مصطفى خليفة، أيمن العتوم، ياسين الحاج صالح، وغيرهم الكثير.. كتابات السجون السورية، أو ما يسميها سلامة كيلة “معسكرات الاعتقال السورية”، تضيء على جانب مهم من مشكّلات الوعي السوري الفردي والجمعي الذي خلقة النظام السوري على مدى السنوات الأربعين الماضية. ولكن لماذا يُعتبر هذا الأدب مهمًا؟ لعلّ واحدًا من أهم الذين كتبوا في أدب السجون هو […]
مصطفى خليفة، أيمن العتوم، ياسين الحاج صالح، وغيرهم الكثير.. كتابات السجون السورية، أو ما يسميها سلامة كيلة “معسكرات الاعتقال السورية”، تضيء على جانب مهم من مشكّلات الوعي السوري الفردي والجمعي الذي خلقة النظام السوري على مدى السنوات الأربعين الماضية. ولكن لماذا يُعتبر هذا الأدب مهمًا؟
لعلّ واحدًا من أهم الذين كتبوا في أدب السجون هو الكاتب النمساوي فيكتور فرانكل، الذي تناول معسكرات الاعتقال النازية التي عانى منها، والتي استخلص من خلال تجربته فيها ما يسميه بـ”العلاج النفسي الوجودي” (logo-therapy). توصل فرانكل من تجربته في معسكرات الاعتقال إلى نتيجة مفادها أنّ السجناء الذين تمكنوا من الخروج بمعنى لتجربة السجن، على المستوى الشخصي أو الديني، هم الذين استطاعوا أن يستمروا برغم الآلام التي مرّوا بها.
لا شكّ بأنّ تجربة السجون كما يرويها المعتقلون السابقون تكشف عن مكنونات في النفس الإنسانية، تحديدًا في حالتين اثنتين: العزلة عن المؤثرات المجتمعية، وعلاقة الإنسان بذاته في أقسى الظروف التي يمكن تصوّرها. يتكلم ياسين الحاج صالح، في كتابه “بالخلاص يا شباب”، عن تجربة اعتقاله كحالة انعتاق من سجونٍ من نوع آخر، سجون العقيدة والحزب والأيديولوجيا، التي يقول إنها تفقد الكثير من أهميتها، خصوصًا لدى الشباب من السجناء الذين يمرون بما يسميه “ترويض الوحش”، فيعتبر أن “السجن في مجمله تجربة انعتاق عبر الصراع مع السجن ومع النفس ومع الغير، وعبر التعلم من الرفاق ومن الكتب”. ويفرق الحاج صالح في مقابلة له مع الصحافية المفقودة رزان زيتونة نشرها في كتابه المذكور بين من سُجن وهو شاب، فاستطاع تخطي سجون الخارج بسهولة، ومن سُجن وهو في سن متقدمة، فقرأ تجربة سجنه من خلال عدسة الحزب أو المعتقد فقط. ولذلك، فهو يرى أنّ للسجن فضلًا عليه، إذ إنّه عرّفه بنفسه وبفردانيته، وعزّز ملكته النقدية.
إن تجربة السجن تكشف للإنسان الكثير عن نفسه، لجهة القدرة على تحمل تجارب التحقيق والتعذيب. كما أنّ العزلة في السجن تدفع بالمعتقل إلى أن “يقتات على الذكريات”، فيراجع تفاصيل حياته ويقيّمها، ما يؤدي إلى تحوّله جذريًا لدى خروجه من التجربة. والسجن يكشف قدرة الإنسان على تخطي الوقت، وعلى خلق الأهداف مهما كانت ضئيلة. يروي الحاج صالح في كتابه أنّ السجناء يتعاملون مع الوقت من خلال الأحداث، كالزيارات الدورية، أو مواعيد تلقي الكتب، لكن ذلك لا يتوفر في السجون كافة. فحين نُقل الحاج صالح إلى سجن تدمر، حيث لا زيارات ولا كتب ولا متغيّرات، “تجمّد زمن كلّ سجينٍ عند لحظة دخوله السجن”، وكان ذلك هو السجن الأصعب الذي واجهه.
يستحضر السجين أمرين أساسيين بشكلٍ خيالي ومثالي: المرأة والمكان، وقد تتحول هذه المرأة إلى كائن متخيل يبادل السجين الشعور، ويكلمه ويتعامل معه
في المقابل، يحاول الكثير من السجناء خلق مشاريع صغيرة ليسهّلوا مرور الوقت. يروي جورج صبرا أنّه كان يجمع التراب عن حبّات البطاطا حتى تمكن من زرع بذرة في التراب الذي راكمه على مدى أسابيع، وكانت مراقبة النبتة التي زرعها هي مشروعه الصغير في المعتقل. وحين اكتشف مسؤولو السجن هذه النبتة وداسوها، عاود محاولته من جديد، ليعبّر من خلال “مشروعه” هذا عن “شهوة الحياة”. مثالٌ آخر على ذلك ما فعلهالشاب عمر الشغري، حيث كان يقتسم طعامه اليومي بينه وبين سجين، ويتفق مع ذلك السجين على إعطائه بعض طعامه بعد أسبوع، وخلال سبعة أيام، يكون قد فعل الأمر نفسه مع سبعة سجناء، يقومون بدورهم بإعطائه بعض طعامهم في اليوم نفسه، ليحظى بوجبة كاملة مشبعة بعد أسبوع، تكفيه ليملأ بطنه و”يموت وهو سعيد”.
