قال أرسطو: التفكير من دون صورة مستحيل . وهذا يعني أن الصورة عبارة عن أفكار / تخيلات / تصورات / أحلام / هموم وكل ما له صلة بالكائن البشري ، وأيضا مع الحياة / كينونته ، لذا تسيّد رأي عام وشائع جداً مفاده أن الفوتوغراف تسجيلي توثيقي ، لكن غاب عن المشاهد / المتلقي ما هو خفي وراء المعلن المألوف . ما سيقوله لنا صمت الصورة المحتفظة بقوتها وديمومة طاقتها الإيحائية ، لان الواقع البارز فيها يحيل لمدفونات وراء الظاهر الذي هو ترحيل مباشر لما كان في الحياة ، لحظة التقاط الصورة ، لذا قالت سوزان سونتاغ في كتابها " حول الفوتوغراف " الفصل الثالث [ للتصوير الفوتوغرافي سمعة مشبوهة لكونه أكثر الفنون واقعية ، وبالتالي أكثرها سهولة ، بين الفنون التي تتسم بالتقليد والمحاكاة .
في الواقع، انه الفن الوحيد الذي نجح في مواصلة التهديدات الهائلة ، لأكثر من قرن بالاستيلاء على الحساسية البصرية ، في الوقت الذي خرج فيه المرشحون الأصليون من حلبة السباق / ص 32 منحت المحاكاة جمالية الفوتوغراف والتماثل بلاغة الصورة ، والاقتراب كلياً من اليومي معيار تنوع القراءات ، لهذا نجد أكثر الصور الفوتوغرافية واقعية ، هي أكثرها ـ أيضا ـ أثارة للاختلاف والجدل ، وتحفيزاً للمتلقي ، للبحث عن المخفيات فيها ودائماً ما تكون كثيرة ، وهي في الوقت نفسه ظاهرة / وخفية.
سيادة الصورة
وهذا لا يعني تشوه مكانة الفوتوغراف مثلما قالت سوزان ، وهي لا تقصد ما هو ظاهر في المفردة ، ولكنها أرادت الإشارة لسيادة الصورة في الحياة / وبين جماهير واسعة جداً ، من هنا جاءت مكملات كلامها " أكثر الفنون واقعية ، وأكثرها سهولة بين الفنون " وهذه أحدى حقائق الفوتوغراف ، لأنه لا يحتاج جهداً كبيراً وعودة ثانية وثالثة للصورة مثلما هو حاصل مع الرسم / والنحت ، والآن السهولة أكثر تبدياً وبروزاً في التقنية الجديدة التي غزت الحياة بصورة مدهشة . وتحولت الصورة في العصر الحديث الى مشترك بين البشر ، وتحررت من شروطها السابقة ووظائفها المرتبطة بتوثيق العلاقات العائلية وتبادل المحبة من خلال الصورة المقدمة هدية للآخر ، بحيث صارت الصورة جزءا حيوياً من ذاكرة زمن مضى ، وهي علامة على مرحلة زالت تماماً ، وتركت آثارها ، والصورة احدى متروكات الأثر الحساس .
الصورة الآن معيار سريع للجمال الذي يستدعيه الفرد في لحظة مفاجئة وخاطفة ويحتفظ بها . وما عادت الصورة حكراً على فنان متمرس ، بل ابتداء الكائن الآن بمزاولة هذه الفعالية ويحوز مهارته يوماً بعد آخر .
وما قالته سوزان سونتاغ عن الهيمنة ، والطغيان ، وإزاحة الفنون الأخرى ، كالرسم مثلاً ، رأي دقيق / صائب ، وكاشف عن وجود مشترك بين الفوتو / والرسم ، وأكدت سونتاغ وفي أكثر من موقع في كتابها المهم جداً على ما هو موجود بين الفنيين ، وكيف استفاد الرسم من الفوتو وخصوصاً في مرحلة الانطباعية ؟
وتسيّد الفوتوغراف في العالم وما زال الآن ، بحيث غدا العصر مكرساً للصورة ، وهي المتحكمة بالكائن ، والموجهة له ، وأعادت الرسم انتاج ثقافة الفرد وكرست خطابها البصري ، المزاحم لأهمية الرسم وحيازة الجمال ، خصوصاً بعد تقنيات الفوتوغراف الملون .
