1
من أين تبدأ الحكايات القديمة كرائحة اعشاب النهر ذكية ساعة نضارها أو حين يسري النهر سريان الدم في بدن التاريخ ربما تبدأ من فتات الروح المتمددة في الكائنات، من هنا تبدأ الاسئلة تتناسل من حيث تموت الحياة لتبدأ دورتها من جديد. صوت خرير المياه الذي يسمع من ابعد مسافة للنهر كان واضحاً كحقيقة الوجود نفسه وهزيم الريح يعوي في ذلك الصباح، يعاكس ذؤيبات النخيل التي تتمايل يميناً وتارة اخري شمالاً تتقي تلك الرياح الهوجاء، ونثار الرمال يرتفع في الفضاء المنبسط متخللا بيوت الطين القديمة المتراصة قبالة النهر في عناق حميم، كان النثار يصطدم بالوجه و يغذي العين، عالقاً بالأنف فيملأه نعبيء منه افواهنا، فنسعل لعل ذلك يفسح لنا نسمة هواء تصلح للتنفس، و من اعلي قبة الشيخ ود دوليب وقفنا ننظر للدومة التي اجلاها الماء عن مكانها، الذي ابتلعه وحشا يسمي (الهدام)، بينما ظلت مسرجة قبة الشيخ ود دوليب متقدة علي مدي الازمان ، نحن الآن في كرمكول واغلب الظن لو جئتها وقت لقاح التمر لوجدت بها سحابة داكنة ربضت علي صدرها هي ليست غبارا ولا ضباباً، وانما سرب واحد من اسراب النمتّي وهي تربط علي الداخلين افواه الطريق مكرمة وفادتهم، وكانت تطن وتزن ولديها حب عظيم لبني البشر، اذا ما اشتمت رائحتهم تلازمهم ملازمة الخليل لخليله وتجد نفسك تضرب بيديك حول اذنيك او مصفقا تهشها من امام وجهك دامع العين سائل الأنف. تقع كرمكول التي نحن بصددها في منطقة الدبة وهي مكان عند منحني النيل يتعرج من عندها النهر كأفعي مقدسة ضاربة بجنباتها ضفتي الصحراء ما فتر عزمها ولا وهنت لها قناة، والنيل في سره يشي بحكايات الحياة تستمع من علي ضفتيه لشهقات الموت وصرخات الميلاد، وهي بكثبانها الرميلة ونخلها الممتد علي شاطئها تتخلله غابات من الطلح والحراز،وتربض بيوت الجالوص شاهدة علي العصر. من عند النهر تبدأ الحكاية وقصة قرية انجبت عبقري الرواية العربية،فنحن إذن في مكان عبقرياً مهلماً، ومن عند حافت النهر تنهي الحكاية كما بدأت تماما، فمثلما بدأت قصة (بندر شاه) وهو مجرد جسد طاف علي وجه الماء فالتقطته مختار ود حسب الرسول وعاش بين الناس مخلفاً زراري، ايضا في جوفه العميق انتهت حكاية (مصطفي سعيد)، وتناقلت امواجه الرقراقة اغنيات (الزين) واهازيجه بحسناوات القرية. وكرمكول كأسم مختلف فيه يجمع البعض علي انه مركب من كلمتين واحدة عربية وهي كلمة كرم وتعني (الكرم) اي الجود والشق الثاني كول وهي كلمة نوبية تعني المكان) ويذهب البعض الي ان الكلمة اصلها نوبي وبلغة الدناقلة تعني (عنده حلبة) اي ان كلمة كرم بكسر الكاف تعني (نبات الحلبة) كلمة وكول تترجم (عنده) وترجمة المقطعين (عنده حلبة) واي كان فأهل المنطقة اشتهروا بالكرم والمرؤة والشهامة أو كما كانوا يزرعون الحلبة، وتقع كرمكول علي الضفة الغربية للنيل عند المنحني وهي منطقة تعرج النيل ونزوعه نحو الاتجاه الغربي لكأنه قد غير رأيه. تحدها من الجنوب قرية دبة الفقراء ومن شمالها تقع مدينة الدبة وتقابلها من الضفة الشرقية للنيل قري ارقي والعفاض. مثلها مثل جميع قري شمال السودان نهلت كرمكول من ثقافتين سادتا علي السودان النيلي علي مر الدهور،وهما الثقافة العربية الاسلامية، والثقافة النوبية فأوجدتا خليطاً نادراً في السحنات والاعراق والعادات الاجتماعية والطقوس المختلفة، وهم قوم كانت في الماضي جلودهم ثخينة ليست كجلود سائر الناس فقد اعتادوا الحياة الخشنة بل هم في الواقع يحبونها والناس هنا لا يسافرون كثيرا وهم ان ارادوا السفر لأمر مهم كتسجيل أرض أوالنظر في قضية طلاق ? فهم يركبون حميرهم ضحي كاملاً، ثم يأخذون الباخرة من المحطة في البلدة المجاورة. وتاريخ كرمكول يمتد عبر التاريخ القديم ضمن قري منطقة الدبة وهي المنطقة الواقعة من آخر حدود ديار الشايقية من عند كورتي وامبكول، الي قرية دبة الفقراء و كرمكول والدوم قوشابي وارقي وابكر وتنقسي الجزيرة، وقد مرت عليها الحقب التاريخية المختلفة بدء من مملكة نبتة وحضارة كرمة ومملكة مروي والممالك المسيحية حيث كانت منطقة الدبة بقراها تتبع مملكة المقرة المسيحية التي كانت عاصمتها دنقلا العجوز والتي انهارت تماما حوالي عام 1272م ، تحت وطأة اندياح المد الاسلامي والعربي القادم من مصر نحو جنوب وادي النيل ونزلت القبائل العربية مملكة المقرة وخاصة مجموعة جهينة التي تفرعت في السودان الي الجعليين والشايقية والرباطاب والبديرية والركابية والمناصير والميرفاب، وسكنوا علي طول ضفاف نهر النيل من الشمال الي الجنوب، وبعد انهيار الممالك المسيحية في المقرة وعلوة، وقيام مملكة الفونج صارت تعرف هذه المنطقة بديار البديرية وديار الشايقية وتحديدا المنطقلة التي تسكنها قبيلة البديرية