذا العالم المليءِ بالمظالم، والباحثِ عن العدالة بين الأدغال. هذه الأصواتُ هي أولُ ما قلتُ، وأولُ ما يقوله كلُّ من يَطَأُ هذا العالم أول مرة.
حين بدأت أخطو أولى خطواتي بِمدينة سيدي قاسم، كنت أُرسل عينيَّ عبر النافذة لتلتقط أذناي نقراتِ گناوة وهي تَعْبُرُ الزقاق، وتَجْمَعُ التبرعاتِ السخيةَ التي تنثرها النساءُ من خلف الأبواب. كانت هذه النقراتُ تتسلل إلى أعماقي، وتُبَلِّلُنِي بنشوة روحية. وقتئذ لم أكن أدري سرَّ هذه النشوة.
حين بدأتُ أتعلم الكلام، وبدأتُ أَنْطِقُ العباراتِ الأولى، كان أولُ طلب أَتَقَدَّمُ به إلى والدي رحمه الله هو : " اشْتَرِ لي الآلة الإيقاعية النحاسية التي يلعب بِها گناوة". لم يكن والدي رحمه الله يرد عليّ، لا بالصوت، ولا بعبارات الوجه.
يوم إعذاري، أخذتُ ٱلْبَنْديرْ، وصرتُ أُوَقِّعُ عليه ضرباتٍ يصاحبها غناءٌ موضوعه: وصفُ ما بالغرفة من أثاث، وهي الغرفة الوحيدة التي يتألف منها منزلُنا. ما زالت أمي – أطال الله عمرها- إلى يومنا، هذا تروي عباراتِ الأغنية التي أَلَّفْتُها، وكنتُ أردّدها بِكلمات لم تكن أصواتُها فصيحةً..ونظرا لجوِّ الفرح، فإن أبي لم يعلق، أو... لم ينتبه.
قُبيل الاستقلال، رَحَلْنَا إلى وهران، ومَكَثْنا بِها سنة كاملة. لكنّ شراسةَ الاستعمارِ بِها أَرْغَمَتْنَا على العودة إلى المغرب الذي استقل يوم وصولنا إلى وهران. فاختار والدي أن نستقر بتنجداد مسقط رأسي، ليعود هو إلى وهران.
في تنجداد، وأنا في السادسة من عمري، حضرتُ مَأْتَمًا بالقصر الذي أسكنه . كانت امرأةٌ، بثوب أسودَ، تتصدَّرُ المأتمَ. تبكي، وتعدد محاسنَ الراحل، أو الراحلة. وجوقةٌ من النساء تردد بعدها عباراتٍ لم أكن أفهمها ؛ لأن نغمة البكاء كانت تمنعني من فك شفرات الكلمات. أُعْجِبْتُ بذلك النغم الحزين، ووجدتُ فيه نشوةً ساحرة تدفعني إلى البكاء لا أدري كنهها. ولهذا كنتُ أحرص على حضور المآتم حِرْصَ من يتتبع السهرات الموسيقية!.. من هذا وذاك، وجدتُ نفسي مَيّالاً إلى الموسيقى.
بعد عودتي إلى سيدي قاسم سنة 1957 حرصتُ على مشاهدة الأشرطة السينمائية، للاستمتاع، ليس فقط بالبطل، أو بالقصة، ولكن بالموسيقى التصويرية للفيلم. وأذكرُ أن مقدمة "يا قلبي يا مجروح" وخاصة الجملة الموسيقية التي تؤدى بالكنترباس la contrebasse، كانت تُذَكِّرُنِي بالمآتم التي كنت أتلذذ بسماعها بتنجداد، والتي كانت تدفعني إلى البكاء. وكانت موسيقى "لحن الخلود" الجميلة هي التي زادت في تطلعي إلى أن أصبح موسيقيا.
لكن كيف والأسرة محافظة لن تسمح لي بأن أتعاطى هذا الفن الذي ارتبط عندها بالعبث والمجون؟ فكان البديل هو الشعر الذي كتبتُه وأنا تلميذ بالسنة الثانية ابتدائي. لم أكن أعرف ما الشعر. لكن الكلام الذي كنتُ أكتبه ظانا أنه شعر، كنتُ أسميه "أغنيات". هذه الأغنيات، كنت أكتبها سرا ؛ لأن والدي رحمه الله عَثَرَ على بعضها يوما ضمن أوراقي، فعاقبني عقابا شديدا ؛ بدعوى أن هذا سيمنعني من التركيز على دروسي؛ ولهذا صرت أكتب، وأُخْفي عن الناس ما أكتب. هذا الفعل صاحبني منذ طفولتي المبكرة إلى أن عرفني الناس بالشاعر.
2-كتبتُ أولَ أغنية وأنا في الصف الثاني ابتدائي. بعضُ ألفاظها فصيح، والبعضُ الآخر عَامّي، مقتبسا إيقاعَها من إيقاع أغنية كانت ـ لا شك ـ معروفةً. أطلعتُ عليها زميلا لي بالصف اسمه قاسم. كان أكبر سِنّا. كان كثير الكلام، يدَّعي معرفةَ كل شيء، مع أن ترتيبه الأخير في الامتحانات. عرضتُ عليه الأغنية فلما سمع نصها قال لي: "سأحملها إلى إذاعة الرباط ؛ لأقدمها إلى أحمد البيضاوي الذي أعرفه". صَدَّقْتُ كلامه، فسلمته النص. لكن ما إن افترقنا، حتى التقيتُ بصديق آخر اسمه أحمد. أخبرته بما حدث بيني وبين قاسم. فرد عليَّ: "إن قاسما سَيَدَّعي أَنَّ النص له ؛ ليستفيد من التعويض الذي تقدمه الإذاعة". فطرت إليه واسترجعت النص بعد أن ادعيت أنني لا أرغب في أن يغنيه البيضاوي.
التحقت بالإعدادي. ومع المراهقة انفجرتُ شعرا، لكن النصوص التي كنت أكتبها، لم أكن أحتفظ بها، خوفا من أن يعثر عليها والدي رحمه الله.
في السنة الأولى إعدادي، تعرفت على "العربي الرودالي" ، وهو تلميذ كان يعيش منعزلا، ليس له سوى صاحب واحد اسمه "حسن بنصالح". كان حسن هذا من سوس، يسكن في غالب الأوقات وحده. تعرفتُ عليه عن طريق العربي. كان حسن يملك عُودا صنعه من صحيفة زنكية. كنت أدمن زيارته ؛لأنفرد بالعود.
