تتشكل رواية نص (السواد الأخضر الصافي) للناقد والروائي عباس عبد جاسم من المتن / المطبوع والهامش / المخطوط بخط المؤلف، فضلاً عن رقوق (تغريبة السواد الأخضر الصافي)، لابراهيم الإبراهيمي – التي هي (اعراف مطموسة): = شرائع – قوانين – نظم – مبادئ – تعاليم ، الموجودة في (داخل) المتن ولولاها لمَا كان للرواية من وجود، او إلى حاجة لكتابتها، لان الرقوق هنا عبارة عن متن المتن، وبؤرة (= المركز – المحور) العمل كله، والمبنى الحكائي للرواية، وبالاستعانة المجازية يكون المتن المروي من قبل الرواي، والهامش المخطوط من قبل المؤلف متن خارجي للمتن الداخلي رقوق إبراهيم الابراهيمي، وهما أيضاً بنية دلالية أصبحت اطاراً لرقوق التغريبة التي يتناسل منها: الالواح – المرويات – الوقائع التاريخية والدينية – الأساطير – الكتابات الذوقية، كما في الشكل التالي:
وبهذا نكتشف ان رؤية المؤلف والراوي وإبراهيم الإبراهيمي تكون : مختلطة، متشابكة، متداخلة، متنافذة، متماهية في السرد، ومشتركة في الرؤى، الهادفة إلى كشف طبقات المعرفة من اجل فهم " لعبة الحقيقة " عبر الانثربولوجيا، أي الانطلاق من الواقع السوسيولوجي بحثا عن الحقيقة في الوهم الواقّع في الارض الحرام، لإنتاج رؤية توطد خطاب ما بعد الحداثة او خطاب الاختلاف المنطلق من سوسيولوجيا الوهم والخرافة، لان (العالم الحقيقي أصبح خرافة) كما يقول نيتشه، وان فكر الاختلاف هو تجاوز لحظة ما بعد الحداثة، وعليه فلن تكون (السواد الأخضر الصافي) انعكاساً ولا تحريفاً للحقيقة، بل هي مكون حيوي في اعادة خلق شروط الوعي الذاتي والجماعي، ولهذا يعمل الروائي بقصدية عالية تتسم بالاصرار الشديد على احالتنا إلى خارج النص تماماً إلى ما وراء السرد وما وراء الرواية، للعثور على مداخل (= مفاتيح) الشفرات والإشارات المبثوثة في الرواية(1)، والواقعة في منطقة تداخل ما بين الوهم/المتخيل والواقع/السردي، لكي يقوم القارئ باقتناص المعنى من خلال الانفتاح على الرمزية – التأويلية، لانه لا تأويل خارج القراءة، ولا معنى خارج التأويل، وهذا يرغم القارئ على بذل المحاولة من اجل إعادة تجميع آفاق النص الدلالية، فان التأويل كما يقول تودوروف هو " ادخال العمل الادبي في علاقاته مع القراءة " ، جدلية تستنطق النص لاظهار المغيّب فيه او لربط الأجزاء المتشظية لتوحيدها.