والتي تقع من ضمنها منطقة كرمكول كانت تسمي بمملكة الدفار في عهد المملكة السنارية ودامت الي ما قبل الفتح التركي بقليل فقد انهارت بسبب هجمات الشايقية عليها حتي ان اهلها هجروها الي جزيرة قنتي، ويشكل البديرية والركابية وبعض المجموعات الاخري من العرب من شمال كردفان مثل الهواوير و الكبابيش، سكان منطقة كرمكول من ذلك التاريخ وحتي الآن. وتجمع العديد من الروايات التاريخية أن الفونج في سنار كانوا قد بعثوا بعائلة من الفونج تنتسب للسلطان بادي ابو شلوخ الي منطقة الدبة لحل النزاع الدائم بين ملوك البديرية والشايقية علي سيادة المنطقة وقد عرفت هذه العائلة لاحقاً بعائلة الفونج، واشهر أمرائهم الأمير محمد فرح وهو صاحب القصر الشهير بكرمكول، والذي مررنا بأطلاله وبقاياه الدارسة حيث شيد هذا القصر من الطين اللبن فقد كان بناءً عظيماً في كل شيء في أوان بنائه، بالفعل يليق بأمير من أمراء الفونج ارسل ليحكم قبضة المملكة يضع واسسها وقوانينها علي هذا الاقليم البعيد عن مركز السلطنة في سنار، اول ما لفت انتباهنا بين اطلاله البوابة المقوسة ذات الشكل المميز علي اليمين من هذه البوابة غرفة واسعة عالية البناء من طبقتين، ويبدوا انها كانت غرفة استقبال للضيوف الوافدين للقصر،إذا وقفت في عاليها ترات لك الارض الزراعية الخضراء الممتدة متاخمة للنيل وغابات النخيل المتشابكة من امامك، وتطل هذه الغرفة علي فناء يقع من خلفه جدار متهدم يفصل الغرف الداخلية التي تراصت مطلة الي الشرق وهي اربعة غرف علي خط متواز وبجوارها مطبخ وجدنا فيه بعض الأواني المنزلية التي هجرها اهلها في هذا المكان منها انية لعيار الحبوب، وصحن للطعام يحمل ماركة أفنديث التركية، وادوات لشرب القهوة تتكون من مقلاة للبن وجبنة كبيرة مصنوعة من الصفيح ، كما تجاور المطبخ غرفة لزينة النساء وجدنا بها برش قديم مفروش علي دكة بها بعض بقايا زينة النساء وهي كتل من الدلكة المتحجرة، كما يوجد علي الجدار جزء من سحارة قديمة متهالكة مصنوعة من الخشب المضغوط ، والقصر نفسه احاطت به الكثير من القصص والاساطير منها ان القصر عند بناءه خلط الملاط بسليقة لحم الثيران التي كانت تذبح يوميا وان الأمير كان ينظرمن خلال علو القصر الشاهق الي اقاصي حدود المنطقة سواء كان من ناحية النهر او من جوف الصحراء متفقداً رعيته مراقباً سريان النيل وعمليات الري، بالقرب من القصر كان هنالك امتداداً له بناه ابنه من بعده سعيد محمد فرح والذي كان عاملاً من قبل الخليفة عبد الله التعايشي علي المنطقة وكان يعرف بالعامل سعيد، وقد قتل في سجن الرجاف في عهد الخليفة عبد الله حينما اتهم بأنه يناصر الأشراف ضد الخليفة، واشتهر العامل سعيد او العمدة سعيد كما يسميه اهالي كرمكول بالكرم والجود والشجاعة والفروسية وتنسب له الروايات الشفاهية في المنطقة انتصاره في واقعة القيقر وهي معركة دارت بين النعمان ود قمر الذي جاء علي رأس عدد كبيرمن المقاتلين الأشداء من الشايقية للسيطرة علي منطقة الدبة واخضاعها في عهد دولة المهدية ولكن تمكن العمدة سعيد محمد فرح من دحره وقيل انه قتله، والقيقر بناء من الطين وهو ما يعرف بالطابية التي يتحصن خلفها الجند، وإن كان هناك بعض المصادر التاريخية تؤكد ان معركة القيقر هذه حدثت في عهد التركية في عام 1884وكانت هناك حامية بالدبة بقيادة جودت بك وكان ذلك في عهد الحكمدار مصطفي باشا حكمدار مروي. توراث بيت الامير محمد فرح العمودية والأمارة في كرمكول فقد تولى زمام امر العمودية فيها العمدة ميرغنى فضل ومن بعده ابنه سعيد ميرغنى فضل الذائع الصيت وقد كانت حدود عموديته تمتد من بلدة الغابة شمالاً حتى الدبة وكرمكول وابي دوم قوشابى جنوباً ، بينما كان خاله العمدة احمد سعيد رئيس فرع وعمدة تنقسى الجزيرة على منطقة الغابة كان ابنه سعيد احمد سعيد عمدة على منطقة الغابة. هنا فى كرمكول كان العمدة سعيد ميرغنى فضل يسوس امور الناس بالعدل والحزم والحلم والعمدة سعيد ميرغنى فضل مولود فى العام (1910) بكرمكول واسمه بالكامل (سعيد ميرغنى فضل محمد فرح) تخرج فى كلية غردون القديمة وقد كان ذو ثقافة واسعة ومحباً للشعر ومنشداً له وكان محبوباً لدى الناس واكرم رجال زمانه ? وذو هيبة وشجاعة شهد بهما الناس، وقد شغل منصب عمدة الدبة وكرمكول من بعد والده العمدة ميرغنى فضل حتى تم إلغاء نظام الادارة الاهلية فى سبعينات القرن الماضى في عهد حكومة مايو كما هو معروف ، وقد كان العمدة سعيد ميرغنى ايضا عضواً فى مجلس الشيوخ برلمان عام (1957م) أول برلمان بعد الإستقلال وتوفى فى يوم 16/2/1982م بلندن عن عمر ناهز ال (72) عاماً طيب الله ثراه . وكان قد شيد منزله بالقرب من القصر الكبير لا زالت بقايا غرفه موجودة بالرغم