“في أقبية المنسيين .. لا صوتَ هناك، وما في الليلِ سوى الحزن .. نامَ السجناءُ ونامَ أخوك، ولكنّي .. أرِقٌ أتأملُ أغلالي .. وأصارعُ أبسطَ آمالي .. وأفكرُ فيكِ، وبما أصنعُ بعد سنينْ .. إذ أخلعُ اثوابَ السجنِ ..”
محمود البريكان
قصيدة “أغنية حب من معقل المنسيين”
(1) أغنية حبّ من معقل المنسيين
اختار الشاعر الكبير الراحل “محمود البريكان” مدخلا متفردا لتناول موضوعة أدب السجون شعريا، وذلك في قصيدته “أغنية حب من معقل المنسيين” التي يكشف عنوانها طبيعة هذا المقترب الذي يطلق فيه الشاعر- والقصيدة مثل أغلب قصائد البريكان نظمت بصوت أنا المتكلم- نداء عاطفيا شفيفا من الزنزانة، نداء يطلقه السجين إلى موضوع حب لم يره ولم يلتق به هي الفتاة “سلوى” التي شاهد “شبحها” يخطف سريعا أمام ناظريه من خلال حديث أخيها، شريكه في الزنزانة، عنها؛ عن نبلها وروحها المرحة:
“يا سلوى لم نلتق قبلُ ولم أرَ منكِ سوى شبحكْ وحكايا تُروى عن نبلكْ.. عن مرحكْ لم نلتق قطُّ ولكنّي.. أُصغي لأخيكِ ، صديقي وأخي في سجني… وقسيمي ليلَ الزنزانة..”
صورة سلوى الأنثوية الباهرة تنرسم على صفحة خيالات الشاعر من خلال “كلمات” شقيقها السجين رفيقه في الزنزانة. وعملية التخيّل هذه هي من دفاعات السجين المؤصلة التي تعينه على البقاء، فعدو السجين الأول هو النسيان، ضعف الذاكرة وشحوب موضوعات الحب فيها، خصوصا الأم- الأخت بديلة الأم- والزوجة- أو الحبيبة- يجعل السجين عرضة للتحول إلى الذاكرة الطفلية الآلية التي “تعرض” عليها الصور والحوادث في بيئة الزنزانة الرتيبة الخانقة والتي تتسم بالحرمان الحسي- sensory deprivation، تعرض ولا تسجل، فالإنسان حيوان ذو ذاكرة، والفأرة تصاد كل مرة بقطعة الجبن نفسها لأنها لا “تتذكر” أنها قطعة الجبن الفخ!! وعليه فإن “التذكّر” هو من فنون القاء في السجن. وفي العادة يكون محور الذكريات تلك التي تمثل الحضن الأمومي وعطاياه الطفلية من جانب، والتي تحمل الرمزيات الحبية والجنسية التي يستتر بها من جاني آخر. لقد كان رفيق الزنزانة “يؤمثل” أخته، يرتفع بها أنموذجا مثاليا مبتدءا بعاداتها اليومية البسيطة وهواياتها وسمات شخصيتها الآسرة:
“يحكي لي عنك كألطف ألطف إنسانة.. وكأجمل روح مبتسمة.. عن ضحكتكِ وهي ترنّ صباحَ مساءْ .. حبّكِ للرسمِ وللتفصيلِ وللأزياءْ .. ومقصّك والصحفِ البيضاءْ … وثيابِك ذاتِ الألوانِ المنسجمة.. ”
ويبدو أن حديث الشقيق عن شقيقته كان تفصيليا، ومكررا، وذلك بفعل ضغوط السجن التي تجعل سلوك المعتقل وفعل ذاكرته نمطيا ومقولبا – stereotypy، والغوص في التفاصيل الدقيقة وتكرارها شائع في حياة السجناء الذين يبرعون في المنمنمات والحلي والنقش وغيرها. وفي بيئة مغلقة تكون الاستعادة دقيقة وكأن من يتذكر يخشى أن تهرب من أصابع ذاكرته تفصيلات صورة موضوع الحب فتنثلم تلك الصورة. صار الشاعر يعرف حتى محتويات درج سلوى وما تفضله من أغان وكتب وقصائد.. وحتى المفردات التي تستخدمها حين تكون غاضبة:
“أعرفُ حتّى ما في دُرجِك من أشياءْ … أعرفُ حتّى ما كنتِ قرأتِ من الكتبِ .. حتى كلماتكِ عندَ اللّومِ وعندَ الغضبِ .. حتى بعضَ أغانٍ أُعجبتِ بها جدّا … وقصائدَ مفعمةٍ وردا .. “.
لقد تحولت “مفردات” الأخ السجين وهو يصف “ذكرى” شخص أخته سلوى إلى “صورة” ذكرى في ذهن السجين الشاعر بدوره.. أي أنه لم يستطع “رسم” المظاهر الشخصية العضوية الملموسة.. وهي صعبة جدا على السجين حين تشحب الصور في ذاكرته وتضمر.. لذلك نجد إحتفاء الشاعر يتركز على الصفات المعنوية لهذه المرأة.. وهي مفاهيم يمكن أن تحتويها اللغة.. ويستطيع حتى الأعمى “وصفها”.. فهي حلم في ليل الصمت الكئيب.. وسرّ يعتلج في الصدر المختنق.. وخيال نوري .. وحبا لا يُعقل.. وشعرا لا يُتسى!! وكلها مفاهيم، وليست محسوسات مؤسسة يجب تصويرها:
“يا سلوى .. يا حُلُما في الصمتِ المكتئب .. يا سرّاً في صدري، وخيالاً نوريّا .. يتوهّجُ في أقصى التعبِ .. يا حبّاً لا يُعقلُ .. يا شعراً لا يُنسى.. “.
وحتى حين يصف أنثاه/ أنموذجه بأنها “زنبقة” فهو يستدعي خصائص تلك الزهرة وصفاتها ولا يستعيد “الحضور” الحي لها. إن عطرها يضوع في فضاء “خياله” في الواقع.. خياله الذي يحاول عبثا توسيع فضاء الزنزانة. ورغم أن الشاعر، وعبر لعبه المقتدر بالكلمات، يحاول أن يوهمنا بأنه بات “يرى” سلوى إلا أنه محض حفزة شعرية، تصوير شعري، يعود بعده سريعا ليصطدم بحاجز الخيبة، وجدران الإحباط، فيقر أنها مجرد شبح يصعب تصويره:
“يا زنبقةً تتفتحُ في الليل الأقسى .. وتضوعُ وتنمو في صمتي .. يا مُرقصةً في الحزنِ رؤاي كأسطورة .. يا شبحا تنقصُه الصورة.. “.
لقد قام السجين الشاعر، المستمع لسرد الأخ المعتقل عن صفات أخته الرائعة، بخطوة أجرأ وأبعد ولكنها متوقعة- قد تكون أفلتت من انتباهة القارىء الذي طفت بحاسته النقدية موجة التعاطف- وهي أنه جعل سلوى “حبا” له بقرار من جانبه وحده، وعلى مسؤولية حاسة السمع فقط التي وفرّت له مادة لإشادة “صورة” موضوع حبه المنتظر:
“أقسمُ لو لاقيتك يوماً في أيّ مكانْ … لعرفتك، لو صافحتك بعد مضيّ زمانْ .. لبكتْ أعماقي مِن فرحِ .. أتصورُها خصلاتِك تطفرُ في مرحِ .. أتصوّرُ وجهَك، صوتَك، لون العينين … وكمونَ البسمةِ في الشفتين… “.
مستميت هو الشاعر في مقاومة “عمى” الذاكرة وهو في ظلمة الزنزانة.. يحاول تلمس الملامح بأصابع موهبته الشعرية. لقد أوهمنا من جديد بأنه يعرف ملامحها التفصيلية، وجهها وصوتها ولون عينيها.. لكنها، من جديد أيضا، فورة شاعر معتقل يرتد ليسلّم بعجزه عن “رسم” اللوحة العملية لشبح أنثاه المحبوبة “أتصور.. لا يمكنني تصوير الشبحِ”، وفي الغالب يكون الحضور الأنثوي ذو طبيعة أمومية حتى لو كان متمظهرا في هيئة أنثى معشوقة مثل شبح سلوى. فالأم – في لاشعور الإبن- هي الإله المنقذ وليس الآلهة الذكور بدءا من دوموزي. ولهذا فلا مناص من أن يكون الإطار النهائي الذي يحدده السجين لسلوى هو الدور الأمومي المنقذ الباذخ. فهو في رحم إلتهامي الآن، ولا هناءة مخلّصة إلا في فردوس الرحم العظيم المفقود:
“أتصوّرُ.. لا يمكنني تجسيد الشبحِ .. أتصوّرُ إخوتَك الأطفالَ ، وأيّ حنان .. تضفين على البيت العاري… وأفكر.. ما أروعها في غدها أمّا!!”.
وحين ندقق في الإيحاءات الدلالية للمقطع السابق فسنجدها تعشّق بذكاء استشراف إقتدار سلوى في دورها المستقبلي كأم مع تمنيات السجين العاشق أن ينعم بهذا الدور في بيته “العاري”.. هذا “العري” الذي يجد تجسيده العملي في “صمت” الزنزانة المميت والحزن الثقيل الذي خيم على روح الشاعر اللائبة بعد أن نام الجميع، وخصوصا شقيق سلوى الذي كان يغذي خيالاته بأحاديثه التفصيلية المتحمسة عنها. هذا العري يعكس أيضا عري الإرادة، وعري الذاكرة في الوقت نفسه، عري مركب يحاصر السجين الشاعر و”ينزله” من غيمة التحليق الشعري الرخية التي حاولت عبثا حمله على أجنحتها الحلمية إلى أرضية الزنزانة الصلبة القاسية. هنا ستكون تصوراته وحساباته المستقبلية “عملية” مسننة وصادمة، لا شعرية ناهمة ومخدرة. راحت سكرة القصيدة وجاءت فكرة محنة غيابة الجب المظلم. فلا شيء يستطيع السجين أن يتحكم به حتى لو كان شاعرا.. وكل مقدراته مفتوحة على الحيرة والتساؤلات الفاجعة.. بإمكانه أن “يُحب عن بعد” ويحلق مع موضوع حبه المتخيّل لكنه لن يستطيع أبداً أن “يتحكم عن بعد” بمصائر ما يحب ولا بسلوكها وتغيراتها المستقبلية مادام هو نفسه غير قادر على ان يرسم خطوط مصيره الشخصي:
“في أقبية المنسيين .. لا صوتَ هناك، وما في الليلِ سوى الحزن .. نامَ السجناءُ ونامَ أخوك، ولكنّي .. أرِقٌ أتأملُ أغلالي .. وأصارعُ أبسطَ آمالي .. وأفكرُ فيكِ، وبما أصنعُ بعد سنينْ .. إذ أخلعُ اثوابَ السجنِ .. أأحبّك جدّاً أم لهوا؟ .. ثم أتبقينَ كما أهوى .. وكما أتصور يا سلوى؟”
يبدو أن كل سجين بحاجة إلى “سلوى” معينة يشغل بها آمال روحه المطحونة.. و”سلوى” البريكان السجين لا تخرج عن هذا الإطار..
