أحدث التنمر في مواقع التواصل الاجتماعي ضجة كبيرة جعلت الكل يتحدث عنه، هناك من يعرف معناه وهناك من ينتابه الفضول لمعرفة ذلك، وهناك من لا دراية له أصلا بما يجول في العالم بأسره، إنه فعل بشع قد يمارسه البعض على غيره دون أن يدري خطورته وَوَقْعَهُ السريع في نفس المعتدى عليه، هذا الصنف من الاعتداءات غالبا ما يمارسه الأشخاص ذوي النفوذ والرفعة وغير ذلك من المغريات ...على أشخاص آخرين ضعفاء، قد يكمن ضعفهم في شتى الجوانب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الإعاقة أو تشوه خِلقي أو النحالة أو السمنة أو السواد أي كل ما يفتح الفجوة لممارسة نوع من أنواع العنصرية والسخرية.
إن ما استهواني للخوض في غِمار هذا الموضوع هو أنني صادفت شريط فيديو رائج يَعْرِضُ حالة خطيرة تعرَّض لها الطفل الأسترالي " كوادن بايلز" الذي يبلغ من العمر تسع سنوات، وذلك بسبب التنمر، لقد تعمدت والدته نشر المقطع قصد توعية الغافلين عن ممارسات أبنائهم على أبناء الغير في المدارس وغيرها من الفضاءات الاجتماعية، مناشدة العالم بوقف ظاهرة التنمر.
لقد خلَّف هذا الفعل الخطير على ابنها كوادن بايلز آثارا سلبية مرعبة، جعلته يصدر تصريحا بريئا هدَّد فيه والدته بالانتحار، وتمنى فيه الموت بكل اقتناع وبصفة نهائية، كما أن الأم المسكينة قد وقعت في مأزق كلفها عملا إضافيا تمثل في المراقبة الدائمة والدقيقة لولدها الذي ينتظر منها غفلة بسيطة لكي يُقدم على الانتحار.
ومن هذا المنطلق فقد تتبادر إلى ذهن الكثيرين الذين لم يسمعوا قط بالتنمر، أو الذين سمعوا عنه فحاروا في معرفة معناه أسئلة مختلفة المرامي، من قبيل ما المقصود بالتنمر؟ وما الفئة المجتمعية التي يستهدفها بكثرة؟ وما عوامله وأسبابه؟ وما بعض النتائج التي يخلفها على المعتدى عليه؟
وقد يتساءل البعض الآخر أيضا من العارفين بالأمر، كيف نَحُدُّ أو نُخفِّف على الأقل من مصيبة (التنمر)؟ .
لكي نقترب أكثر من هذا المفهوم المرعب، فيمكن أن نعتبره في عموميته رغم أنه يتخذ أشكالا مختلفة، عدوانا سلوكيا قصديا يحكمه التكرار، يستهدف في الغالب الأعم، بَدن الشخص أو نفسه أو عاطفته أو كرامته، وعليه فإن التنمر لا يحدث إلا إذا اختل التوازن بين اثنين، أي كونهما غير متكافئين لا من حيث القدرات البدنية ولا من حيث القدرات الذهنية ولا من حيث المكانة والسمعة، بالتالي نحصل على صنفين أحدهما "أقوى" استوفى شروط ممارسة العدوانية والسخرية (المُمَارَس)، والآخر ضعيف لا حول له ولا قوة على مواجهة ما مُورِس أو ما سوف يُمارَس عليه (الضحية).
إن ما يزيد هذه الظاهرة سوءا وبشاعة، كونها تستهدف شريحة مجتمعية بريئة، ألا وهي؛ الأطفال الصغار في المنازل والشوارع والتلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات، والكارثة الكبرى أنها تتفشى في فضاءات يلتمس منها الآباء والأولياء دفء السعادة تجاه أبنائهم، لكن سرعان ما تتحول إلى فضاءات مدمرة ومهدمة، وذلك في اللحظة التي يمارس فيها الأطفال رعب التنمر على أحد زملائهم في المدرسة أو في الشارع، وليس بعيدا أن يحدث الأمر نفسه كذلك داخل الأُسر والعائلات.
