منذ يفاعتي كنت أقرأ، ولكن بشكل متقطع، وذلك بتشجيع من اصغر عماتي المثقفة الوحيدة في العائلة، ثم من استاذي في الكلية العلمية الوطنية قدري الحكيم، قال لنا وقتها، من يقرأ يكتشف العالم ويتعرف على ثقافات الأمم… ولعلني من هذه النافذة، أصبحت اكتب وما زلت..
إلا أنني في الفترة الأخيرة تعرضت لعملية جراحية كان عليّ ان ابقى طريح الفراش لسنة او اكثر، وفي هذا الواقع الذي حصل خارجا عن ارادتي، وجدت ان القراءة وحدها، لا التلفزيون، ولا الكمبيوتر، نجاة من الملل والسأم، فما ان اسند ظهري الى وسادة عالية في السرير الذي انام فيه وبين يدي كتاب حتى استغرق فيه حتى نهايته، بل صرت أكتب دائما في الفراش، ولكي تخفف عني شقيقتي السيدة نجاح من تعب الكتابة في السرير احضرت لي نجارا حاذقا صنع لي طاولة صغيرة، وبذكاء المعلم، فصرت أكتب عليها براحة، فأنجزت كتابة رواية، وأنا الآن أعمل على رواية ثانية.
هذا السرير، وهذه الطاولة الصغيرة، وهذه الاقلام والاوراق، كانت عدتي طالما انا مستيقظ. لقد اكتشفت ان القراءة في غرفة مغلقة، لا يصل اليها صوت الشارع، هي الأمتع من اي قراءة اخرى.. ففي هذا الهدوء كنت أتمتع باكتشاف العالم، الذي قال لنا عنه أستاذنا في الثانوية، فكان ذلك نبوءة تحققت بالنسبة لي، فقرأت كتبا بكاملها، وباستمرار، دون ملل. إنها قراءة وجدانية، كما ذكر آلبرتو مانغويل، في كتابه الرائع ‘تاريخ القراءة’ تقول أم لابنتها: في حياة الناس الواقعية، هناك الكثير من الامور الاخرى التي تشغل بالهم، احكمي يا ابنتي بنفسك. هل سبق لك ان سمعني اثق واتوقع من الحب كما يفعل الناس في هذه الكتب؟، علما بانه كان يتوجب ان يكتب عني اكثر من فصل، انا التي تزوجت مرتين وأم لاربعة اطفال. وعندما كانت تداهم ابنتها وهي تقرأ كانت تستنكر تلك الاسئلة الجاهزة، ومن غير اي معنى، مع ان هذه الأسئلة تمس صلب الحياة الشخصية، ناهيك عن الاوامر والنواهي التي تمتلئ بها تلك الكتب.
كنت أعرف ان ليس كل كتاب ملائما للقراءة في الفراش. فقد كان الكتاب الملائم تماما لغرفة النوم الهادئة هو القريب من القلب، فهذا ما اكتشفه ويستان أودن. كان يرى ان الكتاب يجب ان يتناقض مع المكان الذي يُقرأ فيه، لم يكن يستطيع قراءة كتب ريتشارد جفريس مثلا وهو يسترخي على مروج الحدائق الخضراء. في الواقع هناك شعور غريب عندما يواجه الانسان عالما يشبه كتب بيلو وهو على ظهر مركب يشق طريقه فوق الماء. ان التناقض بين الغابات الكثيفة والشعر المنحوت المصقول كما ألفه بيلو في القرن السابع عشر كان مريحا جدا. ان هذا التناقض ما كان بمقدوره ان يكون افضل ولا أكثر سحرا. ويقول بالمناسبة هنري ميللر: ‘افضل قراءاتي حدثت في دورة المياه’. كما اعترف مرة: ‘هناك مقاطع من كتاب عوليس لا يمكن ان تقرأ الا في دورة المياه، واذا ما اردنا استخراج النكهة الكاملة من محتوياته’. في الواقع ان هذا المكان الهادئ كان مخصصا لاستعمالات اكثر خصوصية واكثر ابتذالا’، والذي كان بالنسبة الى مارسيل بروست مكانا’ لجميع انشغالاتي التي كانت تتطلب وحدة خالية من التشويش: القراءة، أحلام اليقظة، الدموع، واللذة الحسية’.