من طمره بالمياه اتبان فيضان عام 1988م والشاهد اننا لدي تجوالنا في منزل العمدة سعيد فضل لفت انتباهنا بوابته المقوسة والمطرزة بابها المصنوع من خشب الحراز، زو الحلقة الضخمة التي تستعمل لسحبه وقد شيده علي غرار قصر جده ولكن بلا غرفة عالية ذات طابق ثاني، وأثناء تجوالنا دخل حوش العمدة عثرنا علي غرفة الوثائق الخاصة بالعمدة وهي وثائق قيمة تستحق ان تكون متحفاً لوحدها فقد وجدنا سجلات لمحكمة الدبة منذ العام 1958م، كما وجدنا وثيقة صادرة من مكتب مأمور مفتش مروي في عهد الادارة الانجليزية تحدد اسعار بعض السلع وهي امر معمم لجميع التجار في منطقة الدبة ومروي يقضي بتحديد اسعار السلع الضرورية مثل السكر والشاي والقمح والفيتريتة وقماش الدمورية والدبلان وطلب من كل تاجر كتابة قائمة بأسعار هذه السلع وتعليقها حائط متجره. ومن شدة حب الناس للعمدة سعيد ميرغنى فضل لكرمه وجوده وكريم خصائله انشد كثير من شعراء المنطقة ذائع الصيت قصائد فى غاية الروعة فى مدحه فقد انشد الشاعر المعروف وذائع الصيت ( احمدون) قائلاً :- شكرى على سعيد العمدة يا ناس انت الساس وابن الساس والراس الجود والكرم والسلطة ميراث والزين فى اصبعو الوسطانى حباس النايم تصحى تعشى بالحاس اهلك فى القبائل اطيب الناس وقد كان حقاً كما وصفه شاعرنا الرائع (احمدون) ، كان الساس والراس واهلاً للجود والكرم وجميل الشمائل والخصال. والمتأمل لشاطيء كرمكول من عند الضفة الغربية للنهر يلاحظ ما فعله الهدم بهذه الحقول وهذه الأراضي الزراعية الخصبة والسواقي الكبيرة التي ابتلعها حيث نحر النهر جزيرة في وسطه مقتصاً من أراضي كرمكول لتصبح هنالك جزيرة رملية قبالة الشاطيء تقابلها ارقي من الضفة الشرق بعد ان كانت كرمكول تقابل ارقي من الضفة الغربية بشكل مباشر، ولا بد ان هذه الظاهرة الطبيعية والتي صارت هاجساً يؤرق معظم سكان الولاية الشمالية قد خصمت كثيراً من ثروات اهالي منطقة كرمكول بخاصة وان الهدام ابتلع اخصب الأراضي الزراعية واعداد كبيرة من اشجار النخيل مما ضاقت الرقعة الزراعية مما حدي بأهالي كركمول بالتفكير في مشروع الحطاب الزراعي،كان لتأثير فيضان عام 1988 م الكبير علي الأحياء المطلة علي النيل إن انتقلت هذه الأحياء بنفس مسميات احيائها القديمة من علي الشاطيء الي المناطق المرتفعة قليلاً يأمنوا ثورات النيل التي تحدث في كل عام.
***
2
كغيرها من قري شمال السودان انجبت كرمكول العلماء الفضلاء الذين عملوا علي نشر دعوة الأسلام واقامو التعليم الديني حيث توجد بها قبب الدواليب السبعة ويترجم صاحب الطبقات للشيخ ودوليب والد الدواليب السبعة في كتابه طبقات ود ضيف الله انه دوليب ود نسي ونسي هو محمد الضرير بن ادريس بن دوليب الركابي بن الحاج دوليب بن عبد الله بن ركاب بن غلام الله، ومعني نسي في لغة الدناقلة هو ولد الولد،وكانت مجاهدات الشيخ دوليب مشهودة في المنطقة وهو من اسرة الدواليب المشهورة وهي فرع من الركابية ذرية غلام الله أبن عائد ومن اولاده محمد النابري، والفقيه ادريس ومكي ومدني، دفن بالدبة وتقع قبته في كرمكول وجميع الدواليب من نسله ، وقيل انه كان يدخل للذكر والعبادة الخلوات المربعات ، اي انه دخل اربعين خلوة في جبل البرصة وكل خلوة بأربعين يوما جبل البرصة جبل يقع بين ديار الشايقية وديار دنقلة ايضا توجد قبة الشيخ محمد ولد دوليب وهو اسم له شهرته بين الناس ابوه محمد الضرير بن ادريس بن دوليب الركابي، وأمه زينب ولد بالدبة ونشأ بها،كان خيراً وفاضلاً جمع بين العلم والعمل مشتغلاً بتدريس الفقه وتحصيل الكتب ومطالعتها،جمع كتباً كتيرة كشرح الأجهوري والخراشي وغيرهما وكان ورعاً تقيا لا تأخذه في الله لومة لائم غير مكترث بالملوك ومن دونهم ارسل له الملك بن ناصر وقال له حوارك طعن جمال رفيقي محمد ولد مصطفي فجاءه قواد الملك فقال له ملك الفونج ارسلني ليك فقال له: (انا بلا الله والرسول وكتبي ديل رفيقاتي ما بعرف احد) وقبته موجودة بكرمكول توجد ايضا قبة اشيخ الصالح (محمد ود بوبا) وهو احد الاولياء الصالحين بالمنطقة وله كرامات مشهورة ومعروفة وقبره ظاهر يزار ايضا هنالك القيقر طابية على النيل اندثرت معظم معالمها الان وكان يقال بان العمدة محمد ودفرح عملها حينما اراد ملك الرباطاب ان يغزو المنطقة فعمل هذه الطابية ودمره مع جيشه على النيل . تختزن المنطقة موروثاً هائلاً من التراث والشعر الشعبى كغيرها من قرى الشمال ومنطقة منحنى النيل تحديداً وقد اختزن هذا الارث الضخم من التراث والفلكلور ، منه الشعر الشعبي الذي يقال في المدح أو السيرة كما تسود اغنيات الطمبور مع ايقاع الدليب، تعتبر مناطق ماكان يعرف سابقاً بريفى الدبة من اغنى المناطق واخصبها بالشعر والشعراء