طاقة وازاحة
واستطيع اختصار ملاحظتي هذه بالقول بان الصورة سلطة وطاقة إزاحة / وإخضاع ، وهي كولونيالية ولها امكانية توثيق تاريخي طويل قدمته امبريالية الصورة باعتباره نوعاً من التملك الثانوي للموجود او حيازته ، مع بروز إمكانيات التصرف به . بمعنى صارت الصورة الآن سلطة ـ كما قلت ، مراقبة وهذه السلطة هي مورثنا لذا قالت سوزان سونتاغ : الفوتوغرافيا انطولوجيا من صور ، وتمكنت هذه الفنانة / الروائية من الوصل الى اعداد انطولوجيا من الاقتباسات ، ومثل هذه التجربة الممتازة عرفناها منذ بداياتنا الحقيقية في المجال الثقافي والأدبي . وكل منا يحتفظ بسجلات يحتفظ فيها بمستلات نقدية وفلسفية وأراد علماء في الاجتماع والثقافة ، لكن الفرق بين انطولوجيا المثقف وانطولوجيا سوزان سونتاغ هي التخصص والتركيز على الفوتوغراف بتجربة لافتة للانتباه كالتي عرفتها سونتاغ وعاشتها ، بينما اتسمت محاولتنا بالعموم الاختلاط لذا أنا متحمس جداً لانطولوجيا سونتاغ الخاصة بالاقتباسات .
تجارب فنية
أشارت سونتاغ بان الفوتوغراف هو على نحو فطري فوق واقعي ، لكن هذا لا يعني بانه مشارك للحركة السوريالية الرسمية ، ومثل هذا الرأي أكدته العديد من التجارب الفنية في الخارج والداخل واعتقد بان الفنان خالد خزعل هو الممثل لمثل هذه التجربة في معرضه الأخير ، كذلك تميزت تجربة كفاح الأمين بما هو فوق واقعي ، وغرائبية مثيرة للدهشة ، لكنها لم تكن بعيدة ومعزولة عن المألوف والمعيوش .
فتجربة مثل تجربة كفاح الأمين امتازت بالتنوع واللعب مع سيادة الحرفيات الفنية في مجال التصوير الفوتوغرافي.
وانطوت فوتوغرافيا كفاح الغرائبية بإشارة على تفاصيل عميقة ، لها علاقة مباشرة بحياة الموجود والذي انتبه لوجوده الفنان الفوتوغرافي كفاح الأمين وأثارت فوتوغرافياته كثيراً من الاسئلة والجدل ( للاطلاع اكثر يراجع ناجح المعموري / الابيض كان أسود / دراسات في الفوتوغرافيا / دار تموز / دمشق / 2013 ).
ومثلما ذكرت سونتاغ بان السريالية تحتل قلب المشروع الفوتوغرافي لأنها خلقت عالماً بديلاً ، وواقعية من الدرجة الثانية ، أضيق لكنها درامية أكثر من تلك التي نستشفها بأبصارنا الطبيعية .
كلما كانت الصورة معتّدلة اقل ، والحاجة الى المهارة ، فيها أقل ، كلما كانت ساذجة أكثر ، كلما بدت الصورة أكثر نفوذاً .
وكانت السريالية دائماً ما تغازل عامل الصدفة ، ترحب باللامتوقع ، تداهن الأرواح المتمردة / ص 33/ .