وعندما أشرف على نهاية حياته مسجونا داخل غرفة مبطنة بالفلين لتخفيف بعض معاناته من الربو ومسنودا بوسائد وهو جالس في فراشه، كتب على نور مصباح خافت: ‘إن الكتب الحقيقية يجب ان لا تُولد من ضوء النهار الساطع، ومن الدردشة في الحديث، وانما من الظلمة والسكون’، في الليل وفي الفراش وفي الصفحة منارة بمصباح خافت اصفر، أنا قارئ بروست، أكرر لحظة الولادة تلك المكتنفة بالاسرار.
وكان جوفري شوسر، او بالاحرى سيدته التي كانت تعاني من الارق، كما جاء في مؤلفه كتاب ‘الدوقة’ يعتبر القراءة في الفراش اكثر متعة من لعبة الشطرنج:
‘هكذا عندما كنتُ أرى انني ربما لن انام
وفي ساعة متأخرة من ليلة ما
على فراشي كنت أجلس
وكنت اتمنى ان أعطى كتابا
كتابا عن الفرسان. اعطي لي
لقراءته حتى ينقشع الليل
لان هذه اللعبة أفضلها
على لعبة الشطرنج وعلى غيرها من اللعب’
غير ان القراءة في الفراش تعتبر اكثر من مجرد تمضية للوقت، إنها تمثل نوعا من الوحدة، فالمرء يتراجع مركزا على ذاته، ويترك الجسد يرتاح، ويجعل من نفسه بعيدا لا يمكن الوصول اليه الا متخفيا عن العالم، ونظرا لان هذا يحدث تحت الغطاء، محل الشبق والخمول المرتبط بالخطيئة، فإن القراءة اضافة الى ذلك، تثير بعض المحرمات، ربما يعود السبب في ذلك الى تلك القراءات والمطالعات المكثفة التي كنت أقوم بها خلال الفترات المتفاوتة، والى الكتب البوليسية التي كنت ألتهمها، والتي ما زالت تترك في نفسي مسحة من التألق، اذ ان الجملة التي تقال اعتباطا ‘خذ كتابا معك الى سريرك’ في الواقع هي اجمل دعوة.
ان العزلة الكاملة، حتى العزلة في غرف النوم وفي الفراش لم تكن ممكنة التحقيق، الا بجوها الشاعري، وكان انتوان دو كورتن قد أوصى في كتابه ‘دراسة جديدة عن العادات الحميدة’قائلا ان للقراءة قداستها ؟؟: ‘أن تبقى ستائر الاسّرة مرفوعة، من اجل التماشي مع قواعد العفة، وأضاف ‘من غير اللائق الجلوس على الفراش واجراء حديث مع اشخاص لا نعرفهم.
هكذا، وخلال خمسة اشهر قرأت نحو اربعين كتابا، منصرفا الى ذلك الهدوء الذي وفره لي اعتكافي في الفراش، صحيح الا انني مزعوج من المرض، وهو مرض يشبه الموت، لانه طال أكثر مما يجب، ولكن لولا الكتاب، ما كنت استطيع الصبر الى هذا الوقت، والتحمل بما كان يضيق التنفس.
علاوة على ذلك فإن الكاتبة الفرنسية كوليت اكتشفت ان بعض الكتب لا تحتاج فقط الى نقيض في المحيط الذي تقرأ فيه، وانما الى وضع جسدي معين عند قراءتها الذي كان بدوره يتطلب مكانا للقراءة يتماشى مع هذا الوضع، فغالبا ما تعتمد متعة القراءة مباشرة على الراحة البدنية، تقول: ‘كنتُ ابحث عن السعادة في كل مكان، هكذا اعترف توما الكمبيسي في بداية القرن الخامس عشر’ الا انني لم أعثر على هذه السعادة الا في زاوية صغيرة وبيدي كتاب، لكن في أي زاوية صغيرة؟ ومع أي كتاب، وبغض النظر ان كنا في البداية نختار الكتاب، ومن هذه الزاوية الملائمة، او اننا نقرر اولا المكان ومن ثم الكتاب الذي سيتماشى معه، فإن مما لا شك فيه هو ان فعل القراءة عبر الزمان يترافق مع فعل القراءة الملائم في المكان، وكيف انهما مرتبطان مع بعضهما البعض، بصورة لا يمكن فعلها خلف طاولة الكتابة.
نعم، المرض الطويل يشبه الموت، فبعد ان عادك كل الاصدقاء يوما بعد يوم، واعتبروا انهم قد ادوا واجبهم نحوك، انقطعوا عنك، وحدها القراءة، وحده الكتاب، كان صديقك المخلص.. لم يتخل عنك وانت في هذا الوضع الماسأوي، بل هو وحده علّمك الصبر على ما أنت فيه، فلعل وعسى ان تنجو من هذا الواقع المأساوي.