القصيدة :
______
(أغنية حب من معقل المنسيين)
يا سلوى
لم نلتقِ قبلُ، ولم أرَ مِنكِ سوى شبحك
وحكايا تروى لي عن نبلك عن مرحِك
لم نلتقِ قَطُّ، ولكنّي
أُصغي لأخيكِ، صديقي وأخي في سجني
وقسيمي ليل الزنزانة
يحكي لي عنك كألطفِ ألطفِ إنسانة
وكأجملِ روحٍ مبتسمة ..
عن ضحكاتِكِ وهي ترنُّ صباحَ مساء
حبّكِ للرسمِ وللتفصيلِ وللأزياء
ومقصك والصحف البيضاء
وثيابك ذات الألوان المنسجمة!
أعرفُ حتى ما في درجك من أشياء!
أعرف حتى ما كنتِ قرأتِ من الكتبِ
حتى كلماتك عند اللوم أو الغضبِ!
حتى بعضَ أغانٍ أعجبتِ بها جداً
وقصائدَ مفعمةً ورداً .. !
يا سلوى،
يا حُلُماً في الصمت المكتئبِ
يا سرّاً في صدري، وخيالاً نورياً
يتوهجُ في أقصى التعبِ!
يا حبّاً لا يعقلُ، يا شعراً لا يُنسى!
يا زنبقة تتفتح في الليل الأقسى
وتضوع وتنمو في صمتي
يا مرقّصة في الحزن رؤاي كأسطورة
يا شبحاً تنقصه الصورة!
أقسم لو لاقيتك يوماً في أي مكان
لعرفتك! لو صافحتك بعد مضي زمان
لبكت أعماقي من فرح!
أتصورها خصلاتك تطفر في مرح
أتصور وجهك! صوتك! لون العينين
وكمونُ البسمةِ في الشفتين
أتصور .. لا يمكنني تجسيد الشبح!
أتصور أخوتك الأطفال، وأي حنان
تضفين على البيت العاري
وأفكّر: ما أروعها في غدها أماً ..!
* * *
في أقبية المنسيين
لا صوت هناك. وما في الليل سوى الحزن!
نام السجناء ونام أخوك. ولكني
أرقٌ، أتأملُ أغلالي
وأصارع أبعد آمالي،
وأفكر فيك .. وفيما أصنع بعد سنين
إذ أنزع أثواب السجن
أأحبك جداً أم لهوا ..؟
ثم، أتبقين كما أهوى
وكما أتصور، يا سلوى!؟
(2) هواجس في الطريق إلى العالم السفلي
في قصيدة (هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة) يُجهض (محمود البريكان) بعنوان النصّ الدهشةَ التي يمكن أن يؤمّنها المتن، وهذا دليل آخر على خطل وخطأ أطروحة (العنوان ثريا النص)، فما نراه هو أنه كلما كان العنوان كاشفا لمكنونات المتن النصي كلما كان مصدر إفساد لمتعة النص. وبخلاف ما تقرّه الحداثة من علاقة مركبة بين العنوان والمضامين النصية فإن هذه الأطروحة البنيوية التي هللنا لها منبهرين كالعادة تأتي لتعيدنا إلى اشتراطات الأدب الكلاسيكسة الفجّة. يُقال أن أحد الأفلام السينمائية الأمريكية الأولى حمل أطول عنوان عن بطل يسافر من الولايات المتحدة إلى الصين بحثا عن حبيبته … إلخ، وكأن المخرج يريد عرض الفيلم لغويا من خلال العنوان!!. وعنوان قصيدة البريكان يؤشر أمام بصر المتلقي – وليس أمام بصيرته النقدية – الركائز الأساسية التي سيراها في متن القصيدة : هناك هواجس وخواطر وأفكار تدور في خَلَد فردٍ هو هنا “عيسى بن أزرق” الذي يُنقل كسجين لتنفيذ حكم بالأشغال الشاقة. كان من الممكن أن يكون وقع الإستهلال أكثر عمقا وفعلا في نفس المتلقي لو تمت صياغة عنوان القصيدة بصورة أخرى لا تكشف الثيمة المركزية لها:
“يصطخب القطارُ في طريقه الطويلْ ..
في نفقِ الظلمة نحو مطلع النهارْ
وددتُ لو يموتُ عنّا ذلك النهارْ
وددتُ لو ينحرفُ القطارْ
عن دربه المشؤوم
آهٍ .. أيّها الجنون ..”.
فالهواجس المريرة التي ترتطم في ذهن عيسى قد تخافت لهيبها لأنّنا صرنا نعرف العلة الكامنة وراءها، ومن الطبيعي أن تلوب تلك الأفكار في ذهن سجين وهو يُنقل بالقطار إلى موضع جحيمي سيُنفذ فيه حكم بالأشغال الشاقة. لكنها هواجس وتمنيات جنونية، يبغي السجين منها أن لا يتحقق وصول القطار إلى موضع الجحيم، حتى لو كان فيها أذاه الشخصي (أن ينحرف القطار)، أو أنها مستحيلة بإطلاق (أن يموت النهار). هذا حال الإنسان المُحاصَر الذي لا يتورع عن أن ينتخي بأكثر الرغبات طفلية لحلّ محنته. ومن هنا تتجلى براعة البريكان التي تضعف ما قلناه حيث يستطيع الشاعر المقتدر أن يوظّف ما هو أعمق من المعضلة الشكلية. لقد استهل الشاعر- وعلى لسان السجين لأن أغلب قصائد البريكان تطرح بضمير الأنا – القصيدة بحوار داخلي للسجين يتمنى فيه الخلاص من خلال عدم وصول القطار إلى المعتقل، لكنه – أي الشاعر ينتقل إلى الخارج .. إلى عربة القطار حيث يصوّر عالما مناقضا لصخب الداخل، عالم ساكن رتيب تحوم فيه الأحلام البليدة :
“يهوّم الأطفالُ في تراقصِ الظلالْ
وتغرق النسوةُ في سكون، والرجالْ
يغفون في غير مبالاةٍ ، ويحلمون
حلمهمُ المألوف ..”.
لكن هناك “خارج” آخر، خارج يوازي العالم الخارجي الساكن، لكنه مزحوم بهياج الإحباط والإنذلال والكآبة القاتمة. السجين ينظر بسخط إلى العالم المحيط به حيث تبلّد مشاعر الرجال والنسوة والأطفال في جوٍّ كامد.. وهو الجوّ نفسه الذي يظهر للراصد الذي ينظر إليه من الخارج كالحارسين المُكلّفَين بحراسته.. لكن لا أحد يدرك ثقل صخرة الألم التي تجثم على قلبه :
“فوقَ الخشب الباردْ
والمعدن الصليب أطوي جسدي الراعدْ
يداي تجمدانِ في الكبل وتبكيان
والحارسان لا يكفّان يحدقان
في وجهيَ العليلْ
لا أعرفُ الشكوى ولا يدهشني العدم
لكنْ على قلبي تدوسُ صخرةُ الألم
ويهبطُ العالمُ باكتئابه الثقيلْ ..”.
يعود الشاعر إلى إلتقاط تفصيلات حركة الخارج من جديد ويصمم “ديالوجا” متناوبا بين عالم الذات الداخلي المُمزَق وعالم الآخرين الراكد، هؤلاء الغارقون في لجّة المعناة اليومية المنهكة.. لجّة البقاء الحيواني التي تجعلهم ينزوون في ظل صفرة الحياة :
“يخفي المسافرونْ
وجوههم في صفرة الظل ويحلمونْ
بالغدِ … الرجالُ مُتعبون يحلمون
بالبيعِ والشراء والفاقة والثراء
والأهلِ والبنين والوداع واللقاء
وضحكةِ المستقبلين آخر الطريق ..”.
ومن الخارج المستكين المُهان إلى الهواجس الشخصية التي لا يمكن لأحد أن يتعرّفها.. عالمه مغلق، ساكن أيضا كما يلوح من الخارج .. هو صامت أيضا، نقل بصره من عتمة صمت الآخرين إلى الخارج.. عبر نافذة العربة إلى ظلام الخارج وحركة الموجودات في البراري حيث لا يستفز مشاعره شىء مما يجري من رياح وزوابع وزعيق صافرة القطار فهو ممتص نحو ظلمة مركز فاجعته :
“ولحظةً فلحظةً يخنقني صمتي
وساعةً فساعة أنظر في احتضارْ
أنظرُ من نافذة القطارْ
إلى البراري واشتباك الليل والقفارْ
وغامض النجوم والزوابع الدكناءْ
تُسقى من الرمال، أصغي بلا رغبةٍ
إلى صدى الرياح أو سهمٍ من الصياح
يطلقه القطار في سكينة الخواءْ ..”.
إنه في مرحلة الإنكار- denial ولم يستوعب لطمة الخلع الهائلة من فضاء الحرية الشاسع إلى عزلة المُعتقل الخانقة. ولهذا يُسقط ربكة ظلمة أشباح وتساؤلات الداخل إلى الخارج.. إلى الظلمة المديدة :
“وساعةً فساعةً أنظر في وجومْ
إلى البراري والمحطات، أفي سباتْ!!
أنا؟ أمن عالمي انتُزعتُ؟ ما أزالْ
أراقب الأشباح.. أشخاصا يلوّحون
يعدون يضحكون يصعدون ينزلون
كأنهم ليسوا سوى حشدٍ من الظِلالْ
في حُلمٍ غريب.. “.