ذات يوم خرج تلاميذ القسم الأول إعدادي رقم (3) إلى المصلى ؛لإجراء مباراة في كرة القدم. كان العربي لاعبا ماهرا، ولكنه علم أني لا أرغب في اللعب، ففضل أن نرافق الأصدقاء للفرجة فقط. حين انطلق اللعب، أخذني العربي إلى ركن بالمصلى، وأخرج من محفظته كراسا به أشعار:
- ما هذا؟
- إنه شعري.
وأخذ يقرأ عليَّ أشعاره.
كان هذا الدفترُ أولَ ديوان معاصر أراه بعيني،جمع فيه صاحبُه كل أشعاره. حين اطلعت عليه أردت أن أقول له: أنا أيضا أكتب الشعر. ولكن لم أجد بين يدي ما أقدمه.ليلة ذاك اليوم، أخذت دَفترا في حجم (24) صفحة وأَلَّفْتُ تلك الليلة، أول ديوان شعري لي ؛ لأني كنتُ أرغب في أن أضعه بين يدي صاحبي صباح اليوم الموالي. ومنذ ذلك اليوم، صار العربي وحسن صديقين، أو صارا جمهوري الأول.
المهم أن العربي هو أول من نَبَّهَنِي إلى ضرورة جمع الأشعار في كراس.
صرنا نحن الثلاثة، نعتزل الأصدقاء. صرنا نصعد إلى غابة جميلة بجوار المدينة؛ لنقرأ الشعر. وكنا نتصور أننا في مسرح كبير. كانت سنابلُ القمح تتمايل كلما هب عليها نسيم الربيع. كنا نعتبر ذلك التمايل ترنحا جماهيريا. إذن الجمهور الثاني الذي قرأت عليه أشعاري كان هو الطبيعةَ، كان هو سنابلَ القمح !
في السنة الأولى إعدادي – دائما - اطلعتُ على جريدة مغربية لعلها" العلم". وجدتُ بِها قصيدة لشاعر من سيدي قاسم اسمه بنتونسي أحمد.كانت فرحتي قوية وعظيمة. كنتُ أتصوَّر أن مدينةً كهذه لا يمكن أن يكون بِها شاعر. كنت أظن أن المدن الأندلسية (فاس-الرباط...) هي وحدها التي تحضن الشعر والشعراء.
من يكون أحمد بَنْتُونْسِي؟ سألت عنه. أخيرا علمت أنه معلم بالمدرسة الحسنية.وهي مدرسة حرة. فإذن عليّ أن أتصل به ؛لأتعلم الشعر على يديه. قبل أن أقترب منه، أخذتُ أراقبه من بعيد. كان أنيقا. كان يشبه في أناقته أبطالَ الأفلام الرائجة وقتئذ. كان يرتدي ثيابا، كانت تبدو لي فاخرة.كنت لا أراه إلا عابرا الطريق من المدرسة إلى البيت، أو من البيت إلى المدرسة، ليس له صاحب !
كان أسطورة. كيف أدنو منه؟ كيف أُحَيِّيهِ؟ كيف سأسأله عن الشعر؟ كيف أقول له إني أكتب الشعر؟ لم أجد أجوبة لهذه الأسئلة. ولم أطرق بابه إلا بعد أن تَقَوَّى عودي أواخر سنوات الستين بالرباط حيث صرت معلما. ومن الرباط راسلته، وتلقيت جوابا منه. ودامت مراسلتنا سنة، ثم انقطعتْ. وغابتْ عني أخبارُه. لم أجلس إليه، لم أصافحه. ولعله لا يعرف ملامح وجهي.
المهم أن هذا الشاعر نبهني إلى التفكير في النشر. فبدأت أراسل الجرائد الوطنية منذ 1962 إلى 1966. ولكن أشعاري لم تستطع أن تجد لها مكانا في صفحاتها، ولم تُشِرِ الجرائدُ إليها في بريد القراء، كما هي العادة زمانئذ.
في سنة 1964، وأنا تلميذ داخلي بثانوية الحسن الثاني بالرباط، أصدرتْ مجموعةٌ من التلاميذ مجلة مرقونة، نشرتْ لي نصا شعريا على وزن الطلاسم إيقاعا وفكرا. والحق أن هذا النشر لم يترك في نفسي أثرا كبيرا؛ لأن رغبتي كانت أن أطل على القارئ عبر الجريدة أو المجلة.
كان عليَّ أن أنتظر إحراق المسجد الأقصى، فأكتب قصيدة تفعيلية بالمناسبة، إذ نَشَرَتْ جريدةٌ وطنية هذه القصيدة . لكني لم أفرح بهذا النشر؛ لأن الجريدة نشرت اسمي محرفا.
ولما لم أتلق استجابة من الصحافة الوطنية، طرقتُ باب الصحافة العربية. وكان الشاعر الجزائري أبو القاسم خَمَّار أولَ من شجعني على النشر، بعد أن اطلع على نماذج من كتاباتي. فأخذ ينشر بعضا منها بالملحق الثقافي لجريدة "الشعب"، وذلك منذ سنة 1970. كانت فرحتي عارمة بهذا الفتح. وزادت فرحتي تأججا حين قَدَّمَتْ "الشعبُ" مجموعةً من القصائد لشعراء عديدين توصلتْ بها للنشر، إلى الشاعر محمد علي الهواري لِيُعَلِّقَ عليها. فكان أن اختار قصيدة "الرصد والجاز" .واعتبرها أجمل ما قرأ، وأَحْسَنَه. كان هذا التعليق أولَ رأي نقدي تناول شعري. وهذا شجعني على مواصلة النشر خارج الوطن.
من خلال مجلة الأديب البيروتية، تعرفت على الشاعر السعودي المرحوم محمد عامر الرميح الذي أعجبته محاولاتي فأخذ ينشرها تباعا في مجلة "الخواطر" اللبنانية.
لم أكن أجرؤ في سنة 70/71 على مراسلة المجلات الكبرى كـالآداب، والأديب، والمجلة، والهلال، والفكر. كنت أظن أن الوقت لم يحن بعد. لكن في سنة 71 تصفحتُ عددا من مجلة "المجلة"، وكان صلاح عبد الصبور مسؤولا عنها. فإذا بِها تنشر نصا شعريا لشاعر جزائري من جيلي إنه: أزراج عمر! هذا النص شَجَّعَنِي على مراسلة المجلات الكبرى والمشهورة. فبدأتُ بالمجلة التي أرسلتُ إليها سنة1971 قصيدة رفقة خطاب موجه إلى الشاعر صلاح عبد الصبور. بعد أن وضعتُ الرسالة في صندوق الرسائل عدت إلى مقر سكناي، وفي الطريق اقتنيت الْعَلَم، وفي العَلَم الثقافي قرأت خبرا مضمونه أن "المجلة" قد توقفت عن الصدور.
