أيّها الطائرُ، جئتني من حبيبي بهديّةٍ، و ما أغلاها من هديّة .
وضعتُ أذنَ الرّوحِ على الصدفِ، و أصغيتُ في ذهولٍ و نشوةٍ لصوت البحر، فغيّبني الحضورُ عن ضجيج البشر.
أغنيتك يا معتوقُ حكايةٌ سرمديّةٌ، سمعتها منك في قديمِ اللازمان، فبكيت وجداً و توقاً للحبيب، لأتلمس نفسي بعدها، وإذا بالزغب كسائي، وجناحان من نورٍ يحلّقان بي إلى مداراتك التي لا تحدّ.
ما أبسط كلماتك يا رسول الحبّ، لدرجةٍ يصعب معها التفسيرُ أو التأويلُ ، لأنها الأوّل و الأصل ، فالبساطة ذلك الفنّ السهل الممتنع، كتاب الفطرة الذي لا يجيد قراءته إلا من عاد طفلاً كأوّل خلق .
و سألتك : " أيها الحرّ ، بحقّ من أرسلك ، لماذا اخترت الغناء عند نافذتي"
فابتسمت عيناك، وصدح تغريدك يجيبني : " ألست من ناداني بفيض حنينٍ و لهفةِ انتظار، وها قد أتيت في وقتي الموعود، شوقك جذبني إليك ، ولولا الشوق ما أتيت"
و عدت أسأل : " من أين جئت، وأيّ البلاد بلادك، بأغنياتك الغريبة القريبة ، أحفظ معناها عن ظهر قلب ، كأني من غنّاها"
- كلّ أصقاع الأرض لي وطن، وإلى كلّ نافذة مشرعة للنور هجرتي ، أتيت من كلّ عرقٍ و جنسٍ و قوميّة، من كلّ مذهبٍ و طائفةٍ و دين، من الوحدة الإنسانيّةِ الجامعة، والمعنى الرحب الذي تصبّ به جميع المفاهيم .
اصغي إلى إيقاع لحني، تلقيني قادماً من البوذيّة و الهندوسيّة ، من الإسلام و المسيحيّة، من التصوّف و الزن و الحصيدية .
جئت أقصّ عليك أحسن القصص , و من لا يحبّ القصص يا أخت الروح، خاصة إن جاءت لتحرّض نمواً روحيّاً.
و يستدرج السؤال آخر في دهشة لا تنتهي، و شغف ولوع لا يشبع ، وفضول معرفة يفضي كلّ باب منه لألف باب :
" ألا قل لي أيها الطائر الحبيب ، كيف تُقرأ قصصك "
و كهدهد سليمان ، من عنده الخبر اليقين تجيبني :
" لقراءة قصصي طرقٌ ثلاث :
- 1. اقرأ القصة مرة واحدة. ثم انتقل إلى قصة أخرى. هذه الطريقة في القراءة لن تمنحك إلا التسلية.
- 2. اقرأ القصة مرتين. تدبّر معانيها. طبِّقها على حياتك. سيهبك هذا ذائقة لاهوتية. يمكن لمثل هذا الأمر أن يتم على نحو مثمر ضمن مجموعة يتقاسم أفرادها تدبّرهم للقصة. بذلك تكون قد تألّفتْ حلقة لاهوتية.
- 3. اقرأ القصة من جديد بعد أن تكون قد تدبّرتَ معانيها. أحلِل الصمت في دخيلة نفسك ودع القصة تكشف لك عن عمقها ومعناها الداخليين: شيء يتعدى الكلمات والخواطر. سيهبك هذا وجداناً صوفياً.
أو فاحمل القصة طوال النهار واترك شذاها ونغمها يسكنانك. اتركها تخاطب قلبك، لادماغك. قد يجعل هذا منك أيضاً نوعاً من المتصوف. لقد رُويت غالبية هذه القصص أصلاً بالنظر إلى هذه الغاية الصوفية."