وفي كل هذا “التمهيد” المشهدي هناك روح درامية.. حركية.. متصارعة هي من ميزات البريكان الأسلوبية الراسخة.. نصوص البريكان مزحومة بالصراع.. وبالإنتقالات التي ترصدها “العين السينمائية” التي هي من تحولات النهج الحداثي في الشعر وليس “العين الفوتوغرافية” التي كانت تسم النهج الكلاسيكي بدرجة كبيرة. تتنقل هذه العين في قصيدة البريكان هذه من صخب الداخل إلى إيقاع حركة الخارج رغم بطئه المُمل فإلى الفضاء الكوني المظلم الشاسع حيث أشباح الخيبة المراودة لغيلان الداخل كي تنطلق فتزحم الفضاء الخاوي عبر نافذة عربة القطار. يجمع الشاعر العوالم الثلاثة : الداخل المُرتبك، الخارج المُحدد بفضاء العربة الخانق يمثله الآن الحارسان، والخارج الفضاء الظلامي السديمي حيث انتعشت مَرَدَة الشك في المصير الشخصي، هذا الشك الذي يبزغ من تحت رماد اليقين اللاشعوري المخادع بالحصانة الوجودية وعدم الفناء، كلما وُضع الفرد في موقفٍ يحسّ فيه بهشاشة وجوده وأنه غير عصي على الفناء.. أن هناك قوة قاهرة تستطيع تحطيمه.. ومسخ إرادته وسلب حريته.. هنا تتصاعد التساؤلات حول جدوى الحياة، وحول المعضلة الأزلية : سؤال لعبة الحياة والموت :
“الحارسانِ مازالا يدخنان
ويلفظان كلمةً ثم يعاودان
صمتهما الكئيبْ
وجهي إلى القفار
أنظرُ في البعيد
أنظر مشدودا إلى الموتِ إلى الحياة
محترقاً وحالماً بالموتِ والحياة ..”.
وفي هذه اللحظة – وكما هو الحال في القصيدة السابقة : “أغنية حب من معقل المنسيين ” – التي يشعر فيها الإنسان بأنه سوف يُلقى في ما يكافىء جُبّ العالم الأسفل – حسب اسطورة الإله القتيل التي هي مقلوب “أسطورة” الإنقاذ الأمومي للولد – يكون بأمس الحاجة لحضور “المُنقذ” الأصيل الذي لا يمكن أن يُعوّض مهما كانت محاولات التلاعب “الأسطورية” الذكورية، الأنثى/ الأم /الحبيبة :
“كنت أغنيكِ إذا اشتقتُ إلى الغناء
وأذخر الحنين للربيع والشتاء
كنت أمنّي الحب بالزواج، والسهاد
ما كان يشجيني، بلى، والليل إذ يطول
كنت أحسّ في مداه فرحَ الحياة
وكنتُ في كلّ مساءٍ أشهدُ الزهور ..”.
وحين تحضر ذكرى المنقذ/ الأنثى المخلّصة تحضر معها ذكريات وصور “مشتقاتها” ؛ المشتقات المُنعمة التي هي تجسّدات تأخذ معانيها الرمزية من قيمة الجسد الأنثوي.. مشتقات لها صلة بالخصب والنماء والحياة. ويبدو أن هذا الاستحضار الشعري/ الحُلمي يعيد التوازن إلى كفتي المعادلة التي اختلت بفعل شعور الإنسان بأنه هشّ ومن الممكن أن يُحطم على يد أخيه الإنسان في الحياة وليس على يدي الله عند الموت. يبغي السجين استعادة كل ما يُثبت أنه من الممكن أن “يدوم” ويبقى بل يتجدد.. هذا ما يعكسه أصلا النشاط الأنثوي الأمومي.. وهو المُرادف لنشاط الطبيعة الخالق والذي لا يكتسب قيمته الجمالية، بل حتى تأثيرات دورتها المادية في النفس البشرية، من دون عصا الشعر السحريّة. السجين المُكبل يتذكر – وهو يشعر بفنائه القريب حتى لو كان مؤجّلا – كيف أنه كان يريد زراعة الزهور في حديقته :
“في المعرض الجميل كمْ وقفتُ للزهور
في ذلك الطريق كمْ سعدتُ بالعبور
مفكرا في بيتنا : سأغرسُ الزهور
في كلّ صوبٍ منه بل سأشتري زهورْ
أغرسها حديقة صغيرة، تحوم
من حولها الطيور ..”.
لقد تحطّم الحُلم الروانسي على صخرة الإعتقال والحكم الظالم.. ضاع الحب الملتهب وخُطط الإرتباط النهائي.. لكن السجين الذي سيُلقى في غيابة جُب السجن إلى الأبد وسيفقد حريته وقد يموت في السجن، يقدّم وصيّته لحبيبته الغائبة بروح رائعة من الإيثار، فيدعوها إلى أن لا تعطل حياتها، ولا تتوقف عن الوظائف المرسومة للإنسان الحرّ، أن تسعد وتتزوج، وهو يريد معرفة حتى أسماء أولادها :
“تسعدين
بعدي ولا تنكرك المرآةُ.. الحياةُ
حظك والشباب، حاذري السنين
وابتسمي للشمس.. إنّ الأفقَ الحزين
يُنكره الصباحُ ، وانسيْ ما ستذكرين
أحبّ أن أعرف ما (وتسمحين)
أسماء أطفالك.. لن أضعفَ.. الحياة
خلفي.. وليس بعدُ إلا منظرُ الصخور ..”.
مادامت ستبقى هي في العالم الأعلى فإنّ عليها أن تكون جزءا من حركة الحياة المنطلقة التي لا تنتظر أحدا، وهو سيلقى في جحيم العالم الأسفل حيث القيود والسياط والإذلال، وحيث لا منفذ للخلاص إلا من بابٍ يفضي للقبر. والأشد فظاعة من الناحية النفسية هو أن الزمان سيفقد أي معنى له.. فقيمة الزمان، ساعاته وشهوره وسنواته، هي بمحتواها من الحضور الإنساني.. وفي السجن/ العالم الأسفل المصنّع حيث الرتابة يصبح الزمان راكدا بل ميْتا مادام الإنسان راكدا ومتبلدا ومحاصَرا وفي حالة من الموت المُعلّق أو المؤجل :
“ستنطوي السنون ثم تنطوي السنون
ويُطبع التقويم مرّاتٍ بلا حساب
ويكبر الصغارُ والشيوخ يهلكون
وتُهدم الدور التي تهرمُ والأشجار
تسقط والشوارع الحمراء تستطيل ..”.
ويرتبط معنى الزمان عادة بانفتاح المكان، فهو يتوقف ويصبح صفرا في المعاني النفسية حين ينغلق المكان.. لا زمان لدى من يعيش في الكهوف والغابات .. والزمان يقف خارج جدران الزنزانة.. ينغلق المكان وتتحدّد حركة الإنسان فيوقف زمانه الشخصي الذي هو مقدار حركته وتشابك علاقاته في المكان. وأهم ما سيحصل هنا أيضا هو الإنفصال المدمر عن الأم. ستطرق الأم المفجوعة أبواب هذا العالم الأسفل فلا يستجيب لها أحد ولا يصل نداؤها إلى ابنها الممزق الروح.. كانت عشتار جسورة في النزول لإنقاذ الإله الإبن.. فاحتُجزت هناك.. لكن سجوننا المعاصرة أفظع حتى من العالم السفلي القديم.. لا أحد ينزل ولا أحد يصعد”
“.. وأمّي ربّما تكون
عمياءَ (ياويحي فدى عينيك إذلالي)
وثقلُ أغلالي
للسجن ما ولدتِ .. هل يسعدكِ الأولاد؟
لو كنت تدرينَ بما قُدر من حِداد
لكلّ أمّ تلدُ الإصرارَ
تذكرينَ أني عصيّ الدمع
إني صامتُ العيون ..”.
وتبدو الربكة والتناقض صارخة في القصيدة.. في بنائها وفي تنقلات “هواجس” السجين من إقبال وإدبار وتضاد.. وفي ما يعلنه في موضع لينقضه في موضع آخر. فهو يعلن أمام ذكرى أمّه أنه صَلب الإرادة حديديّها، عصيّ الدمع وصامت العيون، فهو مولود للإصرار والصمود لا لسفح الدمع في الشدائد. لكنه أعلن لحبيبته قبل مسافة أبيات قصيرة أنه يبكي حُلم حبّه الضائع وأن الدموع تفيد مادامت تحرق الأوهام :
“أبكيكِ مأسورَ طريقٍ ما له رجوعْ
لا تنفع الدموعْ
إلّا إذا أحرقتِ الأوهام ..”.
وحتى ولادته “الخارقة” من أمّ تلد الإصرار – هو المقاوم – هدّ أركان صورتها بأنينه وشكواه من السجن الذي ينتظره حيث السياط والجوع والحرمان والموت الذي قد يمحق وجوده. إنه يسم ذاته بأوصاف مُهينة :
“الآن كالكلبِ أُقادُ صامت الشفاه
كالهالكِ الموبوءِ لا يقربني إنسانْ
تنزلق العيونُ بالوحشةِ عن وجهي
وترمقُ الكبولَ في خوفٍ وفي سكونْ ..”.
ولعلّ هذا أشد ما كان يمزّق روحه : هذه العيون البليدة الـي تنظر إلى عينه المتورّمة نتيجة الضرب، وإلى قيود يديه وكأنّه مجرمٌ يشكل خطرا على الرّكاب المحيطين به :
“وبعضُ أعرابٍ مسافرين
يندفعونَ الآن، إنّهم يحدّقون
في عيني اليسرى فقد ضُربت في الصباح
أمسِ.. وينظرون في مَقتٍ وفي قَسوة
إلى يديّ ..”.
إنهم لا يعلمون أنه يدفع ضريبة إيمانه بحياة نبيلة تليق بهم. إنه يُضرب ويُعذب ويُسجن من أجلهم. إنه حزين لأنهم ضحايا واقع جائر .. مُذلّون مُهانون. ومن مصادر شقائه هو أنه ليس قادرا على أن يوصل هذه الأحاسيس إليهم:
“فيمَ تقطّبونْ
لنظرةٍ مني، وكيف.. كيف تفهمون
أني امرؤٌ صديق؟
أنا لكم حزينْ
لا تلهب الشمسُ أغانيكم ولا الرياح
تُسقط أوراقكم الذابلة الصفراء
أنا لكم حزينْ
إذا تذكرتُ غدا وضاءةَ الصباحْ
وموتَكم فيهِ فقد تُحزنني الذكرى ..”.
لكنّ نوبات التضاد هذه من إقبال وإدبار، وشجاعة وضعف، وإصرار وانخذال، تأتي كموجات من الإنفعالات. وهذا حال النفس البشريّة السويّة. تأتي موجةُ عزمٍ وعنفوان صاخبة تشيع “هواجس” الصمود وروح التحدي والإرادة المُسنّنة والجَلَد في أجواء القصيدة:
“إن كان لا بُدّ من الضمور والألمْ
إن كان لا بُدّ من التشوّه البطىء
أريدُ أن تُصلب كفّاي وتكفرا
أريدُ أن أرى
يديّ قبضتين صخرتين صلدتين
بلى، ولا أريدُ أن أُظلمَ في الظلام ..”.