بعد ستة أشهر أتاني خطابٌ من مصر، وهو أول خطاب يأتيني من أرض الكنانة. قبل أن أفتحه، تساءلت من يكون المرسِل؟ كانت المفاجأةُ كبيرةً..لم أصدق..إنه خطاب من صلاح عبد الصبور . فَتَحْتُهُ بسرعة وأنا أرتعش. فإذا أوله "ألأخ الشاعر..": إذن فأنا شاعر! لماذا لم تعترف بي الصحافة الوطنية؟ هل محررُ الصحافة الثقافية بالمغرب أعلمُ بالشعر وأسراره من صلاح عبد الصبور ؟ (..)
كان مضمون الخطاب اعتذارا من الشاعر لكونه لم يَرُدَّ على خطابي وقت وصوله. ومن خلاله أخبرني أن "المجلة" قد توقفت، ونصحني بأن أبعث بالنص إلى مجلة "الآداب" البيروتية.
أستطيع أن أزعم أني قرأت هذه الرسالة أكثر من مائة مرة، ولكن حين تحررت من صدمة الدهشة، انتبهت إلى أن الرسالة قَدَّمَتْ لي نقدا ترك أثرا عميقا في مسيرتي الإبداعية والعلمية. ذلك بأن القصيدة تتضمن صورة شعرية غريبة، ومدهشة لم تعجب صلاحا. فبدل أن يقول لي إن الذوق العربي لا يقبل مثل هذه الصور، قال "نحن المشارقة..". لفظة "مشارقة" أزعجتني. فقلت: إذا كان المشارقة لا يقبلون مثل هذه الصورة فهم أحرار، أنا مغربي ولي خصوصيتي، وهي خصوصية مستمدة بلا شك من طبيعة المغرب المتميزة. ومنذ تلك الرسالة أخذتُ على عاتقي الاهتمامَ بالثقافة المغربية؛ لاستثمارها في شعري. وحين التحقتُ بالجامعة طالبا، فأستاذا، كان همي الوحيد هو البحثَ في الشعر المغربي، والوقوفَ عند خصوصياته.
ومع ذلك أعترف أن رسالة صلاح عبد الصبور – وما زلت أحتفظ بِها- هي التي شجعتني على النشر بالمجلات الكبرى.
شخصية أخرى شجعتني على النشر، وإعادة نشره في أكثر من منبر..أعني بها المرحوم عبد الله گنون الذي كان أولَ أو الوحيدَ الذي كتب عن "البريد يصل غدا" حين صدر سنة 1975.
لكن الفرحة التي انتظرتها هي أن أرى شعري بالصحافة الوطنية.
في سنة 73 نشرت لي جريدة العَلَم أول نص لي وعنوانه "فارس وجدة" . لكن الجريدة نسيت أن تنشر اسمي.وبِهذا حُرمت من نشوة الفرحة ! لكن هذا السهو كان نعمة. فقد تلقيتُ رسائل من أصدقاء من بينهم مفدي أحمد، يخبرني أصحابُها بأنَّهم قرأوا قصيدتي. كيف علموا أنها لي؟..هل معنى هذا أن لي أسلوبا خاصا؟ هل معنى هذا أن لي طريقة خاصة في الكتابة؟ (...)
كل هذا يحدث والعائلة لا علم لها بهذه الرحلة؛ لأن الشعر عندها زلة. فلا ينبغي أن أُشعرهم بأني مُوَرَّطٌ في هذه الزلة.
3- ذكرتُ أن بداياتي كانت مع الموسيقى. كنت أَتَمَنَّى أن أكون موسيقيا-لا مغنيا-. ولكن هذه الموهبة لم أتمكن من الإفصاح عنها؛ لأن الأسرةَ محافظة، لا تسمح ،ولن تسمح لابنها البكر بأن يكون مصيرُه مصيرَ جده (أب الأم) الذي خالف طقوس العائلة. لأنه "أمدياز"، فهاجر بكمانه وأشعاره، واستقر بالجزائر حيث مات ودفن بها. الموسيقى عيب ؛ لهذا أَجَّلْتُ ممارستها. لكن هذا التأجيل طال..فكان الشعر بديلا. أخذ كل كياني، ومنعني من ممارسة أيِّ جنس أدبي آخر.
4- للحظة الإبداع طقوس، تختلف من مبدع لآخر.
عرفَتْ لحظةُ الإبداع عندي شكلين مختلفين طيلة رحلتي عبر أدغال الشعر. الشكلُ الأول كان حاضرا منذ خطواتي الأولى إلى مطلع سنوات السبعين من القرن العشرين. وهو شكل بسيط، ذلك بأني كنت خلاله أتحكم في لحظة الإبداع. كنت غالبا ما أستدعيها كلما رغبت في ذلك؛ لأن هذا ينسجم مع رغبتي في التجريب وقتئذ. والتجريب غالبا ما يخضع لسلطة العقل، وصرامة الوعي. ولعل شعراء جيلي قد عرفوا الحالة نفسها، فالالتزام الذي كان سمةَ سنوات السبعين يطلب هذا الشكل.
الشكل الثاني بدأ مع سنة 1973، واستمر إلى يومنا هذا، أي: إن هذا الشكل احتل تجربتي الشعرية منذ غادرت الرباط لأستقر بوجدة. في هذه المرحلة انقطعتُ عن الماضي، وخاصة المادي منه، ففقدت كل أصدقائي، وخاصة أصدقاء الطفولة. فواجهت عالما جديدا، فرض علي العزلةَ سنوات عديدة في مشرع حمادي، ثم في العيون (الشرقية) قبل أن أستقر بوجدة سنة 1978.
صارت لحظة الإبداع في هذا الشكل معقدة، صار سلطانها قهارا. تفرض سلطتها أَنَّى تشاء. وأيّد هذه السلطةَ على ممارسة سطوتِها أني أصبحت أومن بأن الشعر سيرة ذاتية؛ ولهذا لا يمكن أن أكتب إلا ما له علاقة بِهذه الذات.