حينها أدرك يا غرّيد أنك المعلّم الروحيّ الذي آثر أن يكلّف نفسه بمهمّة تبليغ ما وصل إليه في دروب العرفان، و أن غناء الطيور على بساطته مدرسة ، و أن كتاب الطبيعة مفتوحٌ على قراءات بعدد أنفاس الخلائق .
فأعود لمقدمة الناشر الذي توحّد مع الكاتب و طيور السماء بذات الأغنية ، لأشدو معهم :
تغني الطيور
تمجد الله في السماء
تغرد الطيور
تدعو إلى رب العلاء
لتكن محبة
و قلوب الناس في هناء
من أجلنا جميعاً
تغني الطيور
يا لأغنية الطائر ما أبدعها ، إنها بوابة العبور إلى الحريّة و الانعتاق من سطوة المحسوس و الماديّ ، و أنفاس محبة غامرة تحيا بها القلوب .
ثمّ عودة من جديد لتحقيق الانسجام بين العقل و النفس و الروح ، بقلب حيّ حاضر أبدا,ليتجسّد معنى الإنسان .
أغنية تقول أنك المبدأ والدرب والمنتهى، وما من مقصود سواك، فحتّام تنظر حولك و تظنّ المعنيّ بالتوجيه أيّ إنسان عداك :
"حذار من تطبيق القصة على أيٍّ كان سواك (كاهن، ملاّ، كنيسة، جار). إن فعلت فإن القصة سوف تضرّ بك. كل واحدة من هذه القصص إنما هي عنك، لا عن أحد سواك."
هكذا يقتضي التحذير من خبير بالنفس البشرية و ثغراتها، حيث اعتادت أن تحاكم و تدين و ترى عيوب سواها و تتبرّأ من كلّ خطيئة و خطأ .
و هكذا يقتضي التعليم أن تقرأ القصص وفق تسلسلها إن كنت مبتدئاً ، ليحقق الكتاب غايته كدليل و مرشد :
" عندما تقرأ الكتاب للمرة الأولى اقرأ القصص بحسب الترتيب الذي وردت عليه. فالترتيب يفصح عن تعليم وعن روح يضيعان إذا قُرِئت القصص كيفما اتفق."
" لا تحدَّ نفسك بالتعليقات الواردة في هذا الكتاب. إذ لا شيء يضطرك إلى استعارة بصيرة سواك؟"
ذلك أن كلّ قصة مفتوحة لتقرأ بطرق عدّة لاستنباط الحكمة منها ، و لكلّ قارئ أن يتوصل بنفسه إلى مغزاها ، دون أسره بما رآه الكاتب .
و لعلّ هناك من يأخذ على الأب انتوني تذييله كلّ قصة بما رآه فيها من عبرة ، رغم تحذيره المسبق بالوقوع في مثل هذا المطب .
لكني أرى أن الكاتب يرأف بذوي العقول الضعيفة ، أو من يسير أول خطاه على درب الحكمة ، فيأخذ بذلك الكتاب طابعاً تعليمياً مباشراً ، حتى ولو حاول أن ينعتق من ذلك و يرتدي حلّة الطيور و ينشد غناءها .
فيأتي كتابه في 124 نغمة متنوعة متدرجة في قوتها ، كل نغمة تصدر عن وتر لتسمعها آذان صاغية و قلوب واعية .
قصص تآلفت و اجتمعت تنشد الإنسان فينا ، و تخاطب الفطرة التي علاها الغبار ، و تجلو مرايانا الصدئة ، بدعوة للتأمل و التفكر ، و تحريض السؤال و تركه مفتوحا بلا جواب قطعي في كون كل ما فيه نسبيّ .
تلك هي طريقة العرفان في الأخذ بيد المريد لمعرفة نفسه فربه باعتباره الكتاب المبين الذي انطوى فيه العالم الأكبر ، مبتعداً عن التلقين و النسخ ، فاتحاً أمامه آفاق الكشف و الدهشة الولود من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيداً ، فلا يحبسه بالنصّ و لا بالتقديس ، ولا يرتضي له تبعيّة ربّ و مربوب ، إلا ما عقده الحبّ فلا انفصام له أبدا .