والمغنيين الشعبيين الذين اثروا الحياة الوجدانية لانسان تلك المنطقة ، اما كرمكول على وجه التحديد فقد كانت ملتقى لشعراء كثر، بعضهم مدحها وبعضهم تغزل في حسانها وقليل منهم حاول هجائها كذلك الذى يقول: كرمكول جيتك مو براى الا فيك العيش والملح جرونى جاى .. وفى احدى مقالاته الشهيرة تحدث عبقري الرواية العربية الطيب صالح عن احدى الشاعرات المشهورات بمنطقة كرمكول هي الغفيرة ( بنت صبير) منوهاً بها ومعدداً مآثرها وحلاوة شعرها اذ كانت تنشد قصيدة فى مدح اخيها العريس اسماعيل صبير حينذاك فى اوائل الاربعينيات فوصفها اديبنا الكبير بانها كانت وضاءة الحسن والجمال وانها قد صنعت فناً عظيماً فى ذلك اليوم وهى تنشد (سيرة) لاخيها العريس اسماعيل ود صبير فى منشد رائع وبديع . تقول الغفيرة بت صبير فى مدحها لاخيها :- واجيد لى دا العاجبنى ذاتو واخوى نمر الخلاء الشابكات سلاحتو دودا لى السحاب خلى البلد مطران ودودا لى البحر خلى الزرع شربان شدو لك ركب ياود ابو شعبانو وحارسو العز قديم من ابهاتو زمان وابواتك يفرتكوا لجنة الصيوان وباركيلو الجديد الليلة يا ام عثمان ومن اشهر الشخصيات فى ديار البديرية عامة وقاطبة والتى تركت اثراً كبيراً على حياة الناس فى منطقة كرمكول والقرى المجاورة الشاعر الشهير (أحمدون) وهو من مواليد العام (1887م) والمتوفى فى العام (1978م) وقد كان كثير التسفار فى المنطقة ولذلك تجده يذكر اسماء العديد من القرى فى شعره فتجده يقول مثلاً: العامرية ما نالت جمالك ياقصبة عيش (برا) وزينة (الزمالك) ان قالت سي تحسبو ولابو مليم يا قصبة وادى كوم امبو وعجو وابريم ومن اشهر شعره ذاك الذى قاله فى مدح العمدة سعيد ميرغنى عمدة الدبة وكرمكول: نهاره فى الكرد لى باشا ماشين انا وعثمان عليك يالعمدة ناوين الوكت ضاق جينا عند اب عاشة بايتين من صالح لاخوه اخدنا يومين قال له ياسعد احمدون وين ؟ يعتمد أهالى كرمكول كغيرهم من اهل الشمال السودان على القمح كغذاء اساسي ويصنعون منه القراصة او الكابيدة كما يسميها الدناقلة فى الشمال وهم يجعلون من الويكة المصنوعة من البامية الخضراء واداماً لها او الادام المصنوع من طبيخ اللحم كما يصنعون الفطيرة من القمح ويجعلون اللبن عليها وغالباً ما تكون هذه الوجبة فى العشاء وهنالك العديد من الوجبات الشعبية الاخرى مثل ملاح البامية الخضراء والملوحة والكسرة والتمر واللبن. وكرمكول منطقة ذات بيئة ملهمة وساحرة فقد الهمت الكاتب الراحل عبقري الرواية العربية الطيب صالح الكثير من الشخصيات ووصف المكان بأعتبار ان دومة ود حامد كمكان متخيل في اعمال الطيب صالح تستقي بنائها من المكان المواز لها وهي كرمكول حيث ولد بها الطيب صالح في عام 1929 م وكان يسكن في الحي القديم بفريق بركة جيث ولد في بيت جده صالح احمد المشاوي ووقفنا علي اطلال البيت القديم بجدران الجالوص المتهدمة جراء فيضان عام 1988م وكانت اسرة الطيب صالح قد انتقلت من الي القديم الي حي بركة الجديد وهو حي بكرمكول ومررنا بالبيت الجديد حيث ان يسكن فيه اخيه بشير الطيب لفترة من الزمن، ويجمع معظم سكان كرمكول بخاصة اؤلئك الذين عاشوا في حقبة الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي علي ان شخصيات الطيب صالح في روايته هي امتداد لشخصيات حقيقية عاشت في كرمكول اضاف لها الطيب الكثير من الخيال الروائي ليصبحوا ابطالاً سعدنا كثيراً بقراءتهم من ابراز هذه الشخصيات شخصية الزين في رواية (عرس الزين) والذي يقال انه كان شخصا اسمه الفضل وعاش في كرمكول طيلة عمره حتي مات ايضاً ، سيف الدين هو سيف هبشيَ وقد اكد لنا حين التقيناه انه سيف الدين المقصود في الرواية وقال انه بالفعل قد ضرب الفضل بالفرار حتي حجز بالمستشفي وكان هو محبوساً بمركز مروي، كذلك مررنا بمنزل محجوب المبارك صاحب الدكان في رواية بندر شاه، وان سعيد البوم او سعيد عشا البايتات القوي ايضا شخصية معروفة كنا يعيشان بكرمكول، وان صفات بت مجذوب كانت تنطبق علي أمراة اسمها بنت البيه. وتوجد بكرمكول مدرسة أساسية كانت في الماضي تعقد بمنزل العمدة الي ان تم بناءها في عام 1977 م بالعون الاهلي ويتخرج منها الطلاب ليدرسوا المرحلة الثانوية بمدارس الدبة ، أن كرمكول ظلت صامدة علي مدي التاريخ تقدم انموذجا يحتذي به في التحدي للهدام والصمود في وجه ثورات النيل كل عام وهاهي تستشرف مستقبلاً جديدا عبر وصول الطريق المعبد (شريان الشمال) ومشروع الحطاب الزراعي الذي ظل حلماً لسنوات عديدة يرواد ابنائها وهاو بري النور مع بشريات سد مروي المثمثلة في توفير مياه الري والكهرباء كما لا ننسي كبري الحطاب الذي يمر بكرمكول ويربط بين ضفتي النيل الشرقية والغربية مما يجعل للمنطقة نصيبا من التنمية.