تبدأ الولادة بتوتر شديد يطفو على صفحة جسدي، أكون سريع الغضب، أغضب وأثور لأتفه الأشياء، ولكي أَقِيَ أهلي وأصدقائي من لهيب هذه الحالة، كنت أُفَضِّلُ العزلة. هذه الحالة تستمر أياما خلالها تزدحم الأبيات في داخلي، ثم بعد ذلك تأتي لحظة التدوين. في هذه اللحظة، قد أكتب في أي مكان، وإن كنت أفضل مكانا يعج بالصخب والضجيج. فإن كنت في بيتي، أسمح للراديو بأن يرفع صوته. أكتب ولا أهتم بما يقول: كأن صمما من نوع خاص يحتل أذني. وإن كنت في مقهى، فلا بد أن تكون ملأى بالرواد.ولهذا كثيرا ما كنت "أكتب" في الشارع المزدحم.
حين يتم تدوين القصيدة لا أُطلع أحدا على أبياتها حتى أقرأها. لكن كيف أقرأها؟ في هذه الحالة لا بد من مكان هادئ. لأن القراءة تكون بصوت مرتفع. وأثناء القراءة المتكررة، قد أغير بيتا ببيت، أو لفظة بأخرى. القراءة تكون أحيانا قراءة عادية، وأحيانا تكون منشدة. هذه العملية تتكرر أياما وربما شهورا. وتتوقف عندما ألاحظ أن النص لم يعد يقبل التنقيح. بعد ذلك أُطلع عليه أصدقائي. على أن النشر لا يتم إلا بعد مرور أشهر عديدة.
5- الفكر والأدب عنصران متلاحمان يتبادلان التأثير، وهذا في الحقيقة يخدم النص الأدبي، إذ يجعله عملا عميقا. وقد يبدو للبعض أن المبدع حين يكتب نصه تتلاطم في ذهنه الأمواجُ المعرفية فتجرف تيار الإبداع. هذا التصور ممكن وجوده، ولكن الأمر بالنسبة إلي مختلف. كيف؟
ذكرت أن الشعر عندي سيرة ذاتية، أي: إن الشعر تعبير عما يعانيه الشاعر. ولأني أومن بهذا، فإنني أكتب بحرية. لا أراقب ما تمليه علي لحظةُ الإبداع. لا أتحكم لا في الموضوع، ولا في إيقاعه؛ لأن النص حين يلح على الخروج، يخرج دفعة واحدة، والمضمون قد تلاحم وشكلُه، والفكر قد غَلَّفَ كلَّ لفظة فيه، بل وكل صورة شعرية..ولهذا فاللاوعي الذي امتلأ بالفكر، وبالتصورات، يحضر أثناء الكتابة. والتجربة المعبر عنها هي التي تنتقي مما يحمل هذا اللاوعي ما تراه مناسبا.
6- الأفضل للشاعر ألا يرتبط بوظيفة، لأَنَّها تحد من انطلاقه. ماذا يفعل حين يكون بالمدرج وهو يلقي محاضرة، ثم فجأة يلمع الإلهام في صدره؟ أيترك المحاضرة؟ أيستطيع أن يتخلص من رعشة الوحي؟ لهذا فأكثر الشعراء انتشارا في عالمنا العربي هم الشعراء الذين ارتبطوا بوظائف شكلية: درويش، أدونيس، البياتي (...).لكن ثمة اهتمامات قد يباشرها الشاعر ولا تحد من تدفق الشعر فيه، بل ربما قد تخدمه.فمن بين اهتماماتي، مشاهدة معارض الفنون التشكيلية؛ لأن لغةَ الألوان عندي هي نفسها لغةُ الشعر. وأذكر أن أولَ لوحة شاهَدْتُها، زلزلتني زلزالا روحيا عنيفا، كانت لرسّام مغربي لعله الغرباوي، أو الشرقاوي.شاهدتُها بالرباط خلال سنوات الستين، وكنت برفقة رسام صديق . حين لَمَسَتْ عيني ألوانُها، أصابني الذهول. وتَحَوَّلَ إلى إعجاب عندما أخذ الصديق الرسام يوضح لي لعبة الألوان. ومنذ ذلك التاريخ أدمنت – وأنا بالرباط - حضور المعارض. هذا الجانب حاضر في شعري، بل لعله وراء ما ببعضه من غموض، خاصة ما كتبته ما بين 1971 و1974.
الاهتمام الثاني يتمثل في مشاهدة الأفلام. وخاصة منها ما كان فكاهيا. إذ كنت معجبا بالممثلَين الفرنسيين لوي دوفنيسLouis de Funès وبورفيل Bourville، حين يضمهما شريط واحد. كان الأول نحيفا، يمثل دور العاقل. بينما كان الثاني بدينا، ويمثل دور الأبله. لكن الفيلم يقدم العاقل أبله، والأبله عاقلا. هذه المفارقة كانت مثار إعجابي؛ لأنها مِلْحُ تلك الفكاهة. هذه المفارقة صارت إحدى أهم تيمات قصائدي.
لكن لي هواية أخرى لا علاقة لها بالأدب، وهي قراءة تعليق المعلقين الرياضيين في الصحف. ذلك بأني حين آخذ الجريدة، أبدأ قراءتها من الصفحة الأخيرة، ثم بعد ذلك أتوقف عند الصفحة الرياضية.
