عزالدين المناصرة - “مانيفستو”… النقد الثقافي المقارن: عالم بلا حدود.. ولكن... جدلية الأدبي والثقافي أين آداب باقي العالم

لقد شاع مصطلح (الأدب المقارن)، وأصبح يمتلك سلطةً وشهرةً، بصفته دالاًّ على علم مستقل عن النقد الأدبي، ونظرية الأدب، وعن تاريخ الأدب، لكن هذه الاستقلالية نسبية. ومن ثم طرحت مشكلة تحديد نسبية الاستقلالية، ونسبة التلاحم مع الفروع الأخرى، فإذا كنا ارتضينا استخدام مصطلح الأدب المقارن، رغم غموضه، فإننا لا نستطيع الموافقة على التعريف الفرنسي، ولا على التعريف الأمريكي، فتعريفات الأدب المقارن تختلف من بلد إلى آخر… فالمدرسة الفرنسية تعرف الأدب المقارن على النحو التالي: (إن الأدب المقارن يدرس في الغالب، علاقات ثنائية، أي علاقات بين عنصرين، سواء أكان هذان العنصران، كتابين، أم طائفتين من الكتب، أو الكتاب، أم أدبين كاملين، وسواء أكانت هذه العلاقات، تتصل بمادة الأثر الفني أم بصورته – (بول فان تيجم). أو كما يعرفه بول ماريوس غويار، هو (تاريخ العلاقات الأدبية الدولية). وفي أحدث كتاب فرنسي صدر عام 1983، بعنوان (ما هو الأدب المقارن)، من تأليف ثلاثة من علماء الأدب المقارن، هم: برونيل – بيشوا – روسو، يقول الكتاب: (إنّ إطلاق مصطلح الأدب المقارن، يعني تلقائياً مقارنة أكثر من أدب واحد على الأقل، حيث يمكن مقارنة آداب، إذا كان التأثير يتلاقى في آداب عدة). هكذا مرّ زمن طويل، لكي تعترف المدرسة الفرنسية، بخطأ ثنائية بول فان تيجم، ومن سبقوه، ولكي تعترف أن المقارنة، يمكن أن تتم بين عدة آداب. وتم تطوير الثنائية بشكل إصلاحي غير ثوري، فالمقارنة بين عدة آداب، ظلت في التطبيق الفرنسي قاصرة، لأنها:
أولاً: مازالت تعتمد الأدب الفرنسي، كقاعدة للانطلاق في المقارنة مع الآداب الأخرى.
ثانياً: مازالت تؤمن في تطبيقها بالمركزية الأوروبية للآداب، أي مقولة: الآداب الخمسةالكبرى.
ثالثاً: تم الاعتراف بالمدرسة الأمريكية، لأنها (واعية لجذورها الأوروبية)، كما يقول الكتاب.
فالمدرسة الفرنسية، تنظر للمدارس الأوروبية الأخرى (الإيطالية والألمانية … الخ) بصفتها مجرد امتداد لها. فأصبح مطلوباً من أبحاث الأدب المقارن في البلدان النامية، قياساً على ذلك، أن تكون مجرد امتداد للمدرستين الفرنسية والأمريكية. وكان هناك شعور ما يقول: ما دامت البلدان النامية متخلفة تكنولوجياً، إذن هي بالضرورة، متخلفة أدبياً. وهناك افتراض شعوري أن الدولة القوية سياسياً، هي بالضرورة قوية أدبياً. وهذا يخالف أبسط مبادئ علم الأدب المقارن الذي اعتمد في نشوئه وارتقائه على أسباب إنسانية. وهكذا وصلنا من المركزية الفرنسية إلى المركزية الأوروبية، إلى المركزية الأمريكية، إلى المركزية الأوروبية الأمريكية. ولهذا ظلت النظرة المختلفة، نادرة خارج هذا الفهم، وإذا حدثت، فهي تنطلق منها. وهكذا ظهر – رينيه اتيامبل – طفلاً ضالاًّ في المدرسة الفرنسية. وقد اتخذت المركزية (الأورو-أمريكية)، أشكالاً أساسية في نظرتها للآداب العربية والإفريقية، وآداب بلدان أوروبا الشرقية وروسيا. كذلك بالنسبة للآداب الشرقية عموماً، أي: (آداب باقي العالم)، فقد أخذت هذه المركزية بالمنطق الاستعماري. ثمَّ أخذ هذا المنطق في الأدب المقارن، أشكالاً عديدة منها:
أولاً: رغم الفوائد العلمية لدراسات صورة الشرق العربي في أدب الرحالة الإنجليز والفرنسيين، ورحلات الفرنسيين والألمان للمغرب العربي، إلاّ أن دراسة هذه الرحلات، تمت من منطلق براغماتي خيالي، فانطلاقاً من هذه الصورة الخيالية التي رسمها هؤلاء الرحالة، تم التشويه الأول، وجاء التشويه الثاني ليقول: (تلك الأرض تصلح للاستعمار)، فانطلاقاً من المركزية الأوروبية، كتب الرحالة الألمان عن الجزائر، مطالبين بضرورة التساوي في الحقوق اليومية بين الجزائري والفرنسي. وطالبوا بتخفيف الظلم الفرنسي ضد الشعب الجزائري، ولكن على أرضية (حق فرنسا) في استعمار الجزائر!!. ومشكلة المركزية الأوروبية أنها لم تناقش هذه الصورة المزيفة، للتثبت من صحتها أو كذبها، كذلك لم تناقش الصورة الخيالية أو (سحر الشرق) التي قدمها الرحالون، بل تم تبنيها كاملة، وتم الصمت على الجانب اللاإنساني المظلم فيها.
ثانياً: رغم الفوائد العلمية للمناهج الاستشراقية، فقد ظلت تعبر عن وعي مزيف، حيث تم من خلالها التشويه من منطلقات دينية وسياسية، تُجّمِّلُ المنطق الاستعماري، وظلّت المركزية الأوروبية، حائرة بين دعم هذا المنطق الاستعماري، وبين الاقتناع بوجود الآداب الحقيقية في البلدان النامية التي بدأت بالظهور في الدراسات المتأخرة. فقد خُلقت ثنائية الفهم لأدب واحد.
ثالثاً: ظلّ الافتراض الأوروبي قائماً على أن المتلقي المتأثر سلبي، في مقابل أن المرسل المؤثر هو النموذج، وبالتالي لم تدرس علاقات التأثير والتأثر، كحالة موضوعية تاريخية. وهذا يتناقض مع فهم عملية الإبداع. كذلك لم تدرس حالات، كان فيها الأدب العربي، هو المرسل المؤثر.
رابعاً: درست الآداب الفرانكوفونية والأنجلوفونية، على أنها مجرد (أدب مستعمرات)، أي أن شرط اختلاف اللغة، أصبح مهماً من أجل خدمة (التبعية)، وليس من أجل خدمة دراسة الفوارق الطبيعية بين الشعوب. ولم يعد تشابه اللغة مفيداً من منطلق الفوارق بين أجنبي يكتب باللغة الفرنسية، وفرنسي يكتب بها، تلك الفوارق في روح الكتابة جمالياً، وفي مواقف الكاتب الأجنبي، ولهذا لم تدرس هذه العناصر الأساسية في النص الأدبي، حتى لو كانت تشكل نقيضاً صارخاً. أما رؤية المركزية الأورو-أمريكية في نظرتها للآداب في أوروبا الشرقية وروسيا، فقد تميزت باللاعلمية، انطلاقاً من الخلاف الإيديولوجي والسياسي في ظل جماليات الحرب الباردة، بحيث ظلّت تتناقض مع مهمة الأدب المقارن الإنسانية والعلمية.
أولاً: انطلاقاً من الموقف الإيديولوجي الأورو-أمريكي المعادي للإشتراكية العلمية، تم تجزئ آداب أوروبا الشرقية، وآداب الاتحاد السوفياتي، بتقسيمها إلى آداب شكلية، وآداب مضمونية إيديولوجية. ومن ثم، تمَّ تبني الجانب الشكلي في ثقافات هذه البلدان، رغم أن (الشكلانية) هنا، احتياج أورو-أمريكي، فالشكلانيون الروس ونقاد حلقة براغ، هم النموذج الإبداعي الأعلى في هذه الآداب، وفق منطق الأوروكيَّة، وهذا تجزيء لعملية الإبداع ومتطلبات دراستها.
ثانياً: تمت عملية تشويه الواقعية الاشتراكية، باجتزاء المفهوم الستاليني والترويج له. ولم تكن هناك أمانة في نقل آراء مكسيم غوركي وماياكوفسكي، وعلماء الجمال الماركسيين، ومصادر الثقافة السوفيتية. وتم التشويه مرة أخرى بالترويج لأجزاء منها على حساب النظرة الشاملة. فنظرية الانعكاس – من وجهة نظر المركزية الأورو أمريكية – تقتصر على الانعكاس البسيط الفوتوغرافي، وشولوخوف، ليس أصيلاً في (الدون الهادئ)، أما: يفتوشنكو، وفوزنيسنسكي، وماياكوفسكي، وباسترناك، بل و: ديستويفسكي، تشيخوف، تولستوي، بوشكين، توغرينيغ، يسينين، غوغول، وغيرهم من الكلاسيكيين الروس، فهم لا يدرسون من منطلق جماليات نتاجهم الأدبي المختلفة عن الآدب الأورو-أمريكية، بل يدرسون من منطلق التركيز على موقف السلطة في ظل الاشتراكية من هذا الأدب والتركيز على الخلافات السياسية مع هذه السلطة. أما النموذج الأدبي الراقي في الأدب السوفييتي المعاصر والحديث – من وجهة نظر الغرب – فهو أعمال سولجنتسين. وحين زعمت أوروبا، أنها أرادت دراسة الواقعية الاشتراكية دراسة علمية، حدث تضليل آخر، هو نوع من التلفيق والاختيار الانتقائي لبعض جوانبها وتضخيمها على حساب النظرة الشاملة، ووصف التنوع والاختلاف في الواقعية الاشتراكية على أنه تناقضات. كلّ ذلك، بغضّ النظر عن رأينا الشخصي في نقد الواقعية الاشتراكية، فنحن نستطيع تقديم نقد شامل لها.
اللغة: حاجز أو وسيط
وبعد إشكالية (مصطلح الأدب المقارن وتعريفه)، وإشكالية (التعصب الأورو-أمريكي) – تبرز (إشكالية اللغة كعائق في الأدب المقارن). فالأدب المقارن، هو صدى لشعار (الغرباء يقارنون) وهم الذين هاجروا اختياراً أو إجباراً – من مجتمعاتهم وأوطانهم، فهم غرباء بهذا المعنى. وهم غرباء مرة أخرى، حين ترفضهم مجتمعاتهم الجديدة، ولهذا يهدف (الغرباء) للتواصل مع الوطن البعيد والمجتمع الذي يعيشون فيه، وحين يرون الحواجز أمامهم يصرخون بعالمية الأدب على الأقل. وحتى الذين يعيشون في مجتمعاتهم، يتشوقون لرؤية الآخر. و(غربة اللغة) هنا، ليست غربة تقنية، بل هي غربة روحية، فالأدب المقارن، اشترط معرفة اللغات الأخرى، واصطدم بمشاكل لغوية:
أولاً: هناك فوائد عديدة للترجمة، ولكنها تظل ناقصة، فلا بُدّ من العودة إلى النص في لغته الأصلية، وهذا صحيح، ولكن الذي يحدث في الواقع العملي، أن الباحث في الأدب المقارن، لا يستطيع أن يتقن أكثر من لغة واحدة أو لغتين، فكيف يتسنى له أن يدرس ظاهرة أدبية مشتركة بين عدد كبير من اللغات. ولهذا راج مفهوم التخصص في العلاقات بين أدبين أو ثلاثة على الأكثر، والصعوبة تزداد إذا كانت هذه اللغات من عائلات لغوية متباعدة، وتواجه مشكلة النظرة الأحادية، بدلاً من النظرة الشاملة لعلاقات الآداب العالمية. والحل يكمن في الاستفادة من جهود الآخرين المتخصصين في الآداب الأخرى، لكن هذه الاستفادة، تظل ناقصة، بسبب البعد الفعلي عن منطقة الفعل الحقيقية لهذه الآداب. والمشكلة الأهم، هي اختلاف المواقف والرؤية بين باحث متخصص في آداب أخرى، ولا يعرف الأدب الياباني مثلاً، إلاّ انطلاقاً من استقباله، لوجهة نظر زميله المتخصص في الأدب الياباني. فالخلاف في الموقف والمنهج، يختلف من باحث لآخر عن الأدب الياباني.
ثانياً: ينظر إلى اللغات نظرة إقليمية تعصبية، فهي مقسمة من وجهة نظر المركزية الأوروكيّة إلى لغات حية، ولغات غير حية، ولغات حية غير منتشرة، ولغات راقية، ولغات متخلفة. هذا التقسيم تم بغض النظر عن أهمية النصوص وتأثيرها أو عدمه، فمثلاً: مع أن اللغة الإنجليزية، لغة حية وحيوية، إلاّ أنه لا يمكن القول بأهمية الشعر البريطاني الحالي، فالشعر البريطاني الحالي، لم يعد في الواقع، مؤثراً عالمياً. كما أنّ شيوع شاعر مثل سان جون بيرس في العالم العربي، لا يعود إلى حيوية اللغة الفرنسية التي كتب بها الشاعر، بل تعود لأهمية الترجمة العربية، وينطبق المثل كذلك على ترجمات المنفلوطي للروايات العاطفية الفرنسية. كذلك لم ينتشر إدغار آلان بو في فرنسا، بسبب فخامة اللغة الإنجليزية وتأثيرها.
ثالثاً: اعتمدت المركزية الأورو-أمريكية على (تشابه اللغة)، فألحقت بها الآداب الأجنبية المكتوية بلغاتها، ورفضت المقارنة بين الأدب الفرنسي، والأدب الأجنبي المكتوب بالفرنسية في مقاطعة كيبيك، والجزائري المكتوب بالفرنسية، وهي بهذا ألغت (كندية)، و(جزائرية) هذين الأدبين. ومع هذا دعنا نبحث عن الخصائص الأساسية للنص الجزائري المكتوب بالفرنسية، مثلاً، بعيداً عن اللغة الفرنسية المشتركة مع الأدب الفرنسي:
النهر، وسطح النهر

الأدب الجزائري في موقفه ورؤيته، مناقض في معظمه، لروح التعالي الفرنسية، وصورة فرنسا في هذا الأدب، صورة سلبية عموماً بل وعدائية: وقد يقال إنّ (حالة العداء) لاتهم الأدب المقارن، لأن الأدب المقارن، يبحث عن قواسم إنسانية. وهذا مناقض للمنهج، لأن (حالة العداء)، يمكن أن تدرس بين شعبين مختلفين، أما كم هي نسبة العداء، فتلك مسألة أخرى ندرسها أيضاً. ولنأخذ الأدب العبري الحديث، والأدب الفلسطيني الحديث، فهما يرسمان (حالة العداء)، ولكن نسبة العداء في الأدب العبري، تصل إلى الهتلرية، في حين نجد أن (العداء) في الأدب الفلسطيني، عادل ومشروع وإنساني، وزواله مشروط بعودة الحق إلى صاحبه الفلسطيني، وهذا لا ينفي الاستثناءات.
وهذا يوصلنا للسؤال الثاني: هل بنية النص الأدبي، هي بنية لغوية فقط؟. فالنص الأدبي، يحمل روحاً ومواقف، وهي في حالة – الأدب الجزائري – تختلف عن الأدب الفرنسي، فلماذا نقتنص اللغة فقط، مهما بلغ تأثيرها، من النص الأدبي، ونقوم بتجزيئه. وقد يقال لنا: هل هناك أدب، بدون لغة!!. والردُّ هنا بسيط: الترجمةُ تحلّ المشكلة، وعندئذ، ألا يحق لنا أن نقارن رواية فرنسية مع رواية جزائرية مترجمة عن الفرنسية!!. إنَّ هذه الأسئلة مقلوبة، أي تحول النص إلى جزئين: النص ولغة النص. ولكننا نتشبث بالسؤال: هل لغة النص هي النص؟. ثم هناك (روح النص)، فهل روح النص الجزائري، فرنسية؟؟. وكيف تكون فرنسية، وهي في حالة عداء مع هذه الروح الفرنسية؟. إنني أعتقد جازماً أن اللغة الفرنسية في النص الجزائري، هي سطح النهر، أما النص الجزائري فهو النهر، ومن هنا لا ننفي التأثير الفرنسي، فالتأثير الفرنسي واضح، ولكنه تأثير وتأثير فقط. وقد تقال تبريرات كثيرة، لإثبات فرنسية الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية وبعضها قد يكون صحيحاً، لكن كل هذه الذرائع، تضيق أمام الفوارق الأساسية الطاغية في النص الجزائري. لو أخذنا بوجهة النظر الأميركية في مسألة الفوارق الأساسية بين الأدب الأمريكي وبين الأدب الإنجليزي، فنحن نجدها أقرب إلى الصحة. فلماذا لا نقيس عل الحالة – البريطانية – الأمريكية.
وهذا لا يعني مطلقاً رفض التأثير والتأثر، بل هناك مسألة تشابه مشروعة، بل وضرورية: التأثير الفرنسي في النص مثلاً ودراسته، أمر طبيعي، كذلك دراسة تأثير الكتابة باللغة الفرنسية في أيّ كاتب أجنبي.