و على لسان كل مخلوق من إنسان و حيوان و نبات ينطق العرفان عند انتوني دو ملّو ، فيشابه بذلك مولانا جلال الدين الرومي و فريد الدين العطار و سواهم من أهل الطريقة و سلّاك الحقيقة .، حيث تبقى القصة الأيسر و الأقصر كوسيلة للوصول إلى قلب التلميذ لا دماغه .
ذلك أن القلب هو مسقط الوحي و مهبط الأنوار ، و لن يفلح في هذا الدرب من جاء مثقلاً بحمولته ، كحمارٍ يحمل أسفاراً .
" قال التلميذ للمعلم جئتك ولا شيء في يدي،
فقال المعلم اتركه فوراً،
فقال التلميذ كيف أتركه وهو لاشيء،
فرد المعلم إذاً فاحمله أينما ذهبت"
و كثيراً ما يظنّ المتفرّج على هكذا مدرسة، أو الجاهل بأمورها ، أنها قد تحرمه متعه الماديّة ، و تطفئ ولعه بالدنيا ، فيبتعد حتى عن فضول الاطلاع عليها ، بل يصل به الأمر إلى معاداتها و رجمها " والإنسان عدوّ ما جهل" ، و ما هي في الحقيقة إلا تشذيب و تهذيب للنفس ، و نظافة للحواس من ركام الأوهام ،بحيث تكون الدنيا فرصة للحياة لا للعيش فقط ، و معبرٌ لمدارات أعظم و أوسع .
إنه طريق الانعتاق و الحريّة ، فمن ارتضى أن تسوده شهواته و تقوده بدل أن تذلل لأجل إنسانية و تكون مطيّته نحو مبتغاه ، لن يرى في هذه القصص إلا حكايات للأطفال ، و إنها حقّاً كذلك ، فليتنا نعود أطفالاً ، أولئك الذين قال فيهم يسوع الناصريّ : " لن تدخلوا الملكوت حتى تعودوا أطفالاً ".
أطفالٌ يحيون فرح اللحظة بكل أمديتها الرحبة ، و تظلّ الدهشة تملأ عيونهم ألقاً و شموساً،ملكوتهم سماوات إنسانيّة حقّة ، هم فيها أسياد أنفسهم ، بلا ترغيب و لا ترهيب .
ما أحوجنا اليوم إلى هكذا مدارس و نحن نرى ما آل إليه الحال من صراع قوميّات و أديان ، كلّ يحسب أنه المجتبى و الأصلح للبقاء ،فيحلل تصفية الآخر لتكون له الغلبة و السيادة.
ألا ليت المعنيون بوضع المناهج ، يرأفون بعقول أبنائنا و يعفونهم من قصص التاريخ التي دفع الإنسان غالياً ثمنها ، و يستبدلونها بتربية روحيّة ماديّة متوازنة ، عن طريق مثل هذه القصص ، تسلط الضوء عليه كإنسان مكلّف مختار لعمارة هذا الكون بدل السير به نحو الدمار .
معك أيها الطائر سنحلّق ونغني ، فمن يدري من منّا الأسبق و كم من مريد فاق معلمه و سبقه , و معك سنرى حكمة قراءة القصص وفق تسلسلها .
فها هي القصة الأولى تشير إلى أن دور المعلم الإشارة و دور المريد التفكر , فكأنها فاتحة الكتاب و مستهلّه :
"كل ثمرتك أنت"
شكى أحد التلاميذ ذات مرة:
"إنك تروي لنا قصصاً، لكنك لا تكشف لنا أبداً عن معناها."