لا ينحصر التنمر فقط في الفئة الصغرى، وإنما قد يتجاوز ذلك ليحدث مع الكبار، نأخذ على سبيل المثال لا الحصر التنمر الذي يجري بين "الزوجين" أو بين "الأقارب". وقد سبق لنا أن ذكرنا بعض الثغرات التي يمكن للشخص أن ينفذ منها إلى الآخر لممارسة اعتداءاته عليه، كأن يعاني هذا الشخص مثلا من إعاقة أو تشوه...وغير ذلك، المهم فقط هو أن يَتمثَّلَ فيه الضّعف.
واستنادا إلى ذلك فقد صدر تقرير لليونسكو على جريدة أخبار الأمم المتحدة بتاريخ 6 سبتمبر 2018 يرصد لنا هذه الأكمام الهائلة التي تقع ضحية التنمر في العالم كله، يقول التقرير: إن نصف الطلاب ممن تتراوح أعمارهم بين 13 و15عاما في جميع أنحاء العالم، حوالي 150 مليون، أفادوا بتعرضهم للعنف من نظرائهم داخل المدرسة وما حولها. وأضاف التقرير أن التنمر(التحرش) بين الأقران في المدارس يؤثر على تعلم الطلاب ورفاههم في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء.
وصدر تقرير آخر على نفس الجريدة بتاريخ 22 يناير 2019 يقول: إن العنف المدرسي والتنمر مشكلة رئيسية في جميع أنحاء العالم، تطال نحو ثلث طلاب المدارس وتؤثر على صحتهم العقلية ومستوى تحصليهم الدراسي.
بالتالي فإن التنمر حسب هذه التقارير نجده ينخر الفئات التلاميذية والطلابية بشكل كبير، فإلى أي حد سيتسع أذى هذا البلاء؟ .
إن من أَوْضَح الأسباب التي قد تُسْقِطُ بعض الأشخاص في مأزق التنمر، نجد؛ المعاناة من مرض عضوي أو نفسي، عدم تقدير الذات والانتقاص من شأنها، الضغط الأسري المستمر، الإحراج والمشاكل المادية والاجتماعية، عدم تقبل الآخر والتعود على النفور والعدوانية، أو التأثر بالإعلام وغيره من الوسائل القرينة. كلها عوامل وأسباب قد تؤدي بالإنسان إلى التحول من طابعه العادي إلى شخص متنمر.
وعليه فإن هذه الظاهرة لا تخلو من آثار ونتائج غالبا ما تكون كارثية، لن نذهب بعيدا وإنما سنرجع إلى استخلاصها فقط من شريط الفيديو الذي ألقت به أم الطفل الأسترالي "كوادن بايلز" في الفيس بوك والذي كان أحد ضحايا التنمر، ربما أغلبية النشطاء قد ألقوا نظرة عليه، بالتالي فإن ما صرح به ابن التسع سنوات لأمه أمر خطير جدا، بلغ به المطاف إلى التهديد بالانتحار، وتمني الموت في سنه الناعم، زد على ذلك طبيعة الرعب وعدم الاستقرار الذي تعيشه الأم والأهل، فكيف ستكون حياة هذه الأم المسكينة؟ التي تَشهد ابنها في حالة بئيسة تدمع لها العين، كما لاحظنا كذلك خطاب الصبي الذي خَلِيَ كليا من الأمل وتجرّده من حس براءته، ليقطع بذلك أشواطا بئيسة وحزينة، فقط في مرحة عمرية واحدة (الطفولة)، جعلته يُصدر حُكْمًا على نفسه مُتمَنِّياً الموت في أقرب وقت ممكن.
إن أغلب الأدوار والمهام القصوى التي قد تَخْلُقُ الاستقامة والطيبوبة والخلق الكريم والمعاملة الحسنة في قلوب الأبناء، تُسْتَنَدُ دائما إلى الأسر قبل المدارس، وعليه فإن الحرص على تربية الأبناء تربية سليمة تُجنِّبهم نبذ العنف والاستبداد والعداوة، وتعودهم على التحلي بالأسس والمبادئ النبيلة، خطوة ناجحة لتفادي رعب التنمر والتحرش بجميع أنواعه، فالمبدأ كالقصب في استقامته فإذا نبت مستقيما استمر في النمو مستقيما وإذا اعوجَّ في بداية نموه استمر في اعوجاجه.