محمد علي الرباوي
9/2/1997
1 - لاعتناق الكتابة غوايةٌ سرية: قبل أن يصبح حضورُك راسخا ومتميزا في حقل الكتابة،هل كنتَ تتطلعُ- تفكرُ في أن تصبح كاتبا؟
2 - للانتماء إلى الكتابة بدايةُ الانتساب:كيف انكتب نصُّك الأول، وَمَنْ مِنَ الأوائل المطلعين عليه سواء نشر أم لا؟ من حفزك على النشر؟كيف اقتبلتَ نشرَ أولِ نص لك؟وما هي ردود أفعال الغير من نشر أول نص لك؟وما هي ردود أفعال الغير من عائلة وأصدقاء...الخ؟
3 - الاختيار هوة غامضة بين العفوية والوعي:في البدايات غالبا ما تتجاذب ميولاتٌ مبهمة للعقول في الكتابة، وقد تظل كذلك أثناء الممارسة.كيف تفاعلتَ مع ذلك؟ هل "احتكرك" إبداعُك في حقل معين ولماذا؟ وإذا تعددت انشغالاتك في مجال الكتابة فأين تجد نفسك أكثر ولماذا؟
4 - للكتابة طقوسها:كيف تُنجز نصَّك من لحظة المخاض إلى الولادة فالمراجعة وتجميل النص في جسده " النهائي" وإرساله إلى القارىء؟ أقصد لحظة الإبداع كيف " تهجم"عليك ، كيف تتم عملية الخلق، وكيف تَكُون طقوسُ الكتابة عندك؟
5 - مِنْ زواج المعرفة بالموهبة يولد النص الأصيل:لكل كاتب استراتيجيةٌ ومرجعية، كيف تُوَفِّقُ – تُلائِم بين تدفق العفوية وتلاطمِ الأمواج المعرفية، والصندوق – الجسدَُ الذي يحمل – يحمي النصَّ –الجنينَ إلى مرفأ الورقة، حيث يتدافآن بمتخيلك؟
6 - ليس الكاتب كاتبا فقط: غالبا ما يتعامل مع الكاتب منفصلا عن حياة البشر، وعندما "يحاسب" يطالب بأن يكون أكثر من نبض داخل المجتمع.. في هذا الإطار ما هو الوجه الآخر لكاتبنا: رياضة، موسيقى،رسم، تمثيل،صيد،قنص،اهتمامات أخرى...الخ،وما علاقة ذلك بتجربتك؟
تلقى الشاعر هذه الأسئلة فكان الآتي:
1- حين ٱسْتَنْشَقْتُ نسائمَ الحياة، ككل وافد جديد، كانت رسالتِي إلى الدنيا صرخةً قويةً، كانت موجةً من الأصوات الموزونة، لكنها تفتقر إلى الإيقاع. هذه الصرخةُ، حين يَتمُّ تأويلُها، تُعطي دلالةً رهيبةً، إِنَّها الرفضُ المبكر لِهَذا العالم المليءِ بالمظالم، والباحثِ عن العدالة بين الأدغال. هذه الأصواتُ هي أولُ ما قلتُ، وأولُ ما يقوله كلُّ من يَطَأُ هذا العالم أول مرة.
حين بدأت أخطو أولى خطواتي بِمدينة سيدي قاسم، كنت أُرسل عينيَّ عبر النافذة لتلتقط أذناي نقراتِ گناوة وهي تَعْبُرُ الزقاق، وتَجْمَعُ التبرعاتِ السخيةَ التي تنثرها النساءُ من خلف الأبواب. كانت هذه النقراتُ تتسلل إلى أعماقي، وتُبَلِّلُنِي بنشوة روحية. وقتئذ لم أكن أدري سرَّ هذه النشوة.
حين بدأتُ أتعلم الكلام، وبدأتُ أَنْطِقُ العباراتِ الأولى، كان أولُ طلب أَتَقَدَّمُ به إلى والدي رحمه الله هو : " اشْتَرِ لي الآلة الإيقاعية النحاسية التي يلعب بِها گناوة". لم يكن والدي رحمه الله يرد عليّ، لا بالصوت، ولا بعبارات الوجه.
يوم إعذاري، أخذتُ ٱلْبَنْديرْ، وصرتُ أُوَقِّعُ عليه ضرباتٍ يصاحبها غناءٌ موضوعه: وصفُ ما بالغرفة من أثاث، وهي الغرفة الوحيدة التي يتألف منها منزلُنا. ما زالت أمي – أطال الله عمرها- إلى يومنا، هذا تروي عباراتِ الأغنية التي أَلَّفْتُها، وكنتُ أردّدها بِكلمات لم تكن أصواتُها فصيحةً..ونظرا لجوِّ الفرح، فإن أبي لم يعلق، أو... لم ينتبه.
قُبيل الاستقلال، رَحَلْنَا إلى وهران، ومَكَثْنا بِها سنة كاملة. لكنّ شراسةَ الاستعمارِ بِها أَرْغَمَتْنَا على العودة إلى المغرب الذي استقل يوم وصولنا إلى وهران. فاختار والدي أن نستقر بتنجداد مسقط رأسي، ليعود هو إلى وهران.
في تنجداد، وأنا في السادسة من عمري، حضرتُ مَأْتَمًا بالقصر الذي أسكنه . كانت امرأةٌ، بثوب أسودَ، تتصدَّرُ المأتمَ. تبكي، وتعدد محاسنَ الراحل، أو الراحلة. وجوقةٌ من النساء تردد بعدها عباراتٍ لم أكن أفهمها ؛ لأن نغمة البكاء كانت تمنعني من فك شفرات الكلمات. أُعْجِبْتُ بذلك النغم الحزين، ووجدتُ فيه نشوةً ساحرة تدفعني إلى البكاء لا أدري كنهها. ولهذا كنتُ أحرص على حضور المآتم حِرْصَ من يتتبع السهرات الموسيقية!.. من هذا وذاك، وجدتُ نفسي مَيّالاً إلى الموسيقى.
بعد عودتي إلى سيدي قاسم سنة 1957 حرصتُ على مشاهدة الأشرطة السينمائية، للاستمتاع، ليس فقط بالبطل، أو بالقصة، ولكن بالموسيقى التصويرية للفيلم. وأذكرُ أن مقدمة "يا قلبي يا مجروح" وخاصة الجملة الموسيقية التي تؤدى بالكنترباس la contrebasse، كانت تُذَكِّرُنِي بالمآتم التي كنت أتلذذ بسماعها بتنجداد، والتي كانت تدفعني إلى البكاء. وكانت موسيقى "لحن الخلود" الجميلة هي التي زادت في تطلعي إلى أن أصبح موسيقيا.
لكن كيف والأسرة محافظة لن تسمح لي بأن أتعاطى هذا الفن الذي ارتبط عندها بالعبث والمجون؟ فكان البديل هو الشعر الذي كتبتُه وأنا تلميذ بالسنة الثانية ابتدائي. لم أكن أعرف ما الشعر. لكن الكلام الذي كنتُ أكتبه ظانا أنه شعر، كنتُ أسميه "أغنيات". هذه الأغنيات، كنت أكتبها سرا ؛ لأن والدي رحمه الله عَثَرَ على بعضها يوما ضمن أوراقي، فعاقبني عقابا شديدا ؛ بدعوى أن هذا سيمنعني من التركيز على دروسي؛ ولهذا صرت أكتب، وأُخْفي عن الناس ما أكتب. هذا الفعل صاحبني منذ طفولتي المبكرة إلى أن عرفني الناس بالشاعر.