وبداية على القارئ الانتباه بان المؤلف قام بوضع إشارات – 1 في بداية الكتاب قبل النص – لان الرواية تبدأ من الصفحة الأولى تبدأ من العنوان وتجنيسه بينما يبدأ النص بعد إشارات – 1- وهذا لايتعارض مع ما قلناه من ان الرواية تتكون من : الرقوق ، المتن، الهامش، بينما وضع إشارات -2 في نهاية الكتاب قبل فهرس المحتويات، على شكل تعريفات لأمكنة واسماء وردت في الرواية وإحالات عن كتب ماخوذ منها بتصرف، لذا جاء هذا الاختلاف في الموقع والسياق بشكل طبيعي، فالإشارات -1 وضعت على أساس دليل قراءة للقارئ، ومساعدة في التلقي، ولكنها كانت عملياً متاهة وفخاً في اللحظة ذاتها، وهذا ما حدث في الفقرة الاولى منها، عندما نقرأ(ان ضمير المتكلم الذي هو (انا) – سارد لاشخصي، أي ليس له اية علاقة بمؤلف رواية هذا النص)، وهذا ما لم نلمسه ابداً، انما كان ضمير المتكلم (انا) الذي هو (عباس عبد جاسم) حاضراً بقوة وعمق في العمل من بدايته لنهايته، بل حتى ان هذه الإشارات-1 كانت تشتغل على خدع وتضليل وتمويه القارئ، لقذفه في التيه، بينما هي في لحظة اشتغالها على القارئ تشترك في التأسيس والإنشاء لرواية التخييل/ الواقع، المتماهية مع ما لم يُقل او قيل على نحو غامض، ملتبس، او عن طريق ايحاءات مشفرة، لذا ينبغي الوصول اليه وراء او خارج النص، وعليه تكون الفقرة الثانية من الإشارات-1 : (رواية هذا النص قائمة على بنية افتراضية متخيلة لا أساس لها من الواقع)، فقرة مناقضة لواقع سلطة الكتابة، لان الرواية قائمة على بنية متخيلة لها اساس من الواقع على شكل مصادر موسوعية: تاريخية ودينية واسطورية واثرية، وعلى شكل ذاتي:يوميات وذاكرة طازجة تشعرك بحيويتها، ودفتر ملاحظات شخصية.
لكننا نعثر على الدليل الحقيقي المؤدي إلى (فض بكارة الرموز) والساند للإشارات-1، بدلالته الرمزية- التأويلية في الصفحة التي تسبق الإشارات-1 في الجمل الثلاث المجتزة من: النفري – الآن روب غرييه – عباس عبد جاسم، يقول النفري : " يا عبد ، اول الفتنة معرفة الاسم المجهول"، أي الفتنة معرفة المجهول، الفتنة الاسم، فإذا عُرف الاسم يستوي الكشف والحجاب، لأنه " إذا دعوتك إلى الاسم فإلى الحجاب دعوتك، فخذ نوري معك لتمشي به في ظلمة ذلك الحجاب، فكل حجاب ظلمة، لان النور لي وانا النور – النفري"، وبهذا يكون باستطاعتنا معرفة الاسماء المجهولة في النص، بجانب ان (قميص الأخضر الصافي فتنة الاسم المجهول) هامش ص77، واختراقه عن طريق الازاحات والتماثلات، لنكون في الممر المؤدي إلى المدخل (= الفهم + الوعي) للشروع في قراءات متعددة مختلفة مفتوحة تكون خارج السياقات الاعتيادية والمألوفة والمتعارف عليها، قرائية تتجاوز مديات كتابية النص، بشرط ان تكون متماهية معه، لفضح المسكوت عنه، وغير المعلن، والمخفي، والمستور، امام هكذا كتابة تستفز القارئ/المتلقي/ المرسل اليه، سيميولوجيا وسوسيولوجيا وتاريخيا وفكرياً، لان الواقع الملتبس بالسواد، يدفع بهذا المتلقي إلى الالتجاء لبياض السواد/ المتخييل في قراءته، اسوة بالكتابة، لان الرؤية في (السواد الأخضر الصافي) للصفوة والغيبة للعامة.
ينتهي المتن/ المطبوع بـ (فاتحة الوقائع)، ونقرأ في نهاية النص ما يلي: (قال مَنْ روى الوقائع: لم ارَ خامسهم في محضر الجلسة، والذي كان معهم اكد : كنت خامسهم في الحضور – ص122). بينما تكون افتتاحية نص (وقائع الفاتحة) التي يبدأ المتن/المطبوع بها هكذا: (مؤكد ان الذي روى وقائع الجلسة لايعلم من كان يتكلم نيابة عني – ص9). هو الذي راهم وهو الغائب وهم في الوقائع، ولم يروه وهو الحاضر في الوقائع، اذن (ثمة فجوة) في الرؤية بين الرائي والمرئي، فالمحذوف من الوقائع يبقى (هو (انا)، قال خامسهم الذي رأى وقائع الجلسة-هامش ص117)، المتنافذ في الحكي والروي وخط الكلمات في الهامش، هو روح النص.