تعقبها موجة تهبط بروحه إلى هاوية اليأس، إلى “هواجس” موغلة في السوداوية والتوقعات السلبية التي تشلّ قواه، وتجعله قابلا للإنجراح، تجتاح كيانه عواصف القلق والتشاؤم والشعور المُهلك بالنهاية المُحتمة والفناء الأكيد. وهذه هي حقيقة الختام، ختام هواجس “عيسى بن أزرق” وهو في طريقه إلى السجن محكوما بالأشغال الشاقة المؤبدة. فكل هذه الهواجس المرعبة استولت عليه قبل أن تبتدىء الرحلة، وهو في القطار يقوده الحارسان مكبّلاً إلى السجن، فكيف ستكون هواجسه حين تبتدىء الرحلة، رحلة العالم الأسفل المُصنّع الموحش العميق؟!:
“أربعُ ساعاتٍ وسوف يشرقُ النهار
إلا على قلبي، تراكمَ الغبار
والحارسُ الجالسُ في صمتٍ إلى جنبي
يغلق في فضاضة ٍنافذةَ القطار
إيهٍ! أحسُّ جهشة الأعماق من نفسي
ما أطولَ الطريق
ما أبعد العالم!! ما أغربه كلّه
أعرفهُ فهو طريقٌ موحشٌ سحيق
ولم تكد تبتدىء الرحلة ..”.
القصيدة
_____
هواجس عيسى بن ازرق في
الطريق الى الاشغال الشاقة
يصطخبُ القطارُ في طريقه الطويل
في نفق الظلمة نحو مطلع النهار
وددتُ لو يموتُ عنا ذلك النهار
وددتُ لو ينحرف القطار
عن دربه المشؤوم
(آه أيها الجنون
يهوّم الأطفالُ في تراقصِ الظلالْ
وتغرقُ النسوةُ في السكون، والرجالْ
يغفون في غير مبالاةٍ ويحلمون
حلمهم المألوف….)
فوق الخشب البارد
والمعدنِ الصليبِ أطوي جسمي الراعد
يداي تجمدان في الكبل وتبكيان
والحارسانِ لا يكفّان يحدّقان
في وجهيَ العليل
لا أعرفُ الشكوى ولا يدهشني العدمْ
لكنْ على قلبي تدوسُ صخرة الألمْ
ويهبطُ العالمُ باكتئابه الثقيلْ.
يخفي المسافرون
وجوههم في صفرة الظلّ ويحلمون
بالغد.. الرجال متعبونَ يحلمون
بالبيعِ والشراء والفاقة والثراءْ
والأهلِ والبنين والوداع واللقاءْ
وضحكةِ المستقبلين آخر الطريق
ولحظةً فلحظةً يخنقني صمتي
وساعةً فساعة أنظر في احتضار
أنظرُ من نافذةِ القطار
الى البراري واشتباك الليل والقفار
وغامض النجوم والزوابع الدكناء
تُسقى من الرمال، أُصغي بلا رغبة
الى صدى الرياح، أو سهمٍ من الصياح
يطلقه القطار في سكينة الجواء
وساعةً فساعةً أنظرُ في وجوم
الى البراري والمحطّات..أفي سُبات
أنا؟ أمِنْ عالمي انتُزعتُ ؟ ما أزال
أراقبُ الأشباح.. أشخاصاً يلوّحون
يعدون ، يضحكون ، يصعدون ، ينزلون
كأنهم ليسوا سوى أشباح ذكريات
كأنهم ليسوا سوى حشدٍ من الظلال
في حُلم غريبْ.
الحارسانِ ما يزالان يدخّنان
ويلفظان كلمةً ثمّ يعاودان
صمتهما الكئيبْ
وجهي إلى القفار
أنظرُ في البعيد
أنظر مشدوداً .. إلى الموت .. الى الحياة
محترقاً وحالماً بالموت والحياة
* * *
كنتُ اغنيكِ اذا اشتقتَ الى الغناءْ
وأذخر الحنينَ للربيع والشتاءْ
كنتُ أمنّي الحبّ بالزواج ، والسُهاد
ما كان يشجيني ، بلى، والليل إذ يطول
كنتُ أحسّ في مداه فرح الحياة
وكنتُ في كلّ مساءٍ أشهدُ الزهور
في المعرض الجميلِ كم وقفتُ للزهورْ
في ذلك الطريقِ كم سعدتُ بالعبورْ
مفكّراً في بيتنا : سأغرسُ الزهورْ
في كلّ صوبٍ منه ، بل سأشتري بذورْ
أغرسها حديقةً صغيرةً ، تحوم
من حولها الطيورْ
أبكيكِ للحُلم الذي بدّده الحديد
للأملِ البعيد
للضحكِ ، والبكاءٍ ، للصحةٍ ، والمرضْ
للحبّ .. للحبّ الذي ليس له عوضْ
أبكيكِ مأسورَ طريقٍ ماله رجوع
لا تنفع الدموع
إلا اذا أحرقتِ الأوهامَ .. تسعدين
بعدي ولا تُنكرك المرآةُ .. الحياة
حظّك والشباب : حاذري السنين
وابتسمي للشمس ، إنّ الأفقَ الحزينْ
يُنكره الصباح : وانسي ما ستذكرين
أحبّ أن أعرف ما (وتسمحين)
أسماء أطفالك .. لن أضعف .. الحياُة
خلفي.. وليس بعدُ الّا منظرُ الصخورْ
والقفر والفضاء والغبار والكلابْ
والوهج المحرق والأقفال والسياط
في عالمٍ من السدود تُفتح القبورْ
للخارجينَ منهُ للعذاب بابْ
وللفناء بابْ
لا تستطيعُ الأمّهاتُ طرقه .. يموت
رجعُ الصدى عنه وينأى طائفُ النداء
ستنطوي السنون ثمّ تنطوي السنون
ويُطبعُ التقويمُ مرّاتٍ بلا حسابْ
ويكبرُ الصغارُ.. والشيوخُ يهلكون
وتُهدم الدورُ التي تهرمُ والأشجار
تسقطُ والشوارعُ الحمراءُ تستطيل
وتختفي الأصواتُ والألوانُ والرسوم
عن صخَبٍ يولدُ أوتوهّجٍ جديد.
وأخوتي الصغارُ ربّما سيقرأون
في كُتبي يوماً، وأمّي ربما تكون
عمياء.. (ياويحي! فدى عينيكِ إذلالي! )
وثقلُ أغلالي
للسجنِ ماولدتِ . هل يسعدك الولادْ
لو كنتِ تدرينَ بما قُدّرَ من حَدادْ
لكلّ أمّ تلدُ الإصرار؟
تذكرينَ
أنّي عصيّ الدمع.. أنّي صامتُ العيون
فالآنَ!..
الآنَ يدقّ قلبي الحطيم
دقّاً.. يكاد يَحْطمُ الضلوعَ من جنونْ
الآن كالكلب أُقادُ ! صامتَ الشفاه
كالهالك الموبوءِ لا يقربُني إنسانْ
تنزلقُ العيونُ بالوحشةِ عن وجهي
وترمقُ الكبولَ في خوفٍ وفي سكون
ما أغرب الكبول! كم رأيتُ مجرمين
من قبلُ يُدفعون في الدروب، يُخفرون
في زحمة القطار يدخلون في السجون!
ما ملمسُ الحديدِ مثلُ منظرِ الحديد
وحزّه الأليم في اللّحم وفي العروق
ليس له من صفةٍ تُروى ولا شبيه
وليسَ من شبيه
لرعدةِ الصقيع، حين يمنع الحديد
يديكَ، أو يضربُ رسغيكَ ليهدا
لو أنّ لي يدين تقطرانِ بالدماء
لو أنّ لي يدين تنضحان بالسموم
لو أنّ لي يدين عبدتين
للغشّ والخداع
فقد تقرّان على قيدهما الصديء
لكنني بريء!
وليسَ في صدري سوى حبّ وعنفوان!
لستُ أخافُ غير أن يهدّم الزمان
من هيكلي ما لم يهدّمْ ثقل الصخور
أن يشحبَ البريقُ في النظرة، والوهجْ
في الصوت، والقوّة في اليدين! أن أنوء
بالشوق والفكرة
أموتُ مرّتين! لا أموتُ مرّتين
تعول أعماقي أسىً أيّتها الحياة !
أريدُ أن أهواكِ رغم السوط والسلاح
والمعولِ الثقيلِ والشتائمِ المرّة
أريدُ أن أبقى على الحبّ.. أأستطيع
بعد قبول النور ؟ لو أرجعني الطريق
يوماً إلى الدنيا وقد أدركني المشيب ؟
يداي تجمدان في الكبل وتبكيان.
هل تألفان الكبل يوماً ما ؟ أتنسيان
عذوبةَ الكتاب وانتفاضةَ القلمْ
وهزّة الحماس وانبساطةَ السلام
إن كان لا بدّ من الضمور والألمْ
إن كان لا بدّ من التشوّه البطيء
أريدُ أن تُصلب كفّاي وتكفرا
أريدُ أن أرى
يديّ قبضتين، صخرتين، صلدتين
بلى ! ولا أريد أن أظلم في الظلام
* **
محطّة موحشة، نوافذ القطار
تُفتح، والباعةُ يعرضون للعيون
أطباقهم، وبعضُ أعراب مسافرين
يندفعون – الآن – إنّهم يحدّقون
في عيني اليسرى (وقد ضُربتُ في الصباح
أمس !) وينظرون في مقتٍ وفي قسوة
إلى يديّ ! (أيّ شيء يجذب العيون
في حلق الحديد ؟)
فيمَ تقطبون
لنظرةٍ منّي ؟وكيفَ كيف تفهمون
أني امرؤٌ صديق ؟
أنا لكم حزين
لا تلهبُ الشمس أغانيكم، ولا الرياح
تُسقطُ أوراقكم الذابلةَ الصفرا
أنا لكم حزين
إذا تذكّرت غداً وضاءةَ الصباح
وموتَكم فيه، فقد تُحزنني الذكرى
* * *
أربعُ ساعاتٍ وسوف يشرقُ النهار
إلاّ على قلبي
تراكمَ الغبار
والحارسُ الجالس في صمتٍ إلى جنبي
يغلقُ في فضاضةٍ نافذةَ القطار
عليّ أن أنام، لا أحبّ أن أطيل
تامّل الوجوه
إيهٍ ! أحسّ جهشةَ الأعماقِ من نفسي
ما أطولَ الطريق !
ما أبعدَ العالم ! ما أغربه كلّه
أعرفُه ، فهو طريقٌ موحشٌ سحيق
ولم تكدْ تبتدىء الرحلة ..