2-كتبتُ أولَ أغنية وأنا في الصف الثاني ابتدائي. بعضُ ألفاظها فصيح، والبعضُ الآخر عَامّي، مقتبسا إيقاعَها من إيقاع أغنية كانت ـ لا شك ـ معروفةً. أطلعتُ عليها زميلا لي بالصف اسمه قاسم. كان أكبر سِنّا. كان كثير الكلام، يدَّعي معرفةَ كل شيء، مع أن ترتيبه الأخير في الامتحانات. عرضتُ عليه الأغنية فلما سمع نصها قال لي: "سأحملها إلى إذاعة الرباط ؛ لأقدمها إلى أحمد البيضاوي الذي أعرفه". صَدَّقْتُ كلامه، فسلمته النص. لكن ما إن افترقنا، حتى التقيتُ بصديق آخر اسمه أحمد. أخبرته بما حدث بيني وبين قاسم. فرد عليَّ: "إن قاسما سَيَدَّعي أَنَّ النص له ؛ ليستفيد من التعويض الذي تقدمه الإذاعة". فطرت إليه واسترجعت النص بعد أن ادعيت أنني لا أرغب في أن يغنيه البيضاوي.
التحقت بالإعدادي. ومع المراهقة انفجرتُ شعرا، لكن النصوص التي كنت أكتبها، لم أكن أحتفظ بها، خوفا من أن يعثر عليها والدي رحمه الله.
في السنة الأولى إعدادي، تعرفت على "العربي الرودالي" ، وهو تلميذ كان يعيش منعزلا، ليس له سوى صاحب واحد اسمه "حسن بنصالح". كان حسن هذا من سوس، يسكن في غالب الأوقات وحده. تعرفتُ عليه عن طريق العربي. كان حسن يملك عُودا صنعه من صحيفة زنكية. كنت أدمن زيارته ؛لأنفرد بالعود.
ذات يوم خرج تلاميذ القسم الأول إعدادي رقم (3) إلى المصلى ؛لإجراء مباراة في كرة القدم. كان العربي لاعبا ماهرا، ولكنه علم أني لا أرغب في اللعب، ففضل أن نرافق الأصدقاء للفرجة فقط. حين انطلق اللعب، أخذني العربي إلى ركن بالمصلى، وأخرج من محفظته كراسا به أشعار:
- ما هذا؟
- إنه شعري.
وأخذ يقرأ عليَّ أشعاره.
كان هذا الدفترُ أولَ ديوان معاصر أراه بعيني،جمع فيه صاحبُه كل أشعاره. حين اطلعت عليه أردت أن أقول له: أنا أيضا أكتب الشعر. ولكن لم أجد بين يدي ما أقدمه.ليلة ذاك اليوم، أخذت دَفترا في حجم (24) صفحة وأَلَّفْتُ تلك الليلة، أول ديوان شعري لي ؛ لأني كنتُ أرغب في أن أضعه بين يدي صاحبي صباح اليوم الموالي. ومنذ ذلك اليوم، صار العربي وحسن صديقين، أو صارا جمهوري الأول.
المهم أن العربي هو أول من نَبَّهَنِي إلى ضرورة جمع الأشعار في كراس.
صرنا نحن الثلاثة، نعتزل الأصدقاء. صرنا نصعد إلى غابة جميلة بجوار المدينة؛ لنقرأ الشعر. وكنا نتصور أننا في مسرح كبير. كانت سنابلُ القمح تتمايل كلما هب عليها نسيم الربيع. كنا نعتبر ذلك التمايل ترنحا جماهيريا. إذن الجمهور الثاني الذي قرأت عليه أشعاري كان هو الطبيعةَ، كان هو سنابلَ القمح !
في السنة الأولى إعدادي – دائما - اطلعتُ على جريدة مغربية لعلها" العلم". وجدتُ بِها قصيدة لشاعر من سيدي قاسم اسمه بنتونسي أحمد.كانت فرحتي قوية وعظيمة. كنتُ أتصوَّر أن مدينةً كهذه لا يمكن أن يكون بِها شاعر. كنت أظن أن المدن الأندلسية (فاس-الرباط...) هي وحدها التي تحضن الشعر والشعراء.
من يكون أحمد بَنْتُونْسِي؟ سألت عنه. أخيرا علمت أنه معلم بالمدرسة الحسنية.وهي مدرسة حرة. فإذن عليّ أن أتصل به ؛لأتعلم الشعر على يديه. قبل أن أقترب منه، أخذتُ أراقبه من بعيد. كان أنيقا. كان يشبه في أناقته أبطالَ الأفلام الرائجة وقتئذ. كان يرتدي ثيابا، كانت تبدو لي فاخرة.كنت لا أراه إلا عابرا الطريق من المدرسة إلى البيت، أو من البيت إلى المدرسة، ليس له صاحب !
كان أسطورة. كيف أدنو منه؟ كيف أُحَيِّيهِ؟ كيف سأسأله عن الشعر؟ كيف أقول له إني أكتب الشعر؟ لم أجد أجوبة لهذه الأسئلة. ولم أطرق بابه إلا بعد أن تَقَوَّى عودي أواخر سنوات الستين بالرباط حيث صرت معلما. ومن الرباط راسلته، وتلقيت جوابا منه. ودامت مراسلتنا سنة، ثم انقطعتْ. وغابتْ عني أخبارُه. لم أجلس إليه، لم أصافحه. ولعله لا يعرف ملامح وجهي.
المهم أن هذا الشاعر نبهني إلى التفكير في النشر. فبدأت أراسل الجرائد الوطنية منذ 1962 إلى 1966. ولكن أشعاري لم تستطع أن تجد لها مكانا في صفحاتها، ولم تُشِرِ الجرائدُ إليها في بريد القراء، كما هي العادة زمانئذ.
في سنة 1964، وأنا تلميذ داخلي بثانوية الحسن الثاني بالرباط، أصدرتْ مجموعةٌ من التلاميذ مجلة مرقونة، نشرتْ لي نصا شعريا على وزن الطلاسم إيقاعا وفكرا. والحق أن هذا النشر لم يترك في نفسي أثرا كبيرا؛ لأن رغبتي كانت أن أطل على القارئ عبر الجريدة أو المجلة.
كان عليَّ أن أنتظر إحراق المسجد الأقصى، فأكتب قصيدة تفعيلية بالمناسبة، إذ نَشَرَتْ جريدةٌ وطنية هذه القصيدة . لكني لم أفرح بهذا النشر؛ لأن الجريدة نشرت اسمي محرفا.