وقد يقال لنا مثلاً: إن اللبناني جورج شحادة، يكتب أيضاً بالفرنسية. والرد هو أن نطبق المبدأ الذي طرحناه، وهو هل لغة النص هي النص بكامله، وهل تتطابق روح النص مع لغته تطابقاً كاملاً: وإذا قلنا إنّ اللغة الفرنسية في النص الجزائري، هي سطح النهر وإنّ النص الجزائري، هو النهر، وإنَّ هناك حالة عداء بين النهر الجزائري وسطحه الفرنسي، فنحن نطبق نفس المبدأ على جورج شحادة. وهذا يعني أن: جورج شحادة كتب بروح اندماجية مع اللغة الفرنسية التي هي سطح النهر الفرنسي، وأكد اندماجيته في النهر الفرنسي. وبهذا كان نصه في حالة تماثل واندماج كامل. أما ما يقال عن صور شرقية في أدبه، تظهر عبر ذاكرة شرقية، فهذا صحيح، ولكنه استلّ من هذه الذاكرة الشرقية، ما يتطابق مع استلابه وروح الاندماج، بتغذيتها بملامح شرقية فولكلورية لا تتصارع مع هذه الروح. ولهذا فنصوص جورج شحادة فرنسية وليست لبنانية عربية، إلاّ من الزاوية الفولكلورية. وهذا كله لا علاقة له بأهمية النصوص أو عدمها، لأن جورج شحادة، كاتب كبير. وقد نجد في النصوص الجزائرية ما ينطبق عليها مثل جورج شحادة، ولكننا عندما نقول بجزائرية النصوص الجزائرية في مرحلة الاستعمار، فنحن نعني السمات الأساسية في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية بشكل عام. وإذا قلنا: إنّ اللغة، روح الشعب وروح الحضارة، فنحن نعني ليس فقط، لغة النص الأدبي، فاللغة خاصية عامة، في حين نجد أنَّ استخدامها في النص الأدبي له خاصية، خاصة جداً، تتعلق بروح النص، أكثر من تعلقها بالروح العامة للغة. فالنص المكتوب بنفس اللغة المعادية لروح النص، يبقى مختلفاً وغريباً عن هذه اللغة، حتى لو كتب بها، واستخدمها في عدائه. تماماً كما يكتب شاعر عبراني مثلاً، باللغة العربية، قصيدة، ضدّ العرب.
– وترتبط بإشكالية اللغة، إشكالية الترجمة، فحين اشترط الأدب المقارن ضرورة العودة إلى النص بلغته الأصلية كان مصيباً، ولكن اللجوء إلى الترجمة، خطيئة ضرورية. والترجمة، هي الحل الجمالي التبسيطي الذي لا مفر منه، ولكن المطلوب هو تفضيل ترجمة عن ترجمة أخرى، كما أنَّ رفض الترجمات الرديئة أمر ضروري، فالترجمة الرديئة، لا تنتج سوى نقد مقارن رديء.
ومشاكل الترجمة السلبية كثيرة ومعروفة، مثل: عدم التطابق بين الأصل والترجمة، والحذف المقصود لأسباب متعددة، لكن هناك عيوباً إيجابية، مضللة للباحث المقارن، وهذا يتعلق بالترجمات الجميلة التي تمنح الأصل طاقات جديدة إضافية من روح اللغة المترجم إليها. ويساهم هذا عادةً في انتشار النص المترجم بين القراء، ويفيدهم، كما يفيد المترجم والعمل نفسه، لكن هذه الترجمة، تساهم في تضليل الباحث في الأدب المقارن، والناقد الأدبي على السواء، لأن دراسة النص المترجم في هذه الحالة، تصبح خاضعة للقيمة الإضافية الجديدة غير الموجودة في النص الأصلي. فالأديب قد يكون متأثراً بالنص الأصلي الذي قد يكون عادياً في قيمته الأدبية، وليس بالترجمة الجميلة التي تحتوي قيمة إضافية. وقد يتأثر الأديب بالترجمة، وليس بالأصل، كما في حالة الإنجليزي، فيتزجيرالد في ترجمته لرباعيات الخيام، وقد يكون التأثير للأصل والترجمة معاً. وقد لا يكون تأثير الترجمة مباشراً، بل عبر قنوات زمنية معقدة وطويلة، حيث تدخل روح النص المترجم في التراث الأدبي القومي، فيكون التأثر ليس بالترجمة، ولا بالمتأثرين المباشرين، ولا بحلقات المتأثرين المتوالين، بل يكون التأثر، بالروح العامة التي أضافتها الترجمة إلى روح الأدب القومي بشكل عام. وقد يتأثر المتأثر بالأصل، دون أن يطلع على الترجمة، ويصادف ذلك مع متأثر تأثر بالترجمة، فيبرز تشابه، قد نخطئ في تحديد مصدره. فمشكلة الترجمة، قد تخلق إشكالية فهم مصادر التأثير والتأثر الأصلية، وقنوات التأثير ونسبته الأصلية الفعلية، وجماليات الترجمة، ولكن الأدب المقارن، يجب أن يخصص مجالاً واسعاً لجماليات الترجمة، أو: شعرية الترجمة.
إشكالية المنهج
ثم هناك إشكالية التطبيق، فالتطبيق شرط لصحة النظرية. لكن مشكلة التطبيق، تكمن في أن الباحث في الأدب المقارن، قد يلجأ للتطبيق فوراً، قبل أن يؤسس وجهة نظر منهجية، ويثق بسرعة بالإشارات لأمثلة التطبيق في الكتب النظرية، ويصدقها قبل تمحيصها، ومعرفة إمكانية صلاحيتها للتطبيق، أو الدخول في التطبيق دون أساس نظري، بالقول إنّ التطبيق هو الذي يخلق النظرية، كذلك نرى أن الشواهد تنقل أحياناً من كتاب نظري استخدمها باحث كأمثلة لصحة نظرية ما، فيجيء الباحث الآخر، ويقوم بنقلها، دون دراسة، أو حتى تأكد عام، فالشواهد غالباً ما تستخدم انطلاقاً من الثقة بالآخرين. لكن الخطر، هو في الدخول في التطبيق، دون دراسة احتمالات الخطأ والمبالغة. وهناك من يستخدم الشواهد الاستثنائية التطبيقية، على أنها تمثل حالة عامة أو ظاهرة أساسية، في حين يتم إهمال الأمثلة الأساسية. كذلك هناك من يستخدم حالة، لا تنطبق على حالة أخرى، إلاّ في صفة غير أساسية. أو يتم افتراض وجود ذلك (التشابه) الوهمي.
والإشكالية الأخرى، هي إشكالية المنهج، التي خلقها التوسع في مفهوم الأدب المقارن ومحاولات تضييق حدوده، فالمدرسة الفرنسية، مازالت تتوكأ على عصا المنهج التاريخي الذي ينخره السوس. فكلمة (تاريخ…) تسبق عادة كل تعبير عن المقارنة، وتلتصق بكل عنوان. فالفرنسيون يبتعدون عن النص الأدبي، باتجاه غابة التاريخ والفولكلور، وكل ما هو خارج النص الأدبي، كذلك دخلوا في مسألة التوثيق، وأصبح التوثيق يطغى على النص الأدبي، بحيث أهملت قيمته الجمالية، وتم التركيز على ما هو خارجه من مادة خام. وهناك مادة خارجية خام، تظل مفيدة لقراءة النص، وهناك مادة خارجية غير مفيدة، لأنها تحولت إلى استطرادات في العلوم الإنسانية، واشتراط العامل التاريخي أصبح هدفاً بحد ذاته. ومشكلة المنهج التاريخي، هي التوسيع في دراسة العوامل الخارجية التي لا تعني إشعاعات النص الاجتماعية. في حين انطلق الأمريكيون من خطأ مشابه، وهو المقارنة بين الآداب وبين غيرها من الفنون والعلوم، وبهذا زادوا المشكلة تعقيداً، لأن الاستفادة من الفنون مثلاً في تفسير النص الأدبي مفيد للنص، ولكن المقارنة قد تقوم على افتراضات خاطئة، وهي افتراض التشابه الأساسي بين لغات الآداب والفنون. صحيح أن هناك تشابهات وتأثيرات مشتركة، إلاّ أنه لكل فرع لغته الخاصة، وهويه الخاصة. فتطبيق قوانين الموسيقى على أوزان الشعر مثلاً فيه تعسف، أما الاستفادة من هذه القوانين الموسيقية في تفسير بعض جوانب موسيقى الشعر، فهي مفيدة من أجل الاعتراف بخصوصية الفوارق الأساسية بين قوانين الموسيقى، وقوانين موسيقا الشعر. وقوانين السيناريو السينمائي، تختلف عن استفادة الشعر والرواية والمسرح من هذه القوانين… ومع هذا فنحن نقف أمام احتمالات التقارب في أشكال الكتابة الإبداعية مستقبلاً: (مفهوم الخطاب أكثر دقة من مفهوم الأنواع). وفي رفضهم للمنهج التاريخي الفرنسي، لأنه يركز على المضمون، طالب الأمريكيون، بالنص المغلق الذي هو المعني بالدراسة للمقارنة. وهذا نفي لاجتماعية النص، بالتركيز على تقنية النص، ولا أقول بنية النص. فالبنية تحمل حتماً دراسة إشعاعاتها الاجتماعية، في حين أن تقنية النص، تعني هيئته الخارجية، كذلك، فإن إلغاء شخصية مبدع النص، هو عملية فصل متعسفة بين النص ومبدعه. وقد نختلف حول تحديد نسبة (حضور المبدع) في النص، لكننا لن نختلف حول أن هذا النص، كتبه مبدع محدد الملامح أو غير محدد. صحيح أن النص، هو الحكم الأول والأخير، ولكن دراسة شخصية المبدع الأدبية، ضرورية، على أن لا يتسع ذلك إلى استطرادات تاريخية، فعندما ندرس، نص شاتوبريان الثقافي: (الرحلة من باريس إلى القدس)، لابدّ من قراءة إبداعات شاتوبريان الأخرى، مثل (عبقرية المسيحية). وليس مطلوباً أن نستطرد باتجاه تاريخ العقيدة المسيحية، ولكن لابدّ من قراءة خلفيات النظرة المسيحية في شخصية شاتوبريان، بما له علاقة بالنص المدروس. وحين ندرس أثر وليم فوكنر في روايته (الصخب والعنف) في رواية غسان كنفاني (ما تبقى لكم)، فنحن نشير إلى العناصر المتعلقة بالنصين في سيرة حياة المبدعين. ونشير إلى خلفية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بما يتعلق بنص غسان كنفاني، دون الاستطراد باتجاه شرح الصراع الفلسطيني، الإسرائيلي التاريخي، ونشير إلى الصراع بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة الأمريكية، بما يتعلق بنص فوكنر، دون الاستطراد باتجاه شرح تاريخ هذا الصراع.
وهناك مسالة أخرى تتعلق بقضية شرط اللغة لدى المدرسة الأمريكية، عندما اكتشفت هذه المدرسة، أن هذا – أي شرط اللغة – ينفي خصوصيتهم القومية والثقافية، ويجعلهم مجرّد تابعين للثقافة البريطانية. ولهذا نفوا شرط اللغة، بالقول إنّ الثقافة الأمريكية، هي نتاج ثقافات عرقية متعددة، ولهذا فقد أصبحت لها خصائص قومية مختلفة عن الأدب الإنجليزي، فهي تحمل عناصر أساسية جديدة، إضافة لعناصر مناقضة للثقافة الإنجليزية. ولهذا فهم، مع اجتماعية النص، حين تؤكد هذه الاجتماعية الفوارق بينهم وبين الإنجليز. وهذا منطلق صحيح، رغم أن ظهوره ارتكز على منطلق براغماتي. وهذا ما جعلهم يأخذون، بمبدأ التشابه والتوازي، حيث قاوموا شرط اختلاف اللغة.
وبنفس النمط البراغماتي التمايزي، يرفض الأمريكيون، مصطلح (الأدب العام)، لأنه (اختراع فرنسي)، مع أنهم يدرسون الأدب العام مع الأدب المقارن في جامعاتهم.
باختصار: نحن نرى أن تطور المدرسة الفرنسية، بطيء ومنهجها استطرادي، في حين أن المدرسة الأمريكية، هي مدرسة تجزيء النص بإلغاء إشعاعاته الاجتماعية الممكنة، فكيف نخرج من دراسة التاريخ الاستطرادي للنص، بالدخول في النص واعتباره مركز الإشعاع، وكيف نمارس أدبية الأدب، دون أن نلغي إشعاعاته الاجتماعية، والحل لا يكون توفيقياً تلفيقياً، لأن هذا الحل يوقعنا في مأزق التجزيء وافتراض وجود قطبين متوازيين: النص، وإنتاجية النص، بإلغاء العلاقة الديالكتيكية: فالعلاقة ليست بين (النص المفتوح) الفرنسي، وبين (النص المغلق) الأمريكي. والخارج ليس هو النص، كما أنَّ النص ليس هو الخارج. والنص ليس هو المؤلف، والمؤلف ليس هو النص، لكنّ المبدع ليس غائباً عن النص، وليس هو النص، فلا ثنائية بين المبدع ونصه، إلاّ في حالات نادرة، فلماذا تستخدم هذه الحالات النادرة على أنها هي القاعدة. والنص ليس شجرة مزروعة في الهواء، كما أن الهواء ليس النص. فليس الهروب إلى إنشائية واستطرادية المنهج التاريخي، هو الحل، وليس الهروب إلى النقد الإنشائي الغامض هو الحل. فالقول بنقد إبداعي، يوازي النص، يجعلنا نقع في غموض وتعقيد جديدين، بدلاً من التفكير في استخدام الأدوات لإضاءة النص، بقراءته ضمن بيئته الإنتاجية والإبداعية. أما قضية دراسة (العلاقة)، فهي لا تعني فرحة اكتشاف التأثير والتأثر، والبحث عن أضوائه الخارجية ومساربه وقنواته، وأصوله، بقدر ما تتعلق بمسألة طرح منهج جدلي شامل لقراءة شاملة. فالأدب المقارن منهج من مناهج التفكير الأدبي، يدرس منطقة محددة في الأدب، يدرس النصوص، ويقرأ علاقاتها الداخلية وإشعاعاتها الاجتماعية، بما يخدم إضاءة النصوص، وإضاءة العلاقات بينها، وليس بما يخدم فكرة التمايز المقصود. فالتوهج الشعري، مثلاً ليس ناتجاً عن خبرات ثقافية لغوية وحياتية فقط، مثلما ليس ناتجاً عن فكرة الإلهام الميتافيزيقية، ولا هو ناتج عن انفعالات سيكولوجية فقط، تتعلق بكل مبدع على حدة، ولا يوجد (تشابه جماعي) في عملية التوهج الشعري، إنه نوع من (الصفاء البشري)، لدى مبدع له صفات ومنابع كثيرة، ولكنه صفاء خاص، ليس من نوع الواقع، وليس متوازياً معه، بل ينطلق منه، باتجاه منطقة الحلم، ومنطقة الحلم لم تدرس بعد إلاّ من زاوية أحادية. وتختلف طبيعة هذه المنطقة من بيئة إلى أخرى. إذن يكون الحال بتشجيع دراسة عملية الإبداع الأدبي، مرتبطة بخصوصيتها النسبية في النص وبالمبدع، ومرتبطة بإنتاجية النص، وأهم من ذلك دراسة العلاقة الديالكتيكية في العملية كلها.
التشابه والتوزاي
وهناك إشكالية حدودية أخرى، هي إشكالية: (ازدواجية التأثير والتأثر مع التوازي والتشابه)، في مقابل شيوع السمة الأساسية – أي التأثير والتأثر – في الدراسات المقارنة، فقد جاءت المدرسة الأمريكية، لتقول بإمكانية دراسة (التشابه والتوزاي Parallelism)، حيث يمكن دراسة الموضوعات المتشابهة، لإبراز خصائص كل منها بغض النظر عن وجود صلة تاريخية أو علاقات تأثير وتأثر فعلية بينها، أو بين عدة أعمال أدبية، كذلك دراسة مورفولوجية نصين أدبيين متشابهين، دون أن يكون بينهما علاقة فعلية سلباً أو إيجاباً. وتم التركيز على الدراسات التي تتعلق بهيئة النصوص. والمقصود بدراسة (التوازي) هو رفض الحلقة المركزية في المنهج التاريخي الفرنسي الذي يرتكز على حاجز اللغة، وعلى (التأثير والتأثر)، ودراسة الصلات الفعلية، والانطلاق نحو المفهوم المقابل، وهو دراسة العلاقات الداخلية للنصوص، والتركيز في التطبيقات السائدة على مورفولوجية النص، بدراسة عملين متشابهين، ليس بينهما تأثير وتأثر. ومن أشهر أنصار دراسات التوازي: رينيه ويلك، وأوستن وارين، وهنري ريماك، وجوين، وشو، وإيهاب حسن، (أمريكي من أصل مصري) وفايسشتاين. ونحن نرى أن هناك فوائد عديدة لدراسات التوازي، باتجاه توسيع آفاق الأدب المقارن، وتركيزه على النصوص وإشعاعاتها، بعيداً عن متاهات التاريخ والفولكلور. يقول جاك دريدا: (النص ينطوي على عدة عصور، ولابُدّ أن تتقبل أية قراءة له هذه الحقيقة وتنطلق منها). ومعنى ذلك من وجهة نظرنا، أنَّ التناصّ، قد يكفي لدراسة الإشعاعات المعرفية في داخل النص، دون اللجوء إلى الخارج الإسقاطي، أي أن المطلوب، هو دراسة ما أسمّيه: (خارج الداخل)، في مواجهة الخارج الإسقاطي. ولكن التركيز على مورفولوجية النص المغلق، يدخلنا في تطرف آخر، كما أن دراسات التوازي، تدخلنا في عموميات جديدة من نوع آخر. فالنص ليس نباتاً شيطانياً، والحصاة الصغيرة في البحر الكبير، لها علاقات خارجية كبيرة، قد تؤثر فيها إلى درجة الفتك بها، وتحويلها إلى هيئة أخرى، فالحصاة ليست كتلة صخرية مستقلة عن البحر، رغم استقلالها الظاهري النسبي. والحل ليس برفض علاقات التشابه والتوازي، بل بتطويرها باتجاه تحولها إلى منهج جدلي شامل، لأن القول بثورة اجتماعية متواصلة متفجرة بذاتها خارج النص، ثم القول بثورة داخلية مستقلة متفجرة موازية للثورة الاجتماعية، هو أمر غير دقيق، يقع في إطار الفكر الطباقي الثنائي الذي يعتبر خطوة ثورية واحدة، باتجاه نظرية: الأصوات المتعددة. فما فائدة التوازي إذا كان يصل إلى نتائج (جمالية مغلقة ومستقلة). ورغم اعترافنا بالاستقلالية الخاصة للنص، إلاّ أن هذه الاستقلالية نسبية. وكيف نقفز باتجاه دراسات التوازي، ونحن لم نكمل دراسة مناطق الصلات الفعلية. وحين أكرر مصطلح (اجتماعية النص)، فأنا لا أعني بالتأكيد: النظرة (الجدانوفية) الستالينية، أو (البليخانوفية)، أو (التروتسكية)، أو اجتماعية أوروبا الغربية، أو اجتماعية أمريكا (التجزيئية). وإذا كانت دراسات التوازي مفيدة في دراسة خصائص النصين أو النصوص، وهذا صحيح، فإنها أيضاً تستند إلى افتراض خاطئ في مجال دراسة العلاقات بين هذه النصوص، أو تؤدي إلى نتائج فضفاضة وإن كانت مفيدة، حين تدرس علاقة الآداب بالفنون.
التأثير والتأثر
وتبقى الإشكالية الحدودية الكبرى في الأدب المقارن، وهي (إشكالية حدود ومنهج التأثير والتأثر)،فالأدب المقارن، قام في أساسه على فكرة التأثير والتأثر الفعلية، وإذا كانت فكرة (السرقات الأدبية بين الدول)، قد سقطت نهائياً، إلاّ أن فكرة (المؤثر الموجب)، و(التأثر السالب) مازالت تمارس، فالمؤثر مازال يطرح على أنه (إيجابي)، والمتأثر مازال يطرح على أنه (سلبي). وأضيفت فكرة أكثر خطراً، وهي أن المرسل المؤثر، هو النموذج. وتمت مناقشة دور الوسيط، كأداة ينتهي مفعول فعلها بمجرد قيامها بدورها، ولم يتم التفريق بين وسيط وآخر. والأهم هو المزج بين الوسيط والعلاقة، وكأنهما شيء واحد، أو كأنهما شيئان مختلفان. وتم التأكيد على ضرورة وجود علاقات فعلية، مما جعل البعض، يبحث عن تأثيرات وهمية، أو يقوم بتضخيم علاقات فعلية ثانوية على حساب العلاقات الفعلية الأساسية:
فالمسألة التأثيرية، لا تتم، وفق النماذج التقليدية التالية فقط:

المرسل/ العلاقة/ المتلقي/ العمل المتأثر.
(المرسل النموذج)/ الوسيط – العلاقة/ المتلقي – نسخة أخرى من النموذج.

– وفي مسألة (الوسيط)، لا تتم الأمور، وفق النماذج التقليدية:

المرسل/ الوسيط/ المتلقي = النتيجة الجديدة.
الوسيط/ العلاقة/ المتلقي = العمل.
وسيط أول/ وسيط ثان/ المتلقي = العمل مع خصائص الوسيط.

والمهم في ذلك، هو أن لا نعتبر المرسل هو النموذج، لأن المرسل، ينتج عن صورة أخرى سابقة له، اعتبرها المرسل نموذجه، والصورة السابقة للمرسل النموذج، سبقتها صورة أخرى لنموذج سابق لها، وبالتالي لا يوجد نموذج ثابت ووحيد، فالمرسل ليس هو الأصل النهائي، بل هو متأثر بصورة النموذج السابق مع الاحتفاظ بخصائصه الجديدة التي نتجت عن هذه العلاقة. والوسيط حين يمارس وساطته، فإن ذلك يحدث (صدفة) و(احتياجاً). والخصائص الأولى للنموذج الذي سبق المرسل، لا تتلاشى نهائياً، بل تتحول إلى هيئة أخرى جديدة، لكن جدَّتها نسبية، وقد يستلب المرسل نفسه باتجاه النموذج السابق، فيخرج نسخة مشوهة عنه، وإذا تلقى المرسل إليه أو المتلقي هذا التشويه، فإنه يخرج مشوهاً أكثر من مرة. وقد يحدث التأثر العكسي المعروف. وهناك إيجابيات اصطناعية للمرسل من خارجه، قد تؤثر في جوانبها الخارجية في المرسل إليه، فيقع في الأوهام الخارجية: (الشهرة، الإدهاش، الدعاية، التعصب الإيديولوجي والقومي)، وقد يشتهر أن المرسل المؤثّر، هو الذي أثر، في المرسَل إليه، وحين ندقق في ذلك، نجد أن المرسل والمرسل إليه، تأثرا بمرسل مشترك، حيث يصبح المرسل إليه، المشهور على أنه سلبي، يصبح مرسلاً ومرسلاً إليه في نفس الوقت. وقد يحدث أن المتلقي، يؤثر في المرسل بعد أن يتأثر به، وقد يقع عليه التأثير عبر فترات متعددة وطويلة زمنياً على شكل دورات متعددة ومعقدة الأشكال. فالثقافات لا تتلاشى نهائياً، بل تتغير هيئاتها، لأنَّ تلاشيها أمر ظاهري: كل هذا يثبت أن المرسل ليس دائماً إيجابياً، والمتلقي ليس دائماً سلبياً كما هو شائع. وهكذا نحدد مظاهر إشكالية التأثير والتأثر على النحو التالي:
أولاً: البحث عن عناصر وهمية في عملية التأثير وتضخيمها، أو تضخيم أهمية إحداها على حساب العناصر الأخرى.
ثانياً: في حالة التأثير والتأثر المباشرة، تتم غالباً عملية بحث شاقة، قد تتجاوز أهدافها الأدبية، وتضيع في متاهات الفولكلور والتاريخ والعلوم الإنسانية، قبل أن تصل إلى النص.
ثالثاً: النقد الأدبي، هو الأقرب إلى منهج الأدب المقارن، ولكن بعد أن يعترف باجتماعية النص. أما النقد الأدبي الذي يقدس (النص المغلق) إلى مرتبة الإلهام الميتافيزيقي، فهو يقوم بتجزيء النص. أما العلوم الإنسانية وخصوصاً التاريخ، فهي تحشر نفسها، وتصبح هدفاً، بحيث يصبح النص غائباً في كل العملية، ومع هذا فلا بأس من الاعتراف بموضوعية العلاقات.
رابعاً: اعتبار المرسل إيجابياً دائماً ونموذجياً، واعتبار المرسل إليه هو السلبي، يؤدي إلى السقوط في منهج رؤية التأثير والتأثر، على أنها سرقات أدبية دولية.
خامساً: هناك أنواع عدة من الوسطاء، سلبيين وإيجابيين، مؤثرين وغير مؤثرين، ودراسة الوسطاء ومناهج الوساطة، تدخل ضمن العملية الشاملة، وليس بالنظر لها على أنها حاسمة، أو عديمة التأثير. وقد تكون الوساطة مباشرة وغير مباشرة، ولكنها ليست مقايضة تجارية. هناك وساطة بطيئة ووساطة سريعة المفعول. والوسيط، قد يكون فرداً أو أفراداً أو جماعات أو مؤسسة، والوسيط ليس محايداً، مهمته تقبل العمل وإيصاله، فالوسيط ينقل إلى الأدب القومي، ما يتناسب مع فكر النظام الإيديولوجي الذي ينتمي له أو يرغب فيه، وقد ينقل ما يتطابق مع ذوق الأدب القومي، أو مع إيمانه الشخصي. وقد يكون وسيطاً تافهاً، فينقل أعمالاً رديئة، أو ينقل أعمالاً جيدة بأسلوب موجود في الأصل، ولهذا لابدّ من دراسة الوسيط نفسه. وهناك دائماً منطلق الاحتياج، لأنه الأقوى في عملية الوساطة. في حين أن وساطة الصدفة، ليس لها نتائج مضمونة، فهي معرضة للاندثار كلياً أو النجاح المفاجئ. وأنا شخصياً لا أميل إلى تضخيم دور وسطاء الصدفة. صحيح أن مدام دي ستال، تأثرت بقراءتها لوسيط ضعيف، دفعها وحفّزها نحو صدور كتابها (من ألمانيا)، لكن فيلرز الوسيط الضعيف، أو (المدّعي السخيف) كما سماه غويار، لم يكن هو العامل الحاسم في ظهور كتاب (من ألمانيا)، بل نقول إنّ مدام دي ستال، كانت قد قررت، بعد ومضة فيلرز الأولى، أن تمضي في طريقها، بفيلرز، أو بدونه.
الوجودية، الواقعية، والبنيوية
– وصحيح أن (البنيوية) في أوروبا وأمريكا، ما كانت لتزدهر، لولا الشكلانيين الروس والمهاجرين التشيكوسلوفاكيين والبلغار، لكن أوروبا وأمريكا، كانتا تبحثان قبل ذلك عن البنيوية، سواء جاءها المهاجرون، أم ظلوا في بلدانهم، لكن مجيء هؤلاء سارع في عملية إرساء شرعية البنيوية، فهناك دائماً، قوة احتياج الآخر. فالمشكلة تكمن في ضرورة مناقشة الآخر، وليس التسليم بما يجيء، بالصدفة أو بالاحتياج، كذلك مشكلة الأخذ بما هو شائع أو مشهور نظرياً وتطبيقياً، كالأخذ بعموميات، تنشرها دراسات المذاهب الفنية مثلاً)، وإطلاق الأحكام القاطعة حول تصنيف أو تصنيفات المطبق عليهم. أما دراسة تأثير التأثيرات الفكرية في الآداب المختلفة، فينبغي أن تنطلق من الآداب نفسها، وينبغي الاستفادة من خلاصة التأثير العام للتيارات، دون الولوج في تفاصيلها التي تهم الفلسفة والإيديولوجيا والتاريخ، بل تركز على التأثير الخاص في الآداب. فمثلاً: لدى قراءتنا لتأثير الإيديولوجيا الاشتراكية في الأدب العربي الحديث، وخصوصاً الشعر الحديث في الخمسينات والستينات، نلاحظ أن هناك احتياجاً قومياً محلياً آنذاك، للأفكار الاشتراكية. ولهذا ينبغي رفض نظرية (الاستيراد) عند تفسيرنا لهذا التأثير، كما نلاحظ أن الشعراء العرب، أخذوا الجانب المضموني، وضخموه على حساب الجماليات، بحيث أصبح هذا الجانب (المعنى)، إرهابياً متسلطاً، مع أن علم الجمال الماركسي – اللينيني، في تطبيقاته النظرية والعملية (الجيّدة)، المتمثلة في مدرسة الواقعية الاشتراكية، ترفض هذا الإرهاب، ولم تقل به. ولهذا سادت النصوصية، وساد نوع من الكتابة الشكلانية، كما حدث في الخمسينات، كما هو الحال مع قصيدة النثر، مع أن شيوع الواقعية الاشتراكية في العالم العربي، فرض شيوع أسماء عالمية في الشعر (نيرودا – لوركا – ناظم حكمت – ماياكوفسكي – أراغون – إيلوار – الخ)، إلاّ أن استعمالهم العربي، كان سيئاً. وفي المقابل، ظهر تيار شعري آخر في لبنان حول مجلة (شعر)، كرد فعل، وكاحتياج. ولكنه مارس إرهاباً آخر، بل إنه رفض الاعتراف بالآخر، وقد تأثر بالشعر الفرنسي المعاصر والحديث، ولكنه لجأ إلى التقليد، ووصف هو الآخر بالاستيراد، وهذا ما حدث لدى شعراء الواقعية الاشتراكية الذين تأثروا بالشعارات الإيديولوجية، أكثر من جماليات الماركسية، فقد أصبح لدينا تأثيران: أحدهما سلبي، والآخر مقلد، والاستثناءات من الطرفين كانت موجودة. وأعتقد أن بروز الشعر الفلسطيني الحديث بفرعيه: الشمال الفلسطيني، (والثورة الفلسطينية) بعد عام 1967 ونجاحه الباهر جماهيرياً، لم يأت فقط بسبب الصدفة التاريخية، وظهور الثورة، بل لأنه استفاد من أخطاء التيارين السابقين: انغلاق النص على شكلانيته لدى جماعة مجلة شعر، وابتذال الإيصال لدى – شعراء الواقعية الاشتراكية. إذن ينبغي معرفة نسبة ونوع التأثير والتأثر في هذه الحالة: لقد وفدت (الوجودية الأدبية)، كتيار فلسفي إلى الوطن العربي، كفلسفة جديدة، مرتبطة بفكرة (التحرر الوطني)، وفكرة الحرية بشكل عام، وقد أثرت نماذجها الأدبية (سارتر، سيمون دي بوﭬﻮار، كولن ويلسون، ألبير كامو) في الأدب العربي في أواخر الخمسينات وفي الستينات، وخصوصاً في الرواية، لكننا نلاحظ أن كثيراً من الأعمال الأدبية، أخذت جانب (العدمية) فقط، وصادف في تلك اللحظة التاريخية، أن كان الصراع على أشده بين الماركسيين المطمئنين لوجود فلسفة أممية إنسانية يؤمنون بها، وبين القوميين العرب المتباهين بمحافظتهم على خصوصيتهم القومية، ولهذا تبنّى التيار القومي – الوجودية، كفلسفة إنسانية، لاستكمال البعد القومي. وإذا كان الأدب العربي، قد استفاد من الوجودية، أفكاراً متعددة (صورة الصراع – الحرية)، إلاّ أنه أيضاً، كان إيجابياً في موقفه من (العدمية)، ولهذا حدث التقارب بين الماركسيين والقوميين في السبعينات، ولهذا أيضاً لا يمكن فهم تأثير الوجودية من جانب واحد فقط.
كذلك ينبغي تمييز بنية تأثير الوجودية الفلسفية العامة، وبنيات تأثيرها في النصوص الأدبية، وقد جاء التأثير من نشاط حركة الترجمة للآداب والأفكار الوجودية، ومن دفع الترجمة للمبدعين باتجاه الأصل، حيث يمكن أن ندرس: كيف تم التأثير، وهيئاته المتعددة، ونتائج ذلك في النصوص.
– أما (المنهج البنيوي)، كمنهج نقدي، فقد وفد في نهاية النصف الثاني من السبعينات، متأثراً بالبنيويات الفرنسية. وانتشر في لبنان وسوريا والمغرب، بشكل خاص، ثم مؤخراً في مصر. لماذا تبناه البعض دون مناقشة، ولماذا تعامل البعض معه، كموضة مدهشة في حين خاصمه آخرون منذ البداية، دون دراسة. ثم لماذا تلقفته في البداية بلدان عربية محددة، هل لهذا الاستقبال علاقة أساسية بأزمة الثقافة المحلية في هذه البلدان، أم هو تعبير عنها، وهل جاء كرد فعل لسيطرة البنى التقليدية وثورة عليها، كما يقول مناصرو البنيوية، أم هو تعبير عن أزمة إيديولوجية. وهل هذا المنهج، دعاية للشكلانية الأورو-أمريكية لمواجهة النقد الثوري في العالم العربي، كما يقول خصوم البنيوية، وهل هي موجة عابرة كوجودية الستينات، أم أن أثر البنيوية، سوف يستمر طويلاً. هل هو إنشاء آخر، يلغي عاطفية الانطباع والتذوق، أم هو اقتراب بالنقد الأدبي، باتجاه المنهج العلمي الدقيق، كما يقولون. هنا تصبح دراسة آراء الذين روّجوا للبنيوية في العالم العربي، ومقارنة ذلك بآرائهم النقدية السابقة ضرورية، كذلك دراسة آراء الخصوم أو المتشككين أو المحايدين… ضرورية مع مقارنة أفكارهم مع الأصول النقدية الفرنسية.