.
من أين تبدأ الحكايات القديمة كرائحة اعشاب النهر ذكية ساعة نضارها أو حين يسري النهر سريان الدم في بدن التاريخ ربما تبدأ من فتات الروح المتمددة في الكائنات، من هنا تبدأ الاسئلة تتناسل من حيث تموت الحياة لتبدأ دورتها من جديد. صوت خرير المياه الذي يسمع من ابعد مسافة للنهر كان واضحاً كحقيقة الوجود نفسه وهزيم الريح يعوي في ذلك الصباح، يعاكس ذؤيبات النخيل التي تتمايل يميناً وتارة اخري شمالاً تتقي تلك الرياح الهوجاء، ونثار الرمال يرتفع في الفضاء المنبسط متخللا بيوت الطين القديمة المتراصة قبالة النهر في عناق حميم، كان النثار يصطدم بالوجه و يغذي العين، عالقاً بالأنف فيملأه نعبيء منه افواهنا، فنسعل لعل ذلك يفسح لنا نسمة هواء تصلح للتنفس، و من اعلي قبة الشيخ ود دوليب وقفنا ننظر للدومة التي اجلاها الماء عن مكانها، الذي ابتلعه وحشا يسمي (الهدام)، بينما ظلت مسرجة قبة الشيخ ود دوليب متقدة علي مدي الازمان ، نحن الآن في كرمكول واغلب الظن لو جئتها وقت لقاح التمر لوجدت بها سحابة داكنة ربضت علي صدرها هي ليست غبارا ولا ضباباً، وانما سرب واحد من اسراب النمتّي وهي تربط علي الداخلين افواه الطريق مكرمة وفادتهم، وكانت تطن وتزن ولديها حب عظيم لبني البشر، اذا ما اشتمت رائحتهم تلازمهم ملازمة الخليل لخليله وتجد نفسك تضرب بيديك حول اذنيك او مصفقا تهشها من امام وجهك دامع العين سائل الأنف. تقع كرمكول التي نحن بصددها في منطقة الدبة وهي مكان عند منحني النيل يتعرج من عندها النهر كأفعي مقدسة ضاربة بجنباتها ضفتي الصحراء ما فتر عزمها ولا وهنت لها قناة، والنيل في سره يشي بحكايات الحياة تستمع من علي ضفتيه لشهقات الموت وصرخات الميلاد، وهي بكثبانها الرميلة ونخلها الممتد علي شاطئها تتخلله غابات من الطلح والحراز،وتربض بيوت الجالوص شاهدة علي العصر. من عند النهر تبدأ الحكاية وقصة قرية انجبت عبقري الرواية العربية،فنحن إذن في مكان عبقرياً مهلماً، ومن عند حافت النهر تنهي الحكاية كما بدأت تماما، فمثلما بدأت قصة (بندر شاه) وهو مجرد جسد طاف علي وجه الماء فالتقطته مختار ود حسب الرسول وعاش بين الناس مخلفاً زراري، ايضا في جوفه العميق انتهت حكاية (مصطفي سعيد)، وتناقلت امواجه الرقراقة اغنيات (الزين) واهازيجه بحسناوات القرية. وكرمكول كأسم مختلف فيه يجمع البعض علي انه مركب من كلمتين واحدة عربية وهي كلمة كرم وتعني (الكرم) اي الجود والشق الثاني كول وهي كلمة نوبية تعني المكان) ويذهب البعض الي ان الكلمة اصلها نوبي وبلغة الدناقلة تعني (عنده حلبة) اي ان كلمة كرم بكسر الكاف تعني (نبات الحلبة) كلمة وكول تترجم (عنده) وترجمة المقطعين (عنده حلبة) واي كان فأهل المنطقة اشتهروا بالكرم والمرؤة والشهامة أو كما كانوا يزرعون الحلبة، وتقع كرمكول علي الضفة الغربية للنيل عند المنحني وهي منطقة تعرج النيل ونزوعه نحو الاتجاه الغربي لكأنه قد غير رأيه. تحدها من الجنوب قرية دبة الفقراء ومن شمالها تقع مدينة الدبة وتقابلها من الضفة الشرقية للنيل قري ارقي والعفاض. مثلها مثل جميع قري شمال السودان نهلت كرمكول من ثقافتين سادتا علي السودان النيلي علي مر الدهور،وهما الثقافة العربية الاسلامية، والثقافة النوبية فأوجدتا خليطاً نادراً في السحنات والاعراق والعادات الاجتماعية والطقوس المختلفة، وهم قوم كانت في الماضي جلودهم ثخينة ليست كجلود سائر الناس فقد اعتادوا الحياة الخشنة بل هم في الواقع يحبونها والناس هنا لا يسافرون كثيرا وهم ان ارادوا السفر لأمر مهم كتسجيل أرض أوالنظر في قضية طلاق ? فهم يركبون حميرهم ضحي كاملاً، ثم يأخذون الباخرة من المحطة في البلدة المجاورة. وتاريخ كرمكول يمتد عبر التاريخ القديم ضمن قري منطقة الدبة وهي المنطقة الواقعة من آخر حدود ديار الشايقية من عند كورتي وامبكول، الي قرية دبة الفقراء و كرمكول والدوم قوشابي وارقي وابكر وتنقسي الجزيرة، وقد مرت عليها الحقب التاريخية المختلفة بدء من مملكة نبتة وحضارة كرمة ومملكة مروي والممالك المسيحية حيث كانت منطقة الدبة بقراها تتبع مملكة المقرة المسيحية التي كانت عاصمتها دنقلا العجوز والتي انهارت تماما حوالي عام 1272م ، تحت وطأة اندياح المد الاسلامي والعربي القادم من مصر نحو جنوب وادي النيل ونزلت القبائل العربية مملكة المقرة وخاصة مجموعة جهينة التي تفرعت في السودان الي الجعليين والشايقية والرباطاب والبديرية والركابية والمناصير والميرفاب، وسكنوا علي طول ضفاف نهر النيل من الشمال الي الجنوب، وبعد انهيار الممالك المسيحية في المقرة وعلوة، وقيام مملكة الفونج صارت تعرف هذه المنطقة بديار البديرية وديار الشايقية وتحديدا المنطقلة التي تسكنها قبيلة البديرية