ولما لم أتلق استجابة من الصحافة الوطنية، طرقتُ باب الصحافة العربية. وكان الشاعر الجزائري أبو القاسم خَمَّار أولَ من شجعني على النشر، بعد أن اطلع على نماذج من كتاباتي. فأخذ ينشر بعضا منها بالملحق الثقافي لجريدة "الشعب"، وذلك منذ سنة 1970. كانت فرحتي عارمة بهذا الفتح. وزادت فرحتي تأججا حين قَدَّمَتْ "الشعبُ" مجموعةً من القصائد لشعراء عديدين توصلتْ بها للنشر، إلى الشاعر محمد علي الهواري لِيُعَلِّقَ عليها. فكان أن اختار قصيدة "الرصد والجاز" .واعتبرها أجمل ما قرأ، وأَحْسَنَه. كان هذا التعليق أولَ رأي نقدي تناول شعري. وهذا شجعني على مواصلة النشر خارج الوطن.
من خلال مجلة الأديب البيروتية، تعرفت على الشاعر السعودي المرحوم محمد عامر الرميح الذي أعجبته محاولاتي فأخذ ينشرها تباعا في مجلة "الخواطر" اللبنانية.
لم أكن أجرؤ في سنة 70/71 على مراسلة المجلات الكبرى كـالآداب، والأديب، والمجلة، والهلال، والفكر. كنت أظن أن الوقت لم يحن بعد. لكن في سنة 71 تصفحتُ عددا من مجلة "المجلة"، وكان صلاح عبد الصبور مسؤولا عنها. فإذا بِها تنشر نصا شعريا لشاعر جزائري من جيلي إنه: أزراج عمر! هذا النص شَجَّعَنِي على مراسلة المجلات الكبرى والمشهورة. فبدأتُ بالمجلة التي أرسلتُ إليها سنة1971 قصيدة رفقة خطاب موجه إلى الشاعر صلاح عبد الصبور. بعد أن وضعتُ الرسالة في صندوق الرسائل عدت إلى مقر سكناي، وفي الطريق اقتنيت الْعَلَم، وفي العَلَم الثقافي قرأت خبرا مضمونه أن "المجلة" قد توقفت عن الصدور.
بعد ستة أشهر أتاني خطابٌ من مصر، وهو أول خطاب يأتيني من أرض الكنانة. قبل أن أفتحه، تساءلت من يكون المرسِل؟ كانت المفاجأةُ كبيرةً..لم أصدق..إنه خطاب من صلاح عبد الصبور . فَتَحْتُهُ بسرعة وأنا أرتعش. فإذا أوله "ألأخ الشاعر..": إذن فأنا شاعر! لماذا لم تعترف بي الصحافة الوطنية؟ هل محررُ الصحافة الثقافية بالمغرب أعلمُ بالشعر وأسراره من صلاح عبد الصبور ؟ (..)
كان مضمون الخطاب اعتذارا من الشاعر لكونه لم يَرُدَّ على خطابي وقت وصوله. ومن خلاله أخبرني أن "المجلة" قد توقفت، ونصحني بأن أبعث بالنص إلى مجلة "الآداب" البيروتية.
أستطيع أن أزعم أني قرأت هذه الرسالة أكثر من مائة مرة، ولكن حين تحررت من صدمة الدهشة، انتبهت إلى أن الرسالة قَدَّمَتْ لي نقدا ترك أثرا عميقا في مسيرتي الإبداعية والعلمية. ذلك بأن القصيدة تتضمن صورة شعرية غريبة، ومدهشة لم تعجب صلاحا. فبدل أن يقول لي إن الذوق العربي لا يقبل مثل هذه الصور، قال "نحن المشارقة..". لفظة "مشارقة" أزعجتني. فقلت: إذا كان المشارقة لا يقبلون مثل هذه الصورة فهم أحرار، أنا مغربي ولي خصوصيتي، وهي خصوصية مستمدة بلا شك من طبيعة المغرب المتميزة. ومنذ تلك الرسالة أخذتُ على عاتقي الاهتمامَ بالثقافة المغربية؛ لاستثمارها في شعري. وحين التحقتُ بالجامعة طالبا، فأستاذا، كان همي الوحيد هو البحثَ في الشعر المغربي، والوقوفَ عند خصوصياته.
ومع ذلك أعترف أن رسالة صلاح عبد الصبور – وما زلت أحتفظ بِها- هي التي شجعتني على النشر بالمجلات الكبرى.
شخصية أخرى شجعتني على النشر، وإعادة نشره في أكثر من منبر..أعني بها المرحوم عبد الله گنون الذي كان أولَ أو الوحيدَ الذي كتب عن "البريد يصل غدا" حين صدر سنة 1975.
لكن الفرحة التي انتظرتها هي أن أرى شعري بالصحافة الوطنية.
في سنة 73 نشرت لي جريدة العَلَم أول نص لي وعنوانه "فارس وجدة" . لكن الجريدة نسيت أن تنشر اسمي.وبِهذا حُرمت من نشوة الفرحة ! لكن هذا السهو كان نعمة. فقد تلقيتُ رسائل من أصدقاء من بينهم مفدي أحمد، يخبرني أصحابُها بأنَّهم قرأوا قصيدتي. كيف علموا أنها لي؟..هل معنى هذا أن لي أسلوبا خاصا؟ هل معنى هذا أن لي طريقة خاصة في الكتابة؟ (...)
كل هذا يحدث والعائلة لا علم لها بهذه الرحلة؛ لأن الشعر عندها زلة. فلا ينبغي أن أُشعرهم بأني مُوَرَّطٌ في هذه الزلة.
3- ذكرتُ أن بداياتي كانت مع الموسيقى. كنت أَتَمَنَّى أن أكون موسيقيا-لا مغنيا-. ولكن هذه الموهبة لم أتمكن من الإفصاح عنها؛ لأن الأسرةَ محافظة، لا تسمح ،ولن تسمح لابنها البكر بأن يكون مصيرُه مصيرَ جده (أب الأم) الذي خالف طقوس العائلة. لأنه "أمدياز"، فهاجر بكمانه وأشعاره، واستقر بالجزائر حيث مات ودفن بها. الموسيقى عيب ؛ لهذا أَجَّلْتُ ممارستها. لكن هذا التأجيل طال..فكان الشعر بديلا. أخذ كل كياني، ومنعني من ممارسة أيِّ جنس أدبي آخر.
4- للحظة الإبداع طقوس، تختلف من مبدع لآخر.
عرفَتْ لحظةُ الإبداع عندي شكلين مختلفين طيلة رحلتي عبر أدغال الشعر. الشكلُ الأول كان حاضرا منذ خطواتي الأولى إلى مطلع سنوات السبعين من القرن العشرين. وهو شكل بسيط، ذلك بأني كنت خلاله أتحكم في لحظة الإبداع. كنت غالبا ما أستدعيها كلما رغبت في ذلك؛ لأن هذا ينسجم مع رغبتي في التجريب وقتئذ. والتجريب غالبا ما يخضع لسلطة العقل، وصرامة الوعي. ولعل شعراء جيلي قد عرفوا الحالة نفسها، فالالتزام الذي كان سمةَ سنوات السبعين يطلب هذا الشكل.