فوتوغراف سريالي
ولم تنكر سوزان سونتاغ وجود الجمال في الفوتوغراف السريالي وغياب البلاغة ، بل هو لا يختلف كلياً عن الصورة الواقعية . واعتقد بان مغامرة الفنان الفوتوغرافي في اختراق المألوف الفني أمر مهم للغاية . لأنها تضع الصورة وسط اختبارات القراءة ، وتؤكد مثل هذه التجربة على ان الثقافة والمعارف المميزة للفنان ، هي الكامنة وراء التجريب الفني ، وهو على الرغم من السهولة المتبدية لنا نحن نلاحظ ذلك ، اعتقد بانه في غاية الصعوبة والتعقيد ، وبعض التجارب تذهب نحو جماليات السريالية / الأسطورية ، وأخرى تذهب بعيداً وتخلق نوعاً من التشويش وتفكيك الصورة ، مثلما في تجربة الفنان خالد خزعل . وطرحت سونتاغ سؤالها الجوهري في هذا المجال وقالت ؟ ما الذي يمكن ـ على أية حال ـ ان يكون أكثر فوق واقعي من شيء ينجب نفسه عملياً وبأدنى جهد ؟ شيء يزداد جماله ، وكشوفه غير الواقعية ، ووزنه العاطفي ، وربما قيمته بأي صدفة قد تقع له . هنا ، التصوير الفوتوغرافي هو الذي اظهر بأفضل الطرق كيف صبغت ماكنة خياطة جنب مظلة ، وقوبل هذا اللقاء التصادفي بالثناء من قبل الشعراء السرياليين كمثال على مفهوم الجمال / ص33. يتضح لنا بان الفوتوغراف مساهم بجدية في التوجهات السريالية وتميز بقوته ، وسعة انتشاره ، واستطاع ادراك للتوجيهات الفكرية الخاصة بالسريالية ، لما دفع شعراءها للتعبير بحماس واضح عن الفعاليات الفوتوغرافية .
علاقة ثنائية
كل ما يراه الفنان الفوتوغرافي ملكه باستمرار. ولكن الإشكالية في ثنائية العلاقة بين المشهد والفنان ، هو التلقائية والصدفة المباشرة والسريعة والتي لم يفطن لها الشخص او هو العصب الأساسي / المركزي في الفوتغرافيا وهو المعيار الأول والأخير لنجاح اللقطة وتميز صورتها وقالت سوزان سونتاغ [ بان النظرة الى الواقع كغنيمة غريبة ، يجب أن تطارد وتمسك من قبل صياد مجتهد ذي كاميرا ، هي التي كونت التصوير الفوتوغرافي منذ البداية ... ] كان الفوتوغراف على الدوام مفتوناً بالقمم والأعماق الدنيا الاجتماعية ـ الوثائقيون المتميزون عن حاشية بلاط الكاميرا ـ يفضلون الأخيرة لأكثر من قرن . حوّم الفوتغرافيون حول المقموعين ، بانتظار مشاهد العنف .
وذهبت سوزان سونتاغ بعيداً في فهمها لما هو فوق واقعي وقالت : الفقر ليس أكثر فوق واقعي من الغنى ، جسد مكسو بخرق قذرة فترة ليس أكثر فوق واقعي من أميرة بملابس فاخرة في حفلة رقص ، أو من عري بريء . ما جعل الموضوع فوق واقعي هو المسافة المفروضة والمقطوعة من قبل الصورة : المسافة الاجتماعية والمسافة في الزمن من خلال منظور الطبقة الوسطى للتصوير الفوتوغرافي ، يبدو المشاهير أخاذين مثلهم مثل المنبوذين . المصورون ليسوا بحاجة الى أن يكون لهم موقف ساخر ، عقلاني تجاه مواضيعهم النمطية . موقف افتتان ورع ومحترم ، قد يكون مطلوباً بالقدر نفسه، خصوصاً مع المواضع الأكثر تقليدية / ص36.
مكانة اجتماعية
يضيء هذا الرأي ثنائية الدال على الغرائبي ، في مشاهد الفقراء او الأثرياء وأوضحت سونتاغ بان الفقر سريالي مثل الغنى . والظاهر بان الحيوي هو نوع اللقطة بعيداً عن المكانة الاجتماعية أو الوسيط الاجتماعي حسب مفاهيم سونتاغ ، فلا فرق بين المشهور والمنبوذ لان المصور يجد ما يريده في الشخص المنبوذ أكثر من غيره . ان بلاغة الفوتوغراف تتمثل في خلق وحدة بين اليومي والمجازي وبضمير حي مذهل . والهم الشقاء الاجتماعي الميسورين وألح عليهم لالتقاط الصور ، الشكل الأكثر لطفاً للنهب ، من اجل ان يوثقوا واقعاً مخيفاً ، وهذا يعني ، واقعاً مخيفاً عنهم / ص 34// .