فقال المعلم:
"ما قولك لو قدم لك أحدهم ثمرة ومضغها قبل أن يعطيكها؟"
أما قصة "اقطع الحطب"
فتترك القارئ في دهشة اللحظة و فرحها و كأن غاية الاستنارة ما كانت إلا أن توصلك للإحساس بقيمة أبسط الأمور , و التي كثيراً ما تراها عبئاً أو واجباً مملاً , إنها بكلمات قليلة تجعلك تعيد ترتيب حياتك و النظر فيها و الامتلاء غبطة و شكر لنعمة الصحة التي تمارس بها حياتك بمتعة و سهولة :
عندما بلغ معلم الزِنْ الاستنارة كتب السطور التالية احتفاء بذلك:
"يا للروعة المذهلة:
أقطع الحطب!
أسحب الماء من البئر!"
لا تتشابه القصص و لا الأفكار في الكتاب و إن بدت كذلك لقارئ عجول غير مهتم , فكل فكرة مفتاح لمعرفة النفس و الاستنارة , لكنها تفضي جميعاً إلى غاية واحدة هي "أنت" .
قصص تأخذ بيدك لبساطة الحقيقة التي تحسبها في الأسرار المغلقة و المخطوطات الصفراء القديمة , فإذا هي ليست أكثر من غناء طائر :
" أسمعت ذلك الطائر يغني"
كان التلميذ دائم التشكّي لمعلِّمه: "إنك تحجب عني سرّ الزِنْ الأعظم." وما كان ليقبل إنكار المعلم.
ذات يوم، بينما كانا سائرين على التلال، سمعا طائراً يغني.
"هل سمعت ذلك الطائر يغني؟" قال المعلِّم.
"نعم،" قال التلميذ.
"حسن. فأنت تعلم الآن أني لم أحجب عنك شيئاً."
"نعم."
في قصة " الشيطان و صديقه "..لا يسخر الطائر من معتقدات الآخرين ، بل يقرّ بوجودها ، لكنه يراها حجاب الحقيقة ،و هيهات يصل من أغلق , على نفسه باب عقيدته , وهو يحسب أنه القابض الوحيد على الحقيقة , و أنه الناجي و سواه في النار :
ذهب الشيطان مرة في نزهة مع صديق له. فأبصرا أمامهما رجلاً ينحني ويلتقط شيئاً من الأرض.
سأل الصديق: "ماذا وجد هذا الرجل؟"
فقال الشيطان: "قطعة حقيقة."
سأل الصديق: "أفلا يزعجك ذلك؟"
فأجابه الشيطان: "لا. فسوف أدعه يجعل منها معتقداً."
إن كل حبّة رمل هي معلم و كل ذرة و كل فكرة , لكن مطبّ التعليم الأكبر على يد مرشد روحي , أن تتحول أمور بسيطة يقوم بها المعلم أمام مريديه إلى شعائر و طقوس .. و ما أطرف هذه القصة بعنوان " قطة الغورو" , تلمّح إلى هذه الحقيقة و تحذّر منها :
كلما جلس الغورو للصلاة في المساء أتت قطة الأشرم وسط المصلين وألهتهم عن صلاتهم. لذا أمر الغورو بربط القطة خلال صلاة العشاء.
بعد وفاة الغورو ظل القوم على ربط القطة خلال صلاة العشاء. وعندما نفقت القطة جيء بقطة أخرى إلى الأشرم حتى تُربَط كما ينبغي طوال صلاة العشاء.
وبعد ذلك بقرون كتب الفقهاء من تلاميذ الغورو رسائل فقهية في المغزى الشعائري لربط قطة أثناء إقامة الصلاة."
إني لأعلم جيداً أن الإصغاء لشدو طائر لن يشبّهني به ، لكني أعلم أيضاً أن هكذا إصغاء سيطهر روحي و يعلمني كيف أحيا و أتحمل الألم و المعاناة و أتوحد مع الكون و أساعد أخي الإنسان و أحسّ به ، خاصة في عصر اللهاث وراء المادة و سعار التملك وضيق الأفكار.
و حتماً أقّدر أني لم أفِ الطائر حقّه بعرض أغنياته , لكنني حسبي أن أشير إلى أهميتها كمنهج حرّ لتحقيق إنسانيتنا المنشودة .