هذا كله جعل رواية نص (السواد الأخضر الصافي) تعتمد على خطابين، الخطاب الروائي/التخييلي وخطاب التاريخي/الاسطوري، من حيث: الشخصيات- الازمنة – الأمكنة- الرؤية – الصيغة، لان الواقع ذاته هو شيء يذوب في الميثولوجيا والانثربولوجيا مع مجرى الزمن، والمكان او بالاحرى ان اغلب الواقع يذوب في الغموض والذي يبقى يتحول إلى الميثولوجيا، تتلاشى الحقيقة ويبقى الخيال لو انه اشترك في ذلك الواقع، أي هو يشكل ما بعد الواقع، والذي يمكنه من البقاء بوصفه أسطورة، عليه فان تميز الخطاب الروائي عن الخطاب التاريخي يمكن اختزالهما من خلال هذا الشكل:
هذا التميز في الخطاب هو الذي يجعلنا لا نقبل بالقول عن (السواد الأخضر الصافي) بانها رواية نص تاريخية، فالحكاية المتناولة في الخطاب يمكن ان تكون: متخيلة- حقيقية- تاريخية-سياسية. او جميعها متداخلة، فالخطاب هنا يعطينا إشارات لواقع غير متحقق، وبوصفها رموزاً للجهد الانساني في تخيل ذلك الواقع، لان الرواية الرمزية تنجح حين تعمل خيالاتها إشارات وتشفيرات معقدة، تبتعد عن المفاهيم البسيطة، نحو صناعة الخرافة.
ولكن ما الذي ينطوي عليه انتاج خطاب " تبدو فيه الاحداث تسرد نفسها"(2) لاسيما حينما يكون الامر هو مسألة احداث يتم تميزها ظاهريا على انها واقعية اكثر منها خيالية، كما في التماثلات التاريخية – الجغرافية؟ الاحداث الواقعية يجب ان لاتسرد نفسها، الاحداث الواقعية لابد من ان تكون كما هي، يمكن ان تكون بشكل كامل إشارات للخطاب يمكن التحدث عنها لكنها يجب ان لا تكون رواية للقصة"(2) هذا يجعل القارئ الذي هو (كينونة) مفكرة خارج الخطاب وعوالمه، وليس في يده الا التفكيك والتأويل والاحالة، قبل ان يقوم بتحويل النص من وهم لمعنى ما إلى وعي بان المعنى لاحدود له لانه (ينبغي على القارئ ان يشك في ان كل سطر في النص يمكن ان يخفي معنى سرياً)(3).
ان وعي وفهم القارئ/الناقد غير وعي وفهم الروائي/المؤلف، لأنهما مستقلين، ولايمكن وضعهما الواحد مكان الآخر، وليس من الممكن تداخلهما فـ باختين يشدد على الثنائية التي لا يمكن اختزالها بالمتلفظ والمسْتقْبل:
" ان الفهم الصحيح دائما فعّال ويمثل جنين الجواب، والفهم الصحيح يستطيع ادراك الثيمة بالاستعانة بمفهوم الصيرورة نفسه، الفهم يقابل التلفظ كما يقابل الجواب جواباً آخر ضمن الحوار، والفهم ايضاً هو بحث عن خطاب مضاد للخطاب المتلفظ"(4).
لذا عمل الروائي بقصدية محسوبة دقيقة (لقد كتبت الرواية بعد انتهاء حرب الخليج الثانية واندلاع الانتفاضة في الجنوب ثم قمعها)، على ترميز وتلغيز الأسماء والأمكنة والازمنة، والوقائع، بل جعل الشخصيات، شخصيات مركبة متنافذة ذات اصوات متعددة، حتى أسئلته وإجاباته تكون مبطنة وأحيانا محيرة ومربكة في المعاني المطروحة، واذا ما توصلت اليها تكون معانيها خاضعة للتأويلات المتعددة، وفي منطقة الشك.
ومن هنا تبرز أمامنا أسئلة، ويجب علينا معرفة الجواب، والا سنكون في متاهة، وتحول هذه الاسئلة إلى طلاسم وأنفاق سود، وخاصة اذا كان الجواب في ثنايا الكتاب ولم ننفذ اليه، او نقتحمه عن طريق التفكيك والربط على ضوء الرمزية – التأويلية.
