أحببت أن أترجم، هنا، للقراء الكرام مقتطفات من مقال لمحمد أركون (1928 ـ 2010) ملحق بكتابه: "إنسانية وإسلام"، الصادر بالفرنسية، يتناول فيه أهم تذكار له في موطن ميلاده ونشأته مع مولود معمري (1917 ـ 1989)؛ بمثابة شهادة حية:
« مثل مولود، ولدت كما قضيت طفولتي ومراهقتي في تاوريرت ـ ميمون، إحدى القرى السبع التي يتكون منها دوار بني يني في القبائل. لذلك، وبالمناسبة، أحببت أن أثير بعض التذكارات في بعدها الإثنوغرافي، الأنثروبولوجي والتاريخي.
« كان مولود ينتمي إلى عائلة ميسورة، ذات شهرة، ليس في القرية فحسب، ولكن في الدُّوار كله وفي ما أبعد منه.
« حسب التقسيمات الجارية في القرى، فإن آل معمري كانوا ينتسبون إلى عِلّية القوم: آث ـ أوفللا. فدراهم ذات البياض الناصع كانت رؤيتها ممكنة من جميع القرى المجاورة؛ لأنها كانت تتربع على رأس الربوة، التي تعلق بها بقية مساكن تاوريرت ـ ميمون، حسب تراتبية متوارثة متماشية مع تاريخ كل عائلة ومكانتها ...
« في السنوات 1945 ـ 1952، كان مولود المثقف المتألق متأنقا، محبوبا ومسموعا له في القرية. كان له حظ أن يدرس في باريس ـ ليسانس في الآداب الكلاسيكية ـ وأن يقيم في المغرب عند عمه الوناس، المؤدب ثم رئيس التشريفات لدى السلطان محمد الخامس.
« الشبان مثلي، كانوا يتابعون مولود بأنظارهم معجبين بقميصه وسرواله وبرنوسه من الحرير الدقيق المذهب؛ كنا نستمع له بشغف حين يتجاذب الحديث مع أصدقائه أو يمازحهم إذ يجتمعون في المساء وخلال الليل على ضوء القمر في الساحة التي كانت تسمى ثانساوث وهي التي كان لاحقا أثار غناها الشعري ووظيفتها الاجتماعية الثقافية في روايته: "الربوة المنسية".
« إلى 1962، فإن الدُّوار لم يعرف شُرْطة ولا دركا ولا عدالة ولا مؤدبا. فإدارة ما كان يسمى البلديات المختلطة ظلت بعيدة ولم تكن تعني القرى المزروعة في الجبال. وكان الأمين يستقي شرعيته من تَذَهُّنه المحكَم للعوائد، والقيم، والتحالفات، والعقود، وملحمة تكوين المجموعة، وقوانين الأسر، والرأسمال الرمزي، والتراث الأدبي، والمعماري والديني...
« فمولود، لذلك، ورث من والده سالم تلك الدرجة الراقية من الثقافة المندمجة بشكل متكامل وذات السلطة القوية على الإدماج؛ بالرغم من كونها كانت ولا تزال شفهية.» انتهى الاقتباس.
للحقيقة، وللنزاهة أيضا، فأنا لم أعرف مولود معمري معرفة شخصية. فيوم كان هو رئيسا لاتحاد الكتاب الجزائريين في 1965، كنت أنا ما زلت طفلا. ومن ثمة فإني لا أستطيع أن أقدم عنه، بتلك الصفة، أي تقييم؛ اللهم إلا ما يمكن أن أعتقده عنه من خلال ما كُتب عنه. وهذا أمر آخر.
لكن الذي أستطيع أن أذكره هو أني عرفت مولود معمري في الجامعة من خلال زاويتين اثنتين:
الأولى، قراءتي لبعض أعماله؛ ستكون "الربوة المنسية" و"الأفيون والعصا"، المحول سينمائيا، من أهمها.
الثانية، الجدل الأيديولوجي الكبير حوله بيننا، كطلبة منقسمين إلى معربين "عروبيين" و"معربين يساريين" وإلى "مفرنسين يساريين" و"مفرنسين بربريست". أما الطلبة "الإسلاميون" فكانوا يعدون العدة للسيطرة على الجامعة.
إن كنا نحن في اليسار، معربين ومفرنسين، ندافع عن بعض طروحات مولود معمري الثقافية فإنما ردا على تطرف العروبيين تجاه الهوية واللغة وحتى العرقية؛ لأن المفرنسين البربريست كانوا على درجة العروبيين نفسها تطرفا تجاه الهوية واللغة والعرقية أيضا.