محمود البريكان
قصيدة “أغنية حب من معقل المنسيين”
(1) أغنية حبّ من معقل المنسيين
اختار الشاعر الكبير الراحل “محمود البريكان” مدخلا متفردا لتناول موضوعة أدب السجون شعريا، وذلك في قصيدته “أغنية حب من معقل المنسيين” التي يكشف عنوانها طبيعة هذا المقترب الذي يطلق فيه الشاعر- والقصيدة مثل أغلب قصائد البريكان نظمت بصوت أنا المتكلم- نداء عاطفيا شفيفا من الزنزانة، نداء يطلقه السجين إلى موضوع حب لم يره ولم يلتق به هي الفتاة “سلوى” التي شاهد “شبحها” يخطف سريعا أمام ناظريه من خلال حديث أخيها، شريكه في الزنزانة، عنها؛ عن نبلها وروحها المرحة:
“يا سلوى لم نلتق قبلُ ولم أرَ منكِ سوى شبحكْ وحكايا تُروى عن نبلكْ.. عن مرحكْ لم نلتق قطُّ ولكنّي.. أُصغي لأخيكِ ، صديقي وأخي في سجني… وقسيمي ليلَ الزنزانة..”
صورة سلوى الأنثوية الباهرة تنرسم على صفحة خيالات الشاعر من خلال “كلمات” شقيقها السجين رفيقه في الزنزانة. وعملية التخيّل هذه هي من دفاعات السجين المؤصلة التي تعينه على البقاء، فعدو السجين الأول هو النسيان، ضعف الذاكرة وشحوب موضوعات الحب فيها، خصوصا الأم- الأخت بديلة الأم- والزوجة- أو الحبيبة- يجعل السجين عرضة للتحول إلى الذاكرة الطفلية الآلية التي “تعرض” عليها الصور والحوادث في بيئة الزنزانة الرتيبة الخانقة والتي تتسم بالحرمان الحسي- sensory deprivation، تعرض ولا تسجل، فالإنسان حيوان ذو ذاكرة، والفأرة تصاد كل مرة بقطعة الجبن نفسها لأنها لا “تتذكر” أنها قطعة الجبن الفخ!! وعليه فإن “التذكّر” هو من فنون القاء في السجن. وفي العادة يكون محور الذكريات تلك التي تمثل الحضن الأمومي وعطاياه الطفلية من جانب، والتي تحمل الرمزيات الحبية والجنسية التي يستتر بها من جاني آخر. لقد كان رفيق الزنزانة “يؤمثل” أخته، يرتفع بها أنموذجا مثاليا مبتدءا بعاداتها اليومية البسيطة وهواياتها وسمات شخصيتها الآسرة:
“يحكي لي عنك كألطف ألطف إنسانة.. وكأجمل روح مبتسمة.. عن ضحكتكِ وهي ترنّ صباحَ مساءْ .. حبّكِ للرسمِ وللتفصيلِ وللأزياءْ .. ومقصّك والصحفِ البيضاءْ … وثيابِك ذاتِ الألوانِ المنسجمة.. ”
ويبدو أن حديث الشقيق عن شقيقته كان تفصيليا، ومكررا، وذلك بفعل ضغوط السجن التي تجعل سلوك المعتقل وفعل ذاكرته نمطيا ومقولبا – stereotypy، والغوص في التفاصيل الدقيقة وتكرارها شائع في حياة السجناء الذين يبرعون في المنمنمات والحلي والنقش وغيرها. وفي بيئة مغلقة تكون الاستعادة دقيقة وكأن من يتذكر يخشى أن تهرب من أصابع ذاكرته تفصيلات صورة موضوع الحب فتنثلم تلك الصورة. صار الشاعر يعرف حتى محتويات درج سلوى وما تفضله من أغان وكتب وقصائد.. وحتى المفردات التي تستخدمها حين تكون غاضبة:
“أعرفُ حتّى ما في دُرجِك من أشياءْ … أعرفُ حتّى ما كنتِ قرأتِ من الكتبِ .. حتى كلماتكِ عندَ اللّومِ وعندَ الغضبِ .. حتى بعضَ أغانٍ أُعجبتِ بها جدّا … وقصائدَ مفعمةٍ وردا .. “.
لقد تحولت “مفردات” الأخ السجين وهو يصف “ذكرى” شخص أخته سلوى إلى “صورة” ذكرى في ذهن السجين الشاعر بدوره.. أي أنه لم يستطع “رسم” المظاهر الشخصية العضوية الملموسة.. وهي صعبة جدا على السجين حين تشحب الصور في ذاكرته وتضمر.. لذلك نجد إحتفاء الشاعر يتركز على الصفات المعنوية لهذه المرأة.. وهي مفاهيم يمكن أن تحتويها اللغة.. ويستطيع حتى الأعمى “وصفها”.. فهي حلم في ليل الصمت الكئيب.. وسرّ يعتلج في الصدر المختنق.. وخيال نوري .. وحبا لا يُعقل.. وشعرا لا يُتسى!! وكلها مفاهيم، وليست محسوسات مؤسسة يجب تصويرها:
“يا سلوى .. يا حُلُما في الصمتِ المكتئب .. يا سرّاً في صدري، وخيالاً نوريّا .. يتوهّجُ في أقصى التعبِ .. يا حبّاً لا يُعقلُ .. يا شعراً لا يُنسى.. “.
وحتى حين يصف أنثاه/ أنموذجه بأنها “زنبقة” فهو يستدعي خصائص تلك الزهرة وصفاتها ولا يستعيد “الحضور” الحي لها. إن عطرها يضوع في فضاء “خياله” في الواقع.. خياله الذي يحاول عبثا توسيع فضاء الزنزانة. ورغم أن الشاعر، وعبر لعبه المقتدر بالكلمات، يحاول أن يوهمنا بأنه بات “يرى” سلوى إلا أنه محض حفزة شعرية، تصوير شعري، يعود بعده سريعا ليصطدم بحاجز الخيبة، وجدران الإحباط، فيقر أنها مجرد شبح يصعب تصويره:
“يا زنبقةً تتفتحُ في الليل الأقسى .. وتضوعُ وتنمو في صمتي .. يا مُرقصةً في الحزنِ رؤاي كأسطورة .. يا شبحا تنقصُه الصورة.. “.
لقد قام السجين الشاعر، المستمع لسرد الأخ المعتقل عن صفات أخته الرائعة، بخطوة أجرأ وأبعد ولكنها متوقعة- قد تكون أفلتت من انتباهة القارىء الذي طفت بحاسته النقدية موجة التعاطف- وهي أنه جعل سلوى “حبا” له بقرار من جانبه وحده، وعلى مسؤولية حاسة السمع فقط التي وفرّت له مادة لإشادة “صورة” موضوع حبه المنتظر:
“أقسمُ لو لاقيتك يوماً في أيّ مكانْ … لعرفتك، لو صافحتك بعد مضيّ زمانْ .. لبكتْ أعماقي مِن فرحِ .. أتصورُها خصلاتِك تطفرُ في مرحِ .. أتصوّرُ وجهَك، صوتَك، لون العينين … وكمونَ البسمةِ في الشفتين… “.
مستميت هو الشاعر في مقاومة “عمى” الذاكرة وهو في ظلمة الزنزانة.. يحاول تلمس الملامح بأصابع موهبته الشعرية. لقد أوهمنا من جديد بأنه يعرف ملامحها التفصيلية، وجهها وصوتها ولون عينيها.. لكنها، من جديد أيضا، فورة شاعر معتقل يرتد ليسلّم بعجزه عن “رسم” اللوحة العملية لشبح أنثاه المحبوبة “أتصور.. لا يمكنني تصوير الشبحِ”، وفي الغالب يكون الحضور الأنثوي ذو طبيعة أمومية حتى لو كان متمظهرا في هيئة أنثى معشوقة مثل شبح سلوى. فالأم – في لاشعور الإبن- هي الإله المنقذ وليس الآلهة الذكور بدءا من دوموزي. ولهذا فلا مناص من أن يكون الإطار النهائي الذي يحدده السجين لسلوى هو الدور الأمومي المنقذ الباذخ. فهو في رحم إلتهامي الآن، ولا هناءة مخلّصة إلا في فردوس الرحم العظيم المفقود:
“أتصوّرُ.. لا يمكنني تجسيد الشبحِ .. أتصوّرُ إخوتَك الأطفالَ ، وأيّ حنان .. تضفين على البيت العاري… وأفكر.. ما أروعها في غدها أمّا!!”.
وحين ندقق في الإيحاءات الدلالية للمقطع السابق فسنجدها تعشّق بذكاء استشراف إقتدار سلوى في دورها المستقبلي كأم مع تمنيات السجين العاشق أن ينعم بهذا الدور في بيته “العاري”.. هذا “العري” الذي يجد تجسيده العملي في “صمت” الزنزانة المميت والحزن الثقيل الذي خيم على روح الشاعر اللائبة بعد أن نام الجميع، وخصوصا شقيق سلوى الذي كان يغذي خيالاته بأحاديثه التفصيلية المتحمسة عنها. هذا العري يعكس أيضا عري الإرادة، وعري الذاكرة في الوقت نفسه، عري مركب يحاصر السجين الشاعر و”ينزله” من غيمة التحليق الشعري الرخية التي حاولت عبثا حمله على أجنحتها الحلمية إلى أرضية الزنزانة الصلبة القاسية. هنا ستكون تصوراته وحساباته المستقبلية “عملية” مسننة وصادمة، لا شعرية ناهمة ومخدرة. راحت سكرة القصيدة وجاءت فكرة محنة غيابة الجب المظلم. فلا شيء يستطيع السجين أن يتحكم به حتى لو كان شاعرا.. وكل مقدراته مفتوحة على الحيرة والتساؤلات الفاجعة.. بإمكانه أن “يُحب عن بعد” ويحلق مع موضوع حبه المتخيّل لكنه لن يستطيع أبداً أن “يتحكم عن بعد” بمصائر ما يحب ولا بسلوكها وتغيراتها المستقبلية مادام هو نفسه غير قادر على ان يرسم خطوط مصيره الشخصي:
“في أقبية المنسيين .. لا صوتَ هناك، وما في الليلِ سوى الحزن .. نامَ السجناءُ ونامَ أخوك، ولكنّي .. أرِقٌ أتأملُ أغلالي .. وأصارعُ أبسطَ آمالي .. وأفكرُ فيكِ، وبما أصنعُ بعد سنينْ .. إذ أخلعُ اثوابَ السجنِ .. أأحبّك جدّاً أم لهوا؟ .. ثم أتبقينَ كما أهوى .. وكما أتصور يا سلوى؟”
يبدو أن كل سجين بحاجة إلى “سلوى” معينة يشغل بها آمال روحه المطحونة.. و”سلوى” البريكان السجين لا تخرج عن هذا الإطار..