إلا أنني في الفترة الأخيرة تعرضت لعملية جراحية كان عليّ ان ابقى طريح الفراش لسنة او اكثر، وفي هذا الواقع الذي حصل خارجا عن ارادتي، وجدت ان القراءة وحدها، لا التلفزيون، ولا الكمبيوتر، نجاة من الملل والسأم، فما ان اسند ظهري الى وسادة عالية في السرير الذي انام فيه وبين يدي كتاب حتى استغرق فيه حتى نهايته، بل صرت أكتب دائما في الفراش، ولكي تخفف عني شقيقتي السيدة نجاح من تعب الكتابة في السرير احضرت لي نجارا حاذقا صنع لي طاولة صغيرة، وبذكاء المعلم، فصرت أكتب عليها براحة، فأنجزت كتابة رواية، وأنا الآن أعمل على رواية ثانية.
هذا السرير، وهذه الطاولة الصغيرة، وهذه الاقلام والاوراق، كانت عدتي طالما انا مستيقظ. لقد اكتشفت ان القراءة في غرفة مغلقة، لا يصل اليها صوت الشارع، هي الأمتع من اي قراءة اخرى.. ففي هذا الهدوء كنت أتمتع باكتشاف العالم، الذي قال لنا عنه أستاذنا في الثانوية، فكان ذلك نبوءة تحققت بالنسبة لي، فقرأت كتبا بكاملها، وباستمرار، دون ملل. إنها قراءة وجدانية، كما ذكر آلبرتو مانغويل، في كتابه الرائع ‘تاريخ القراءة’ تقول أم لابنتها: في حياة الناس الواقعية، هناك الكثير من الامور الاخرى التي تشغل بالهم، احكمي يا ابنتي بنفسك. هل سبق لك ان سمعني اثق واتوقع من الحب كما يفعل الناس في هذه الكتب؟، علما بانه كان يتوجب ان يكتب عني اكثر من فصل، انا التي تزوجت مرتين وأم لاربعة اطفال. وعندما كانت تداهم ابنتها وهي تقرأ كانت تستنكر تلك الاسئلة الجاهزة، ومن غير اي معنى، مع ان هذه الأسئلة تمس صلب الحياة الشخصية، ناهيك عن الاوامر والنواهي التي تمتلئ بها تلك الكتب.
كنت أعرف ان ليس كل كتاب ملائما للقراءة في الفراش. فقد كان الكتاب الملائم تماما لغرفة النوم الهادئة هو القريب من القلب، فهذا ما اكتشفه ويستان أودن. كان يرى ان الكتاب يجب ان يتناقض مع المكان الذي يُقرأ فيه، لم يكن يستطيع قراءة كتب ريتشارد جفريس مثلا وهو يسترخي على مروج الحدائق الخضراء. في الواقع هناك شعور غريب عندما يواجه الانسان عالما يشبه كتب بيلو وهو على ظهر مركب يشق طريقه فوق الماء. ان التناقض بين الغابات الكثيفة والشعر المنحوت المصقول كما ألفه بيلو في القرن السابع عشر كان مريحا جدا. ان هذا التناقض ما كان بمقدوره ان يكون افضل ولا أكثر سحرا. ويقول بالمناسبة هنري ميللر: ‘افضل قراءاتي حدثت في دورة المياه’. كما اعترف مرة: ‘هناك مقاطع من كتاب عوليس لا يمكن ان تقرأ الا في دورة المياه، واذا ما اردنا استخراج النكهة الكاملة من محتوياته’. في الواقع ان هذا المكان الهادئ كان مخصصا لاستعمالات اكثر خصوصية واكثر ابتذالا’، والذي كان بالنسبة الى مارسيل بروست مكانا’ لجميع انشغالاتي التي كانت تتطلب وحدة خالية من التشويش: القراءة، أحلام اليقظة، الدموع، واللذة الحسية’.
وعندما أشرف على نهاية حياته مسجونا داخل غرفة مبطنة بالفلين لتخفيف بعض معاناته من الربو ومسنودا بوسائد وهو جالس في فراشه، كتب على نور مصباح خافت: ‘إن الكتب الحقيقية يجب ان لا تُولد من ضوء النهار الساطع، ومن الدردشة في الحديث، وانما من الظلمة والسكون’، في الليل وفي الفراش وفي الصفحة منارة بمصباح خافت اصفر، أنا قارئ بروست، أكرر لحظة الولادة تلك المكتنفة بالاسرار.