اذن اللقطة الفنية المتسامية ذات الطاقة البلاغية ، وليست شائعة جداً ، وانما هي نادرة والحصول عليها يمثل غنيمة ، او رصيدا ثمينا لفنان سلاحه الكاميرا . والطاقة في الصورة ، مثلما قالت سوزان سونتاغ ، يمكن الوصول له في الموجود اليومي ولكنه المتميز والمتألق في الحياة الارستقراطية ، وأيضا تكمن مثل هذه الصورة في الحياة الدنيا / الفقيرة ودائماً ما أكدت عليه سوزان سونتاغ . المرجع هو المانح الكريم لما هو بليغ في الفوتوغرافيا وهذا المح له الناقد رولان بارت عندما قال [ ما لاحظته في البداية ، بطريقة حرة ، تحت غطاء المنهج ، أن طبيعة كل صورة متزامنة بشكل ما مع مرجعيتها . اكتشفت ذلك التزامن مرة أخرى ، من جديد ، مأخوذاً في غمار حقيقة الصورة .
صوت الفرد
ولذا وجب على قبول الجمع بين صورتين : صوت المألوف [ أقول ما يراه ويعرفه الجميع ] وصوت الفرد ( لتحريك ذاك المألوف بكل زحم المشاعر التي لم تخص أحدا سواي ) يبدو الأمر كما لو أنني كنت ابحث عن طبيعة فعل ليس له مصدر ، ولا نلتقي به الا مزوداً بزمن وصيغة / رولان بارت ، الغرفة المضيئة / ت : هالة نمر / المركز القومي للترجمة / العدد 1464 / ص 71 //
للصورة أذن مرجع خاص بها ، أو مجموعة من المرجعيات ، وخصوصاً تلك الصور المرتبطة بحياة الفقراء والضعفاء والمهمشين وفي مثل هذه الحالة يتعين على الفنان أو المتابع ان يدنو كثيراً من صوتين مثل ما قال بارت ، أولا الصوت المألوف الذي يرى كل شيء ويعرف عنه كل شيء ، وكأنه العارف الكلي وثانياً صوت التفرد ، ممتلك الطاقة الخاصة الرصينة والرزينة القادرة على زخرفة المألوف بطاقة المشاعر.
أخيرا سيظل الجهد أذى بذله الأستاذ عياش المفرجي في ترجمته لكتاب سوزان سونتاغ حاضراً في الثقافة العراقية وهي بحاجة له .
• سوزان سونتاغ / حول الفوتوغراف / ت : الأستاذ عباس المفرجي / دار المدى / دمشق / 2014.
في الواقع، انه الفن الوحيد الذي نجح في مواصلة التهديدات الهائلة ، لأكثر من قرن بالاستيلاء على الحساسية البصرية ، في الوقت الذي خرج فيه المرشحون الأصليون من حلبة السباق / ص 32 منحت المحاكاة جمالية الفوتوغراف والتماثل بلاغة الصورة ، والاقتراب كلياً من اليومي معيار تنوع القراءات ، لهذا نجد أكثر الصور الفوتوغرافية واقعية ، هي أكثرها ـ أيضا ـ أثارة للاختلاف والجدل ، وتحفيزاً للمتلقي ، للبحث عن المخفيات فيها ودائماً ما تكون كثيرة ، وهي في الوقت نفسه ظاهرة / وخفية.
سيادة الصورة
وهذا لا يعني تشوه مكانة الفوتوغراف مثلما قالت سوزان ، وهي لا تقصد ما هو ظاهر في المفردة ، ولكنها أرادت الإشارة لسيادة الصورة في الحياة / وبين جماهير واسعة جداً ، من هنا جاءت مكملات كلامها " أكثر الفنون واقعية ، وأكثرها سهولة بين الفنون " وهذه أحدى حقائق الفوتوغراف ، لأنه لا يحتاج جهداً كبيراً وعودة ثانية وثالثة للصورة مثلما هو حاصل مع الرسم / والنحت ، والآن السهولة أكثر تبدياً وبروزاً في التقنية الجديدة التي غزت الحياة بصورة مدهشة . وتحولت الصورة في العصر الحديث الى مشترك بين البشر ، وتحررت من شروطها السابقة ووظائفها المرتبطة بتوثيق العلاقات العائلية وتبادل المحبة من خلال الصورة المقدمة هدية للآخر ، بحيث صارت الصورة جزءا حيوياً من ذاكرة زمن مضى ، وهي علامة على مرحلة زالت تماماً ، وتركت آثارها ، والصورة احدى متروكات الأثر الحساس .