وعليه ما السواد؟ وما هو السواد المستور؟ ومن هم اهل السواد؟ وما هي ارض السواد؟ ومن هو السواد الأخضر الصافي؟.
لقد استثمر الروائي الامكانيات المخفية في كلمة (السواد) عندما حولها إلى طاقة ابداعية ومنح (السواد) معاني مختلفة في الرؤية والمفهوم، فالسواد لون يرمز إلى الظلام، والحزن، وإلى الرؤية المحجوبة: (عند حضوري المفاجئ او المطلق لا أحد يراني)، وعليه يكون السواد المستور = الغيبة = الحجاب = مقبرة وادي السلام، ليس هذا فحسب بل تتداخل الدلالات – الرمزية بالدلالات – الواقعية عن طريق المكانية المادية، فارض السواد = العراق، واهل السواد = العراقيون، وعليه يكون (السواد الأخضر الصافي) حاملاً دلالتين: رمزية ومادية، بهما تتشكل وتترافد صور شعرية عن العراق (وطناً وشعباً) وعن الشخص الأخضر – السواد يأتي بمعنى الشخص في مختار الصحاح ايضاً – وباتحادهما يبقى السواد على مر الازمنة (بياض مستور).
من هو اليعسوب ؟ هكذا يتساءل الراوي، بل يلحق السؤال باسئلة اخرى كثيرة، وماذا تعنى كلمة (يعسوب) في الرقوق المنشورة؟ نحن لا نستطيع معرفة ذلك، ولا تكوين وجهة نظر موضوعية، الا من خلال الاحالة خارج النص، لانه من الضروري ان نبحث وراء المعنى المباشر لنكتشف الدلالة " الحقيقية" المغيبة، الخاتلة عنا، يقول الامام علي (t) في خطبة البيان:
انا مكلم الأموت، ان أبو الائمة الأطهار، انا مؤل التأويل، انا ولي الاصفياء، انا ولي الانبياء، انا سر الاسرار، انا باب الحطة، انا عوام الغليل، انا شفاء العليل، انا صفوة الصفا، انا يعسوب الدين، انا جبل قاف، انا الشهيد المقتول، انا المخبر عن وقائع الآخرين، انا سر الحروف(5).
واذا علمنا ان السواد الأخضر يقول عنه: (اما جدي اليعسوب فكان يرقع ثوبه، ويخصف نعله).
ان مافعلناه هو انه قمنا باختراق قصدية النص المضمرة، الغامضة، الملتبسة، من الخارج، أي الاستعانة بالإزاحة والإحلال، لان ذلك لا يمكن ان يتحقق الا بالرجوع إلى المصدر، المصدر التراثي الرئيس، الذي اشتغل عليه الروائي، في تواصله مع القارئ، لإستفزازه وتحريضه على البحث والاكتشاف والوقوع في غواية الرؤية (لان ما نحن عليه من اشتراك مع التراث الذي ننتمي اليه هو الذي يحدد افكارنا المتخيلة ويقود فهمنا) (6) ، ويقود رؤيتنا للمعرفة بان النص لحظة أبداعية خلاقة التي هي جزء من الحياة الشمولية للروائي تناغمت مع التراث لتأسيس وتجذير حالة جديدة في هكذا نص، حالة تعمل على ادانة الحاضر الراهن (حربين اقليميتين وانتفاضة شعبية خلال مدة زمنية قصيرة) من خلال التراث الانساني، والاساطير، والحكايات، ولغربلة المعنى الواقعي المتواجد في النص، بشكل تخييل الذي هو مسار لانهائي وغير مكتمل وغير ملموس، لكون الازمنة الروائية والواقعية متداخلة، حيث تجعل القارئ محتاراً عن أي زمكان: يسرد، يروي، يحكي، فالواقعة – بالنسبة للمؤلف وليس القارئ – تمتلك وعياً بتاريخية الحاضر (اللحظة الانية) وبانفتاحية الحاضر على الطروحات التاريخية كلها، وهنا يجب ان يكون القارئ على وعي بالقوى الاجتماعية والتاريخية والدينية المؤثرة في الحاضر والمرتبطة بالماضي المؤسس لهذا