أحمد شحيمط - علي الوردي ومنطق ابن خلدون

علي الوردي (1913 – 1995) من خيرة علماء الاجتماع العرب . في تجربة غنية ودراسات علمية قيمة للوقائع الاجتماعي وتأملات في طبيعة المجتمع العراقي والفرد كنموذج ومقياس الدراسة في قوة الملاحظة . وشدة الانتباه للمتغيرات والظروف الاجتماعية والسياسية التي ساهمت في تكريس بنية ذهنية من ترسبات الماضي البعيد والقريب. يلف الوردي على التاريخ ويعيد قراءة منها أشياء دقيقة لا مرئية . ويمنحها معنى آخر أو يحيطها بالمعاني المسكوت عنها . ففي العودة للماضي يبدو الصراعات التي لازالت تغدي المخيال الشعبي . من صراعات على السلطة وانقسام المجتمع إلى طوائف ومذاهب . وآراء ثابتة هيمنت على الحياة وترسبت في النفوس . وعندما يستمع الوردي وينصت لكل ما يكتب عن الصراعات المذهبية وتاريخ الأمس البعيد وما يكتب في كتب التاريخ عن المجد والحضارة ومنطق لفكر الثابت. يدرك حاجة الشعوب إلى منطق جديد في الفهم والتجاوز . رواسب المفكر آتية من الدراسة المشبعة بقيم الحداثة والفكر الغربي في بعده المادي والإنساني . فقد تمرس الوردي في الغرب خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية ومن هنا يمكن القول أن الاحتكاك بالغرب كان بالغا في نفس عالم الاجتماع واكتسابه ما يكفي من المعرفة الأكاديمية ومعرفة عقليات الآخر . لن نميل هنا إلى تصنيف الوردي إيديولوجيا لان فكره يشهد أنه حاول بالفعل أن يقدم نظرة مغايرة عن كل علماء الاجتماع العرب أو الغربيين دون الدخول في مرامي وتفاصيل نشأة العلم وتاريخه والميل لرواده الأوائل . ودون أن ينصحنا بإتباع دوركايم أو كارل ماكس أو ماكس فيبر . فيلسوف التاريخ في استلهام منطق ابن خلدون لإعادة تصويب الفكرة الخلدونية في فهم تاريخنا وأحوالنا. وللفهم أكثر عن منطق البداوة والحضارة والصراع بينهما .

هنا يعترف الوردي أن هذه الفكرة هي جوهر ما وصل إليه ابن خلدون أما باقي الأفكار والتحليلات فكلها تابعة ونابعة منها. علم العمران البشري في الملاحظة وتقصي أحوال السابقين من الأمصار والدول بالتحري والدقة وتمحيص الأخبار الزائفة من الأخبار اليقينية هي ما يميز علم التاريخ الخلدوني . والتقرب في المعاينة والعيش بقرب الناس من الأشياء التي ساهمت في تبلور منطق ابن خلدون عن القبيلة والقبلية والعصبية وتشكل المدن والدول . كل التأويلات التي قسمت المؤرخين في أقوالهم عن التاريخ الأموي وغيره بين نظرتين . سلبية تلقي اللوم على الحكام في بعدهم عن الدين القويم والميل إلى الترف والبذخ وانحلال الأخلاق أو القول المؤرخ والباحث في تاريخنا أن الدول منها من ساهم في نشر الدعوة الإسلامية وإيصالها إلى ابعد الشعوب . أما الصواب حسب الوردي فيكمن أساسا في حركية التاريخ ودورته حسب ابن خلدون. في أطوار الدول من النشأة إلى التقدم وأخيرا الأفول والانحطاط . دورة كاملة أشبه بعمر الإنسان . تلك الأيام تجري ويداولها الناس ولهم في الفكر قراءة أحادية واختزالية للتاريخ والأوضاع المعيشية . لكل دولة بداية ونهاية .