الصورة الآن معيار سريع للجمال الذي يستدعيه الفرد في لحظة مفاجئة وخاطفة ويحتفظ بها . وما عادت الصورة حكراً على فنان متمرس ، بل ابتداء الكائن الآن بمزاولة هذه الفعالية ويحوز مهارته يوماً بعد آخر .
وما قالته سوزان سونتاغ عن الهيمنة ، والطغيان ، وإزاحة الفنون الأخرى ، كالرسم مثلاً ، رأي دقيق / صائب ، وكاشف عن وجود مشترك بين الفوتو / والرسم ، وأكدت سونتاغ وفي أكثر من موقع في كتابها المهم جداً على ما هو موجود بين الفنيين ، وكيف استفاد الرسم من الفوتو وخصوصاً في مرحلة الانطباعية ؟
وتسيّد الفوتوغراف في العالم وما زال الآن ، بحيث غدا العصر مكرساً للصورة ، وهي المتحكمة بالكائن ، والموجهة له ، وأعادت الرسم انتاج ثقافة الفرد وكرست خطابها البصري ، المزاحم لأهمية الرسم وحيازة الجمال ، خصوصاً بعد تقنيات الفوتوغراف الملون .
طاقة وازاحة
واستطيع اختصار ملاحظتي هذه بالقول بان الصورة سلطة وطاقة إزاحة / وإخضاع ، وهي كولونيالية ولها امكانية توثيق تاريخي طويل قدمته امبريالية الصورة باعتباره نوعاً من التملك الثانوي للموجود او حيازته ، مع بروز إمكانيات التصرف به . بمعنى صارت الصورة الآن سلطة ـ كما قلت ، مراقبة وهذه السلطة هي مورثنا لذا قالت سوزان سونتاغ : الفوتوغرافيا انطولوجيا من صور ، وتمكنت هذه الفنانة / الروائية من الوصل الى اعداد انطولوجيا من الاقتباسات ، ومثل هذه التجربة الممتازة عرفناها منذ بداياتنا الحقيقية في المجال الثقافي والأدبي . وكل منا يحتفظ بسجلات يحتفظ فيها بمستلات نقدية وفلسفية وأراد علماء في الاجتماع والثقافة ، لكن الفرق بين انطولوجيا المثقف وانطولوجيا سوزان سونتاغ هي التخصص والتركيز على الفوتوغراف بتجربة لافتة للانتباه كالتي عرفتها سونتاغ وعاشتها ، بينما اتسمت محاولتنا بالعموم الاختلاط لذا أنا متحمس جداً لانطولوجيا سونتاغ الخاصة بالاقتباسات .
تجارب فنية
أشارت سونتاغ بان الفوتوغراف هو على نحو فطري فوق واقعي ، لكن هذا لا يعني بانه مشارك للحركة السوريالية الرسمية ، ومثل هذا الرأي أكدته العديد من التجارب الفنية في الخارج والداخل واعتقد بان الفنان خالد خزعل هو الممثل لمثل هذه التجربة في معرضه الأخير ، كذلك تميزت تجربة كفاح الأمين بما هو فوق واقعي ، وغرائبية مثيرة للدهشة ، لكنها لم تكن بعيدة ومعزولة عن المألوف والمعيوش .
فتجربة مثل تجربة كفاح الأمين امتازت بالتنوع واللعب مع سيادة الحرفيات الفنية في مجال التصوير الفوتوغرافي.
وانطوت فوتوغرافيا كفاح الغرائبية بإشارة على تفاصيل عميقة ، لها علاقة مباشرة بحياة الموجود والذي انتبه لوجوده الفنان الفوتوغرافي كفاح الأمين وأثارت فوتوغرافياته كثيراً من الاسئلة والجدل ( للاطلاع اكثر يراجع ناجح المعموري / الابيض كان أسود / دراسات في الفوتوغرافيا / دار تموز / دمشق / 2013 ).