ذلك، لأن مولود معمري، بالنسبة إلي، شخصيا، في تلك المرحلة (نهاية السبعينيات) كان تنازل عن صفة الأديب لصالح صفة المثقف صاحب القضية: قضية كان من الصعب تقاسم طروحاتها؛ لارتكازها على العامل الإتنولوجي؛ مع ما كان لهذا الاختصاص من دور مشبوه في مراكز البحث الإتنولوجية والأنتروبولوجية الاستعمارية. ثم إن رنين هذا الاختصاص كان ولا يزال ذا وقع سلبي لاتخاذه ذريعة من ذرائع تقسيم الوجدان الجزائري على أساس العرق أو اللغة أو هما معا.
وعلى بعد المسافة، الآن، أقدّر أن تحول مولود معمري إلى النضال بواسطة البحث في علامات الجذور والهوية واللغة لم يكن، أيضا، غير ردة فعل صافية وصلبة، كما يقال، على الطروحات العروبية التي كانت تجد لها مبتدأ ومنتهى في شعبوية الخطاب السياسي الأحادي المغفل للخصوصية الجزائرية، التي كانت تفرض مقاربات سياسية أخرى في مجال الثقافة واللغة.
ولم تكن، وقتها، مسألة خروج مولود معمري من الجزائر في خلال حرب التحرير ولا صمته حينها، ولا أدبه وأبحاثه (رواية وقصة ومسرحا وترجمة ومؤلفات لغوية)، محل نقاش مثلما كانت عليه مواقفه السياسية تجاه القضية البربرية.
إنه يمكن لي أن أقول إنه كان مَسيحَ الربيع البربري في 1980.
أذكر أني كنت طرحت على مولود معمري، في إحدى محاضراته، بمركز البحث الأنتربولوجي التابع لجامعة وهران، في بداية الثمانينيات، مسألتين:
الأولى: كون اللغة الأمازيغية، لشفاهيتها، غير قادرة على التجريد لتستوعب الفلسفة والرياضيات مثلا.
والثانية: كون خط التفناغ أو الخط اللاتيتني لا يستجيبان لرسم الأمازيغية في الجزائر؛ لأن صوتياتها تتجسد أكثر مع الخط العربي (وذلك ما كان ستبرهن عنه جريدة Alger-républicain إذ خصصت صفحتين بالأمازيغية بالخط العربي).
أجاب عن الأولى بأنها تتطلب وقتا وبأن التأسيس لقواعدها جار. وعن الثانية بأن الخط اللاتيني عالمي.
الآن، لا أجزم إن كان أعطى مثالا بتجربة كمال أتاترك.
ومهما يكن، فإن مولود معمري يبقى من أكبر الكتاب الذين حملوا الجزائر في قلوبهم بفكرهم وإبداعهم.
إنه رأس على ربوة لا تنسى.
« مثل مولود، ولدت كما قضيت طفولتي ومراهقتي في تاوريرت ـ ميمون، إحدى القرى السبع التي يتكون منها دوار بني يني في القبائل. لذلك، وبالمناسبة، أحببت أن أثير بعض التذكارات في بعدها الإثنوغرافي، الأنثروبولوجي والتاريخي.
« كان مولود ينتمي إلى عائلة ميسورة، ذات شهرة، ليس في القرية فحسب، ولكن في الدُّوار كله وفي ما أبعد منه.
« حسب التقسيمات الجارية في القرى، فإن آل معمري كانوا ينتسبون إلى عِلّية القوم: آث ـ أوفللا. فدراهم ذات البياض الناصع كانت رؤيتها ممكنة من جميع القرى المجاورة؛ لأنها كانت تتربع على رأس الربوة، التي تعلق بها بقية مساكن تاوريرت ـ ميمون، حسب تراتبية متوارثة متماشية مع تاريخ كل عائلة ومكانتها ...
« في السنوات 1945 ـ 1952، كان مولود المثقف المتألق متأنقا، محبوبا ومسموعا له في القرية. كان له حظ أن يدرس في باريس ـ ليسانس في الآداب الكلاسيكية ـ وأن يقيم في المغرب عند عمه الوناس، المؤدب ثم رئيس التشريفات لدى السلطان محمد الخامس.
« الشبان مثلي، كانوا يتابعون مولود بأنظارهم معجبين بقميصه وسرواله وبرنوسه من الحرير الدقيق المذهب؛ كنا نستمع له بشغف حين يتجاذب الحديث مع أصدقائه أو يمازحهم إذ يجتمعون في المساء وخلال الليل على ضوء القمر في الساحة التي كانت تسمى ثانساوث وهي التي كان لاحقا أثار غناها الشعري ووظيفتها الاجتماعية الثقافية في روايته: "الربوة المنسية".
« إلى 1962، فإن الدُّوار لم يعرف شُرْطة ولا دركا ولا عدالة ولا مؤدبا. فإدارة ما كان يسمى البلديات المختلطة ظلت بعيدة ولم تكن تعني القرى المزروعة في الجبال. وكان الأمين يستقي شرعيته من تَذَهُّنه المحكَم للعوائد، والقيم، والتحالفات، والعقود، وملحمة تكوين المجموعة، وقوانين الأسر، والرأسمال الرمزي، والتراث الأدبي، والمعماري والديني...