يبحث الوردي كثيرا في نوازع الناس وميلهم نحو الشر . نوازع تشير إلى ما في الطبيعة الإنسانية من التوحش والميل إلى الغلبة والتسلط . وعندما يتغلغل الوردي في صفات البدو والبداوة يدرك أنها طبائع ميالة للخشونة والتغلب. وان كانت هناك صفات ايجابية كالشجاعة والكرم فليست في عمقها إلا للمباهاة بين أبناء القبيلة الواحدة والقبائل الأخرى . فالإنسان ابن بيئته وليس مدني بطبعه كما يقول الحكماء اليونان .ومنهم أرسطو بل أن البيئة هي التي تكسب الفرد طبائع وصفات من المجتمع الذي بدوره خاضع لأحوال سياسية واقتصادية . ومن هنا فالأخلاق نتاج للمجتمع وليس للفرد كان يقول الوردي وليست هناك في البيئة العربية مجال للكلام عن القيم الفردانية التي جاءت من ثقافة الغرب العقلانية أي قيم الحداثة في نزوع الإنسان نحو الاستقلالية والحرية والاختيار . منطق الصراع بين البدو والحضر يعني الصراع بين البداوة والحضارة. لا بد أن يأتي اليوم الذي يهجم فيه البدو على الحضر وسلب كل مستلزمات الحضارة من نعيم وترف . وتتشكل رابطة جديدة من أبناء القبيلة الواحدة . هذه الرابطة تشد الناس بعضهم إلى بعض .وعندما تضعف يتسرب الضعف للدولة فيبدأ الصراع من جديد على الرئاسة والاستفراد بالسلطة والزعامة . وينتهي لقيام مجتمعات أخرى وهكذا . في تصنيف ابن خلدون للبدو فقد صنفهم إلى ثلاث أصناف وهم البدو الذين يعتمدون في معاشهم على الإبل . يليهم أصحاب الشاء والبقر . والصنف الأخير أولئك الذين يمتهنون الزراعة . وفي الخصائص ما يناسبها من طبائع للبدو والحضر أي أن ابن خلدون ذكر خصائص العمران وأحوال الناس في الصنائع والفنون . فمن يقرأ في مقدمة العلامة ابن خلدون سيخرج بأفكار عدة عن أحوال الناس ووضعية الإنسان في زمنه. وفي لحمة القبيلة وهيمنة النزعة القبلية والعصبية . وأشكال الدول المتعاقبة وطبائع كل من العرب والعجم . وفي التاريخ والجغرافية . والتغير الذي يصيب الناس والبلدان . وفي الطبيعة البشرية وعلم العمران البشري واصل الاجتماع وزوال الدول . من هنا يبدو أن علماء الاجتماع العرب ومنهم ساطع الحصري يعتبر أن ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحديث. ومن كتابات الوردي ومحمد عابد الجابري كان للمفكرين ميزة أساسية وهي إعادة التفكير في ابن خلدون على ضوء ثقافتنا الحالية .