وضعتُ أذنَ الرّوحِ على الصدفِ، و أصغيتُ في ذهولٍ و نشوةٍ لصوت البحر، فغيّبني الحضورُ عن ضجيج البشر.
أغنيتك يا معتوقُ حكايةٌ سرمديّةٌ، سمعتها منك في قديمِ اللازمان، فبكيت وجداً و توقاً للحبيب، لأتلمس نفسي بعدها، وإذا بالزغب كسائي، وجناحان من نورٍ يحلّقان بي إلى مداراتك التي لا تحدّ.
ما أبسط كلماتك يا رسول الحبّ، لدرجةٍ يصعب معها التفسيرُ أو التأويلُ ، لأنها الأوّل و الأصل ، فالبساطة ذلك الفنّ السهل الممتنع، كتاب الفطرة الذي لا يجيد قراءته إلا من عاد طفلاً كأوّل خلق .
و سألتك : " أيها الحرّ ، بحقّ من أرسلك ، لماذا اخترت الغناء عند نافذتي"
فابتسمت عيناك، وصدح تغريدك يجيبني : " ألست من ناداني بفيض حنينٍ و لهفةِ انتظار، وها قد أتيت في وقتي الموعود، شوقك جذبني إليك ، ولولا الشوق ما أتيت"
و عدت أسأل : " من أين جئت، وأيّ البلاد بلادك، بأغنياتك الغريبة القريبة ، أحفظ معناها عن ظهر قلب ، كأني من غنّاها"
- كلّ أصقاع الأرض لي وطن، وإلى كلّ نافذة مشرعة للنور هجرتي ، أتيت من كلّ عرقٍ و جنسٍ و قوميّة، من كلّ مذهبٍ و طائفةٍ و دين، من الوحدة الإنسانيّةِ الجامعة، والمعنى الرحب الذي تصبّ به جميع المفاهيم .
اصغي إلى إيقاع لحني، تلقيني قادماً من البوذيّة و الهندوسيّة ، من الإسلام و المسيحيّة، من التصوّف و الزن و الحصيدية .
جئت أقصّ عليك أحسن القصص , و من لا يحبّ القصص يا أخت الروح، خاصة إن جاءت لتحرّض نمواً روحيّاً.
و يستدرج السؤال آخر في دهشة لا تنتهي، و شغف ولوع لا يشبع ، وفضول معرفة يفضي كلّ باب منه لألف باب :
" ألا قل لي أيها الطائر الحبيب ، كيف تُقرأ قصصك "
و كهدهد سليمان ، من عنده الخبر اليقين تجيبني :
" لقراءة قصصي طرقٌ ثلاث :
- 1. اقرأ القصة مرة واحدة. ثم انتقل إلى قصة أخرى. هذه الطريقة في القراءة لن تمنحك إلا التسلية.
- 2. اقرأ القصة مرتين. تدبّر معانيها. طبِّقها على حياتك. سيهبك هذا ذائقة لاهوتية. يمكن لمثل هذا الأمر أن يتم على نحو مثمر ضمن مجموعة يتقاسم أفرادها تدبّرهم للقصة. بذلك تكون قد تألّفتْ حلقة لاهوتية.
- 3. اقرأ القصة من جديد بعد أن تكون قد تدبّرتَ معانيها. أحلِل الصمت في دخيلة نفسك ودع القصة تكشف لك عن عمقها ومعناها الداخليين: شيء يتعدى الكلمات والخواطر. سيهبك هذا وجداناً صوفياً.
أو فاحمل القصة طوال النهار واترك شذاها ونغمها يسكنانك. اتركها تخاطب قلبك، لادماغك. قد يجعل هذا منك أيضاً نوعاً من المتصوف. لقد رُويت غالبية هذه القصص أصلاً بالنظر إلى هذه الغاية الصوفية."