« فمولود، لذلك، ورث من والده سالم تلك الدرجة الراقية من الثقافة المندمجة بشكل متكامل وذات السلطة القوية على الإدماج؛ بالرغم من كونها كانت ولا تزال شفهية.» انتهى الاقتباس.
للحقيقة، وللنزاهة أيضا، فأنا لم أعرف مولود معمري معرفة شخصية. فيوم كان هو رئيسا لاتحاد الكتاب الجزائريين في 1965، كنت أنا ما زلت طفلا. ومن ثمة فإني لا أستطيع أن أقدم عنه، بتلك الصفة، أي تقييم؛ اللهم إلا ما يمكن أن أعتقده عنه من خلال ما كُتب عنه. وهذا أمر آخر.
لكن الذي أستطيع أن أذكره هو أني عرفت مولود معمري في الجامعة من خلال زاويتين اثنتين:
الأولى، قراءتي لبعض أعماله؛ ستكون "الربوة المنسية" و"الأفيون والعصا"، المحول سينمائيا، من أهمها.
الثانية، الجدل الأيديولوجي الكبير حوله بيننا، كطلبة منقسمين إلى معربين "عروبيين" و"معربين يساريين" وإلى "مفرنسين يساريين" و"مفرنسين بربريست". أما الطلبة "الإسلاميون" فكانوا يعدون العدة للسيطرة على الجامعة.
إن كنا نحن في اليسار، معربين ومفرنسين، ندافع عن بعض طروحات مولود معمري الثقافية فإنما ردا على تطرف العروبيين تجاه الهوية واللغة وحتى العرقية؛ لأن المفرنسين البربريست كانوا على درجة العروبيين نفسها تطرفا تجاه الهوية واللغة والعرقية أيضا.
ذلك، لأن مولود معمري، بالنسبة إلي، شخصيا، في تلك المرحلة (نهاية السبعينيات) كان تنازل عن صفة الأديب لصالح صفة المثقف صاحب القضية: قضية كان من الصعب تقاسم طروحاتها؛ لارتكازها على العامل الإتنولوجي؛ مع ما كان لهذا الاختصاص من دور مشبوه في مراكز البحث الإتنولوجية والأنتروبولوجية الاستعمارية. ثم إن رنين هذا الاختصاص كان ولا يزال ذا وقع سلبي لاتخاذه ذريعة من ذرائع تقسيم الوجدان الجزائري على أساس العرق أو اللغة أو هما معا.
وعلى بعد المسافة، الآن، أقدّر أن تحول مولود معمري إلى النضال بواسطة البحث في علامات الجذور والهوية واللغة لم يكن، أيضا، غير ردة فعل صافية وصلبة، كما يقال، على الطروحات العروبية التي كانت تجد لها مبتدأ ومنتهى في شعبوية الخطاب السياسي الأحادي المغفل للخصوصية الجزائرية، التي كانت تفرض مقاربات سياسية أخرى في مجال الثقافة واللغة.
ولم تكن، وقتها، مسألة خروج مولود معمري من الجزائر في خلال حرب التحرير ولا صمته حينها، ولا أدبه وأبحاثه (رواية وقصة ومسرحا وترجمة ومؤلفات لغوية)، محل نقاش مثلما كانت عليه مواقفه السياسية تجاه القضية البربرية.
إنه يمكن لي أن أقول إنه كان مَسيحَ الربيع البربري في 1980.
أذكر أني كنت طرحت على مولود معمري، في إحدى محاضراته، بمركز البحث الأنتربولوجي التابع لجامعة وهران، في بداية الثمانينيات، مسألتين:
الأولى: كون اللغة الأمازيغية، لشفاهيتها، غير قادرة على التجريد لتستوعب الفلسفة والرياضيات مثلا.
والثانية: كون خط التفناغ أو الخط اللاتيتني لا يستجيبان لرسم الأمازيغية في الجزائر؛ لأن صوتياتها تتجسد أكثر مع الخط العربي (وذلك ما كان ستبرهن عنه جريدة Alger-républicain إذ خصصت صفحتين بالأمازيغية بالخط العربي).
أجاب عن الأولى بأنها تتطلب وقتا وبأن التأسيس لقواعدها جار. وعن الثانية بأن الخط اللاتيني عالمي.
الآن، لا أجزم إن كان أعطى مثالا بتجربة كمال أتاترك.
ومهما يكن، فإن مولود معمري يبقى من أكبر الكتاب الذين حملوا الجزائر في قلوبهم بفكرهم وإبداعهم.
إنه رأس على ربوة لا تنسى.