القصيدة :
______
(أغنية حب من معقل المنسيين)
يا سلوى
لم نلتقِ قبلُ، ولم أرَ مِنكِ سوى شبحك
وحكايا تروى لي عن نبلك عن مرحِك
لم نلتقِ قَطُّ، ولكنّي
أُصغي لأخيكِ، صديقي وأخي في سجني
وقسيمي ليل الزنزانة
يحكي لي عنك كألطفِ ألطفِ إنسانة
وكأجملِ روحٍ مبتسمة ..
عن ضحكاتِكِ وهي ترنُّ صباحَ مساء
حبّكِ للرسمِ وللتفصيلِ وللأزياء
ومقصك والصحف البيضاء
وثيابك ذات الألوان المنسجمة!
أعرفُ حتى ما في درجك من أشياء!
أعرف حتى ما كنتِ قرأتِ من الكتبِ
حتى كلماتك عند اللوم أو الغضبِ!
حتى بعضَ أغانٍ أعجبتِ بها جداً
وقصائدَ مفعمةً ورداً .. !
يا سلوى،
يا حُلُماً في الصمت المكتئبِ
يا سرّاً في صدري، وخيالاً نورياً
يتوهجُ في أقصى التعبِ!
يا حبّاً لا يعقلُ، يا شعراً لا يُنسى!
يا زنبقة تتفتح في الليل الأقسى
وتضوع وتنمو في صمتي
يا مرقّصة في الحزن رؤاي كأسطورة
يا شبحاً تنقصه الصورة!
أقسم لو لاقيتك يوماً في أي مكان
لعرفتك! لو صافحتك بعد مضي زمان
لبكت أعماقي من فرح!
أتصورها خصلاتك تطفر في مرح
أتصور وجهك! صوتك! لون العينين
وكمونُ البسمةِ في الشفتين
أتصور .. لا يمكنني تجسيد الشبح!
أتصور أخوتك الأطفال، وأي حنان
تضفين على البيت العاري
وأفكّر: ما أروعها في غدها أماً ..!
* * *
في أقبية المنسيين
لا صوت هناك. وما في الليل سوى الحزن!
نام السجناء ونام أخوك. ولكني
أرقٌ، أتأملُ أغلالي
وأصارع أبعد آمالي،
وأفكر فيك .. وفيما أصنع بعد سنين
إذ أنزع أثواب السجن
أأحبك جداً أم لهوا ..؟
ثم، أتبقين كما أهوى
وكما أتصور، يا سلوى!؟
(2) هواجس في الطريق إلى العالم السفلي
في قصيدة (هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة) يُجهض (محمود البريكان) بعنوان النصّ الدهشةَ التي يمكن أن يؤمّنها المتن، وهذا دليل آخر على خطل وخطأ أطروحة (العنوان ثريا النص)، فما نراه هو أنه كلما كان العنوان كاشفا لمكنونات المتن النصي كلما كان مصدر إفساد لمتعة النص. وبخلاف ما تقرّه الحداثة من علاقة مركبة بين العنوان والمضامين النصية فإن هذه الأطروحة البنيوية التي هللنا لها منبهرين كالعادة تأتي لتعيدنا إلى اشتراطات الأدب الكلاسيكسة الفجّة. يُقال أن أحد الأفلام السينمائية الأمريكية الأولى حمل أطول عنوان عن بطل يسافر من الولايات المتحدة إلى الصين بحثا عن حبيبته … إلخ، وكأن المخرج يريد عرض الفيلم لغويا من خلال العنوان!!. وعنوان قصيدة البريكان يؤشر أمام بصر المتلقي – وليس أمام بصيرته النقدية – الركائز الأساسية التي سيراها في متن القصيدة : هناك هواجس وخواطر وأفكار تدور في خَلَد فردٍ هو هنا “عيسى بن أزرق” الذي يُنقل كسجين لتنفيذ حكم بالأشغال الشاقة. كان من الممكن أن يكون وقع الإستهلال أكثر عمقا وفعلا في نفس المتلقي لو تمت صياغة عنوان القصيدة بصورة أخرى لا تكشف الثيمة المركزية لها:
“يصطخب القطارُ في طريقه الطويلْ ..
في نفقِ الظلمة نحو مطلع النهارْ
وددتُ لو يموتُ عنّا ذلك النهارْ
وددتُ لو ينحرفُ القطارْ
عن دربه المشؤوم
آهٍ .. أيّها الجنون ..”.
فالهواجس المريرة التي ترتطم في ذهن عيسى قد تخافت لهيبها لأنّنا صرنا نعرف العلة الكامنة وراءها، ومن الطبيعي أن تلوب تلك الأفكار في ذهن سجين وهو يُنقل بالقطار إلى موضع جحيمي سيُنفذ فيه حكم بالأشغال الشاقة. لكنها هواجس وتمنيات جنونية، يبغي السجين منها أن لا يتحقق وصول القطار إلى موضع الجحيم، حتى لو كان فيها أذاه الشخصي (أن ينحرف القطار)، أو أنها مستحيلة بإطلاق (أن يموت النهار). هذا حال الإنسان المُحاصَر الذي لا يتورع عن أن ينتخي بأكثر الرغبات طفلية لحلّ محنته. ومن هنا تتجلى براعة البريكان التي تضعف ما قلناه حيث يستطيع الشاعر المقتدر أن يوظّف ما هو أعمق من المعضلة الشكلية. لقد استهل الشاعر- وعلى لسان السجين لأن أغلب قصائد البريكان تطرح بضمير الأنا – القصيدة بحوار داخلي للسجين يتمنى فيه الخلاص من خلال عدم وصول القطار إلى المعتقل، لكنه – أي الشاعر ينتقل إلى الخارج .. إلى عربة القطار حيث يصوّر عالما مناقضا لصخب الداخل، عالم ساكن رتيب تحوم فيه الأحلام البليدة :
“يهوّم الأطفالُ في تراقصِ الظلالْ
وتغرق النسوةُ في سكون، والرجالْ
يغفون في غير مبالاةٍ ، ويحلمون
حلمهمُ المألوف ..”.
لكن هناك “خارج” آخر، خارج يوازي العالم الخارجي الساكن، لكنه مزحوم بهياج الإحباط والإنذلال والكآبة القاتمة. السجين ينظر بسخط إلى العالم المحيط به حيث تبلّد مشاعر الرجال والنسوة والأطفال في جوٍّ كامد.. وهو الجوّ نفسه الذي يظهر للراصد الذي ينظر إليه من الخارج كالحارسين المُكلّفَين بحراسته.. لكن لا أحد يدرك ثقل صخرة الألم التي تجثم على قلبه :
“فوقَ الخشب الباردْ
والمعدن الصليب أطوي جسدي الراعدْ
يداي تجمدانِ في الكبل وتبكيان
والحارسان لا يكفّان يحدقان
في وجهيَ العليلْ
لا أعرفُ الشكوى ولا يدهشني العدم
لكنْ على قلبي تدوسُ صخرةُ الألم
ويهبطُ العالمُ باكتئابه الثقيلْ ..”.
يعود الشاعر إلى إلتقاط تفصيلات حركة الخارج من جديد ويصمم “ديالوجا” متناوبا بين عالم الذات الداخلي المُمزَق وعالم الآخرين الراكد، هؤلاء الغارقون في لجّة المعناة اليومية المنهكة.. لجّة البقاء الحيواني التي تجعلهم ينزوون في ظل صفرة الحياة :
“يخفي المسافرونْ
وجوههم في صفرة الظل ويحلمونْ
بالغدِ … الرجالُ مُتعبون يحلمون
بالبيعِ والشراء والفاقة والثراء
والأهلِ والبنين والوداع واللقاء
وضحكةِ المستقبلين آخر الطريق ..”.
ومن الخارج المستكين المُهان إلى الهواجس الشخصية التي لا يمكن لأحد أن يتعرّفها.. عالمه مغلق، ساكن أيضا كما يلوح من الخارج .. هو صامت أيضا، نقل بصره من عتمة صمت الآخرين إلى الخارج.. عبر نافذة العربة إلى ظلام الخارج وحركة الموجودات في البراري حيث لا يستفز مشاعره شىء مما يجري من رياح وزوابع وزعيق صافرة القطار فهو ممتص نحو ظلمة مركز فاجعته :
“ولحظةً فلحظةً يخنقني صمتي
وساعةً فساعة أنظر في احتضارْ
أنظرُ من نافذة القطارْ
إلى البراري واشتباك الليل والقفارْ
وغامض النجوم والزوابع الدكناءْ
تُسقى من الرمال، أصغي بلا رغبةٍ
إلى صدى الرياح أو سهمٍ من الصياح
يطلقه القطار في سكينة الخواءْ ..”.
إنه في مرحلة الإنكار- denial ولم يستوعب لطمة الخلع الهائلة من فضاء الحرية الشاسع إلى عزلة المُعتقل الخانقة. ولهذا يُسقط ربكة ظلمة أشباح وتساؤلات الداخل إلى الخارج.. إلى الظلمة المديدة :
“وساعةً فساعةً أنظر في وجومْ
إلى البراري والمحطات، أفي سباتْ!!
أنا؟ أمن عالمي انتُزعتُ؟ ما أزالْ
أراقب الأشباح.. أشخاصا يلوّحون
يعدون يضحكون يصعدون ينزلون
كأنهم ليسوا سوى حشدٍ من الظِلالْ
في حُلمٍ غريب.. “.
وفي كل هذا “التمهيد” المشهدي هناك روح درامية.. حركية.. متصارعة هي من ميزات البريكان الأسلوبية الراسخة.. نصوص البريكان مزحومة بالصراع.. وبالإنتقالات التي ترصدها “العين السينمائية” التي هي من تحولات النهج الحداثي في الشعر وليس “العين الفوتوغرافية” التي كانت تسم النهج الكلاسيكي بدرجة كبيرة. تتنقل هذه العين في قصيدة البريكان هذه من صخب الداخل إلى إيقاع حركة الخارج رغم بطئه المُمل فإلى الفضاء الكوني المظلم الشاسع حيث أشباح الخيبة المراودة لغيلان الداخل كي تنطلق فتزحم الفضاء الخاوي عبر نافذة عربة القطار. يجمع الشاعر العوالم الثلاثة : الداخل المُرتبك، الخارج المُحدد بفضاء العربة الخانق يمثله الآن الحارسان، والخارج الفضاء الظلامي السديمي حيث انتعشت مَرَدَة الشك في المصير الشخصي، هذا الشك الذي يبزغ من تحت رماد اليقين اللاشعوري المخادع بالحصانة الوجودية وعدم الفناء، كلما وُضع الفرد في موقفٍ يحسّ فيه بهشاشة وجوده وأنه غير عصي على الفناء.. أن هناك قوة قاهرة تستطيع تحطيمه.. ومسخ إرادته وسلب حريته.. هنا تتصاعد التساؤلات حول جدوى الحياة، وحول المعضلة الأزلية : سؤال لعبة الحياة والموت :
“الحارسانِ مازالا يدخنان
ويلفظان كلمةً ثم يعاودان
صمتهما الكئيبْ
وجهي إلى القفار
أنظرُ في البعيد
أنظر مشدودا إلى الموتِ إلى الحياة
محترقاً وحالماً بالموتِ والحياة ..”.