حينها أدرك يا غرّيد أنك المعلّم الروحيّ الذي آثر أن يكلّف نفسه بمهمّة تبليغ ما وصل إليه في دروب العرفان، و أن غناء الطيور على بساطته مدرسة ، و أن كتاب الطبيعة مفتوحٌ على قراءات بعدد أنفاس الخلائق .
فأعود لمقدمة الناشر الذي توحّد مع الكاتب و طيور السماء بذات الأغنية ، لأشدو معهم :
تغني الطيور
تمجد الله في السماء
تغرد الطيور
تدعو إلى رب العلاء
لتكن محبة
و قلوب الناس في هناء
من أجلنا جميعاً
تغني الطيور
يا لأغنية الطائر ما أبدعها ، إنها بوابة العبور إلى الحريّة و الانعتاق من سطوة المحسوس و الماديّ ، و أنفاس محبة غامرة تحيا بها القلوب .
ثمّ عودة من جديد لتحقيق الانسجام بين العقل و النفس و الروح ، بقلب حيّ حاضر أبدا,ليتجسّد معنى الإنسان .
أغنية تقول أنك المبدأ والدرب والمنتهى، وما من مقصود سواك، فحتّام تنظر حولك و تظنّ المعنيّ بالتوجيه أيّ إنسان عداك :
"حذار من تطبيق القصة على أيٍّ كان سواك (كاهن، ملاّ، كنيسة، جار). إن فعلت فإن القصة سوف تضرّ بك. كل واحدة من هذه القصص إنما هي عنك، لا عن أحد سواك."
هكذا يقتضي التحذير من خبير بالنفس البشرية و ثغراتها، حيث اعتادت أن تحاكم و تدين و ترى عيوب سواها و تتبرّأ من كلّ خطيئة و خطأ .
و هكذا يقتضي التعليم أن تقرأ القصص وفق تسلسلها إن كنت مبتدئاً ، ليحقق الكتاب غايته كدليل و مرشد :
" عندما تقرأ الكتاب للمرة الأولى اقرأ القصص بحسب الترتيب الذي وردت عليه. فالترتيب يفصح عن تعليم وعن روح يضيعان إذا قُرِئت القصص كيفما اتفق."
" لا تحدَّ نفسك بالتعليقات الواردة في هذا الكتاب. إذ لا شيء يضطرك إلى استعارة بصيرة سواك؟"
ذلك أن كلّ قصة مفتوحة لتقرأ بطرق عدّة لاستنباط الحكمة منها ، و لكلّ قارئ أن يتوصل بنفسه إلى مغزاها ، دون أسره بما رآه الكاتب .
و لعلّ هناك من يأخذ على الأب انتوني تذييله كلّ قصة بما رآه فيها من عبرة ، رغم تحذيره المسبق بالوقوع في مثل هذا المطب .
لكني أرى أن الكاتب يرأف بذوي العقول الضعيفة ، أو من يسير أول خطاه على درب الحكمة ، فيأخذ بذلك الكتاب طابعاً تعليمياً مباشراً ، حتى ولو حاول أن ينعتق من ذلك و يرتدي حلّة الطيور و ينشد غناءها .
فيأتي كتابه في 124 نغمة متنوعة متدرجة في قوتها ، كل نغمة تصدر عن وتر لتسمعها آذان صاغية و قلوب واعية .
قصص تآلفت و اجتمعت تنشد الإنسان فينا ، و تخاطب الفطرة التي علاها الغبار ، و تجلو مرايانا الصدئة ، بدعوة للتأمل و التفكر ، و تحريض السؤال و تركه مفتوحا بلا جواب قطعي في كون كل ما فيه نسبيّ .
تلك هي طريقة العرفان في الأخذ بيد المريد لمعرفة نفسه فربه باعتباره الكتاب المبين الذي انطوى فيه العالم الأكبر ، مبتعداً عن التلقين و النسخ ، فاتحاً أمامه آفاق الكشف و الدهشة الولود من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيداً ، فلا يحبسه بالنصّ و لا بالتقديس ، ولا يرتضي له تبعيّة ربّ و مربوب ، إلا ما عقده الحبّ فلا انفصام له أبدا .