والتي تقع من ضمنها منطقة كرمكول كانت تسمي بمملكة الدفار في عهد المملكة السنارية ودامت الي ما قبل الفتح التركي بقليل فقد انهارت بسبب هجمات الشايقية عليها حتي ان اهلها هجروها الي جزيرة قنتي، ويشكل البديرية والركابية وبعض المجموعات الاخري من العرب من شمال كردفان مثل الهواوير و الكبابيش، سكان منطقة كرمكول من ذلك التاريخ وحتي الآن. وتجمع العديد من الروايات التاريخية أن الفونج في سنار كانوا قد بعثوا بعائلة من الفونج تنتسب للسلطان بادي ابو شلوخ الي منطقة الدبة لحل النزاع الدائم بين ملوك البديرية والشايقية علي سيادة المنطقة وقد عرفت هذه العائلة لاحقاً بعائلة الفونج، واشهر أمرائهم الأمير محمد فرح وهو صاحب القصر الشهير بكرمكول، والذي مررنا بأطلاله وبقاياه الدارسة حيث شيد هذا القصر من الطين اللبن فقد كان بناءً عظيماً في كل شيء في أوان بنائه، بالفعل يليق بأمير من أمراء الفونج ارسل ليحكم قبضة المملكة يضع واسسها وقوانينها علي هذا الاقليم البعيد عن مركز السلطنة في سنار، اول ما لفت انتباهنا بين اطلاله البوابة المقوسة ذات الشكل المميز علي اليمين من هذه البوابة غرفة واسعة عالية البناء من طبقتين، ويبدوا انها كانت غرفة استقبال للضيوف الوافدين للقصر،إذا وقفت في عاليها ترات لك الارض الزراعية الخضراء الممتدة متاخمة للنيل وغابات النخيل المتشابكة من امامك، وتطل هذه الغرفة علي فناء يقع من خلفه جدار متهدم يفصل الغرف الداخلية التي تراصت مطلة الي الشرق وهي اربعة غرف علي خط متواز وبجوارها مطبخ وجدنا فيه بعض الأواني المنزلية التي هجرها اهلها في هذا المكان منها انية لعيار الحبوب، وصحن للطعام يحمل ماركة أفنديث التركية، وادوات لشرب القهوة تتكون من مقلاة للبن وجبنة كبيرة مصنوعة من الصفيح ، كما تجاور المطبخ غرفة لزينة النساء وجدنا بها برش قديم مفروش علي دكة بها بعض بقايا زينة النساء وهي كتل من الدلكة المتحجرة، كما يوجد علي الجدار جزء من سحارة قديمة متهالكة مصنوعة من الخشب المضغوط ، والقصر نفسه احاطت به الكثير من القصص والاساطير منها ان القصر عند بناءه خلط الملاط بسليقة لحم الثيران التي كانت تذبح يوميا وان الأمير كان ينظرمن خلال علو القصر الشاهق الي اقاصي حدود المنطقة سواء كان من ناحية النهر او من جوف الصحراء متفقداً رعيته مراقباً سريان النيل وعمليات الري، بالقرب من القصر كان هنالك امتداداً له بناه ابنه من بعده سعيد محمد فرح والذي كان عاملاً من قبل الخليفة عبد الله التعايشي علي المنطقة وكان يعرف بالعامل سعيد، وقد قتل في سجن الرجاف في عهد الخليفة عبد الله حينما اتهم بأنه يناصر الأشراف ضد الخليفة، واشتهر العامل سعيد او العمدة سعيد كما يسميه اهالي كرمكول بالكرم والجود والشجاعة والفروسية وتنسب له الروايات الشفاهية في المنطقة انتصاره في واقعة القيقر وهي معركة دارت بين النعمان ود قمر الذي جاء علي رأس عدد كبيرمن المقاتلين الأشداء من الشايقية للسيطرة علي منطقة الدبة واخضاعها في عهد دولة المهدية ولكن تمكن العمدة سعيد محمد فرح من دحره وقيل انه قتله، والقيقر بناء من الطين وهو ما يعرف بالطابية التي يتحصن خلفها الجند، وإن كان هناك بعض المصادر التاريخية تؤكد ان معركة القيقر هذه حدثت في عهد التركية في عام 1884وكانت هناك حامية بالدبة بقيادة جودت بك وكان ذلك في عهد الحكمدار مصطفي باشا حكمدار مروي. توراث بيت الامير محمد فرح العمودية والأمارة في كرمكول فقد تولى زمام امر العمودية فيها العمدة ميرغنى فضل ومن بعده ابنه سعيد ميرغنى فضل الذائع الصيت وقد كانت حدود عموديته تمتد من بلدة الغابة شمالاً حتى الدبة وكرمكول وابي دوم قوشابى جنوباً ، بينما كان خاله العمدة احمد سعيد رئيس فرع وعمدة تنقسى الجزيرة على منطقة الغابة كان ابنه سعيد احمد سعيد عمدة على منطقة الغابة. هنا فى كرمكول كان العمدة سعيد ميرغنى فضل يسوس امور الناس بالعدل والحزم والحلم والعمدة سعيد ميرغنى فضل مولود فى العام (1910) بكرمكول واسمه بالكامل (سعيد ميرغنى فضل محمد فرح) تخرج فى كلية غردون القديمة وقد كان ذو ثقافة واسعة ومحباً للشعر ومنشداً له وكان محبوباً لدى الناس واكرم رجال زمانه ? وذو هيبة وشجاعة شهد بهما الناس، وقد شغل منصب عمدة الدبة وكرمكول من بعد والده العمدة ميرغنى فضل حتى تم إلغاء نظام الادارة الاهلية فى سبعينات القرن الماضى في عهد حكومة مايو كما هو معروف ، وقد كان العمدة سعيد ميرغنى ايضا عضواً فى مجلس الشيوخ برلمان عام (1957م) أول برلمان بعد الإستقلال وتوفى فى يوم 16/2/1982م بلندن عن عمر ناهز ال (72) عاماً طيب الله ثراه . وكان قد شيد منزله بالقرب من القصر الكبير لا زالت بقايا غرفه موجودة بالرغم