الوعي المتراكم في الوقائع، ولهذا وعلى ضوء سياقات فلسفية سوسيولوجية عقلانية متمثلة في ابواب متاهة العنقاء المتسمة بـ : العلمية – الواقعية – الكونية ، مقابل رؤى ميتافيزيقية متمثلة في خوارق العين المتسمة بـ: اللدنية – الروحية – اللاهوتية، منهما تتأسس رؤية احادية (بصيرة الرائي) للوصول إلى المرقاة الرؤية الشاملة، المتحركة في فضاءات مفتوحة لا محدودة وتمثل رؤية السواد الأخضر الصافي ايضاً، (أي من الابواب يفضي إلى المرقاة؟) وتكون على الشكل التالي:
وتكون ايضاً على شكل آخر، على اساس العلاقات الجدلية بين الابواب (= المداخل) على اعتبارها رؤية صغرى تنتمى للجسد (= الشهوة) والعين على اعتبارها رؤية كبرى تنتمي للروح عندئذ يستوي الكشف والحجاب في المرقاة (العين التي ترى كل شيء).
واستناداً على القاعدة التي يستند عليها هذا التطريس باعتبار ان (الكل ينبغي ان يفهم انطلاقاً من الجزء والجزء انطلاقا من الكل. في كلتا الحالتين يتعلق الامر بعلاقة دورية. الاستحضار المسبق للمعنى – الذي بفضله يُدرك الكل – لايثير فهماً واضحاً الا اذا حددت الاجزاء- المحددة تبعا للكل- بدورها هذا الكل)(7)، وبهذا أصبح بإمكاننا العثور على العلاقة الدلالية التأويلية لكل من السواد الأخضر والسواد ورجل الحذاء الأسود، وبور-سين، لتمثل في الحقيقة لنا الوحدة الكاملة للمعنى، والصورة الضخمة المعلقة في سواد البياض على الصفحات جميعها، فالنص يعمل على تكريس (سلطة الذات من اجل ولادة الفرد)(8) كما يقول مطاع صفدي، من خلال العمل على دلالية الشفرات – الايحائية هذه:
- سين: الحذاء الاسود الثقيل، الذراع الطويلة، خطوات الشيطان ص56.
ان بور – سين ناكد اليعسوب وناصبه العداء / هامش ص41.
سين : يعني الاله بور – سين / هامش ص116.
الواح غير محفوظة في (امبراطورية أ. غ) سين / ص101.
بعد التحقيق من صورة التنين، تبين انه كلب الحراسة الأمين للإله مردوخ العظيم هامش ص98.
وعند مقاربة قصة (فتنة الاسم المجهول) الواقعة ضمن المجموعة القصصية (تطريسات)(9) لنفس الكاتب نقرأ ما يلي:
القوة غير العاقلة، منطق الصدر العالي، وهم المكابرة (=المنازلة . أ. غ) الكبرى اسطورة الذراع الطويلة / ص116.
وننطلق من نفس السياق في قراءة السواد الاعظم:
ان السواد الاعظم ما زال مأسوراً في محطات انتظار الذي لا يأتي ، يجب ان نشطب اسطورة البطل المنقذ من قاموس حياتنا، لأنه لم يستطيع ان ينقذ نفسه.../ أي خيال يجنح إلى منقذ انما هو خيال مريض / اذن لماذا لا يكون كل واحد منا هو المنقذ في حضوره المطلق الان؟ ص35.
في فقرة اخرى، تتجلى الذات الراوية في اتحادها بالسواد (اعني : الارض – السلام – الحرية – الخلاص – الامل)، وفي وقائعه التاريخية وخرائطه الجغرافية، ففي هذا التجلي
(= السمو – التوحد) تكتمل لدينا الرؤية السوسيو-سياسية، ووضوح عمق التداخل فيما بين الناس والازمنة والامكنة، وتحويل كل تأويل إلى الفضاءات التاريخية والانية:
اهل السواد، كانوا يخرجون من تجاويف مطموسة من الجغرافيا او يدخلون إلى تجاويف مجهولة في التاريخ، وقائع مجهولة لمواقع معلومة / متن ص34:
- موقع قدمي في (ماوت).