فمن العراق يوظف علي الوردي منطق ابن خلدون في دراسة المجتمع العراقي وشخصية الفرد والطبيعة الإنسانية . ويقترح مواصفات للشخصية الناجحة في العودة إلى الشعور ودراسة خوارق اللاشعور . والتغلغل في بنية العقل للتعبير عن نوازع الناس مند القديم نحو الشر والقوة .ويعود في نفس الوقت في الاعتراف صراحة بكل ما أغفله ابن خلدون مع الثبات على فكرة التقابل بين الحضارة والبداوة . ففي دراسة الوردي للعراق وطبيعته فانتماء الرجل لبيئة العراقية منحته أفكار جاهزة ومعقولة في نفس الوقت من مرحلة ما في تاريخ العراق. أي أن الوردي خبر المكان وعاش مدة طويلة بين أحضان المجتمع .وبذلك يلم بحيثيات المكان أكثر من الإنسان العادي . انه عالم اجتماع ومطالب بسبر أغوار الذات في الخطاب المحمول والمعبر عنه بالكلام أو في الخطاب الموجه للذات . وهو الذي التف والتمس من السيكولوجية آليات خصوصا من التحليل النفسي مع سيغموند فرويد في القول بالعقل الباطن والعقل الظاهر . فالعراق بالذات يعرف هذا النوع من الصراع بين الحضارة والبداوة وهو الذي يقع على منبع فياض للبداوة, منبع الجزيرة العربية . وهنا يحلل الوردي هذا الانقسام في المجتمع بين البداوة الآتية من القرب الجغرافي ومن الفتح العسكري وكذلك من عصارة الحضارة القديمة . فالعراق منبع الحضارة البابلية والأشورية وغيرها . يتجه الوردي نحو الفرد في تحليل مكوناته ورواسبه من هيمنة نزعة القبيلة عليه لذلك تجده اشد حرصا على القبلية أكثر من الدولة التي يعتبرها مؤسسة لاستنزافه في دفع الضرائب والتقليل من سلطته. وهذا النوع من القول والفعل رهين بقوة أو ضعف الدولة . ومرة أخرى يحاول الوردي تعميم الفكرة على الأوطان العربية .ويفند فكرة أن العرب اشد بداوة وتوحشا عن غيرهم من الأمم علما أن التتار والمغول اشد الشعوب توحشا وهمجية .

فالأمر هنا كما يقول ساطع الحصري أن المقصود بالعرب عند ابن خلدون هم البدو . علي الوردي بدوره يتساءل عن معنى الحضارة والبداوة . ففي الانثروبولوجية الغربية ظل التقابل سائدا بين أهل الريف وأهل المدينة . بين الطبيعة والثقافة باعتبار أن المجتمعات الغربية تعيش على قيم الحداثة والعقلانية .وان الحضارة عصارة الانتاجات الروحية والرمزية والمادية. ولذلك نجد المؤرخ الأمريكي كتب عن قصة الحضارة الإنسانية .ومن كل الأمم التي ساهمت في بنائها . هنا يلج الوردي في إبراز شخصية البدوي وكأنه يقدم لنا دراسات سيكولوجية في الشخصية وليس دراسة وقائع اجتماعية . فمن سمات هذه الشخصية البدوية التغالب أي البدوي يحب دائما أن يكون غالبا لا مغلوبا . ويتميز البدوي بالمروءة والكرم والعزة . والقطب السالب في الحياة البدوية هي العصبية والتعصب للقبيلة وحب الغزو والنهب والاعتداء . ويحتقر البدو الصنائع والمهن الفكرية . ويتباهى البدوي بوفرة الغنائم عن طريق الغلبة والقتال والعودة للديار سالما. أما في الحضارة فالناس على درجة كبير من الرقي والألفة والابتعاد عن التعصب والنزعات القبلية . يقبلون على المهن والصنائع . تنظمهم دولة تدبر شأنهم . وفي الترف والازدهار تتبدل أحوال الحضر وتظهر مظاهر أخرى للانحلال الخلقي وما شابه ذلك من أحوال جديدة قي العيش . ومن طبائع المجتمعات العربية مقاومة كل تغيير وتحديث في الذهنية وقواعد التدبير للمجتمع . نحو إدخال أشكال أخرى في التنظيم والتسيير, نحو بناء المؤسسات والعمل بالقوانين. ونحو فرض الانضباط للدولة. لكن اعتقاد الناس أن الفرد لا يمكن أن يكون متمدنا ومتدينا في نفس الوقت. فالفرد العراقي يعاني من ازدواجية الشخصية بين الداخل والخارج من خطابين متناقضين .

