التَّوقيع فيه.. وليس فيه، والتَّوقيع في زمننا بالقلم كما في زمن أسلافنا بالبصمة التي تصير سارية الحِبْر بعد النَّفخ على الأصبع، تَعاملٌ إداري وتجاري ومالي ورمزي أيضا في حالة الاستلام أو التسليم، ورغم تباهينا بالقول إنَّ الرجل أو حتى المرأة هي الكلمة، إلا أنه لا أحد يُمكن أن ترْبِطه من لسانه وهو يعطيك عهوده ومواثيقه في كلمة، فقد يُخِلُّ أحدهم بالأمانة وتصبح على ثقتك العمياء من النادمين حين تنقلب هذه الكلمة إلى لكمة !
كبُرنا وما زالت أحلامنا صغيرة، ولا أعرف إذا كان ثمة من ما زال يحتفظ بهيكل الحُلم الديناصوري المُنْقرض ليصبح كاتبا، لكنني بعد اليقظة من الحلم، بتُّ أعرف أن أفظع التوقيعات التي تُخلِّف في الأنفس شعورا بالحسرة والشَّمْتة، هي تلك التي يمْهُرها أديب في كتاب وهو يبتسم ببراءة حتى لا أقول ببلاهة تؤرخها صور الكاميرات، وبينما يعود الكاتب لبيته مُكتفيا بغبطة المكسب الرمزي، تجد الناشر يَعُدُّ توقيعاته وقد صارت مكسباً ماديا في جيبه، ولا ينسى أن يشكر الحياة التي علَّمتْهُ دون كتاب، أنَّ من يُنتجون الأفكار ليسوا بالضرورة همُ الأذكياء، خصوصا حين يضعون جهدهم الفكري بطيبة خاطر أو شاعرٍ في جيوب الأغبياء!
صحيح أنَّ الكِتاب بأوراقه نِتاج الأشْجار المُحْتطبة من الغاب، ولكن قبل أن تفرح بتوقيع ترسمهُ على كِتاب، تأكَّد من وجود بُنود حقوقية تحميك من قانون الغاب، أما أجمل التوقيعات فهي التي يجْتمِع في خَطِّها وهو يتدفَّق على الورقة من أقْرب شريانٍ مقطوع، المكسبان الرمزي والمادي، فالشجرة التي تسقيها دون أن تطرح ثمارا تجعلك أنت العاقر وبتوْقيع خِبْرةٍ من الطبيب وليس فقط من الناشر!
ما أكثر السُّبُل التي تسْلكُها التَّوقيعات في حياتنا الاجتماعية مهما كانت مُلْتوِية، أمَّا أجمل هذه التوقيعات ولو مالتْ قليلا عن السَّطر، فتلك التي تُفْضي بالبَنك لشُبَّاك الاستلام نظير شيكٍ يُعوِّض به الإنسان جُهدا انتظر منه الثمار، فتكلَّل بِصَفٍّ طويل من الأصفار، وقد تجد من يصفها بالسيئات لأنه جاهلٌ أن بعض الأصفار قد تُدخِل الجنة إذا جاءت من جهة اليمين، ولَشَدَّ ما أمقت في البنْك شُبَّاك الدَّفع، فلن ينوب المرء من التوقيع إلا الدمع وهو يُسدِّد قرضاً أو يُنعش عقارياً في بنيته النفسية سيكولوجية البُخل مُكدِّساً الأموال، ولْنَنْظر كمْ جرَّة توقيعٍ تجرُّ يوميّاً القدرة الشِّرائية لجيب المواطن إلى الانهيار، فالمشكل في النَّكسة الاقتصادية للبلد، لا يكمن فقط في ما تُحْدِثُه الثُّقوب الخلفية من تَسَرُّب نزيفي في المال العام، إنَّما أيضاً في من يعْتبرون المُبدِّرين إخوان الشياطين فأهدروا دم المواطن وما أهدروا الأموال، وجمَّدوها في أرصدة عِوض استثمارها في بناء المدارس والجامعات وتكوين الأساتذة وإنشاء بعض المرافق الاجتماعية والمصانع لإنقاذ النَّشاط الذي تعطل في اليد العاملة، ولكن هيهات فثمة يدٌ أشد عطالة ولا نبض في عروقها شلَّتْ كل اقتصاد البلد، لذلك لا تستطيع أن تمُدَّ أصبعاً لفتْح الأرصدة الجامدة بتوقيع !
وما أشبه بعض التوقيعات في خِفَّتها بالمراوغات التي تجري في الملعب، وأقصد التوقيع الذي يساوي ملايين الأوروات ويُسجِّله بعض الكرويين بالقلم مع أحد النوادي، لا لشيء.. إلا ليُسجِّل أهدافاً بالقدم !
التَّوقيع هو الذي أفرغ صُندوق التقاعد الوطني، وألْحَق حُرْمة التَّعليم بِمَهانة البطالة المُقنَّعة وهو يزُجُّ بالأساتذة في نظام التَّعاقد، ولا فرْق بين هذا التوقيع والذي يضعه من يُصدر شيكاً بدون رصيد، كلاهما مسؤول عن جُرم يزعزع أمْن المواطنين ويجب ربطُه من ساقَيْهِ بالمُحاسبة، ولا يُتْرَكُ طليقاً كالباسط ذراعيه بالوصيد !