وفي هذه اللحظة – وكما هو الحال في القصيدة السابقة : “أغنية حب من معقل المنسيين ” – التي يشعر فيها الإنسان بأنه سوف يُلقى في ما يكافىء جُبّ العالم الأسفل – حسب اسطورة الإله القتيل التي هي مقلوب “أسطورة” الإنقاذ الأمومي للولد – يكون بأمس الحاجة لحضور “المُنقذ” الأصيل الذي لا يمكن أن يُعوّض مهما كانت محاولات التلاعب “الأسطورية” الذكورية، الأنثى/ الأم /الحبيبة :
“كنت أغنيكِ إذا اشتقتُ إلى الغناء
وأذخر الحنين للربيع والشتاء
كنت أمنّي الحب بالزواج، والسهاد
ما كان يشجيني، بلى، والليل إذ يطول
كنت أحسّ في مداه فرحَ الحياة
وكنتُ في كلّ مساءٍ أشهدُ الزهور ..”.
وحين تحضر ذكرى المنقذ/ الأنثى المخلّصة تحضر معها ذكريات وصور “مشتقاتها” ؛ المشتقات المُنعمة التي هي تجسّدات تأخذ معانيها الرمزية من قيمة الجسد الأنثوي.. مشتقات لها صلة بالخصب والنماء والحياة. ويبدو أن هذا الاستحضار الشعري/ الحُلمي يعيد التوازن إلى كفتي المعادلة التي اختلت بفعل شعور الإنسان بأنه هشّ ومن الممكن أن يُحطم على يد أخيه الإنسان في الحياة وليس على يدي الله عند الموت. يبغي السجين استعادة كل ما يُثبت أنه من الممكن أن “يدوم” ويبقى بل يتجدد.. هذا ما يعكسه أصلا النشاط الأنثوي الأمومي.. وهو المُرادف لنشاط الطبيعة الخالق والذي لا يكتسب قيمته الجمالية، بل حتى تأثيرات دورتها المادية في النفس البشرية، من دون عصا الشعر السحريّة. السجين المُكبل يتذكر – وهو يشعر بفنائه القريب حتى لو كان مؤجّلا – كيف أنه كان يريد زراعة الزهور في حديقته :
“في المعرض الجميل كمْ وقفتُ للزهور
في ذلك الطريق كمْ سعدتُ بالعبور
مفكرا في بيتنا : سأغرسُ الزهور
في كلّ صوبٍ منه بل سأشتري زهورْ
أغرسها حديقة صغيرة، تحوم
من حولها الطيور ..”.
لقد تحطّم الحُلم الروانسي على صخرة الإعتقال والحكم الظالم.. ضاع الحب الملتهب وخُطط الإرتباط النهائي.. لكن السجين الذي سيُلقى في غيابة جُب السجن إلى الأبد وسيفقد حريته وقد يموت في السجن، يقدّم وصيّته لحبيبته الغائبة بروح رائعة من الإيثار، فيدعوها إلى أن لا تعطل حياتها، ولا تتوقف عن الوظائف المرسومة للإنسان الحرّ، أن تسعد وتتزوج، وهو يريد معرفة حتى أسماء أولادها :
“تسعدين
بعدي ولا تنكرك المرآةُ.. الحياةُ
حظك والشباب، حاذري السنين
وابتسمي للشمس.. إنّ الأفقَ الحزين
يُنكره الصباحُ ، وانسيْ ما ستذكرين
أحبّ أن أعرف ما (وتسمحين)
أسماء أطفالك.. لن أضعفَ.. الحياة
خلفي.. وليس بعدُ إلا منظرُ الصخور ..”.
مادامت ستبقى هي في العالم الأعلى فإنّ عليها أن تكون جزءا من حركة الحياة المنطلقة التي لا تنتظر أحدا، وهو سيلقى في جحيم العالم الأسفل حيث القيود والسياط والإذلال، وحيث لا منفذ للخلاص إلا من بابٍ يفضي للقبر. والأشد فظاعة من الناحية النفسية هو أن الزمان سيفقد أي معنى له.. فقيمة الزمان، ساعاته وشهوره وسنواته، هي بمحتواها من الحضور الإنساني.. وفي السجن/ العالم الأسفل المصنّع حيث الرتابة يصبح الزمان راكدا بل ميْتا مادام الإنسان راكدا ومتبلدا ومحاصَرا وفي حالة من الموت المُعلّق أو المؤجل :
“ستنطوي السنون ثم تنطوي السنون
ويُطبع التقويم مرّاتٍ بلا حساب
ويكبر الصغارُ والشيوخ يهلكون
وتُهدم الدور التي تهرمُ والأشجار
تسقط والشوارع الحمراء تستطيل ..”.
ويرتبط معنى الزمان عادة بانفتاح المكان، فهو يتوقف ويصبح صفرا في المعاني النفسية حين ينغلق المكان.. لا زمان لدى من يعيش في الكهوف والغابات .. والزمان يقف خارج جدران الزنزانة.. ينغلق المكان وتتحدّد حركة الإنسان فيوقف زمانه الشخصي الذي هو مقدار حركته وتشابك علاقاته في المكان. وأهم ما سيحصل هنا أيضا هو الإنفصال المدمر عن الأم. ستطرق الأم المفجوعة أبواب هذا العالم الأسفل فلا يستجيب لها أحد ولا يصل نداؤها إلى ابنها الممزق الروح.. كانت عشتار جسورة في النزول لإنقاذ الإله الإبن.. فاحتُجزت هناك.. لكن سجوننا المعاصرة أفظع حتى من العالم السفلي القديم.. لا أحد ينزل ولا أحد يصعد”
“.. وأمّي ربّما تكون
عمياءَ (ياويحي فدى عينيك إذلالي)
وثقلُ أغلالي
للسجن ما ولدتِ .. هل يسعدكِ الأولاد؟
لو كنت تدرينَ بما قُدر من حِداد
لكلّ أمّ تلدُ الإصرارَ
تذكرينَ أني عصيّ الدمع
إني صامتُ العيون ..”.
وتبدو الربكة والتناقض صارخة في القصيدة.. في بنائها وفي تنقلات “هواجس” السجين من إقبال وإدبار وتضاد.. وفي ما يعلنه في موضع لينقضه في موضع آخر. فهو يعلن أمام ذكرى أمّه أنه صَلب الإرادة حديديّها، عصيّ الدمع وصامت العيون، فهو مولود للإصرار والصمود لا لسفح الدمع في الشدائد. لكنه أعلن لحبيبته قبل مسافة أبيات قصيرة أنه يبكي حُلم حبّه الضائع وأن الدموع تفيد مادامت تحرق الأوهام :
“أبكيكِ مأسورَ طريقٍ ما له رجوعْ
لا تنفع الدموعْ
إلّا إذا أحرقتِ الأوهام ..”.
وحتى ولادته “الخارقة” من أمّ تلد الإصرار – هو المقاوم – هدّ أركان صورتها بأنينه وشكواه من السجن الذي ينتظره حيث السياط والجوع والحرمان والموت الذي قد يمحق وجوده. إنه يسم ذاته بأوصاف مُهينة :
“الآن كالكلبِ أُقادُ صامت الشفاه
كالهالكِ الموبوءِ لا يقربني إنسانْ
تنزلق العيونُ بالوحشةِ عن وجهي
وترمقُ الكبولَ في خوفٍ وفي سكونْ ..”.
ولعلّ هذا أشد ما كان يمزّق روحه : هذه العيون البليدة الـي تنظر إلى عينه المتورّمة نتيجة الضرب، وإلى قيود يديه وكأنّه مجرمٌ يشكل خطرا على الرّكاب المحيطين به :
“وبعضُ أعرابٍ مسافرين
يندفعونَ الآن، إنّهم يحدّقون
في عيني اليسرى فقد ضُربت في الصباح
أمسِ.. وينظرون في مَقتٍ وفي قَسوة
إلى يديّ ..”.
إنهم لا يعلمون أنه يدفع ضريبة إيمانه بحياة نبيلة تليق بهم. إنه يُضرب ويُعذب ويُسجن من أجلهم. إنه حزين لأنهم ضحايا واقع جائر .. مُذلّون مُهانون. ومن مصادر شقائه هو أنه ليس قادرا على أن يوصل هذه الأحاسيس إليهم:
“فيمَ تقطّبونْ
لنظرةٍ مني، وكيف.. كيف تفهمون
أني امرؤٌ صديق؟
أنا لكم حزينْ
لا تلهب الشمسُ أغانيكم ولا الرياح
تُسقط أوراقكم الذابلة الصفراء
أنا لكم حزينْ
إذا تذكرتُ غدا وضاءةَ الصباحْ
وموتَكم فيهِ فقد تُحزنني الذكرى ..”.
لكنّ نوبات التضاد هذه من إقبال وإدبار، وشجاعة وضعف، وإصرار وانخذال، تأتي كموجات من الإنفعالات. وهذا حال النفس البشريّة السويّة. تأتي موجةُ عزمٍ وعنفوان صاخبة تشيع “هواجس” الصمود وروح التحدي والإرادة المُسنّنة والجَلَد في أجواء القصيدة:
“إن كان لا بُدّ من الضمور والألمْ
إن كان لا بُدّ من التشوّه البطىء
أريدُ أن تُصلب كفّاي وتكفرا
أريدُ أن أرى
يديّ قبضتين صخرتين صلدتين
بلى، ولا أريدُ أن أُظلمَ في الظلام ..”.