- اندثر في ثلوج (بندوره).
- بقايا في (...).
- الشظية التي اخترقت خوذته في ((حوض بنجوين))/ هامش ص34.
ولا يجب ان يختزل اهل السواد التجربة الإنسانية التاريخية – السوسيولوجية منذ فجر السلالات وليومنا بـ المنقذ / السوبر مان، فلا وجود لمثل ذلك الا في افلام هوليود، وان حصل ذلك فهو احد أمرين، أما ان يخرج رجل نتيجة ظروف سوسيو-تاريخية لتصحيح شأناً ما كما في واقعة الطف، او لاستعباد واستباحة وطن كما حصل في الماضي القريب، وما تميزت به الرواية كما لاحظنا استشرافها للمستقبل، والتنبؤ بذلك، وفضح وادانة أساليب التزوير والتشويه التي يقودها بعض المؤرخين والمثقفين ونخبة الفكر في العالم ، طمس الحقائق، والصاق التهم الملفقة، والافتراء، ووصل الامر بالبعض ان يقوم بإضفاء العصمة والإلوهية على (...)، ولقد تناول المؤلف ذلك باسلوب لعبة الورقات الثلاث ، ان التشوهات القائمة في المدونات او المرويات:
= تشويهات ناجمة عن تقلبات أحوال الطبيعة: كالأمطار–الفياضانات–الحرارة–الرياح–الزلازل.
= تشوهات ناجمة عن تقلبات أحوال البشر: كالأمزجة – المعتقدات – الاهواء.
= تشويهات ناجمة عن تقلبات أحوال التاريخ: كالانقلابات-الثورات-الحرائق-الحروب ص90 (سين).
التشوه غير ناجم عن قوى الطبيعة، ربما ناجم عن فعل مقصود في التشويه/ هامش ص86 (دليل المرويات).
ان التشوه ناجم عن اخطاء طباعية في المرجعيات المدونة او عن تلفيقات شفاهية في المرويات المنطوقة / هامش ص42 (انفاق السواد).
القارئ يوضع امام ثلاثة اختيارات متوزعة على ثلاثة فصول (انفاق السواد ، دليل المرويات، سين) لأسباب التزوير والتلاعب بالوقائع وتحريف الحقائق (كما في اكتشاف ليونارد و ولي لنفق هيكل سليمان والذي حفر كشبكة مائية في عهد الصليبيين والذي عثر عليه في العقد الثالث من القرن العشرين) اختيار صعب ولكنه غير بسيط، عندما يحل (= يتفكك) على طريقة الكلمات المتقاطعة، وعلى الفهم التأويلي، والمعنى المزدوج، للتواصل مع العبارات النصية، ويمكن للنص ان (يؤول بوصفه وحدة، اذا مارس، منظوراً اليه بوصفه كلية، وظيفة محددة: ستوصف العبارة النصية، غالباً بوصفها انتاج " ذات متكلمة وحيدة " أي بوصفها انتاج مخاطب او ناسخ)(10)، على ان تكون المعلومة المستخلصة من النص مختزلة، منظمة، كما في الفقرات النصية السابقة، التي تناولناها، فالرواية كيفما كانت، او تحت أي مسمى جناسي، فهي كونية، ومتجاوزة للتاريخ والمعرفة والثقافة.