ومثلما ذكرت سونتاغ بان السريالية تحتل قلب المشروع الفوتوغرافي لأنها خلقت عالماً بديلاً ، وواقعية من الدرجة الثانية ، أضيق لكنها درامية أكثر من تلك التي نستشفها بأبصارنا الطبيعية .
كلما كانت الصورة معتّدلة اقل ، والحاجة الى المهارة ، فيها أقل ، كلما كانت ساذجة أكثر ، كلما بدت الصورة أكثر نفوذاً .
وكانت السريالية دائماً ما تغازل عامل الصدفة ، ترحب باللامتوقع ، تداهن الأرواح المتمردة / ص 33/ .
فوتوغراف سريالي
ولم تنكر سوزان سونتاغ وجود الجمال في الفوتوغراف السريالي وغياب البلاغة ، بل هو لا يختلف كلياً عن الصورة الواقعية . واعتقد بان مغامرة الفنان الفوتوغرافي في اختراق المألوف الفني أمر مهم للغاية . لأنها تضع الصورة وسط اختبارات القراءة ، وتؤكد مثل هذه التجربة على ان الثقافة والمعارف المميزة للفنان ، هي الكامنة وراء التجريب الفني ، وهو على الرغم من السهولة المتبدية لنا نحن نلاحظ ذلك ، اعتقد بانه في غاية الصعوبة والتعقيد ، وبعض التجارب تذهب نحو جماليات السريالية / الأسطورية ، وأخرى تذهب بعيداً وتخلق نوعاً من التشويش وتفكيك الصورة ، مثلما في تجربة الفنان خالد خزعل . وطرحت سونتاغ سؤالها الجوهري في هذا المجال وقالت ؟ ما الذي يمكن ـ على أية حال ـ ان يكون أكثر فوق واقعي من شيء ينجب نفسه عملياً وبأدنى جهد ؟ شيء يزداد جماله ، وكشوفه غير الواقعية ، ووزنه العاطفي ، وربما قيمته بأي صدفة قد تقع له . هنا ، التصوير الفوتوغرافي هو الذي اظهر بأفضل الطرق كيف صبغت ماكنة خياطة جنب مظلة ، وقوبل هذا اللقاء التصادفي بالثناء من قبل الشعراء السرياليين كمثال على مفهوم الجمال / ص33. يتضح لنا بان الفوتوغراف مساهم بجدية في التوجهات السريالية وتميز بقوته ، وسعة انتشاره ، واستطاع ادراك للتوجيهات الفكرية الخاصة بالسريالية ، لما دفع شعراءها للتعبير بحماس واضح عن الفعاليات الفوتوغرافية .
علاقة ثنائية
كل ما يراه الفنان الفوتوغرافي ملكه باستمرار. ولكن الإشكالية في ثنائية العلاقة بين المشهد والفنان ، هو التلقائية والصدفة المباشرة والسريعة والتي لم يفطن لها الشخص او هو العصب الأساسي / المركزي في الفوتغرافيا وهو المعيار الأول والأخير لنجاح اللقطة وتميز صورتها وقالت سوزان سونتاغ [ بان النظرة الى الواقع كغنيمة غريبة ، يجب أن تطارد وتمسك من قبل صياد مجتهد ذي كاميرا ، هي التي كونت التصوير الفوتوغرافي منذ البداية ... ] كان الفوتوغراف على الدوام مفتوناً بالقمم والأعماق الدنيا الاجتماعية ـ الوثائقيون المتميزون عن حاشية بلاط الكاميرا ـ يفضلون الأخيرة لأكثر من قرن . حوّم الفوتغرافيون حول المقموعين ، بانتظار مشاهد العنف .