تعقبها موجة تهبط بروحه إلى هاوية اليأس، إلى “هواجس” موغلة في السوداوية والتوقعات السلبية التي تشلّ قواه، وتجعله قابلا للإنجراح، تجتاح كيانه عواصف القلق والتشاؤم والشعور المُهلك بالنهاية المُحتمة والفناء الأكيد. وهذه هي حقيقة الختام، ختام هواجس “عيسى بن أزرق” وهو في طريقه إلى السجن محكوما بالأشغال الشاقة المؤبدة. فكل هذه الهواجس المرعبة استولت عليه قبل أن تبتدىء الرحلة، وهو في القطار يقوده الحارسان مكبّلاً إلى السجن، فكيف ستكون هواجسه حين تبتدىء الرحلة، رحلة العالم الأسفل المُصنّع الموحش العميق؟!:
“أربعُ ساعاتٍ وسوف يشرقُ النهار
إلا على قلبي، تراكمَ الغبار
والحارسُ الجالسُ في صمتٍ إلى جنبي
يغلق في فضاضة ٍنافذةَ القطار
إيهٍ! أحسُّ جهشة الأعماق من نفسي
ما أطولَ الطريق
ما أبعد العالم!! ما أغربه كلّه
أعرفهُ فهو طريقٌ موحشٌ سحيق
ولم تكد تبتدىء الرحلة ..”.
القصيدة
_____
هواجس عيسى بن ازرق في
الطريق الى الاشغال الشاقة
يصطخبُ القطارُ في طريقه الطويل
في نفق الظلمة نحو مطلع النهار
وددتُ لو يموتُ عنا ذلك النهار
وددتُ لو ينحرف القطار
عن دربه المشؤوم
(آه أيها الجنون
يهوّم الأطفالُ في تراقصِ الظلالْ
وتغرقُ النسوةُ في السكون، والرجالْ
يغفون في غير مبالاةٍ ويحلمون
حلمهم المألوف….)
فوق الخشب البارد
والمعدنِ الصليبِ أطوي جسمي الراعد
يداي تجمدان في الكبل وتبكيان
والحارسانِ لا يكفّان يحدّقان
في وجهيَ العليل
لا أعرفُ الشكوى ولا يدهشني العدمْ
لكنْ على قلبي تدوسُ صخرة الألمْ
ويهبطُ العالمُ باكتئابه الثقيلْ.
يخفي المسافرون
وجوههم في صفرة الظلّ ويحلمون
بالغد.. الرجال متعبونَ يحلمون
بالبيعِ والشراء والفاقة والثراءْ
والأهلِ والبنين والوداع واللقاءْ
وضحكةِ المستقبلين آخر الطريق
ولحظةً فلحظةً يخنقني صمتي
وساعةً فساعة أنظر في احتضار
أنظرُ من نافذةِ القطار
الى البراري واشتباك الليل والقفار
وغامض النجوم والزوابع الدكناء
تُسقى من الرمال، أُصغي بلا رغبة
الى صدى الرياح، أو سهمٍ من الصياح
يطلقه القطار في سكينة الجواء
وساعةً فساعةً أنظرُ في وجوم
الى البراري والمحطّات..أفي سُبات
أنا؟ أمِنْ عالمي انتُزعتُ ؟ ما أزال
أراقبُ الأشباح.. أشخاصاً يلوّحون
يعدون ، يضحكون ، يصعدون ، ينزلون
كأنهم ليسوا سوى أشباح ذكريات
كأنهم ليسوا سوى حشدٍ من الظلال
في حُلم غريبْ.
الحارسانِ ما يزالان يدخّنان
ويلفظان كلمةً ثمّ يعاودان
صمتهما الكئيبْ
وجهي إلى القفار
أنظرُ في البعيد
أنظر مشدوداً .. إلى الموت .. الى الحياة
محترقاً وحالماً بالموت والحياة
* * *
كنتُ اغنيكِ اذا اشتقتَ الى الغناءْ
وأذخر الحنينَ للربيع والشتاءْ
كنتُ أمنّي الحبّ بالزواج ، والسُهاد
ما كان يشجيني ، بلى، والليل إذ يطول
كنتُ أحسّ في مداه فرح الحياة
وكنتُ في كلّ مساءٍ أشهدُ الزهور
في المعرض الجميلِ كم وقفتُ للزهورْ
في ذلك الطريقِ كم سعدتُ بالعبورْ
مفكّراً في بيتنا : سأغرسُ الزهورْ
في كلّ صوبٍ منه ، بل سأشتري بذورْ
أغرسها حديقةً صغيرةً ، تحوم
من حولها الطيورْ
أبكيكِ للحُلم الذي بدّده الحديد
للأملِ البعيد
للضحكِ ، والبكاءٍ ، للصحةٍ ، والمرضْ
للحبّ .. للحبّ الذي ليس له عوضْ
أبكيكِ مأسورَ طريقٍ ماله رجوع
لا تنفع الدموع
إلا اذا أحرقتِ الأوهامَ .. تسعدين
بعدي ولا تُنكرك المرآةُ .. الحياة
حظّك والشباب : حاذري السنين
وابتسمي للشمس ، إنّ الأفقَ الحزينْ
يُنكره الصباح : وانسي ما ستذكرين
أحبّ أن أعرف ما (وتسمحين)
أسماء أطفالك .. لن أضعف .. الحياُة
خلفي.. وليس بعدُ الّا منظرُ الصخورْ
والقفر والفضاء والغبار والكلابْ
والوهج المحرق والأقفال والسياط
في عالمٍ من السدود تُفتح القبورْ
للخارجينَ منهُ للعذاب بابْ
وللفناء بابْ
لا تستطيعُ الأمّهاتُ طرقه .. يموت
رجعُ الصدى عنه وينأى طائفُ النداء
ستنطوي السنون ثمّ تنطوي السنون
ويُطبعُ التقويمُ مرّاتٍ بلا حسابْ
ويكبرُ الصغارُ.. والشيوخُ يهلكون
وتُهدم الدورُ التي تهرمُ والأشجار
تسقطُ والشوارعُ الحمراءُ تستطيل
وتختفي الأصواتُ والألوانُ والرسوم
عن صخَبٍ يولدُ أوتوهّجٍ جديد.
وأخوتي الصغارُ ربّما سيقرأون
في كُتبي يوماً، وأمّي ربما تكون
عمياء.. (ياويحي! فدى عينيكِ إذلالي! )
وثقلُ أغلالي
للسجنِ ماولدتِ . هل يسعدك الولادْ
لو كنتِ تدرينَ بما قُدّرَ من حَدادْ
لكلّ أمّ تلدُ الإصرار؟
تذكرينَ
أنّي عصيّ الدمع.. أنّي صامتُ العيون
فالآنَ!..
الآنَ يدقّ قلبي الحطيم
دقّاً.. يكاد يَحْطمُ الضلوعَ من جنونْ
الآن كالكلب أُقادُ ! صامتَ الشفاه
كالهالك الموبوءِ لا يقربُني إنسانْ
تنزلقُ العيونُ بالوحشةِ عن وجهي
وترمقُ الكبولَ في خوفٍ وفي سكون
ما أغرب الكبول! كم رأيتُ مجرمين
من قبلُ يُدفعون في الدروب، يُخفرون
في زحمة القطار يدخلون في السجون!
ما ملمسُ الحديدِ مثلُ منظرِ الحديد
وحزّه الأليم في اللّحم وفي العروق
ليس له من صفةٍ تُروى ولا شبيه
وليسَ من شبيه
لرعدةِ الصقيع، حين يمنع الحديد
يديكَ، أو يضربُ رسغيكَ ليهدا
لو أنّ لي يدين تقطرانِ بالدماء
لو أنّ لي يدين تنضحان بالسموم
لو أنّ لي يدين عبدتين
للغشّ والخداع
فقد تقرّان على قيدهما الصديء
لكنني بريء!
وليسَ في صدري سوى حبّ وعنفوان!
لستُ أخافُ غير أن يهدّم الزمان
من هيكلي ما لم يهدّمْ ثقل الصخور
أن يشحبَ البريقُ في النظرة، والوهجْ
في الصوت، والقوّة في اليدين! أن أنوء
بالشوق والفكرة
أموتُ مرّتين! لا أموتُ مرّتين
تعول أعماقي أسىً أيّتها الحياة !
أريدُ أن أهواكِ رغم السوط والسلاح
والمعولِ الثقيلِ والشتائمِ المرّة
أريدُ أن أبقى على الحبّ.. أأستطيع
بعد قبول النور ؟ لو أرجعني الطريق
يوماً إلى الدنيا وقد أدركني المشيب ؟
يداي تجمدان في الكبل وتبكيان.
هل تألفان الكبل يوماً ما ؟ أتنسيان
عذوبةَ الكتاب وانتفاضةَ القلمْ
وهزّة الحماس وانبساطةَ السلام
إن كان لا بدّ من الضمور والألمْ
إن كان لا بدّ من التشوّه البطيء
أريدُ أن تُصلب كفّاي وتكفرا
أريدُ أن أرى
يديّ قبضتين، صخرتين، صلدتين
بلى ! ولا أريد أن أظلم في الظلام
* **
محطّة موحشة، نوافذ القطار
تُفتح، والباعةُ يعرضون للعيون
أطباقهم، وبعضُ أعراب مسافرين
يندفعون – الآن – إنّهم يحدّقون
في عيني اليسرى (وقد ضُربتُ في الصباح
أمس !) وينظرون في مقتٍ وفي قسوة
إلى يديّ ! (أيّ شيء يجذب العيون
في حلق الحديد ؟)
فيمَ تقطبون
لنظرةٍ منّي ؟وكيفَ كيف تفهمون
أني امرؤٌ صديق ؟
أنا لكم حزين
لا تلهبُ الشمس أغانيكم، ولا الرياح
تُسقطُ أوراقكم الذابلةَ الصفرا
أنا لكم حزين
إذا تذكّرت غداً وضاءةَ الصباح
وموتَكم فيه، فقد تُحزنني الذكرى
* * *
أربعُ ساعاتٍ وسوف يشرقُ النهار
إلاّ على قلبي
تراكمَ الغبار
والحارسُ الجالس في صمتٍ إلى جنبي
يغلقُ في فضاضةٍ نافذةَ القطار
عليّ أن أنام، لا أحبّ أن أطيل
تامّل الوجوه
إيهٍ ! أحسّ جهشةَ الأعماقِ من نفسي
ما أطولَ الطريق !
ما أبعدَ العالم ! ما أغربه كلّه
أعرفُه ، فهو طريقٌ موحشٌ سحيق
ولم تكدْ تبتدىء الرحلة ..
حسين سرمك حسن: "سلوى" سجين البريكان الشعرية (ملف أدب السجون العراقي/9) - الناقد العراقي
“في أقبية المنسيين .. لا صوتَ هناك، وما في الليلِ سوى الحزن .. نامَ السجناءُ ونامَ أخوك، ولكنّي .. أرِقٌ أتأملُ أغلالي .. وأصارعُ أبسطَ آمالي .. وأفكرُ فيكِ، وبما أصنعُ بعد سنينْ .. إذ أخلعُ اثوابَ السجنِ ..” محمود البريكان قصيدة “أغنية حب من معقل المنسيين” (1) أغنية حبّ من معقل المنسيين اختار...
www.alnaked-aliraqi.net