فالإنسان العربي بدوي في عقله الباطن ومسلم في عقله الظاهر . وهي فكرة من مسلمات الوردي أو لنقل من النتائج المستخلصة في دراسة طبيعة الشخصية العراقية ومحاولة تعميمها على الإنسان العربي بصفة عامة . طبيعة لا زالت تزود الإنسان بالفكر المترسخ في أعماق اللاشعور . ومن ترسبات القيم البدوية التي تسللت للمدينة وكانت هناك نشوء دول وكيانات تغذت على ما هو قبلي . فالواقع أن الوردي عندما عاد إلى قراءة ما كتبه من بعد وجد نفسه بالفعل أنه كان مقصرا في الملاحظات والدراسات . والأجدر انه كان يمكن يحدو في الدراسة في استعمال منطق دوركايم أو أوكست كونت في قراءة مادية وعلمية صرفة للوقائع دون الدخول في مقارنات . وان يستعين بالعوامل الاجتماعية دون أن يلتمس منجزات وإسهامات علم النفس خصوصا مدرسة التحليل النفسي مع فرويد في دراسة الشخصية الفردية . عندما التمس علي الوردي ابن خلدون في منطق دراسته . كانت تلك الدراسة تعني أن اغلب السكان يسكنون في البادية . وان التغيرات الحديثة من الاستعمار إلى الطفرة النفطية والانفتاح عل قيم جديدة تمنح عالم الاجتماع أن يبدل من أدوات الدراسة وان يكف عن التعميم وان يستعرض أقوال السابقين ويعتبرها مدخلا لإعادة فهم التاريخ والمجتمع وترسبات الفكر . فالعراق الحديث وليد ثورات وتجارب في السياسة والاقتصاد .وصراعات مذهبية وطائفية تغلغلت في النسيج الاجتماعي وأصبحت في الآونة الأخيرة سرطانا موجه للفعل السياسي . العراق الحديث نتاج طاقات بشرية واطر متمرسة في العلم والمعرفة موجودة في المعاهد والمؤسسات الغربية . ونتاج صراعات لا تنتهي يحاول فيها الإنسان العراقي العبور نحو الديمقراطية وإقامة مجتمع المؤسسات والقانون للكل . عموما يبقى على الوردي شعلة في علم الاجتماع العربي. من محاسنه العودة للبيئة لأجل قراءة أحوال المجتمع بأدوات المنطق الخلدوني . ومن قراءته نداء للباحثين لاستكمال مسار البحث في المجتمعات العربية في الظواهر التي تعطل التنمية. وان تكون مفاهيمه حاضرة وقابلة للاستثمار في سبيل بناء علم اجتماع مستقل بذاته . وان كان أهل البادية تسللوا للمدينة في هجرة واسعة فان الأمر هنا يتعلق بأهداف الرأسمالية وخلق بنية صناعية والتي كانت في حاجة إلى بروليتاريا عمالية وخلخلة المجتمع التقليدي . وأخيرا لن يداوي منطق البداوة في بعدها السلبي إلا ترياق العلم والديمقراطية وبناء الدولة العقلانية.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشارة :

احتفاءً ومراجعة ونقدا للأفكار الجريئة والريادية للمفكر العراقي الدكتور (علي الوردي) الذي وصفه (جاك بيرك) في كتابه (العرب: تاريخ ومستقبل): (الوردي كاتب يحلّق إلى العالمية بأسلوبه الذي يضرب على الأوتار الحساسة في المجتمع، مثل فولتير)، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر حلقات ملفها عنه. لقد سبق الوردي بأطروحاته الكثير من المفكرين العرب، وتناول موضوعات صارت تُطرح الآن كأنها معطيات حديثة، علما أنه طرح أغلبها في مرحلة الخمسينات، وقد تجاهل الباحثون العرب أطروحاته بعد أن غرفوا منها ولم يعودوا بحاجة إلى ذكره. وهذا كتاب الباحث المعروف (هشام شرابي) الأخير (نقد الثقافة الأكاديمية) يذكر فيه أسماء وجهود باحثين في علم الإجتماع في الوطن العربي- بعضهم مغمور لم نسمع به أبداً- من المحيط إلى الخليج عدا الدكتور (علي الوردي). تحية إلى روح المفكر الثائر علي الوردي.

أعلى