التوقيع للنفي كما هو لإثبات الوجود في حالتي الحضور والغياب، أو الدخول لمقر العمل رغم أن التوقيع لا يؤدي دائما إلا لكراسي فارغة تنوب عن بعض الموظفين في تحمل المسؤولية، أما إذا كان سجنا فالتوقيع للحرْص فقط على خروج الشخص بعد زيارته لأحد أقربائه الأظنَّاء، فثمة من قد يستطيب الإقامة بعد أن لمَس في السجن حلا جِذريا وجِداريا لأزمة السَّكنْ!
* (افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 20 فبراير 2020)
كبُرنا وما زالت أحلامنا صغيرة، ولا أعرف إذا كان ثمة من ما زال يحتفظ بهيكل الحُلم الديناصوري المُنْقرض ليصبح كاتبا، لكنني بعد اليقظة من الحلم، بتُّ أعرف أن أفظع التوقيعات التي تُخلِّف في الأنفس شعورا بالحسرة والشَّمْتة، هي تلك التي يمْهُرها أديب في كتاب وهو يبتسم ببراءة حتى لا أقول ببلاهة تؤرخها صور الكاميرات، وبينما يعود الكاتب لبيته مُكتفيا بغبطة المكسب الرمزي، تجد الناشر يَعُدُّ توقيعاته وقد صارت مكسباً ماديا في جيبه، ولا ينسى أن يشكر الحياة التي علَّمتْهُ دون كتاب، أنَّ من يُنتجون الأفكار ليسوا بالضرورة همُ الأذكياء، خصوصا حين يضعون جهدهم الفكري بطيبة خاطر أو شاعرٍ في جيوب الأغبياء!
صحيح أنَّ الكِتاب بأوراقه نِتاج الأشْجار المُحْتطبة من الغاب، ولكن قبل أن تفرح بتوقيع ترسمهُ على كِتاب، تأكَّد من وجود بُنود حقوقية تحميك من قانون الغاب، أما أجمل التوقيعات فهي التي يجْتمِع في خَطِّها وهو يتدفَّق على الورقة من أقْرب شريانٍ مقطوع، المكسبان الرمزي والمادي، فالشجرة التي تسقيها دون أن تطرح ثمارا تجعلك أنت العاقر وبتوْقيع خِبْرةٍ من الطبيب وليس فقط من الناشر!
ما أكثر السُّبُل التي تسْلكُها التَّوقيعات في حياتنا الاجتماعية مهما كانت مُلْتوِية، أمَّا أجمل هذه التوقيعات ولو مالتْ قليلا عن السَّطر، فتلك التي تُفْضي بالبَنك لشُبَّاك الاستلام نظير شيكٍ يُعوِّض به الإنسان جُهدا انتظر منه الثمار، فتكلَّل بِصَفٍّ طويل من الأصفار، وقد تجد من يصفها بالسيئات لأنه جاهلٌ أن بعض الأصفار قد تُدخِل الجنة إذا جاءت من جهة اليمين، ولَشَدَّ ما أمقت في البنْك شُبَّاك الدَّفع، فلن ينوب المرء من التوقيع إلا الدمع وهو يُسدِّد قرضاً أو يُنعش عقارياً في بنيته النفسية سيكولوجية البُخل مُكدِّساً الأموال، ولْنَنْظر كمْ جرَّة توقيعٍ تجرُّ يوميّاً القدرة الشِّرائية لجيب المواطن إلى الانهيار، فالمشكل في النَّكسة الاقتصادية للبلد، لا يكمن فقط في ما تُحْدِثُه الثُّقوب الخلفية من تَسَرُّب نزيفي في المال العام، إنَّما أيضاً في من يعْتبرون المُبدِّرين إخوان الشياطين فأهدروا دم المواطن وما أهدروا الأموال، وجمَّدوها في أرصدة عِوض استثمارها في بناء المدارس والجامعات وتكوين الأساتذة وإنشاء بعض المرافق الاجتماعية والمصانع لإنقاذ النَّشاط الذي تعطل في اليد العاملة، ولكن هيهات فثمة يدٌ أشد عطالة ولا نبض في عروقها شلَّتْ كل اقتصاد البلد، لذلك لا تستطيع أن تمُدَّ أصبعاً لفتْح الأرصدة الجامدة بتوقيع !
وما أشبه بعض التوقيعات في خِفَّتها بالمراوغات التي تجري في الملعب، وأقصد التوقيع الذي يساوي ملايين الأوروات ويُسجِّله بعض الكرويين بالقلم مع أحد النوادي، لا لشيء.. إلا ليُسجِّل أهدافاً بالقدم !
التَّوقيع هو الذي أفرغ صُندوق التقاعد الوطني، وألْحَق حُرْمة التَّعليم بِمَهانة البطالة المُقنَّعة وهو يزُجُّ بالأساتذة في نظام التَّعاقد، ولا فرْق بين هذا التوقيع والذي يضعه من يُصدر شيكاً بدون رصيد، كلاهما مسؤول عن جُرم يزعزع أمْن المواطنين ويجب ربطُه من ساقَيْهِ بالمُحاسبة، ولا يُتْرَكُ طليقاً كالباسط ذراعيه بالوصيد !
التوقيع للنفي كما هو لإثبات الوجود في حالتي الحضور والغياب، أو الدخول لمقر العمل رغم أن التوقيع لا يؤدي دائما إلا لكراسي فارغة تنوب عن بعض الموظفين في تحمل المسؤولية، أما إذا كان سجنا فالتوقيع للحرْص فقط على خروج الشخص بعد زيارته لأحد أقربائه الأظنَّاء، فثمة من قد يستطيب الإقامة بعد أن لمَس في السجن حلا جِذريا وجِداريا لأزمة السَّكنْ!
* (افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 20 فبراير 2020)