و على لسان كل مخلوق من إنسان و حيوان و نبات ينطق العرفان عند انتوني دو ملّو ، فيشابه بذلك مولانا جلال الدين الرومي و فريد الدين العطار و سواهم من أهل الطريقة و سلّاك الحقيقة .، حيث تبقى القصة الأيسر و الأقصر كوسيلة للوصول إلى قلب التلميذ لا دماغه .
ذلك أن القلب هو مسقط الوحي و مهبط الأنوار ، و لن يفلح في هذا الدرب من جاء مثقلاً بحمولته ، كحمارٍ يحمل أسفاراً .
" قال التلميذ للمعلم جئتك ولا شيء في يدي،
فقال المعلم اتركه فوراً،
فقال التلميذ كيف أتركه وهو لاشيء،
فرد المعلم إذاً فاحمله أينما ذهبت"
و كثيراً ما يظنّ المتفرّج على هكذا مدرسة، أو الجاهل بأمورها ، أنها قد تحرمه متعه الماديّة ، و تطفئ ولعه بالدنيا ، فيبتعد حتى عن فضول الاطلاع عليها ، بل يصل به الأمر إلى معاداتها و رجمها " والإنسان عدوّ ما جهل" ، و ما هي في الحقيقة إلا تشذيب و تهذيب للنفس ، و نظافة للحواس من ركام الأوهام ،بحيث تكون الدنيا فرصة للحياة لا للعيش فقط ، و معبرٌ لمدارات أعظم و أوسع .
إنه طريق الانعتاق و الحريّة ، فمن ارتضى أن تسوده شهواته و تقوده بدل أن تذلل لأجل إنسانية و تكون مطيّته نحو مبتغاه ، لن يرى في هذه القصص إلا حكايات للأطفال ، و إنها حقّاً كذلك ، فليتنا نعود أطفالاً ، أولئك الذين قال فيهم يسوع الناصريّ : " لن تدخلوا الملكوت حتى تعودوا أطفالاً ".
أطفالٌ يحيون فرح اللحظة بكل أمديتها الرحبة ، و تظلّ الدهشة تملأ عيونهم ألقاً و شموساً،ملكوتهم سماوات إنسانيّة حقّة ، هم فيها أسياد أنفسهم ، بلا ترغيب و لا ترهيب .
ما أحوجنا اليوم إلى هكذا مدارس و نحن نرى ما آل إليه الحال من صراع قوميّات و أديان ، كلّ يحسب أنه المجتبى و الأصلح للبقاء ،فيحلل تصفية الآخر لتكون له الغلبة و السيادة.
ألا ليت المعنيون بوضع المناهج ، يرأفون بعقول أبنائنا و يعفونهم من قصص التاريخ التي دفع الإنسان غالياً ثمنها ، و يستبدلونها بتربية روحيّة ماديّة متوازنة ، عن طريق مثل هذه القصص ، تسلط الضوء عليه كإنسان مكلّف مختار لعمارة هذا الكون بدل السير به نحو الدمار .
معك أيها الطائر سنحلّق ونغني ، فمن يدري من منّا الأسبق و كم من مريد فاق معلمه و سبقه , و معك سنرى حكمة قراءة القصص وفق تسلسلها .
فها هي القصة الأولى تشير إلى أن دور المعلم الإشارة و دور المريد التفكر , فكأنها فاتحة الكتاب و مستهلّه :
"كل ثمرتك أنت"
شكى أحد التلاميذ ذات مرة:
"إنك تروي لنا قصصاً، لكنك لا تكشف لنا أبداً عن معناها."