نحن نلاحظ أن المتلقي، يبحث عن توازن روحي وفني، وقد يدهش المتلقي،فترة طويلة أو قصيرة، لكنه يلجأ إلى التوازن دائماً كحل، فهو يرفض أحياناً بعداء كامل، ثم يعود ليقبل قبولاً كاملاً ثم يعود إلى الرفض، ولكن التوازن ليس التوفيقية، فهو غالباً ما يأخذ العناصر التي تلائم روحه، بالرضا أو بالجبر، رغم حالات الإنكار.
الروائع والهالات الأدبية
وهناك مشكلة تبدو فرعية، لكن الأدب المقارن، ينبغي أن يتخذ منها موقفاً واضحاً، وهي ضرورة التخلي عن منطق (الروائع)، ومنطق (الهالات الأدبية)، والمصطلح لغويار الذي يفرد له مجالات واسعة، وهو منطق تكريس تقديس الأبطال الكبار في الآداب العالمية، مثل: شكسبير – غوته – ثربانتس – بوشكين – هوجو – دانتي… الخ، أي روائع الآداب الخمسة الكبرى (المركزية) – والأمر لا يتعلق بدراستهم، بل بتقديسهم، والمبالغة في هذا التقديس إلى درجة العبادة المطلقة، بل يتم الأمر بإحلالهم مكانهم البشري اللائق الواقعي، لأن منطق (الروائع) ومنطق (الهالات)، يساهم من خلال نظرية التقديس في الابتعاد عن المنهج العلمي بتثبيت منهج (المحرمات) أو (تشويه المحرمات) كرد فعل، كذلك، لأن هذا المنطق يساهم في تجزيء حركة الأدب العالمي، وتحول روائع آداب باقي العالم، غير الأوروبي، وغير الأمريكي، إلى مجرد شاهد زور على قدسية هذه الحالات فقط، وعلى القول بعالمية الآداب الأوروبية، ما دام (الرائعون)، أو (جنرالات الأدب)، هم أدباء أوروبا الغربية وأمريكا فقط!!.
– (نية القصدية)، ضرورية في الأدب المقارن، فنحن عندما نقول إنّ: رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وأديب إسحق والشدياق وشوقي ومطران والريحاني وجبران وخليل ثابت وسليمان البستاني، لم تكن لديهم النيّة الواضحة لدراسة المقارنة من خلال دراساتهم، حول علاقات الأدب العربي بالآداب الأوروبية، فنحن نعني أن درجة القصدية، باتجاه علم الأدب المقارن كعلم مستقل، لم تكن موجودة لديهم، أي أنه لا يوجد إلحاح علمي على تأطير ما كتبوه في إطار الأدب المقارن. رغم هذا نجد أن مقدمة البستاني لترجمة الإلياذة 1904، تدرس وتقارن بين الشعر العربي والشعر اليوناني، ولكن دون تأطير نظري: كذلك نجد الدراسة التطبيقية التي قدمها قسطاكي الحمصي (الموازنة بين الألعوبة الإلهية) و(رسالة الغفران) في كتابه (منهل الورّاد في علم الانتقاد – الجزء الثالث – 1935).
لكن أهم كتاب في علم الأدب المقارن من الناحية التاريخية، صدر في النصف الأول من القرن العشرين في العالم العربي، هو كتاب روحي الخالدي، (تاريخ علم الأدب عند الافرنج والعرب وفيكتور هوكو)، الصادر في القاهرة عام 1904، وسبق أن نشرته مجلة (الهلال) المصرية في حلقات في عامي 1902 و1903، تحت اسم مستعار، هو (المقدسي)، وروحي الخالدي، متأثر بالمنهج التاريخي الفرنسي في كتابه، وقد طبق كافة شروط الأدب المقارن في كتابه، كما تتوافر في شخصيته كافة الشروط المطلوبة في الباحث المقارن. هكذا يصبح أمامنا مهمة مطروحة، وهي إعادة كتابة تاريخ نشوء هذا العلم وتطوره وتعثره، منذ بداية القرن، وحتى الدراسات الحديثة، مشيرين إلى ضرورة مناقشة تجريبية روحي الخالدي الرائدة، كذلك ضرورة العودة إلى المقارنات غير المقصودة في تراثنا العربي. أما موقفنا من الدراسات المعاصرة، فينبغي أن نشير باحترام لمحمد غنيمي هلال، صاحب أول محاولة منهجية معاصرة في الأدب المقارن في العالم العربي. لقد صدر كتاب غنيمي هلال (الأدب المقارن) عام 1953.
أما الدراسات الحديثة التي ازدهرت في منذ سنوات قريبة، فقد أدخلت نظريات المدرسة الأمريكية بالترجمة أو الشرح، كذلك تطورات المدرسة الفرنسية، وإذا كانت المدرسة الفرنسية، قد أخذت حظها من الشرح، فإن محاولات ترجمة وشرح المدرسة الأمريكية، مستمرة في كتابات وترجمات مجلة (فصول) المصرية، كذلك انتشرت مقارنات تطبيقية بين الأدبين العربي والعبري، وإن ظلّت المعالجة، صحفية إعلامية بشكل عام، تتجاهل عنصرية الأدب العبري، إلاّ أن هناك بعض الدراسات الجادة، كذلك تمّت الخطوة الأولى الصحيحة، باتجاه المقارنة مع الأدب الاسباني. وظهر كتاب إدوارد سعيد عن (الاستشراق) الذي يمكن أن يلعب دوراً هاماً في تصحيح النظرة الاستشراقية في العقل العربي أولاً. وعقد مؤتمران هامان (مؤتمر الأدب المقارن في المنيا – مصر، 1981، والمؤتمر العربي الدولي الأول في جامعة عنابة، 1983)، واهتمت بعض المجلات العربية، بنشر دراسات مقارنة، وتشجيع ترجمة النصوص الأجنبية، مثل: الآداب الأجنبية (السورية)، و(فصول) المصرية، و(الثقافة الأجنبية) العراقية، ومجلة (الكرمل) الفلسطينية، و(مواقف) اللبنانية، وعالم الفكر الكويتية… الخ، ونشرت دراسات تطبيقية ونظرية كثيرة لأساتذة كثيرين، كما ازداد اهتمام الأجانب بالأدب العربي، وهذه ليست الحصيلة النهائية. فالاهتمام بالأدب المقارن في الجامعات العربية يزداد. وهذا الاهتمام يستدعي منا جميعاً الحذر والحرص والاهتمام والتعمق العلمي.
– يزداد العالم تشوقاً للتفاعل والتواصل. ومن الطبيعي أن التفاعل الثقافي والأدبي، أيضاً، أصبح أمراً واقعياً لتوحيد العالم، عبر التعدديات الثقافية التي تساهم في إثراء الأدب العالمي. ولكن مسألة التفاعل مسألة إشكالية، أي أن التفاعل ليس مثالياً، لأن شروط التفاعل، تميل لصالح فرض شروط (المركزية الأنجلو-فرانكوفونية)، على آداب العالم العربي، والصيني، والياباني، والإفريقي، والأمريكي اللاتيني (الهسباني – آداب اللغة الإسبانية). ومازال هذا الاختلال قائماً في ضوء الهيمنة للنظام العالمي أي في ظل التقاليد الثقافية للحرب الباردة. فالمثاقفة كانت تعني التكييف القهري، لإرادة ثقافة المستعمر (بكسر الميم)، ثم وصلت إلى مفهوم الدعوة إلى التفاعل الطبيعي، بشروط المركزية (الأنجلو -فرانكوفونية). وهي الحال الراهنة لمفهوم التفاعل.
المثاقفة الفلسطينية مع الثقافة الإسرائيلية
– لا يمكن فهم العلاقة التثاقفية بين الأدب العربي والأدب العبري، إلاّ بفهم (التفاعل مع الآخر الإسرائيلي)، بصفته حالة خاصة لا مثيل لها. وهذا يقتضي عدم الفصل بين السياسة من جهة والأدب والثقافة من جهة أخرى، كما أشار (إدوارد سعيد) مؤخراً في أحد حواراته، بل إنّ إدوارد سعيد، برهن بشكل قاطع على أنه لا يمكن فصل الأفكار عن النصوص. فالنصّ ليس مجرّد خطاطات بلاغية ولسانية وسيميائية. ولفهم المسألة الخاصة، لابُدّ من توضيح فكري سياسي، لا نستعمله في تحليل النصوص الأدبية، لكنه يبقى في الرأس، أثناء التحليل الجمالي:
أولاً: الحلّ الديمقراطي العادل في فلسطين، هو: عدم شرعية دولة إسرائيل الاحتلالية النووية الاستعمارية العدوانية، وذلك بإقامة: دولة فلسطينية ديمقراطية في فلسطين كلها، على أن يكون (اليهود الفلسطينيون أصلاً)، وهم مع أحفادهم، يشكلون نسبة 7% من المجتمع الفلسطيني – عنصراً أساسياً من عناصر هذه الدولة، ضمن مفهوم المواطنة الكاملة. أمّا الإسرائيليون الروس والأمريكيون والأوروبيون، فليعودوا إلى أوطانهم الأصلية، وهو أمر ممكن، مع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، وهو أمر ممكن أيضاً. ومن المثقفين الفلسطينيين الذين أيّدوا هذا الحل الثلاثي : (غسّان كنفاني، ناجي العلي، وعزالدين الناصرة).
ثانياً: الحلّ الدولي الممكن: إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وقطاع غزة، عاصمتها القدس الشرقية، لا وجود فيها لمستوطنات كبيرة أو صغيرة، وفق حدود الرابع من حزيران 1967. وهذا يعني تفكيك المستوطنات.
ثالثاً: الحلّ الإسرائيلي الأمريكي: إقامة(حكم ذاتي فلسطيني، تحت الوصاية الإسرائيلية)، بضمانات عربية، وفق اتفاقية كامب ﺩﻳﭭﻴﺪ المصرية – الإسرائيلية.
رابعاً: وهناك أفكار أخرى: (اتحاد كونفدرالي فلسطيني – إسرائيلي)، وهذه الفكرة لا علاقة لها بمشروع الدولة الديمقراطية الفلسطينية، رغم أن بعض المثقفين الفلسطينيين ومنهم الثلاثي (إدوارد سعيد، ومحمود درويش، وعزمي بشارة) يقومون بالترويج لها تحت شعار (الدولة ثنائية القومية)، وهي فكرة مستحيلة أما (الاستقلال ،1988 ) في وجهة نظر محمود درويش ، فهو يعني الموافقة على قرار التقيم (181) عام 1947، وبالفعل وافقت القيادة على ذلك .
– لقد أثرت هذه الأفكار السياسية في الأدب والسينما والفن التشكيلي، حيث لا يمكن تجاهلها عند تحليل النصوص: الأدبية والفنية والثقافية. أمّا النقاد الذين يتهربون من ذلك، فهم: المثقفون اليمينيون الرجعيون الذين يتغطون بقشور الحداثة، لتبرير موقفهم الإديولوجي السياسي الذي يتماهى أحياناً مع ثقافة – التأمرك والتأسرل. فمنذ الخروج من حصار بيروت 1982، بدأ المثقفون العرب، يتجهون نحو الانقلاب على ثقافة المقاومة، وتبرير (ثقافة الاحتلال الإسرائيلي)، بالكلام عن نكتة: (معرفة إسرائيل من الداخل)، أي تجريب المخدّرات لمدة سنة، (لاكتشاف خطرها)!!.: لقد ظهر فرعان من شعر المقاومة الفلسطيني: أحدهما في الشمال الفلسطيني، تحت رعاية الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، المعارض لسياسة إسرائيل العنصرية، المعترف بشرعية دولة إسرائيل، المطالب بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. أما الفرع الآخر، فهو: شعراء الثورة الفلسطينية في ظل أفكار منظمة التحرير الفلسطينية. وحدثت مفارقة عجيبة، وهي أنَّ القيادة السياسية لمنظمة التحرير والتنظيمات، روّجت للفرع الأول منذ عام 1967، بصفته (شعراً مقاوماً)، ومنعت صفة (المقاومة) عن الفرع الثاني الذي نشأ في ظل منظمة التحرير نفسها!!، رغم أنَّ: الناقد المصري غالي شكري، اعتبر شعر المقاومة في الشمال الفلسطيني، (شعر معارضة)، ضمن النظام الإسرائيلي نفسه. أما يوسف الخطيب، فقد اعتبر هذا الشعر، جزءاً من الإيديولوجيا الإسرائيلية الشيوعية. أما – أدونيس، فقد نفى صفة (الحداثة) عن هذا الشعر، واعتبره مجرد شعارات سياسية، مع استثناءات قليلة. وفي المقابل بالغت وسائل الإعلام الحكومية والشيوعية اليسارية في دور هذا الشعر إلى درجة المبالغة غير المقبولة علمياً ومنطقياً. والخاسر الوحيد من هذه الدعاية النقدية، هو: الشعر الفلسطيني الحديث الحقيقي.
– في مقابل وضعية الثقافة الفلسطينية، ظلّت الثقافة الإسرائيلية الاحتلالية في الأدب والسينما والفن، تدور حول محورين:

عدم الاعتراف بنكبة فلسطين عام 1948 و1967.
اعتراف بضعة مثقفين (لاجقاً) بِـ: أولاً بشرعية دولة إسرائيل، ثمّ بإمكانية إقامة دولة فلسطينية في حدود 12% من مساحة فلسطين الكاملة.

وقد تجلّى هذا الفكر بطريقتين: الأولى المركزية، وهي ممارسة الكتابة العنصرية في الآداب والفنون ضد الفلسطينيين، وهي تشكل 95% من الأدب والفن الإسرائيلي – والثانية: تعلن قبول الحوار مع الفلسطينيين، وهي فئة قليلة، على قاعدة الاعتراف بشرعية دولة إسرائيل. هنا يمكن مناقشة مسألة (التفاعل الثقافي مع الآخر الإسرائيلي)، انطلاقاً من هذه الخلفية السياسية. ومهما حاولنا في الأدب المقارن، فصل هذه الخلفية عن سياق إنتاج الأدب العبري الحديث منذ عام 1948، فلن ننجح. وهذا ما يُدخلنا في مجال النقد الثقافي المقارن، شئنا أم أبينا، لأن أي تحليل أثناء مقارنة النصوص الفلسطينية بالنصوص العبرية، سوف يقود إلى مناقشة (الأفكار). والمفارقة هي أن الأدب الفلسطيني الحديث (الضحية) في نماذجه العليا، يخلو تماماً من أية عنصرية ضدّ اليهود كيهود، مع أن هذا الأدب هو نتاج الضحية، في مقابل عنصرية الأدب العبري الحديث الذي يمثل الجلاّد (الاحتلال).
نموذج المثاقفة الفرانكفونية
– أما النموذج الفرانكوفوني، فهو لم ينتقل من الحالة الاستعمارية، إلاّ ليدخل مفهوم (المثاقفة القهرية الجديدة)، منذ عام 1962 بالتحديد، حيث ظهر مفهوم الفرانكوفونية، أي في نفس سنة (استقلال الجزائر)، وهو ما يعبر عنه في اللغة الشعبية، بخروج الاستعمار العسكري الفرنسي من الباب، لكي يدخل الاستعمار الثقافي (بنعومة حضارية) من النافذة. فهل التثاقف الطبيعي في الواقع، يعني التعرف العلمي إلى لغات وآداب أوروبا، أو حتى (التفرنس)، و(التنجلز)، أم أنّ هؤلاء يقدمون لنا (المثاقفة القهرية)، باعتبارها مثاقفة طبيعية؟؟. إذا أقررنا حالة التعرف العلمي الطبيعي إلى اللغات والآداب الأوروبية، فكيف نقر تحولها إلى إيديولوجيا مهيمنة، كما هو الحال مع (الفرانكوفونية) التي لا تعني بأي حال من الأحوال، مجرد التعرف إلى اللغة الفرنسية وآدابها؟!!. ما هي الفرانكوفونية إذاً؟؟، وما هي الأنجلوفونية؟!!، إنها إيديولوجيا المثاقفة القهرية. إذا كانت ظاهرة (الفرانكوفونية) في الأقطار المغاربية ولبنان، قد أعادت نفسها بروح جديدة، تتراوح بين قطبين، وهما: الانفتاح الإنساني (البراجماتي) من أجل إيصال الأفكار الديمقراطية، وغير الديمقراطية الفرنسية، في مقابل اتخاذ الآخر المقهور، موقف التبعية والتلذذ بالتبعية إلى درجة (الفرانكوفيلية – عشق فرنسا)، فإن التفاعل مع الثقافات الأنجلوسكسونية، يختلف قليلاً: فالعرب المشارقة، بدأوا بالمرحلة الانفتاحية الإنسانية الإجبارية على اللغة الإنجليزية وآدابها في مرحلة الاستعمار، لكنهم الآن قد تجاوزوا مرحلة التعرف إلى هذه الثقافة إلى مرحلتين متداخلتين، وهما: (التنجلز) و(الأنجلوفونية) باتجاه (أنجلوفونية – عشق أمريكا)، إن صح التعبير، أي ما يعادل (التأمرك!!).
وحتى الآن، فإن مسألة التفاعل الثقافي العالمي، ما زالت مرهونة، بشروط الآخر العالمي، انطلاقاً من هيمنة (النظام العالمي الثنائي!!). رغم أن المقارنة والمثاقفة في الأدب المقارن، لا تفترض بأن الدولة القوية سياسياً، هي قوية أدبياً. لقد بدأت اللغة الإنجليزية وآدابها في مدارسنا، قوية منذ العشرينات، أي بعد (سايكس بيكو)، ثم في جامعاتنا، ضمن مفهوم الانفتاح الإنساني الإجباري. وكان هذا أمراً طبيعياً، لكن الانتقال إلى مرحلة (التنجلز)، وهي مرحلة حرق مراحل باتجاه (رطانة صناعية)، جعل اللغة، وسيلة طبقية لاستعراض (الحداثوية)، حيث يتلاشى جوهر ومفهوم الانفتاح الإنساني. وقد زاد من هذه (الرطانة الهجينة)، ضعف اللغة العربية القومية في الجامعات لعدة أسباب. هذا التنجلز لم يساهم في ترقية المعرفة باللغة الإنجليزية وآدابها، لأنه تحول إلى سطح قشرة الظاهرة اللغوية، ليتفاعل معها بسطحية استعراضية حداثوية، بعيدة عن الحداثة الحقيقية، جعل المثقف والمبدع والدارس والأستاذ، يعيش حال الرقص الأعرج، حيث نخسر اللغتين (العربية والإنجليزية معاً). وهذا التنجلز بمظاهره السطحية، يقود نخبة من المثقفين العرب الذين يتقنون الإنجليزية إلى حالة (الأنجلوفونية)، و(التأمرك)، بسبب هيمنة فكرة التبعية. لقد سبق أن طرحنا مفهوم (التفاعل المتعدد المشروط)، كمحاولة للخروج من أسر (التبعية للمركزية الأورو-أمريكية)، و(التبعية للموروث العربي)، بصفته أصلاً ونموذجاً، وهذا يقتضي قراءة جدلية لهما. لهذا كنا طالبنا بالانفتاح على الثقافات: (السلافية والصينية واليابانية والإفريقية والهسبانية)، لكي نحصل على التوازن العقلاني، لمواجهة أساليب السيطرة في ثقافات وآداب اللغتين المسيطرتين (الإنجليزية والفرنسية)، وهذا لن يتم إلاّ بتطبيق (التفاعل المتوازن المتعدد المشروط)، أي، بالتخلي عن التبعية، وفك الارتباط مع ممارسة – التلذذ بالتبعية.
– وفق المدرسة الفرنسية التقليدية، فإن منهجية المقارنة تعتمد على مقولة (التأثير والتأثر) ووفق منهية المدرسة الفرنسية الجديدة، فإن مقولة (التناص)، أكثر موضوعية في تناول المقارنة بين آداب الشعوب، لهذا سبق لنا أن اقترحنا استخدام مفهوم التناص الأوروبي في عملية المقارنة، بالإضافة إلى مفهوم (التلاص)، وهو نحت اشتققناه من مفهوم (السرقات الأدبية) في الموروث العربي، وقمنا بتطويره، لأنّ التلاصّ حقيقة موضوعية في الواقع الأدبي.
أقول هذا، لأن مفهوم التأثير والتأثر التقليدي، لم يعد ملازماً في الدراسات المقارنة، ولأن النظر إلى المؤثر، بصفته أصلاً والمتأثر، بصفته صورة، غير صحيح من الناحية العلمية، فالتأثير والتأثر، لا يتم بصورة ميكانية على طريقة (أ) أثر في – (ب)، إذن (ب) أضعف من (أ). فالتأثير والتأثر عملية معقدة، تمر في قنوات معقدة!!. لهذا فإن القول بأن (أدب المركزية الأورو-أمريكية) هو الأصل، وهو (الروائع) وغيره (صورة)، أمر يحتاج إلى براهين عديدة غير متوافرة. لذلك فإن معركة المؤثر والمتأثر، معركة خاسرة حين تتنافى مع العلم، ومن الطبيعي أن كل الشعوب تنظر إلى آدابها بصفتها أصلاً، لهذا ظلّ الأدب المقارن في الجامعات العربية، يمارس على النحو التالي:
أولاً: الطرح المثالي، حول العلاقات الإنسانية الأدبية وتفاعلها، دون الإشارة إلى العوائق التي تصوغها المراكز. فالمعروف أن (المركزية الأورو-أمريكية)، هي التي تصوغ مفهوم (العلاقات الإنسانية الانفتاحية) وطبيعتها، دون الأخذ بالمفاهيم التي تطرحها (الأطراف الأدبية العالمية)، لهذا تم تدريس الأدب المقارن، دون تحديد (شروط التفاعل الثقافي والأدبي).
ثانياً: تظهر بين حين وآخر في الصحف والمجلات العربية، دراسات مقارنة بين أعمال أدبية، رافعة (شعارات الأدب المقارن)، والحقيقة أن هذه الدراسات، تخلو من (منهجية المقارنة العلمية)، وقد دخلت هذه الدراسات من باب (نظرية: بلاش تنظير)، وهي نظرية تعتمد الدخول إلى التطبيق مباشرة، دون تأسيس نظري. أمّا الآن، وقد شبعنا تنظيراً، فيمكن الانتقال إلى (ما بعد النظرية).
ثالثاً: ظل (مساق الأدب المقارن) في بعض الجامعات العربية مساقاً ثانوياً!!، بل ظل مرفوضاً لسنوات طويلة، رغم سيطرة النظام العالمي الثنائي (الرأسمالي والاشتراكي) في الثقافة والتعليم. وقد جاءت هذه الرغبة في دفن الرأس في الرمل، متساوقة مع الهيمنة المركزية الأنجلوفونية في مجالات التعليم والثقافة، حيث بقيت الدراسات المقارنة، تنظر إلى (الأدب المقارن)، بصفته استيراداً من الغرب!! فقط!!. وهي محاولة هروبية ساهمت في تكريس التلذذ بالتبعية للثقافة الأنجلوفونية. فالمقارنة ممنوعة بين الأدب العربي، والآداب السلافية مثلاً، انطلاقاً من مفاهيم إيديولوجية عفى عليها الزمن. والمعروف أن أساتذة الأدب المقارن في الجامعات العربية، يعملون عادة، إما في أقسام اللغة العربية وآدابها، أو أقسام الآداب الأوروبية، وبما أن الهيمنة القائمة هي لصالح الثقافة الأنجلوفونية، وبما أن الثقافات السلافية مرفوضة، لهذا سيظل أستاذ الأدب المقارن/ المتخصص في المقارنة (العربية/ السلافية)، مرفوضاً. وهذا يخالف منهجية علم الأدب المقارن، لأنّ المنهجية تقول بأنّ الأدب المقارن، هو علم التفاعل الثقافي والأدبي بين الآداب الإنسانية كلها، بغضّ النظر عن أهمية اللغة ومركزيتها، أو كونها لغة من لغات الأطراف الأوروبية (لغات أوروبا الشرقية مثلاً). فما الذي يمنع المقارنة بين رواية تشيكية أو بلغارية أو مجرية… ورواية أمريكية أو فرنسية، إذا كانت الأولى، هي المؤثرة أو العكس!!. وما الذي يمنع من مقارنة رواية لنجيب محفوظ أو حنا مينة أو عبد الرحمن منيف أو حليم بركات أو جبرا إبراهيم جبرا أو غسان كنفاني أو غالب هلسا مع روايات بلغارية وفرنسية وأمريكية، مقارنة لا تفترض أن الرواية العربية، هي المتلقي السالب دائماً. ولماذا نمعن دائماً في التبعية والتلذذ بالتبعية، بافتراض وهمي يقول إن مائة عام من العزلة لماركيز المنشورة عام 1967، مثلاً، أكثر أهمية من رواية (نجمة) لكاتب ياسين المنشورة عام 1952، ولماذا لا ندرس احتمال قراءة ماركيز لرواية نجمة وتأثره بها؟!!. ومن جهة أخرى، لماذا لا ندرس: بداية تأثير أدب أمريكا اللاتينية في الرواية العربية منذ سنوات، حيث تستورد (صورة الدكتاتور)، مع أنّ البلدان العربية، مليئة بهذه الصورة منذ سنوات طويلة، أي قبل الأدب الأمريكي اللاتيني.
رابعاً: مع رفضنا للتبعية والتلذذ بالتبعية، فنحن أيضاً، نشير إلى النرجسية القومية التي تبحث (فقط!!) عن تأثيرات الأدب العربي القديم في الآداب الأوروبية، دون النظر إلى مسألة شروط التفاعل الثقافي العالمي، ومع إقرارنا بوجود التأثير العربي، فإن النرجسية القومية، تعني المبالغة في رصد التأثيرات بافتراض وهمي يقول إنّ الآخر كان سالباً دائماً. فما نرفضه، هو (المبالغة) وليس إثبات التناص.
خامساً: نصل إلى خلاصة تفترض أن مفهوم (التناص)، أكثر ملاءمة في الدراسات المقارنة من مفهوم (التأثير والتأثر) الفرنسي التقليدي، وأكثر ملاءمة من مفهوم السرقات الأدبية (التلاص) العربي. كما يفترض أن تبتعد الدراسات المقارنة عن النرجسية القومية (المبالغة)، وعن التبعية والتلذذ بالتبعية!! فالمقارنة لا تفرق بين آداب اللغات، بل تتعامل معها كلغات إنسانية متفاعلة، بعيداً عن الهيمنة السياسية. لهذا يمكن لدولة صغيرة أن تنتج أدباً أكثر أهمية من أدب دولة كبرى، بسبب فردية واستقلالية الأدب النسبية عن التطور الميكاني للمجتمعات.
سادساً: التوجه بوضوح، نحو علم جديد، هو: علم التناصّ والتلاص.
وفيما يلي ملاحظات عامة، أقدمها أمامكم في هذا المؤتمر من منطلق الحرص على مستقبل الأدب المقارن:
أولاً: ينبغي الخروج من مرحلة التأريخ والترجمة والشرح، باتجاه الفعل النقدي العربي في الأدب المقارن، وينبغي أن نتخذ موقفاً في المجالين المهمين: التأثير والتأثر… ومجال التشابه والتوازي، وباتجاه اتخاذ موقف واضح من المنهج التاريخي الفرنسي، ومنهج جمالية النص الأمريكي، وهذا يستدعي الخروج من التكرار إلى الفعل النقدي، وعلى أي حال لا يكون الحل تلفيقياً وترقيعياً.
ثانياً: رفض المركزية الفرنسية، والمركزية الأوروبية، والمركزية الأمريكية، ورفض المركزية الأورو-أمريكية، مع عدم السقوط في وهم عالمية الأدب الأوروبي، ومحلية الآداب الأخرى.
ثالثاً: إذا كنا نرفض هذه المركزيات الأوربية والأمريكية، فنحن نرفض المركزية القطرية لأدب قطر عربي ما، بالمقارنة مع الآداب الأجنبية، وإهمال المراكز القطرية العربية الأخرى، دون الأخذ بالخصائص العالمية للأدب العربي والخصائص الخاصة بكل قطر، لأنّ المركزية القطرية أو الإقليمية، تقودنا إلى التعصب. لذا يجب العمل على أساس (الولايات المتحدة العربية)، أو: (المجموعات الثقافية المتحدة)، لكي يتحقق مبدأ الاختلاف والتنوع والتعددية.
رابعاً: بعد أن سقط منهج رؤية التأثير والتأثر على أنه مسروقات أدبية عالمية، ينبغي الحذر من مقولة: المؤثر هو الإيجابي، وهو النموذج، والمتأثر هو السلبي، كما هو سائد بالنسبة للكثير من الدراسات الأوروبية للأدب العربي.
خامساً: رفض القول بأن قوة أي بلد السياسية والعسكرية، تعني أن أدبه هو الأكثر تأثيراً. ومن هنا رفض التعالي الأورو-أمريكي، باتجاه الترويج لعالمية الآداب الأوروبية الأمريكية، والتوجه نحو: قراءة الأصوات المتعددة.
سادساً: فتح مجالين من مجالات المقارنة هما: مجال المقارنة بين الأدب العربي وبين آداب أوروبا الشرقية وروسيا، وبين الأدب العربي والآداب الاسبانية والهسبانية، وقراءة علاقة الأدب العربي بآداب الشعوب الإسلامية، غير العربية (الإيراني والتركي … مثلاً) – أي دراسة مناطق التأثير والتأثر الفعلية، وقد تعثرت هذه المقارنات في الماضي لأسباب إيديولوجية وسياسية ولغوية تقنية، لكن هناك تحسناً ملحوظاً منذ عام 1967 في هذا الاتجاه، كذلك تشجيع دراسة المقارنة بين الأدبين العربي والعبري، لشرح أسباب (حالة العداء) من الناحية البنيوية.
سابعاً: تشجيع النقد الأدبي والثقافي الحديث، المتصل بالعلوم الإنسانية الأخرى والاستفادة منها في الدراسات المقارنة، والاعتراف بتنوع الآراء وضرورته، والتوجه نحو (ماهية الأدب)، ونحو دراسة السياق، بدلاً من المبالغات حول وظيفته.
جدلية الأدبي والثقافي :
يعتبر النقد الأدبي، الخطوة الأولى الأساسية والضرورية لتحليل النصّ. فهو يقوم بعدة وظائف أثناء التحليل. وقد اتخذ النقد الأدبي، طريقين أساسيين من الناحية التاريخية:
أولاً: في مرحلة ما من التاريخ، تمَّ التركيز على وظيفة الأدب: والإشكالية هنا، هي اللجوء إلى تحليل النصّ، تحليلاً منسجماً مع ثقافة السلطة المسيطرة، أي بترسيخ القيم المهيمنة، مع نفي القيم الجمالية المعارضة. وبطبيعة الحال، استخدم هذا التحليل، أساليب جمالية، تنطلق من نفس القيم المسيطرة. فالوظيفة جزءٌ من قيم جمالية ومعرفية. ولهذا ساد: نسق التعارضات المركزية، مرتبطاً بمنهجية المقارنة بينهما، أي: نسق الترابط. وهي، أي الأنساق، كما رأى ياكوبسون، قد تأخذ منحى ثنائياً، كما في إنثربولوجيا كلود ﻟﻴﭭﻲ ستروس، أو (الطابق العلوي – الطابق السفلي)، كما عند آرثر ايزابيرغر. ويمكن أن نضيف الملاحظتين التاليتين:

التعارض الثنائي، هو شكل واحد من أشكال عديدة للتعارضات، داخل النص الأدبي. ومعنى هذا أن (المعلن – المخفي)، ليس هو الشكل الأوحد للتعارضات.
تلعب الوظيفة الجمالية، دوراً أساسياً في تشكيل وظيفة الأدب، أي أنَّ الوظيفة، ليست ذلك الكلام الاجتماعي السياسي، الذي يدور خارج، وحول النصّ، لكن الوظيفة الجمالية، هي التي تخترق كلّ النصوص، سواءٌ ركّزت على الوظيفة السياسية والاجتماعية، أو على إبراز مفاتن النص الشكلية، أو قباحته الجمالية.

ثانياً: في مرحلة ما من تاريخ النقد، تمّ التركيز أكثر على طبيعة الأدب، أي القيم الجمالية الخالصة فيه.
وظلّ النقد الأدبي، منذ أرسطو وحتى الآن، يدور في فلك هذه الثنائية: (الوظيفة – الطبيعة). وقد استخدم النقد الأدبي، الطرق المتنوعة، فهو أحياناً يميل إلى التصنيفات البلاغية، وهو في وقت آخر، يركز على (أدبية الأدب)، بإبراز الخصائص العليا للخطاب الأدبي، ليصل أو ليقفز إلى (فوق)، أي إلى نظرية الأدب، دون معرفة الخصائص الفرعية للأنواع الأدبية، أو بتقديم ما أسميه (المونتاج الجمالي) لعدد محدود من الأعمال الأدبية في العالم، دون قراءة ( بقية أدب العالم) ، بحيث يمكن أن نقول إنَّ (نظرية الأدب) عند رينيه ويليك مثلاً: (نظرية أدب أورو – أمريكية) فقط، أي أنها نظرية ناقصة. وهذا هو المعلن. أما المخفي أو المتجاهل أو الناقص، فهو عدم قراءة نظرية الأدب في ظل صراعات الحرب الباردة، وعدم قراءة الأدب لاستخراج خصائصه المطلقة في الجوانب الأخرى المركزية والهامشية من العالم. العرب مثلاً قدّموا نظرية كاملة في (التناصّ)، أسموها السرقات الأدبية: أو ما أسميه (التلاصّ)، وهي في الواقع النقدي، تجمع بين التناصّ والتلاص – قبل جوليا ﻛﺮﻳﺴﺘﻴﭭﺎ، لكن النقد الغربي، لا يشير إشارة واحدة إلى ذلك، بسبب الهيمنة الثقافية الأورو-أمريكية، وبسبب ضعف العرب في إيصال ثقافتهم إلى العالم.
– أما في القرن العشرين، فقد مارس العرب المعاصرون، (النقد الثقافي المقارن)، تحت أسماء أخرى: (نقد الثقافة) و(النقد الفكري)، و(الدراسات الثقافية)، حتى باستخدام ومناقشة: التعارض الثنائي، لكنهم لم يستخدموا الاسم: (النقد الثقافي المقارن). وقد سمّوا (الأنساق): أشكالاً أو: آليات: فمفهوم: الإخفاء والتصريح، كان موجوداً في كتابات كثيرة: المعلن، مثلاً في كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر)، هو: (التحديث والتجديد واللحاق بالآخر إيجابياً)، لكن المخفي في بعض الجمل الثقافية، وفي النصوص الثقافية في الكتاب، كان أمراً آخر. كذلك الأمر في كتابات: مالك بن نبي، وأبو القاسم سعد الله من الجزائر، فهي نقد لأنساق في نصوص متنوعة. فكيف يمكن أن يقال: إن النقد الثقافي المقارن، لا يشتمل على نقد الثقافة.
– وقد يقال: إن النقد الثقافي المقارن، مهمته كشف الأنساق في النصّ الثقافي،كما أن مهمة النقد الأدبي، هي كشف الأنساق في النص الأدبي،من خلال إظهار التعارض الثنائي.
وهنا تبرز عدة ملاحظات:
أولاً: هل يكتفي النقد الثقافي، بقراءة ثنائية (الصريح – المخفي)، فقط، أم أنه يقرأ أنساقاً أخرى. بمعنى آخر: هل النصّ، مجرد ثنائية في طبيعته المنجزة، أم يتشكل من تعارضات متعددة.
ثانياً: هل يكتفي النقد الأدبي، بوظيفة محدودة، وهي قراءة الجماليات الشكلية، بتفكيكها، ثم إعادة تجميعها، ثمَّ الحكم عليها – (البلاغة – النحو – الايقاع ) مثلا .
ثالثاً: هل ينحصر (النقد الثقافي المقارن)، بوظيفة، خارج النص القومي، بمعنى الاكتفاء بوظيفة المقارنة المجردة. وماذا إذا كان النص القومي نفسه – وعادة ما يفعل – ينطلق نحو الخارج. وما هي حدود الخارج. لنفترض أن هناك خارجين:

خارج القومي في النص نفسه.
خارج محيط النص نفسه.

فما علاقة هذين الخارجين بالتحليل، إنْ كنا نسميه: نقداً أدبياً، أم نقداً معرفياً ثقافياً.
وهنا يجب أن نميّز بين (النقد الثقافي) في إطار الأدب القومي المغلق، وبين (النقد الثقافي المقارن) الذي ينطلق من القومي إلى الخارج.
– الأرجح عندي هو أن (النقد الأدبي، خطوة جوهرية لا مفرّ منها في تحليل النص)، سواءٌ أكان: نصاً أدبياً أم ثقافياً، في الطريق إلى النقد الثقافي المقارن. وبتقديري أنّ منهجية (النصّ الإلكتروني المتشعب)، سوف تقود إلى ما نسميه (ما بعد – النقد الثقافي المقارن). ولن تنتهي منهجية المقارنة على الإطلاق، لأنها تحمل ثنائية متعارضة (الأنا – الآخر)، بل تحمل عدّة متعارضات. فلا تعارض بين النقد الأدبي… والنقد الثقافي المقارن، بل يكملان بعضهما بعضاً. لكن الإشكالية القائمة، تبرز، حين نتساءل: من أين نبدأ، وكيف يصبح النقد مثالياً حين نعالج النصوص، سواءٌ أكانت: أدبية أم ثقافية. ثمّ: ما هي الحدود. قد تقول: نظرية النص الإلكتروني المتشعب، بأنه: لا توجد حدود، ولكن النص الثقافي والنص الأدبي معاً، لهما هويّات، لها حدود. فنحن لا نستطيع محاكمة النص، خارج خصائصه الشائعة، ولا نستطيع أن نسمّي المعرفة العالمية في الإنترنت، بأنها (بندورة، أو حقول أو بشر أو دول مثلاً)، لأنّ ما هو في الإنترنت، حتى لو تشعّب حتى نهاية العالم، هو مجرّد شبكة من الرموز المعرفية ذات طبيعة (ثقافية ونصيّة)، تحمل خطابها الخاص وعلاقاتها الخاصة، وهويتها الخاصّة المختلفة عن الآخرين. صحيح أن اكتشاف المتعارضات، (المعلن والخفي)، أمر ضروري، لكن هذا الاكتشاف، ليس وحده أداة التغيير، وهو ليس حتمياً. فالاكتشاف هو مجرد خطوة أولى. وهذه هي إشكالية (النقد التقني الثقافي). فالنقد الثقافي ليس مجرّد تكديس اكتشافات للأنساق، سواءٌ أكانت طباقية ثنائية، كما عند إدوارد سعيد مثلاً (إمبريالية – مقاومة)، أو كانت: (تعدديّة جدلية)، كما نفترض نحن.
رابعاً: قد نعتبر أيضاً (النقد الثقافي)، خطوة ثانية بعد النقد الأدبي، لكي نصل إلى النقد الثقافي المقارن الأشمل، وقد نعتبر ما نسمّيه: (النقد المتشعب)، هو نهاية المطاف، ولكن (نسق التداخل والخلط)، سوف يبقى قائماً. وقد نلجأ إلى طريقة مختلفة، وهي تحليل النص سواءٌ أكان: أدبياً أم ثقافياً (وهما مختلطان أصلاً)، إلى التحليل المتزامن: أي قراءة النص: لغوياً وسيميائياً ونفسياً وجمالياً وبلاغياً واجتماعياً وسياسياً ورموزياً وتفكيكياً… الخ. ولكن إلى أي مدى، يمكن أن نحمّل النص دلالاته الحقيقية. وهل هي دلالات حقيقية، حتى إذا استخدمنا كل أدوات التحليل، من النص المغلق حتى قراءة القارئ. صحيح أن التحليلات الجزئية، تفيد في معرفة النص، لكنها تمزقه إلى شظايا، يصعب تجميعها. فالإشكالية كانت دائماً في قراءة (العلاقات)، واكتشاف (دم النص)، وليس في معرفة تفاصيل الأعضاء.
– نشير هنا نصّين ثقافيين: أحدهما: عربي (قضية مجلة حوار)، والآخر بريطاني: (ثقافة الحرب الباردة). كما نقدم نصّاً ثالثاً، هو (النقد النسوي). لقد (اكتفى النص العربي بالتوثيق، حيث لم يتقدم خطوة واحدة خارج ذلك، معتمداً (جماليات المونتاج)، المعتمدة على حياد ظاهر، ولكنَّ المونتاج نفسه، يكشف التعارض الثنائي بين (نصوص مقطوعة) وبين نصوص (غائبة)، والغائب هو المسيطر. بطبيعة الحال، لا يمكننا إنكار أهمية جماليات (مونتاج التوثيق)، لكن القارئ يصبح ملزماً بالبحث عن النصوص الغائبة، أو عن فراغات الصمت. كما أن الاستنساخ قد يكون ناقصاً. فالقراءة الجمالية المونتاجية، قراءة خطرة، وليس كما يفترض البعض، أنها مجرد تلخيص وتكثيف. هذه هي (الطبقة الصريحة ) في النص العربي. أما (الطبقة المخفية) ، فهي تتضمن إشارات عابرة، تشي بالتناقض. وينطبق الأمر نفسه في القراءة المونتاجية على قارئ النص العربي نفسه، أي في هذه الحالة – كاتب هذه السطور، لكن قارئ النص العربي، أي (أنا)، ملزمٌ بأمرين:
الأول: القراءة المونتاجية الدقيقة للنص، دون إضافات على النص، حيث نترك الكاتب الأصلي يتحدث بلغته الخاصة.
الثاني: إبراز بعض النصوص على حساب أخرى، وإخفاء بعض النصوص –انطلاقاً من مبدأ اتخاذ منظور ثقافي في الحالتين: التصريح والإخفاء، وانطلاقاً من مبدأ المقارنة مع الرواية البريطانية، لأن السردية البريطانية عام 2000م، جاءت متأخرة زمنياً عن النص العربي. ومعنى ذلك أنها قراءة أكثر جهداً، وأكثر عمقاً في التحليل، لأنها ذهبت إلى المصدر الأصلي. كما أنّ النص البريطاني، يمتلك معلومات أكثر بكثير من النص العربي. لكن (جمالية المونتاج) في النص العربي، اعتمدت (التلميح)، بينما اعتمد النص البريطاني (جماليات التصريح) إن صحّ التعبير. فهما يشتركان في التلميح والتصريح بشكل عام، لدى تفاعلهما مع مبدأ الكشف: وبنيته الأساسية، هي: (الكلُّ كان يعرف، والكلُّ كان لا يريد أن يعرف، مع أنه يعرف)، لكن النص البريطاني، أكثر جرأة ووضوحاً. هذه الثنائية (التصريح والغموض): باستخدام: سيف إرهاب الغموض مرةً، وبالتصريح المكشوف، كما حدث في البداية والنهاية، من خصائص العقل المخابراتي، ليس الأمريكي وحده، لكن العقل المخابراتي في العالم الثالث، فقد يستخدم التقنية الأولى (سيف إرهاب الغموض)، كما حدث في النص العربي، بينما كانت تقنية الكشف ضعيفة، لأنّ التصريح بها، جاء تحصيل حاصل للكشف الأمريكي الصريح. حتى الحكومة المصرية ومثقفوها (1962-1966) كانوا يعرفون، لكنّهم لم يتخذوا موقفاً صريحاً من (قضية حوار)، إلاّ بعد كشف نيويورك تايمز. كذلك كانت هيئة تحرير (حوار) تعرف، حتى قبل صدور المجلة، وطيلة صدورها، مع هذا تأخرتْ كثيراً في الكشف عن الاعتراف. وبطبيعة الحال، لم يكن الكشف تاماً في الحالتين: الأمريكية والعربية، ولم يكن الكشف تاماً، حتى في السردية البريطانية.
هكذا نكتشف أنَّ الثقافة، كانت مجرد برغي في آلة السياسة الجهنمية لعقدين من الزمان كما تقول السردية البريطانية. فهل كانت لعقدين من الزمان فقط. وماذا قبل ذلك، وماذا بعد ذلك: السردية البريطانية تكتفي بالتصريح، أي أنها تحصر مهمتها بين بداية الظلام والنهاية المأساوية. وهذا أمر قد يبدو موضوعياً، لكنه يوحي بمبدأين:

لا توجد نهاية نهائية، لأنّ الفاعل (كمؤسسة) مازال موجوداً، لكنّه يفعل تحت (اسم مستعار).
هناك مبدأ التشبيه: ما حدث في الماضي، قد يحدث الآن، وقد يحدث غداً. فانظروا حولكم، وقارنوا: الأمس بالحاضر.
تشابه النهايات في الحادثة في النص العربي، وفي النص البريطاني، واحد: نهاية مأساوية لشخوص الواقعة. فهل هذه النهاية المأساوية – مجرد شطب للماضي لنسيانه، أم تحذير لشخوص الحاضر والمستقبل. المفارقة أن شركاء هذا الماضي الأسود، أعيد تكريمهم من جديد في ظل وحشية ثقافة العولمة، منذ عام 1990:
تبييض الماضي الأسود وشرعنته، أي جعله شرعياً، منذ منتصف الثمانينات من القرن العشرين: (سأخون وطني).
التراجع عن قرار فصل السياسة عن الثقافة في ظلّ ثقافة التأمرك والتأسرل، ما دام التوحد بينهما، قد أصبح قائماً.
السخرية من فكرة (المقاومة) وضحاياها، وربطهم بالإرهاب، ونظرية المؤامرة!!. ففي النصّين البريطاني والعربي، أكدتْ النهايةُ بأنها: (مؤامرة حقيقية)، وليست نظرية مؤامرة، كما كانوا يشيعون طيلة نصف قرن. وهي مؤامرة علنية، كما تحوّلت لاحقاً: محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان لاحقا ، وإزاحة ياسر عرفات من إطار المشهد…، شهيداً، بل: واحتلال العراق العلني. على سبيل المثال- لاحقا .
اغتصاب فكرة (الديمقراطية)، واغتصاب تمثيل ثقافة الوطن، اغتصاباً دكتاتورياً، لا مثيل له… ومنع المعارضين (القوى الثقافية الرافضة لثقافة التأمرك والتأسرل) – من حريّة التعبير.
انحراف المثقفين، نحو ثقافة اليمين، بمنهجية انقلابية: من المقاومة إلى التأمرك والتأسرل، بعد منهجية (الجمع بين المقاومة والتأسرل).
عودة المثقف إلى حالة شبيهة بالبرغي في آلة السياسة، مع تحديث الشكل.
صعود نظرية جماليات الشكل، وتحول منتج الإبداع والثقافة إلى سلعة تُباع وتشترى، بأبخس الأثمان في منتجات: ما بعد الحداثة.

كان المشترك بين النصّين، هو: التعارض الثنائي المفترض: (الثقافة – المخابرات المركزية الأمريكية) الذي تمّ إلغاؤه، لصالح التوافق، بعد اغتصاب التمثيل الثقافي من قبل مجموعة من الرموز الثقافية التي انتهت نهاية مأساوية، ولكن لم تتم مراجعة، ونقد التأثير الذي تركوه في الأدب والثقافة، بل كانت المفارقة هي، أنّ بعض المثقفين العرب الليبراليين الجدد، مازالوا يستخدمون رموز هذا الماضي الأسود، تحت حجة الموضوعية عن عمد، بينما يتأثر صغار الكتبة، بما هو منشور، فالكل يعرف، والكل لا يعرف، أو لا يريد أن يعرف. لقد أصبح (دكتاتوريو الأمس)، (ديمقراطيين) بين عشية وضحاها:( السي. آي. إيه، والموساد)،… والنظام العربي الواحد… وبعض رموز ثقافة السلام الجدد… (وما خفي أعظم).
– يموت الأدب الخالص، عندما يتقوقع حول ذاته، أي يغلق على نفسه داخل الشرنقة، متوهماً أنه النرجسي الجميل، دون أن يلتفت أحدٌ من الخارج إليه. كأنه نقوش أثرية جميلة، نشاهدها في مناسبات التخصص. ويموت الأدب الخالص، حين يتحول النقد الذي يُسانده إلى خطاطات هيكلية بلاغية، لغوية وسيميائية، لا يفهمها إلاّ المختصّون. وبما أنَّ الأدب، قد عبّر عن حركة الحياة بتشعباتها، فهو دائماً يتوق للخروج من النوافذ إلى الحقول الشاسعة. وبالتالي، فإنّ النقد الذي يُصاحبه، ينبغي أن يكون مثل الأدب، توّاقاً لمغازلة الحياة، بعيداً عن ثرثرة التعليقات الإنشائية النقدية، في الخطب النقديّة الرنّانة.
المشكلة هي (موضة التطرف النقدي) التي لا تؤكد شيئاً، سوى الانحياز إلى أحد الطرفين، بعنف غير عقلاني: في عصر البنيوية، تمَّ التأكيد فيه على أدبية الأدب، بفصله عن الحياة الأخرى داخل النصّ نفسه، وبفصله عن ظروف إنتاجه، وعن العملية الإنتاجية التي تقود نحو القارئ. وحين تمَّ تأليه التكنولوجيا ووسائل الاتصال التي تجدد نفسها في ثورة لا مثيل لها، وقع المثقفون في عشقها إلى درجة العمى. وهنا ولد النقد الثقافي المقارن، ردّاً على التعصب الآخر في عصر البنيوية. تعصّبٌ يقابل تعصّبا. وهنا نقول: هناك خصائص غير مطلقة في الأعمال الأدبية، أي أنها قابلة للتحويل دائماً. وبالتالي يبقى الأدب، ولا يموت، وبالتالي: يبقى النقد الأدبي. ولكن الأدب والنقد معاً يتحركان باتجاه الحياة، أي باتجاه عدم وضع الأدب في إطار النقد المغلق. هنا ربّما تتشكل اتجاهات في النقد:

نقد أدبي خالص مغلق، يدّعي أن حدود هوية النص محدودة، وبالتالي، ينبغي أن يظل النقد الأدبي في إطار محدد، لا نتجاوزه.
نقد ثقافي، يوسّع تحليل النص باتجاه حركة الحياة، بقراءة العملية الانتاجية، وفاعلية القراءة، من خلال السياق. ونقد ثقافي، يهتم بشكل خاص، بما أسميه (محيط الإنتاج)، أي الظروف التي صنعت النص التي أثّرت في النص الثقافي نفسه، حيث يلعب رأس المال والسلطة وأدواتهما، دوراً في إشهار النص أو قمعه، حيث لا نقصد بذلك – أيّ إسقاط خارجي على النص، ليس له علاقة بالنص ومحيط الإنتاج، بل العكس: النص أولاً وأخيراً. وهنا نقدّم المثال التالي:

– شاعر جيّدٌ جمالياً… تسانده مؤسسة السلطة التي تدافع عن قضية مشتركة مع المعارضة. يصبح هذا الشاعر مليونيراً، ليس بسبب شعره الذي وصفناه بالجيّد، بل لأنه يتكئ على القضية المشتركة العادلة. يغتصب التمثيل. تسانده السلطة في سحق ثقافة شعبها، وتحوّله إلى شاعر أوحد، أي تعرّي السلطة شعبها من ثقافته. هو شاعر مناسبات تقليدي، جمهوره صناعي، تسوقه السلطة والمعارضة بالعصا، لصالح الشاعر الأوحد. وبما أنّ سلطة بلاده لها تحالفات مع أنظمة أخرى، فإنّ الأنظمة الأخرى، تجامل هذه السلطة في مسألة ثقافية لا قيمة لها بالنسبة للسياسيين. يتم شطب خمسة شعراء آخرين، شعرهم جيّد، ولا يقلّون أهمية من الناحية الجمالية عن الشاعر الأوحد، بشهادات نقاد آخرين.
– أما الشاعر الثاني، فهو شاعر جيّد جمالياً من مدرسة مختلفة شعرياً. يدافع عن القضية المشتركة من خلال التحالف مع الحساسية الشعبية المقهورة التي لا تمتلك شيئاً. تمتدح شاعرها، لكنها لا تمتلك رأس المال وسائل الإعلام التي تمتلكها السلطة، لهذا يظهر الشاعر في وسائل الإعلام بشكل فردي متقطع. يعترف النقاد بأنه شاعر مختلف حقيقي، لكنه يتعرض للنقد من قبل مثقفي السلطة، في مقابل أن الشاعر السلطوي، مقدس وممنوع من المساس به نقدياً. الأول لا يتقبل النقد، والثاني يتقبل النقد، باعتبار أن منجزه الشعري، كما يفترض هو بنفسه، ليس مثالياً. الأول أناني ونرجسي، والثاني نرجسي، لكنه غير أناني. الأول مشهور جداً، بفعل دعم مؤسسة السلطة والمعارضة له، والثاني نصف مشهور، بفعل اختراقاته الفردية المحدودة، وضعف وعدم تأطير الطبقات الشعبية المقهورة التي يفترض بها أن تسانده.
– هذا المثال، يؤكد ما يلي:
– عندما تغتصب مجموعة من المثقفين، تمثيل الثقافة الأورو-أمريكية بكاملها لصالحها الشخصي، بتحالفها مع المخابرات المركزية الأمريكية، حول قضية مخترعة هي الحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية، فلا يجوز لناقد أدبي أو ثقافي، أن يقع في وهم، فصل السياسي عن الثقافي. وقد يقال: هكذا هو الحال منذ الأزل، هناك: مثقف قاهر، ومثقف مقهور. ولكن يصبح هنا، من حق النقاد الشجعان أن يقولوا: إن نصوص القاهر، لم تشتهر بسبب أصالتها الأدبية فحسب، بل بفعل تحالفها مع قوى الظلام المسيطرة أيضاً، فإذا كانت هذه الواقعة، حقيقية، فعلى النقد المعرفي الشجاع أن يتراجع عن مواقف الخوف السابقة. وبمعنى آخر، عليه إعادة القراءة من جديد، حتى لا يظل مجرد خادم للسلطة الظلامية، دون أن يدري، أو هو يدري. هنا كان مقتل النقد الأدبي الشكلاني، حين اختار نصوصاً مشهورة لشعراء وروائيين، تمّ إنتاجها في الظلام. ولم تشتهر بسبب قوتها الذاتية، بل بفعل اغتصاب التمثيل. وهنا يجيء النقد الثقافي ليضيء النصوص المهمّة التي تمّ تهميشها عن عمد، وليس النصوص الهامشية التي لا أهمية لها، أي تحمل أسباب ضعفها، أي أننا نميّز تمييزاً واضحاً بين (الهامشي) و(المُهمش). الإشكالية في ظلّ العولمة المتوحشة، أنَّ قوى الظلام، أبرزت (الهامشي الركيك)، حيث اغتصب مكان المهمّش القوي المقهور. واغتصب (الليبرالي التابع)، موقع (الضحايا) الحقيقية التي دفعت الثمن في الماضي، من أجل الديمقراطية.
– أمّا بالنسبة للنصّ الثقافي الثالث، فنقول: بدأ النقد النسوي، قبل التسمية بقرون على شكل معالجات نقدية لأدب المرأة. كذلك (النسوية)، فهي أيضاً بدأت قبل التسمية، مرتبطة بالمطالبة بحقوق المرأة، وضرورة إزالة الظلم الذي وقع على المرأة، منذ العصور القديمة. أما التسمية (النقد النسوي والنسوية)، فقد ظهرت في منتصف الستينات، مترافقة مع ظهور (دراسات الاستعمار)، وغيرها من مجالات النقد الثقافي، بتأثير حرب ﭬﻴﻴﺘﻨﺎﻡ، وحركات الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة، والوعي الثقافي النسوي بأهمية المرأة في المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً أن المرأة، ظلّت عبر العصور، معطلة الطاقة، رغم أنها تشكّل (نصف الدُنيا). أما على المستوى الثقافي، فقد ظهرت في الستينات من القرن العشرين، أفكار فلسفية ثقافية، تتمركز حول مصطلحات: الآخر، الذات، والاختلاف، والتفكيك…وغيرها، مما شجّع النساء على طرح أهمية تحليل لغز المرأة كماهية، في مقابل الذكورة المسيطرة. وقد تنوعت اتجاهات النقد النسوي إلى درجة الاختلاف والصراع بين النساء أنفسهن، وتركزت حول: المرأة كنصّ، وحول نصّ المرأة… بتأثير مفاهيم الحداثة الثقافية في العلوم الإنسانية، حتى وصلت هذه الدراسات النقدية النسوية إلى مرحلة (ما بعد النسوية)، قياساً على (ما بعد الحداثة)، لكن مرحلة (ما بعد النسوية)، اختلطت مع مفاهيم (النسوية – الحداثة). ومرّت هذه الدراسات بثلاث مراحل أساسية:

مرحلة الإرهاصات، بالمطالبة بحقوق المرأة، ورفع الاضطهاد عنها.
مرحلة الحداثة النسوية المرتبطة بأفكار الحداثة نفسها.
مرحلة – ما بعد النسوية، المرتبطة بمقولات – ما بعد الحداثة.