الشكل الثاني بدأ مع سنة 1973، واستمر إلى يومنا هذا، أي: إن هذا الشكل احتل تجربتي الشعرية منذ غادرت الرباط لأستقر بوجدة. في هذه المرحلة انقطعتُ عن الماضي، وخاصة المادي منه، ففقدت كل أصدقائي، وخاصة أصدقاء الطفولة. فواجهت عالما جديدا، فرض علي العزلةَ سنوات عديدة في مشرع حمادي، ثم في العيون (الشرقية) قبل أن أستقر بوجدة سنة 1978.
صارت لحظة الإبداع في هذا الشكل معقدة، صار سلطانها قهارا. تفرض سلطتها أَنَّى تشاء. وأيّد هذه السلطةَ على ممارسة سطوتِها أني أصبحت أومن بأن الشعر سيرة ذاتية؛ ولهذا لا يمكن أن أكتب إلا ما له علاقة بِهذه الذات.
تبدأ الولادة بتوتر شديد يطفو على صفحة جسدي، أكون سريع الغضب، أغضب وأثور لأتفه الأشياء، ولكي أَقِيَ أهلي وأصدقائي من لهيب هذه الحالة، كنت أُفَضِّلُ العزلة. هذه الحالة تستمر أياما خلالها تزدحم الأبيات في داخلي، ثم بعد ذلك تأتي لحظة التدوين. في هذه اللحظة، قد أكتب في أي مكان، وإن كنت أفضل مكانا يعج بالصخب والضجيج. فإن كنت في بيتي، أسمح للراديو بأن يرفع صوته. أكتب ولا أهتم بما يقول: كأن صمما من نوع خاص يحتل أذني. وإن كنت في مقهى، فلا بد أن تكون ملأى بالرواد.ولهذا كثيرا ما كنت "أكتب" في الشارع المزدحم.
حين يتم تدوين القصيدة لا أُطلع أحدا على أبياتها حتى أقرأها. لكن كيف أقرأها؟ في هذه الحالة لا بد من مكان هادئ. لأن القراءة تكون بصوت مرتفع. وأثناء القراءة المتكررة، قد أغير بيتا ببيت، أو لفظة بأخرى. القراءة تكون أحيانا قراءة عادية، وأحيانا تكون منشدة. هذه العملية تتكرر أياما وربما شهورا. وتتوقف عندما ألاحظ أن النص لم يعد يقبل التنقيح. بعد ذلك أُطلع عليه أصدقائي. على أن النشر لا يتم إلا بعد مرور أشهر عديدة.
5- الفكر والأدب عنصران متلاحمان يتبادلان التأثير، وهذا في الحقيقة يخدم النص الأدبي، إذ يجعله عملا عميقا. وقد يبدو للبعض أن المبدع حين يكتب نصه تتلاطم في ذهنه الأمواجُ المعرفية فتجرف تيار الإبداع. هذا التصور ممكن وجوده، ولكن الأمر بالنسبة إلي مختلف. كيف؟
ذكرت أن الشعر عندي سيرة ذاتية، أي: إن الشعر تعبير عما يعانيه الشاعر. ولأني أومن بهذا، فإنني أكتب بحرية. لا أراقب ما تمليه علي لحظةُ الإبداع. لا أتحكم لا في الموضوع، ولا في إيقاعه؛ لأن النص حين يلح على الخروج، يخرج دفعة واحدة، والمضمون قد تلاحم وشكلُه، والفكر قد غَلَّفَ كلَّ لفظة فيه، بل وكل صورة شعرية..ولهذا فاللاوعي الذي امتلأ بالفكر، وبالتصورات، يحضر أثناء الكتابة. والتجربة المعبر عنها هي التي تنتقي مما يحمل هذا اللاوعي ما تراه مناسبا.
6- الأفضل للشاعر ألا يرتبط بوظيفة، لأَنَّها تحد من انطلاقه. ماذا يفعل حين يكون بالمدرج وهو يلقي محاضرة، ثم فجأة يلمع الإلهام في صدره؟ أيترك المحاضرة؟ أيستطيع أن يتخلص من رعشة الوحي؟ لهذا فأكثر الشعراء انتشارا في عالمنا العربي هم الشعراء الذين ارتبطوا بوظائف شكلية: درويش، أدونيس، البياتي (...).لكن ثمة اهتمامات قد يباشرها الشاعر ولا تحد من تدفق الشعر فيه، بل ربما قد تخدمه.فمن بين اهتماماتي، مشاهدة معارض الفنون التشكيلية؛ لأن لغةَ الألوان عندي هي نفسها لغةُ الشعر. وأذكر أن أولَ لوحة شاهَدْتُها، زلزلتني زلزالا روحيا عنيفا، كانت لرسّام مغربي لعله الغرباوي، أو الشرقاوي.شاهدتُها بالرباط خلال سنوات الستين، وكنت برفقة رسام صديق . حين لَمَسَتْ عيني ألوانُها، أصابني الذهول. وتَحَوَّلَ إلى إعجاب عندما أخذ الصديق الرسام يوضح لي لعبة الألوان. ومنذ ذلك التاريخ أدمنت – وأنا بالرباط - حضور المعارض. هذا الجانب حاضر في شعري، بل لعله وراء ما ببعضه من غموض، خاصة ما كتبته ما بين 1971 و1974.
الاهتمام الثاني يتمثل في مشاهدة الأفلام. وخاصة منها ما كان فكاهيا. إذ كنت معجبا بالممثلَين الفرنسيين لوي دوفنيسLouis de Funès وبورفيل Bourville، حين يضمهما شريط واحد. كان الأول نحيفا، يمثل دور العاقل. بينما كان الثاني بدينا، ويمثل دور الأبله. لكن الفيلم يقدم العاقل أبله، والأبله عاقلا. هذه المفارقة كانت مثار إعجابي؛ لأنها مِلْحُ تلك الفكاهة. هذه المفارقة صارت إحدى أهم تيمات قصائدي.
لكن لي هواية أخرى لا علاقة لها بالأدب، وهي قراءة تعليق المعلقين الرياضيين في الصحف. ذلك بأني حين آخذ الجريدة، أبدأ قراءتها من الصفحة الأخيرة، ثم بعد ذلك أتوقف عند الصفحة الرياضية.
محمد علي الرباوي
9/2/1997