وكان جوفري شوسر، او بالاحرى سيدته التي كانت تعاني من الارق، كما جاء في مؤلفه كتاب ‘الدوقة’ يعتبر القراءة في الفراش اكثر متعة من لعبة الشطرنج:
‘هكذا عندما كنتُ أرى انني ربما لن انام
وفي ساعة متأخرة من ليلة ما
على فراشي كنت أجلس
وكنت اتمنى ان أعطى كتابا
كتابا عن الفرسان. اعطي لي
لقراءته حتى ينقشع الليل
لان هذه اللعبة أفضلها
على لعبة الشطرنج وعلى غيرها من اللعب’
غير ان القراءة في الفراش تعتبر اكثر من مجرد تمضية للوقت، إنها تمثل نوعا من الوحدة، فالمرء يتراجع مركزا على ذاته، ويترك الجسد يرتاح، ويجعل من نفسه بعيدا لا يمكن الوصول اليه الا متخفيا عن العالم، ونظرا لان هذا يحدث تحت الغطاء، محل الشبق والخمول المرتبط بالخطيئة، فإن القراءة اضافة الى ذلك، تثير بعض المحرمات، ربما يعود السبب في ذلك الى تلك القراءات والمطالعات المكثفة التي كنت أقوم بها خلال الفترات المتفاوتة، والى الكتب البوليسية التي كنت ألتهمها، والتي ما زالت تترك في نفسي مسحة من التألق، اذ ان الجملة التي تقال اعتباطا ‘خذ كتابا معك الى سريرك’ في الواقع هي اجمل دعوة.
ان العزلة الكاملة، حتى العزلة في غرف النوم وفي الفراش لم تكن ممكنة التحقيق، الا بجوها الشاعري، وكان انتوان دو كورتن قد أوصى في كتابه ‘دراسة جديدة عن العادات الحميدة’قائلا ان للقراءة قداستها ؟؟: ‘أن تبقى ستائر الاسّرة مرفوعة، من اجل التماشي مع قواعد العفة، وأضاف ‘من غير اللائق الجلوس على الفراش واجراء حديث مع اشخاص لا نعرفهم.
هكذا، وخلال خمسة اشهر قرأت نحو اربعين كتابا، منصرفا الى ذلك الهدوء الذي وفره لي اعتكافي في الفراش، صحيح الا انني مزعوج من المرض، وهو مرض يشبه الموت، لانه طال أكثر مما يجب، ولكن لولا الكتاب، ما كنت استطيع الصبر الى هذا الوقت، والتحمل بما كان يضيق التنفس.
علاوة على ذلك فإن الكاتبة الفرنسية كوليت اكتشفت ان بعض الكتب لا تحتاج فقط الى نقيض في المحيط الذي تقرأ فيه، وانما الى وضع جسدي معين عند قراءتها الذي كان بدوره يتطلب مكانا للقراءة يتماشى مع هذا الوضع، فغالبا ما تعتمد متعة القراءة مباشرة على الراحة البدنية، تقول: ‘كنتُ ابحث عن السعادة في كل مكان، هكذا اعترف توما الكمبيسي في بداية القرن الخامس عشر’ الا انني لم أعثر على هذه السعادة الا في زاوية صغيرة وبيدي كتاب، لكن في أي زاوية صغيرة؟ ومع أي كتاب، وبغض النظر ان كنا في البداية نختار الكتاب، ومن هذه الزاوية الملائمة، او اننا نقرر اولا المكان ومن ثم الكتاب الذي سيتماشى معه، فإن مما لا شك فيه هو ان فعل القراءة عبر الزمان يترافق مع فعل القراءة الملائم في المكان، وكيف انهما مرتبطان مع بعضهما البعض، بصورة لا يمكن فعلها خلف طاولة الكتابة.
نعم، المرض الطويل يشبه الموت، فبعد ان عادك كل الاصدقاء يوما بعد يوم، واعتبروا انهم قد ادوا واجبهم نحوك، انقطعوا عنك، وحدها القراءة، وحده الكتاب، كان صديقك المخلص.. لم يتخل عنك وانت في هذا الوضع الماسأوي، بل هو وحده علّمك الصبر على ما أنت فيه، فلعل وعسى ان تنجو من هذا الواقع المأساوي.