في رواية (السواد الأخضر الصافي) لا توجد شخصية محورية او شخصية مركزية نهائياً، انها رواية اللاشخصية، رواية اللابطل، رواية حبلها السري فقط (العراق)، رواية تشتغل في الضفة الأخرى اللامرئية، لانها رواية غير نمطية، غير مألوفة للذوق العام والخاص، رواية تعبث بمركزية الروي والحكي قبل ان تضلل المتلقي، وهذا يجعلنا نتساءل كما تساءل المؤلف عباس عبد جاسم: اهي رواية (لغة) ام رواية (ذات) ام رواية (افكار) او رواية (لارواية)؟ (11) انها جميع ذلك، لانها احتوت على كل الطروحات الحديثة (منها: ما وراء السرد – ما وراء الرواية). بهضم الطروحات الاخرى، ولم تقطع صلة الرحم مع اية رواية، لادونكيشوت، ولاكرامازوف، ولا الاوديسا لـ جويس، ولامائة عام من العزلة، ولا الشرق المتوسط، ولا رائحة القهوة، انها الجزء المميز من الكل المتناغم الكوني ، رواية الذاكرة البيضاء الواقعة في وقائع السواد السوداء، الذاكرة المحاطة بانفاق السواد ومدرجاته الثلاثة: العرش-الحاشية-العامة.
بعد كل ذلك ، امن حق القارئ بعد ان شاهد الموت المجاني والموت المعلن والموت المستور، ان يتساءل لماذا مدينة غدامس الصفا بالذات ارتبطت بالسواد الأخضر الصافي، ارتباطاً وثيقاً؟ فهو ينطلق منها باحثاً ، متأملاً، بعد امتلاكه لألواح غدامس الصفا الاربعة: لوح الاعماق (=القبر) ولوح الصلصال (=الانسان) ولوح السكينة (= الموت) لوح الاثير (=التراب)، ان مدينة غدامس اسمها يتألف من مقطعين (غد) و (أمس) ، اما الصفا فهي مدينة مستورة بسواد اخضر صاف في العراق، وهي تشبه مدينة غدامس المغربية، حيث تكثر فيها: المدافن – السراديب – المقامات- الاضرحة – المنازل المبنية تحت الارض، وفيها يتعايش الاحياء/ الاموات، والاموات / الاحياء، اليس هي المدينة التي تضم اكبر مقبرة في العالم (مقبرة وادي السلام)؟ انها مدينة النجف الاشرف، وهي في الوقت ذاته تمثل العراق / السواد، ولان السواد (لم يعد بحاجة إلى ثورات بيض او حمر او سود، لان لصوص الليل، وثعالب النهار، وذئاب الصحراء وغالباً ما تسرق احلام السواد المشروعة) ص67، كم كان عباس عبد جاسم دقيقاً في وصفه للحالة العراقية، بكافة ازمنتها، ولكن سيبقى السواد يشتبك بالخضرة، نبوءة ام تنبأ؟.
ولان غدامس الصفا اكثر تقبلاً بان تكون منطقة افتراضية ما بين التخيل / الواقع وما بين الوهم / الحقيقة لـ السواد / الأخضر / الصافي، وهنا هل طرح المؤلف الواقع بوصفه افتراضاً؟ أو بوصفه بؤرة متخيلة متماهية مع الواقع. او عمل على الكشف عن المعنى المضمر من خلال الوهم؟ او اشتغل على الواقع بوصفه وهماً وعلى الوهم بوصفه واقعاً؟ .
اما من حيث الشكل والفكرة المطروحتين في الرواية النص، لقد كان لابد من الاشتغال على هكذا شكل فني لاحتواء السرد المتوزع من اجل توصيل فكرة (وجهة نظر – اراء – استشراف – ادانة) ملغومة محملة بروئ ايديولوجية، وهي تعتبر غاية في الخطورة في زمنية الكتابة ثم في زمنية النشر، رغم ان هذا الشكل الفني قد عمل على تكسير المألوف واختراق النمطي وتجاوز المتعارف عليه والتحرر من آلياته ليؤسس في ذات الوقت شكلية مغايرة تماماً بعد المغادرة بمفاهيم تجريبية ميتافيزيقية، معاصرة ، وهي لها مشابهة في التراث العربي الاسلامي من حيث الشكل (= الصورة احياناً): متن / هامش، ولكن هي في الحقيقة مختلفة اختلافاً عميقاً في آليات اشتغالها، فالهامش في كتب التراث ينحصر دوره بالشروحات او تسطير عليه متن ثاني مستقل عن الأصلي ولا علاقة له بالمحتوى الموجود في المتن الاول، اما عند عباس عبد جاسم، فهما متداخلين، لانهما قد وضعا أساساً الواحد يكمل الأخر، في سياقات مفهومية المعنى، ولهذا ليس من الممكن الاستغناء عن بعضهما والا فقدت هذه اللعبة الشكلية الفنية مقومات وجودها وصيرورتها، وتناثر المعنى واختفى في متاهات اللامعنى نتيجة هذا البتر القسري افتراضياً، وهذا ما لم يخطط له المؤلف نهائياً او يفكر فيه، لانه تكاملهما يتم عبر اتحادهما(12)، وعليه أعطى الشكل مساحات واسعة في الانفتاح الترميزي التأويلي للشخصيات والامكنة والأزمنة، واعطى حرية غير محدودة في التلاعب (= فنياً) من جهة الازاحة والاحلال في التشكيل السردي، ومنح سلطة غير متناهية للحلم في فتح بوابات الخيال، اخيراً اقول ان رواية – نص (السواد الأخضر الصافي) أثبتت ان أي قارئ اذا لم يكن منتمياً إلى النص الذي يقرأه لا يستطيع ان يكون جزءاً من المعنى الذي يفهمه.