فقال المعلم:
"ما قولك لو قدم لك أحدهم ثمرة ومضغها قبل أن يعطيكها؟"
أما قصة "اقطع الحطب"
فتترك القارئ في دهشة اللحظة و فرحها و كأن غاية الاستنارة ما كانت إلا أن توصلك للإحساس بقيمة أبسط الأمور , و التي كثيراً ما تراها عبئاً أو واجباً مملاً , إنها بكلمات قليلة تجعلك تعيد ترتيب حياتك و النظر فيها و الامتلاء غبطة و شكر لنعمة الصحة التي تمارس بها حياتك بمتعة و سهولة :
عندما بلغ معلم الزِنْ الاستنارة كتب السطور التالية احتفاء بذلك:
"يا للروعة المذهلة:
أقطع الحطب!
أسحب الماء من البئر!"
لا تتشابه القصص و لا الأفكار في الكتاب و إن بدت كذلك لقارئ عجول غير مهتم , فكل فكرة مفتاح لمعرفة النفس و الاستنارة , لكنها تفضي جميعاً إلى غاية واحدة هي "أنت" .
قصص تأخذ بيدك لبساطة الحقيقة التي تحسبها في الأسرار المغلقة و المخطوطات الصفراء القديمة , فإذا هي ليست أكثر من غناء طائر :
" أسمعت ذلك الطائر يغني"
كان التلميذ دائم التشكّي لمعلِّمه: "إنك تحجب عني سرّ الزِنْ الأعظم." وما كان ليقبل إنكار المعلم.
ذات يوم، بينما كانا سائرين على التلال، سمعا طائراً يغني.
"هل سمعت ذلك الطائر يغني؟" قال المعلِّم.
"نعم،" قال التلميذ.
"حسن. فأنت تعلم الآن أني لم أحجب عنك شيئاً."
"نعم."
في قصة " الشيطان و صديقه "..لا يسخر الطائر من معتقدات الآخرين ، بل يقرّ بوجودها ، لكنه يراها حجاب الحقيقة ،و هيهات يصل من أغلق , على نفسه باب عقيدته , وهو يحسب أنه القابض الوحيد على الحقيقة , و أنه الناجي و سواه في النار :
ذهب الشيطان مرة في نزهة مع صديق له. فأبصرا أمامهما رجلاً ينحني ويلتقط شيئاً من الأرض.
سأل الصديق: "ماذا وجد هذا الرجل؟"
فقال الشيطان: "قطعة حقيقة."
سأل الصديق: "أفلا يزعجك ذلك؟"
فأجابه الشيطان: "لا. فسوف أدعه يجعل منها معتقداً."
إن كل حبّة رمل هي معلم و كل ذرة و كل فكرة , لكن مطبّ التعليم الأكبر على يد مرشد روحي , أن تتحول أمور بسيطة يقوم بها المعلم أمام مريديه إلى شعائر و طقوس .. و ما أطرف هذه القصة بعنوان " قطة الغورو" , تلمّح إلى هذه الحقيقة و تحذّر منها :
كلما جلس الغورو للصلاة في المساء أتت قطة الأشرم وسط المصلين وألهتهم عن صلاتهم. لذا أمر الغورو بربط القطة خلال صلاة العشاء.
بعد وفاة الغورو ظل القوم على ربط القطة خلال صلاة العشاء. وعندما نفقت القطة جيء بقطة أخرى إلى الأشرم حتى تُربَط كما ينبغي طوال صلاة العشاء.
وبعد ذلك بقرون كتب الفقهاء من تلاميذ الغورو رسائل فقهية في المغزى الشعائري لربط قطة أثناء إقامة الصلاة."
إني لأعلم جيداً أن الإصغاء لشدو طائر لن يشبّهني به ، لكني أعلم أيضاً أن هكذا إصغاء سيطهر روحي و يعلمني كيف أحيا و أتحمل الألم و المعاناة و أتوحد مع الكون و أساعد أخي الإنسان و أحسّ به ، خاصة في عصر اللهاث وراء المادة و سعار التملك وضيق الأفكار.
و حتماً أقّدر أني لم أفِ الطائر حقّه بعرض أغنياته , لكنني حسبي أن أشير إلى أهميتها كمنهج حرّ لتحقيق إنسانيتنا المنشودة .