واشتدّ الحوار والجدل في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، حول هذه الأفكار. وتحوّل النقد النسوي إلى ممارسة أكاديمية في الجامعات. وظلّت الأفكار، تتمحور حول تيّارات أساسية، تتفرع إلى فروع وانشقاقات، نتجت عن هذا الجدل:
أولاً: قراءة المرأة كجسد، وروح، وماهيّة، منفصلة عن الحراك الاجتماعي. وقد تمركز هذا الاتجاه، حول (الذات – الآخر)، و(الذكورة – الأنوثة)، في محاولة لقراءة – كيان المرأة، بصفتها – كائناً منفصلاً مستقلاً. فتمّ تناول: (المرأة – الجسد)، و (المرأة – الكيان النفسي)، بالاستفادة من مناهج التحليل النفسي، عند، فرويد، آدلر، لاكان… وغيرهم.
ثانياً: قراءة المرأة – الكيان الاجتماعي، غير المنفصل عن حركة المجتمع، ودور المرأة إيجاباً وسلباً في حركة مجتمعها وطبقتها وأسرتها.
ثالثاً: قراءة – نصوص المرأة، كإنتاج له خصوصيته المختلفة عن منتجات الذكورة النصيَّة، سواءٌ أكانت نصوصاً أدبية أم ثقافية. وبالتالي كان لابدّ من الاستعانة بمناهج العلوم الإنسانية. وهكذا أصبح النقد النسوي، فرعاً هاماً من فروع النقد الثقافي، بل إن بعض النساء، يرين أن النقد النسوي – علمٌ مستقل شامل، يخصّ نصف البشرية، مثلما يخصّ النصف الآخر. وبالتالي، فهو: علم العلوم الجديدة!!.
رابعاً: قراءة تجلّيات الذات الأنثوية، بصفتها – ذاتاً مستقلة في نصوص المرأة والرجل معاً. ويقابلها – قراءة – الذات الذكورية في نصوص الرجال والنساء معاً، من أجل المقارنة، والاكتشاف.
خامساً: قراءةٌ وفق المنهج الطباقي، (ثنائية الرجل – المرأة) في مقابل المنهج التعدّدي، وفق منظور – ما بعد الحداثة.
– هنا تبرز ظواهر ما بعد الحداثة، بصفتها تشكيلة سطحية، غير متناسقة، لكنها مؤثرة وفاعلة وكرنفالية( 1)
تمَّ اصطناع ظواهر ما بعد الحداثة إرادوياً، وبتخطيط مسبق، يتصف بالمؤسساتية العابرة المرتبطة بالسلطة، والمؤسسات المتفرعة عنها، ومؤسسات القطاع الخاص المنسجمة مع سياسات السلطة الثقافية. فهي ظواهر تخطيطيّة صناعية، تسير وفق مبدأ – التوجيه. فإذا كانت المطربة فيروز، تمثل الحداثة الغنائية، بتشكيلاتها المختلفة: الهروب إلى الطبيعة، الدرامية، لغة الحياة اليومية، المقاومة، فإنّ ظاهرة: المغنية نانسي عجرم، والمغنية هيفاء وهبي، والمغني شعبان عبد الرحيم، والمغنية – روبي… الخ، تعتمد على: الأداء الصوتي والجسدي البسيط، وعلى الصور الجميلة الشكلية التي ظهرت مع ظهور: ﺍﻟﭭﻴﺪﻳﻮكليب، كما تعتمد على (الشعبوية الساذجة)، باللعب على سطح الغناء. وهذا ما أعطى نتيجتين متعاكستين:

التأثير القوي في الجماهير، حيث برزت ظاهرة – جماهير الملعب الرياضي، المدرجات الرومانية، حيث الفضاء المفتوح، مما جعل الجماهير، شريكة في الغناء، إلى درجة التخيل أن كل إنسان قادرٌ على الغناء، ما دام الصوت يعتمد على الأداء والمؤثرات التجميلية الصناعية الخارجية. وقد كانت هذه الظاهرة، مختصة في السابق، أي في زمن الحداثة، بمطرب مثل: مارسيل خليفة، وشاعر مثل: أحمد فؤاد نجم… وشاعر مثل، نزار قباني. وهناك فارق بين هذين الشاعرين… وبين شعراء آخرين. هذا الفارق، هو أن جماهير الملعب الرياضي، أو الفضاء المفتوح عند، نجم وقباني… جماهير عفوية غير سياسية رغم أن قصائدهما سياسية. بمعنى آخر، يمكن القول: إنّ بعض الأمسيات التي أقيمت في بيروت أو عمّان، لشاعر ثالث، كانت تتشكل من جمهور صناعي، تسوقه الحكومات والأحزاب، بقوة السلطة الثقافية، لأسباب سياسية. أما – فن الملاعب الحداثي، فيتمثل في: ظاهرة – الراي الغنائي الجزائري في الثمانينات والتسعينات الذي تعود أصوله إلى العشرينات من القرن العشرين. فالراي هو غناء الهامشيين.
ظهور أدب وفن (اللحظة الهاربة)، أو ما أسميه (الفن والأدب الكرنفالي، سريع الذوبان)، سواءٌ أكان في الغناء أو الأدب. فهو شديد التأثير، بسبب ترويج وسائل الإعلام له، لكنه في نفس الوقت، يلعب على سطح الظاهرة: قصائد المناسبات السياسية التي تستغل حصار الفلسطينيين من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، أو: مناسبة ظهور برنامج (سوبر ستار) في تلفزيون المستقبل اللبناني… ومعنى ذلك أن – فن وأدب ما بعد الحداثة – شكلاني، مناسباتي، ممتع، آني، أي سريع الذوبان، مؤثر، لكن تأثيره مؤقت، ومُستغلٌّ من قبل السلطة والقطاع الخاص التابع لها.
هناك ظواهر – ما بعد حداثية عالمية، مثل: (ظاهرة المطربة سيلين ديون، والمطربة ماري كاري، والمغنية: شاكيرا)، والأداء التمثيلي: الصور السينمائية مع التمثيل السريع، أو مزج الفن التشكيلي بالأداء التمثيلي (البيرفورمانس)، بينما كانت ظاهرة (الفن التجميعي) في الخمسينات ظاهرة حداثية. وهناك ظاهرة – الراب التي تجمع ما بين الحداثة وما بعدها. وكانوا قد اعتبروا ظاهرة المغنية – مادونا، ظاهرة – ما بعد حداثية. وكأنّ – ما بعد الحداثة، هو: فن انتقالي، أي يعبر عن مراحل انتقالية صعبة في المسار العولمي. ويتميز: بالسخرية من المألوف والمقدّس والجسد، وهو أيضاً: فن سطحي استهلاكي، مرتبط بثقافة الاستهلاك الرأسمالية، لكنه ممتع، وآني.
اكتسب مفهوم – ما بعد الحداثة في الأدب ارتباطاً جديداً، بدخوله عالم – الثورة الرقمية (الديجتال)، وهو بُعد (البُعد الرقمي) الذي كان موجوداً في الموروث العربي: كتب السحر والشعوذة، كتب الصوفية، قصائد شواهد القبور، كتب الفلك، لكن الثورة الرقمية الأمريكية، جعلت الأدب يتفاعل معها:
1: الرواية الافتراضية: وهي رواية تأخذ بالحسبان – عالم الواقع الافتراضي – Cyberspace… وقد صاغ هذه النظرية – وليام جيبسون في روايته (الرواية الجديدة، 1994). وكانت مارغ بيرسي، قد ألّفت رواية رقمية عام 1992، بعنوان (الجسد الزجاجي). كذلك ظهرت رواية رقمية أخرى، هي (مشكلة … وصديقاتها)، عام 1994.
2: النقد الافتراضي: مثل: كتاب إدوارد باريت: (النص والسياق والنصّ المتشعّب)، عام 1988. وكتاب جورج لاندو: (الميديا المتشعبة، والدراسات الأدبية) عام 1991. إضافة إلى كتب أخرى… وبتقديري أن التسمية الأفضل هي: (النقد الافتراضي)، مثلما نفضّل ترجمة – Hypertext، بِـ: النصّ المتشعّب. وهناك نقد افتراضي رقمي عربي، وأوَّلُ من صاغه هو: نبيل علي في دراسته لرواية (ذات) لصنع الله إبراهيم – (مجلة إبداع، القاهرة، عدد ديسمبر، 1992)، حسب علمي. وبالتالي يصبح (النقد الافتراضي)، كما أسمّيه، فرعاً هاماً من فروع النقد الثقافي المقارن.
(ما بعد الحداثة) – (ما بعد النسوية) – (ما بعد قصيدة النثر) – (ما بعد الصهيونية) – (ما بعد الاستعمار)… هي مصطلحاتٌ لظواهر موجودة في الواقع في ظلّ هجوم العولمة، لكن هذه الظواهر المابعديّة، تتصف بما يلي:

أولاً: تنفي منجزات الحداثة، بالقفز عليها أحياناً، وسرقتها واغتصابها، أو الأخذ منها والادّعاء بالملكية. فمعظم ظواهر ما بعد الحداثة، لها جذور واضحة في الحداثة.
ثانياً: توحي بعض ظواهر ما بعد الحداثة، بأنها – تأسيسية انقطاعية اختراقية من الناحية الزمنية، لكن مجرد وجود زمن جديد، لا يعني أن الظواهر – ما قبل – (ما بعد)، قد توقفت وانتهت. فرغم بروز ظاهرة (المؤرخين الإسرائيليين الجُدد) التي هي من ظواهر ما يُسمّى (ما بعد الصهيونية)، إلاّ أنها ليست ظاهرة منقطعة تماماً عن الماضي، فهي فكرة صهيونية إصلاحية، أحدثت اختراقاً بسيطاً، ثمّ تراجعت عنه وتنكرت له، وعادت لتصطف في طابور الفكر الصهيوني الجديد القديم. ففي ظلّ الانتفاضة الفلسطينية (2000-2005)، عاد المؤرخون الجدد إلى التحالف مع أفكار شارون، سفّاح صبرا وشاتيلا وجنين ورفح ونابلس والخليل وخان يونس وجباليا… وغيرها، بل كانت المفارقة، أنهم اصطفوا إلى يمين شارون. الاختراق البسيط، هو أنهم اعترفوا لأول مرة بأنّ هناك بعض المآسي، قد حدثت للفلسطينيين عام 1948، لكن الاعتراف لم يكن كاملاً، ولم يترتب عليه فعل إيجابي. كذلك الأمر في (دراسات ما بعد الاستعمار والإمبريالية)، فهي دراسات توحي أن (الاستعمار)، مسألة حدثت في الماضي، وأن التصالح مع الماضي، يحدث بمجرد الاعتراف بالقسوة، حيث لا يترتب على هذا الاعتراف فعل جديد معاكس!!. واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة عام 2003، خير شاهد على ذلك، وعدم تطبيق الحل الديمقراطي العادل في فلسطين، خير شاهد، إذْ هبط السقف في هذه المعادلة من: لا شرعية دولة إسرائيل، وبالتالي: ضرورة إقامة الدولة الديمقراطية الفلسطينية على أرض فلسطين بكاملها – إلى: شرعية دولة إسرائيل، مع المطالبة بتطبيق القرارات الدولية، بشأن – دولة فلسطينية مستقلة استقلالاً حقيقياً في الضفة وغزة والقدس الشرقية، أي العودة إلى حدود ما قبل الخامس من حزيران 1967 – ثمّ الهبوط مرّة ثانية إلى الحلّ الإسرائيلي الأمريكي: حكم ذاتي فلسطيني، تحت الوصاية الإسرائيلية، بضمانات عربية، بعدم العودة إلى: المقاومة، وعدم المطالبة بعودة اللاجئين، وعدم المطالبة بتفكيك المستوطنات. وهذا الحل – الحكم الذاتي الفلسطيني تحت الوصاية الإسرائيلية – حلٌّ مؤقت وتخديري وقمعي واحتلالي، ربّما يقود إلى (ثورة فلسطينية – عربية جديدة).
ثالثاً: لا يستطيع النقد الثقافي المقارن، بشقّيه: الطباقي (عند إدوارد سعيد)، والتعدّدي (عند كاتب هذه السطور)، أنّ يرى (النص الأدبي، والنص الثقافي)، مجرد نصوص فردية جمالية بريئة شكلية. فالنصّ يمتلك في داخله إديولوجيته: القامعة أو الديمقراطية، والنصّ موجه لقارئ في زمان محدّد وزمان مستمر. والقارئ شريك في النصّ، سواءٌ أكان: جمهوراً أم ناقداً أم سلطة أم معارضة. كذلك: فالنصّ المغلق الشكلي، هو عند الناقد المحلل: خطوة أولى، وليس خطوة إغلاقية. وهنا يكتمل النقدي الأدبي، حين يقول (نصف الحقيقة) الآخر، أي عندما يفتح النافذة للنقد الثقافي المقارن. وهنا أحبّ التأكيد على مصطلح: (المقارن). وهنا أيضاً، أُذكّر بالمفارقة التالية: هناك أكاديميّون ونقاد وشعراء، يتحسّسون من الكلام النقدي المنطلق من (الفكر السياسي) في علاقته بالأدب، ومع هذا يقبلون أفكار (التحليل النفسي) الغامضة، ويقبلون (التحليل اللغوي والسيميائي) الشكلي، ويقبلون (النقد التعليقي الهامشي) – ومع هذا يصابون بالصدمة، عند ذكر (التحليل الفكري والسياسي) للنص الأدبي والثقافي، خصوصاً إذا كان فكراً سياسياً يسارياً. وهم أنفسهم يعيّنون أنفسهم مثلاً: (وكلاء وأصدقاء ودعاة) لفكر إدوارد سعيد النقدي.. والمفارقة هي، أنَّ كُتُب: (الاستشراق، 1978)، و(الناقد والنص والعالم، 1983)، و(الإمبريالية والثقافة، 1992)، تنطلق كلها من الفكر السياسي، ومن النقد الثقافي. والمفارقة الثانية هي التحوّل من (ثقافة المقاومة) إلى (ثقافة الجمع بين المقاومة والتأسرُل): كأنْ يلقي شاعر مقاومة، قصائده، أمام بول بريمر، ممثل الاحتلال الأمريكي في العراق، وﺳﻠﭭﺎن شالوم، ممثل الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. ومع ذلك، فذنب الشاعر عند البعض مغفور!!. والمفارقة الثالثة، هي أنّ بعض الصحف الوطنية والقومية التي تصف نفسها، بأنها (قومية يسارية وطنية!) – تصدر عنها – ملاحقُ ثقافيةٌ شكلانيةٌ يمينيّةٌ رجعية، ترفع شعارات الحداثة!!. وهل يعقل أن (فضائيات عربية)، توصف من قبل الجمهور بأنها (وطنية ومقاومة)، ومع هذا فهي تروّج لثقافة يمينية، وثقافة غير مقاومة، وتساهم في (شق وحدة الثقافة الفلسطينية) بالترويج لثقافة (أوسلو، وثقافة التنسيق الأمني مع العدو). أيضاً وأيضاً: هل يُعقل أن تمنح جائزة نوبل في الآداب، لأي شاعر فلسطيني أو عربي، دون أن يُختم قفاه بخاتم إسرائيل… وخاتم السي آي إيه. لا أعتقد ذلك بشكل قاطع… فكيف يصحّ (الجمع التلفيقي) بين ثقافة اليسار واليمين في لغة واحدة، ثمّ: الإدّعاء والزعم بالحداثة والمقاومة والتجديد!!.
– لقد دأب (هؤلاء) على القول: (اكتبوا تاريخ الثقافة كما تشاؤون. أما نحن، فنفعل ما نشاء). ثمّ انتقلوا إلى مرحلة جديدة، هي: (نحن نفعلُ ما نشاء، ونغتصبُ التاريخ أيضاً. أما أنتم، فلكم، قراءة كل ما حدث). وكأن ما بقي لنا، هو القراءة، والقراءة فقط!!. لهذا كله: المقاومة هي الطريق الصحيح أمام المثقف العضوي الجذري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب المقارن
المشاهدات
482
آخر تحديث
أعلى