الهوامش والإحالات
ارجو من القارئ الانتباه عندما تمر عليه كلمة (رواية)، فانا اقصد بذلك هو: الرقوق – المتن المطبوع – الهامش المخطوط، جميعها متداخلة.
هايدن وايت – قيمة السردية في تمثيل الواقع – ت رمضان مهلهل سدخان . مجلة الثقافة الاجنبية . العدد 3/2009. ص53.
امبرتو ايكو – في أثر المعرفة الخفية – ت رعد محمد مهدي – مجلة افاق عربية – العدد 4 نيسان / 1992.
تزفيتان تودوروف – المبدأ الحواري : دراسة في فكر ميخائيل باختين . ت فخري صالح . دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1992.
الشيخ علي اليزدي الحائري – الزام الناصب في اثبات حجة الغائب. المكتبة المرتضوية – ظهران 1351هـ.
هـ . غ غادامير – فلسفة التأويل . ت محمد شوقي الزين . منشورات المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء / منشورات الاختلاف – بيروت ط2 2006- ص42.
م. ن. ص119.
ميشيل فوكو – الكلمات والاشياء . مجموعة من المترجمين . مركز الانماء القومي . بيروت 1989 -1990 (المقدمة).
عباس عبد جاسم – تطريسات (قصص). دار الشؤون الثقافية. بغداد 2003.
تون أ. فان ديك – النص: بنى ووظائف – ضمن كتاب العلاماتية وعلم النص. مجموعة من المؤلفين . ترجمة واعداد د. منذر عياشي . مركز الانماء الحضاري . حلب 2009. ص145.
عباس عبد جاسم – ما وراء السرد وما وراء الرواية . دار الشؤون الثقافية . ط1 بغداد 2005.
لقد اشتغل ادونيس في كتابه الشعري "الكتاب : امس. المكان. الان." – الصادر عن دار الساقي بيروت 2002- على المتن والهامش أيضاً، ولكن كان اشتغاله عليهما على الطريقة التراثية، حيث كان الهامش عبارة عن ايضاحات واضاءات في دلالية "تاريخية اللحظة" للمتن الشعري، ويقول القاص محمد خضير عن كتاب ادونيس هذا في "السرد والكتاب" – الصادر عن مجلة دبي الثقافية/ 36. ايار 2010 : "الديوان / المدوَّنة" الذي حقق اتصالاً مع " عناصر الماضي" وأخى بين النظامين: نظام المخطوطة ونظام التوزيع الطباعي المتبادل بين المتون والهوامش، السوابق واللواحق، الامتداد والفواصل، ومزج بين المدى البصري والنظر الدلالي. ص121، أما في رواية - نص "السواد الاخضر الصافي" فلقد كان الهامش المخطوط متناً مضافاً للمتن المطبوع، إن المغايرة والاختلاف بينهما قائمة في الشكل والمعنى.
* عباس عبد جاسم – رواية نص (السواد الاخضر الصافي) منشورات الغسق، ط2، بابل 2002.