وذهبت سوزان سونتاغ بعيداً في فهمها لما هو فوق واقعي وقالت : الفقر ليس أكثر فوق واقعي من الغنى ، جسد مكسو بخرق قذرة فترة ليس أكثر فوق واقعي من أميرة بملابس فاخرة في حفلة رقص ، أو من عري بريء . ما جعل الموضوع فوق واقعي هو المسافة المفروضة والمقطوعة من قبل الصورة : المسافة الاجتماعية والمسافة في الزمن من خلال منظور الطبقة الوسطى للتصوير الفوتوغرافي ، يبدو المشاهير أخاذين مثلهم مثل المنبوذين . المصورون ليسوا بحاجة الى أن يكون لهم موقف ساخر ، عقلاني تجاه مواضيعهم النمطية . موقف افتتان ورع ومحترم ، قد يكون مطلوباً بالقدر نفسه، خصوصاً مع المواضع الأكثر تقليدية / ص36.
مكانة اجتماعية
يضيء هذا الرأي ثنائية الدال على الغرائبي ، في مشاهد الفقراء او الأثرياء وأوضحت سونتاغ بان الفقر سريالي مثل الغنى . والظاهر بان الحيوي هو نوع اللقطة بعيداً عن المكانة الاجتماعية أو الوسيط الاجتماعي حسب مفاهيم سونتاغ ، فلا فرق بين المشهور والمنبوذ لان المصور يجد ما يريده في الشخص المنبوذ أكثر من غيره . ان بلاغة الفوتوغراف تتمثل في خلق وحدة بين اليومي والمجازي وبضمير حي مذهل . والهم الشقاء الاجتماعي الميسورين وألح عليهم لالتقاط الصور ، الشكل الأكثر لطفاً للنهب ، من اجل ان يوثقوا واقعاً مخيفاً ، وهذا يعني ، واقعاً مخيفاً عنهم / ص 34// .
اذن اللقطة الفنية المتسامية ذات الطاقة البلاغية ، وليست شائعة جداً ، وانما هي نادرة والحصول عليها يمثل غنيمة ، او رصيدا ثمينا لفنان سلاحه الكاميرا . والطاقة في الصورة ، مثلما قالت سوزان سونتاغ ، يمكن الوصول له في الموجود اليومي ولكنه المتميز والمتألق في الحياة الارستقراطية ، وأيضا تكمن مثل هذه الصورة في الحياة الدنيا / الفقيرة ودائماً ما أكدت عليه سوزان سونتاغ . المرجع هو المانح الكريم لما هو بليغ في الفوتوغرافيا وهذا المح له الناقد رولان بارت عندما قال [ ما لاحظته في البداية ، بطريقة حرة ، تحت غطاء المنهج ، أن طبيعة كل صورة متزامنة بشكل ما مع مرجعيتها . اكتشفت ذلك التزامن مرة أخرى ، من جديد ، مأخوذاً في غمار حقيقة الصورة .
صوت الفرد
ولذا وجب على قبول الجمع بين صورتين : صوت المألوف [ أقول ما يراه ويعرفه الجميع ] وصوت الفرد ( لتحريك ذاك المألوف بكل زحم المشاعر التي لم تخص أحدا سواي ) يبدو الأمر كما لو أنني كنت ابحث عن طبيعة فعل ليس له مصدر ، ولا نلتقي به الا مزوداً بزمن وصيغة / رولان بارت ، الغرفة المضيئة / ت : هالة نمر / المركز القومي للترجمة / العدد 1464 / ص 71 //
للصورة أذن مرجع خاص بها ، أو مجموعة من المرجعيات ، وخصوصاً تلك الصور المرتبطة بحياة الفقراء والضعفاء والمهمشين وفي مثل هذه الحالة يتعين على الفنان أو المتابع ان يدنو كثيراً من صوتين مثل ما قال بارت ، أولا الصوت المألوف الذي يرى كل شيء ويعرف عنه كل شيء ، وكأنه العارف الكلي وثانياً صوت التفرد ، ممتلك الطاقة الخاصة الرصينة والرزينة القادرة على زخرفة المألوف بطاقة المشاعر.
أخيرا سيظل الجهد أذى بذله الأستاذ عياش المفرجي في ترجمته لكتاب سوزان سونتاغ حاضراً في الثقافة العراقية وهي بحاجة له .
• سوزان سونتاغ / حول الفوتوغراف / ت : الأستاذ عباس المفرجي / دار المدى / دمشق / 2014.