من طمره بالمياه اتبان فيضان عام 1988م والشاهد اننا لدي تجوالنا في منزل العمدة سعيد فضل لفت انتباهنا بوابته المقوسة والمطرزة بابها المصنوع من خشب الحراز، زو الحلقة الضخمة التي تستعمل لسحبه وقد شيده علي غرار قصر جده ولكن بلا غرفة عالية ذات طابق ثاني، وأثناء تجوالنا دخل حوش العمدة عثرنا علي غرفة الوثائق الخاصة بالعمدة وهي وثائق قيمة تستحق ان تكون متحفاً لوحدها فقد وجدنا سجلات لمحكمة الدبة منذ العام 1958م، كما وجدنا وثيقة صادرة من مكتب مأمور مفتش مروي في عهد الادارة الانجليزية تحدد اسعار بعض السلع وهي امر معمم لجميع التجار في منطقة الدبة ومروي يقضي بتحديد اسعار السلع الضرورية مثل السكر والشاي والقمح والفيتريتة وقماش الدمورية والدبلان وطلب من كل تاجر كتابة قائمة بأسعار هذه السلع وتعليقها حائط متجره. ومن شدة حب الناس للعمدة سعيد ميرغنى فضل لكرمه وجوده وكريم خصائله انشد كثير من شعراء المنطقة ذائع الصيت قصائد فى غاية الروعة فى مدحه فقد انشد الشاعر المعروف وذائع الصيت ( احمدون) قائلاً :- شكرى على سعيد العمدة يا ناس انت الساس وابن الساس والراس الجود والكرم والسلطة ميراث والزين فى اصبعو الوسطانى حباس النايم تصحى تعشى بالحاس اهلك فى القبائل اطيب الناس وقد كان حقاً كما وصفه شاعرنا الرائع (احمدون) ، كان الساس والراس واهلاً للجود والكرم وجميل الشمائل والخصال. والمتأمل لشاطيء كرمكول من عند الضفة الغربية للنهر يلاحظ ما فعله الهدم بهذه الحقول وهذه الأراضي الزراعية الخصبة والسواقي الكبيرة التي ابتلعها حيث نحر النهر جزيرة في وسطه مقتصاً من أراضي كرمكول لتصبح هنالك جزيرة رملية قبالة الشاطيء تقابلها ارقي من الضفة الشرق بعد ان كانت كرمكول تقابل ارقي من الضفة الغربية بشكل مباشر، ولا بد ان هذه الظاهرة الطبيعية والتي صارت هاجساً يؤرق معظم سكان الولاية الشمالية قد خصمت كثيراً من ثروات اهالي منطقة كرمكول بخاصة وان الهدام ابتلع اخصب الأراضي الزراعية واعداد كبيرة من اشجار النخيل مما ضاقت الرقعة الزراعية مما حدي بأهالي كركمول بالتفكير في مشروع الحطاب الزراعي،كان لتأثير فيضان عام 1988 م الكبير علي الأحياء المطلة علي النيل إن انتقلت هذه الأحياء بنفس مسميات احيائها القديمة من علي الشاطيء الي المناطق المرتفعة قليلاً يأمنوا ثورات النيل التي تحدث في كل عام.
***
2
كغيرها من قري شمال السودان انجبت كرمكول العلماء الفضلاء الذين عملوا علي نشر دعوة الأسلام واقامو التعليم الديني حيث توجد بها قبب الدواليب السبعة ويترجم صاحب الطبقات للشيخ ودوليب والد الدواليب السبعة في كتابه طبقات ود ضيف الله انه دوليب ود نسي ونسي هو محمد الضرير بن ادريس بن دوليب الركابي بن الحاج دوليب بن عبد الله بن ركاب بن غلام الله، ومعني نسي في لغة الدناقلة هو ولد الولد،وكانت مجاهدات الشيخ دوليب مشهودة في المنطقة وهو من اسرة الدواليب المشهورة وهي فرع من الركابية ذرية غلام الله أبن عائد ومن اولاده محمد النابري، والفقيه ادريس ومكي ومدني، دفن بالدبة وتقع قبته في كرمكول وجميع الدواليب من نسله ، وقيل انه كان يدخل للذكر والعبادة الخلوات المربعات ، اي انه دخل اربعين خلوة في جبل البرصة وكل خلوة بأربعين يوما جبل البرصة جبل يقع بين ديار الشايقية وديار دنقلة ايضا توجد قبة الشيخ محمد ولد دوليب وهو اسم له شهرته بين الناس ابوه محمد الضرير بن ادريس بن دوليب الركابي، وأمه زينب ولد بالدبة ونشأ بها،كان خيراً وفاضلاً جمع بين العلم والعمل مشتغلاً بتدريس الفقه وتحصيل الكتب ومطالعتها،جمع كتباً كتيرة كشرح الأجهوري والخراشي وغيرهما وكان ورعاً تقيا لا تأخذه في الله لومة لائم غير مكترث بالملوك ومن دونهم ارسل له الملك بن ناصر وقال له حوارك طعن جمال رفيقي محمد ولد مصطفي فجاءه قواد الملك فقال له ملك الفونج ارسلني ليك فقال له: (انا بلا الله والرسول وكتبي ديل رفيقاتي ما بعرف احد) وقبته موجودة بكرمكول توجد ايضا قبة اشيخ الصالح (محمد ود بوبا) وهو احد الاولياء الصالحين بالمنطقة وله كرامات مشهورة ومعروفة وقبره ظاهر يزار ايضا هنالك القيقر طابية على النيل اندثرت معظم معالمها الان وكان يقال بان العمدة محمد ودفرح عملها حينما اراد ملك الرباطاب ان يغزو المنطقة فعمل هذه الطابية ودمره مع جيشه على النيل . تختزن المنطقة موروثاً هائلاً من التراث والشعر الشعبى كغيرها من قرى الشمال ومنطقة منحنى النيل تحديداً وقد اختزن هذا الارث الضخم من التراث والفلكلور ، منه الشعر الشعبي الذي يقال في المدح أو السيرة كما تسود اغنيات الطمبور مع ايقاع الدليب، تعتبر مناطق ماكان يعرف سابقاً بريفى الدبة من اغنى المناطق واخصبها بالشعر والشعراء والمغنيين الشعبيين الذين اثروا الحياة الوجدانية لانسان تلك المنطقة ، اما كرمكول على وجه التحديد فقد كانت ملتقى لشعراء كثر، بعضهم مدحها وبعضهم تغزل في حسانها وقليل منهم حاول هجائها كذلك الذى يقول: كرمكول جيتك مو براى الا فيك العيش والملح جرونى جاى .. وفى احدى مقالاته الشهيرة تحدث عبقري الرواية العربية الطيب صالح عن احدى الشاعرات المشهورات بمنطقة كرمكول هي الغفيرة ( بنت صبير) منوهاً بها ومعدداً مآثرها وحلاوة شعرها اذ كانت تنشد قصيدة فى مدح اخيها العريس اسماعيل صبير حينذاك فى اوائل الاربعينيات فوصفها اديبنا الكبير بانها كانت وضاءة الحسن والجمال وانها قد صنعت فناً عظيماً فى ذلك اليوم وهى تنشد (سيرة) لاخيها العريس اسماعيل ود صبير فى منشد رائع وبديع . تقول الغفيرة بت صبير فى مدحها لاخيها :- واجيد لى دا العاجبنى ذاتو واخوى نمر الخلاء الشابكات سلاحتو دودا لى السحاب خلى البلد مطران ودودا لى البحر خلى الزرع شربان شدو لك ركب ياود ابو شعبانو وحارسو العز قديم من ابهاتو زمان وابواتك يفرتكوا لجنة الصيوان وباركيلو الجديد الليلة يا ام عثمان ومن اشهر الشخصيات فى ديار البديرية عامة وقاطبة والتى تركت اثراً كبيراً على حياة الناس فى منطقة كرمكول والقرى المجاورة الشاعر الشهير (أحمدون) وهو من مواليد العام (1887م) والمتوفى فى العام (1978م) وقد كان كثير التسفار فى المنطقة ولذلك تجده يذكر اسماء العديد من القرى فى شعره فتجده يقول مثلاً: العامرية ما نالت جمالك ياقصبة عيش (برا) وزينة (الزمالك) ان قالت سي تحسبو ولابو مليم يا قصبة وادى كوم امبو وعجو وابريم ومن اشهر شعره ذاك الذى قاله فى مدح العمدة سعيد ميرغنى عمدة الدبة وكرمكول: نهاره فى الكرد لى باشا ماشين انا وعثمان عليك يالعمدة ناوين الوكت ضاق جينا عند اب عاشة بايتين من صالح لاخوه اخدنا يومين قال له ياسعد احمدون وين ؟ يعتمد أهالى كرمكول كغيرهم من اهل الشمال السودان على القمح كغذاء اساسي ويصنعون منه القراصة او الكابيدة كما يسميها الدناقلة فى الشمال وهم يجعلون من الويكة المصنوعة من البامية الخضراء واداماً لها او الادام المصنوع من طبيخ اللحم كما يصنعون الفطيرة من القمح ويجعلون اللبن عليها وغالباً ما تكون هذه الوجبة فى العشاء وهنالك العديد من الوجبات الشعبية الاخرى مثل ملاح البامية الخضراء والملوحة والكسرة والتمر واللبن. وكرمكول منطقة ذات بيئة ملهمة وساحرة فقد الهمت الكاتب الراحل عبقري الرواية العربية الطيب صالح الكثير من الشخصيات ووصف المكان بأعتبار ان دومة ود حامد كمكان متخيل في اعمال الطيب صالح تستقي بنائها من المكان المواز لها وهي كرمكول حيث ولد بها الطيب صالح في عام 1929 م وكان يسكن في الحي القديم بفريق بركة جيث ولد في بيت جده صالح احمد المشاوي ووقفنا علي اطلال البيت القديم بجدران الجالوص المتهدمة جراء فيضان عام 1988م وكانت اسرة الطيب صالح قد انتقلت من الي القديم الي حي بركة الجديد وهو حي بكرمكول ومررنا بالبيت الجديد حيث ان يسكن فيه اخيه بشير الطيب لفترة من الزمن، ويجمع معظم سكان كرمكول بخاصة اؤلئك الذين عاشوا في حقبة الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي علي ان شخصيات الطيب صالح في روايته هي امتداد لشخصيات حقيقية عاشت في كرمكول اضاف لها الطيب الكثير من الخيال الروائي ليصبحوا ابطالاً سعدنا كثيراً بقراءتهم من ابراز هذه الشخصيات شخصية الزين في رواية (عرس الزين) والذي يقال انه كان شخصا اسمه الفضل وعاش في كرمكول طيلة عمره حتي مات ايضاً ، سيف الدين هو سيف هبشيَ وقد اكد لنا حين التقيناه انه سيف الدين المقصود في الرواية وقال انه بالفعل قد ضرب الفضل بالفرار حتي حجز بالمستشفي وكان هو محبوساً بمركز مروي، كذلك مررنا بمنزل محجوب المبارك صاحب الدكان في رواية بندر شاه، وان سعيد البوم او سعيد عشا البايتات القوي ايضا شخصية معروفة كنا يعيشان بكرمكول، وان صفات بت مجذوب كانت تنطبق علي أمراة اسمها بنت البيه. وتوجد بكرمكول مدرسة أساسية كانت في الماضي تعقد بمنزل العمدة الي ان تم بناءها في عام 1977 م بالعون الاهلي ويتخرج منها الطلاب ليدرسوا المرحلة الثانوية بمدارس الدبة ، أن كرمكول ظلت صامدة علي مدي التاريخ تقدم انموذجا يحتذي به في التحدي للهدام والصمود في وجه ثورات النيل كل عام وهاهي تستشرف مستقبلاً جديدا عبر وصول الطريق المعبد (شريان الشمال) ومشروع الحطاب الزراعي الذي ظل حلماً لسنوات عديدة يرواد ابنائها وهاو بري النور مع بشريات سد مروي المثمثلة في توفير مياه الري والكهرباء كما لا ننسي كبري الحطاب الذي يمر بكرمكول ويربط بين ضفتي النيل الشرقية والغربية مما يجعل للمنطقة نصيبا من التنمية.
.