إحدى المشكلات في السجن تكمن في عدم التمكن من تكوين علاقة وجدانية رومانسية، واضطرار السجين في كثيرٍ من الأحيان للجوء إلى الخيال. ذكر الكاتب مالك داغستاني في مقابلة معه أنّ السجين يستحضر أمرين أساسين بشكلٍ خيالي ومثالي: المرأة والمكان، في إطار حنينٍ وجداني قاتل. وقد تتحول هذه المرأة، بحسب المعتقل السابق حسن النيفي إلى كائن متخيل يبادل السجين الشعور، ويكلمه ويتعامل معه، وهو ما يسميه الناقد كولريدج بـ”الخيال الإنتاجي”. لكن هذا الخيال لا يكفي ليكوّن السجين المهارات العاطفية الضرورية لتشكيل علاقة صحيّة بعد الخروج من السجن، ولذلك يروي الحاج صالح أنّ السجناء جميعًا “يتبهدلون” لاحقًا في علاقتهم بالمرأة؛ “بعضنا يتبهدل أكثر، لكن البهدلة ممر محتوم”.
ولعلّ أحد أكثر ما يؤثر في روايات السجناء اجتماعهم بأحبابهم في المعتقل، فيروي المواطن التركي والسجين السابق في السجون السورية رياض أولر أنّه مكث في زنزانة قرب زنزانة زوجته، وكانا يتبادلان الرسائل، ودائمًا ما كانت تحفزّه بألّا يعترف للسجان أثناء التحقيق، وألّا يقرَّ بأمرٍ لم يفعله ليتخلص من الألم، وكان ذلك من أشد الأمور تثبيتًا له. في المقابل، تروي المعتقلة السابقة لينا الوفائي، التي كانت زنزانتها بجانب زنزانة زوجها كيف كانت تستيقظ قبله لإيقاظه كلّ يوم عبر النقر على الحائط، وكانت تقول للسجان “تصبح على خير” ليسمعها زوجها في الزنزانة المجاورة. وفي هذا انقلابٌ غريبٌ لحالة حاول النظام خلقها، تتمثل بالضغط على المعتقلين من خلال اعتقال أفراد عائلاتهم، لكنه خلق من خلال ذلك حالاتٍ من الدفء المؤلم داخل أقبية السجون.
أمّا عن علاقة المرء بنفسه، فللسجناء كلامٌ طويل في هذا الإطار. يروي عمر الشغري مثلًا أنّه حين كان في صيدنايا، وبعدما توفي أخوه وابن عمّه في السجن، قرّر أن يضحي بنفسه ليقدم الطعام لبقية السجناء (في سجن صيدنايا، كان الشخص الذي يأخذ الطعام من عند باب الزنزانة يوسع ضربًا أحيانًا كثيرة)، ولكنه، مع كلّ ما مرّ به، لم يستطع أن يضحي بنفسه لاكتشافه بأنّها غالية عليه. في المقابل، يروي المحامي أنور البنّي أنّ أحد السجناء، بعدما صار أعمىً ورفض مدراء السجن علاجه، مات بخياره. ولعل في ذلك تصديقًا لما رواه فرانكل حول ملكية الإنسان لحياته، لجهة أنّ إحساسه بمعنى حياته يدفعه للعيش، وأن فقدانه لذلك قد يؤدي إلى موته.
إن تجربة السجن ليست تجربة سياسية فحسب، بل هي تجربة إنسانية قبل كل شيء، تجربة فلسفية ونفسية. هي تجربةٌ تكشف نزعات الإنسان الأصيلة، وكيفية تعامله مع نفسه ومع غيره حين يتم تجريده من كلّ ما يملك؛ كيف يكتشف العقل نفسه حارسًا وملجأً ومهربًا في أحلك الظروف، ولا بدَّ من قراءتها من هذا المنظار. إن الحرية لا تتكوّن إلا بعد الأخذ بالاعتبار الأبعاد الفردانية لتجربة السجن. فالمعتقل الذي ينكر ذاته، والذي لا يجب أن يكون إلّا معبّرًا عن الألم العام، لا يمارس الحرية. والداعي إلى حصر تجارب الاعتقال في هذا الإطار، أو المتجاهل له، إنما يُغفل عن الكثير من الكنوز في تلك التجارب.
مصطفى خليفة، أيمن العتوم، ياسين الحاج صالح، وغيرهم الكثير.. كتابات السجون السورية، أو ما يسميها سلامة كيلة “معسكرات الاعتقال السورية”، تضيء على جانب مهم من مشكّلات الوعي السوري الفردي والجمعي الذي خلقة النظام السوري على مدى السنوات الأربعين الماضية. ولكن لماذا يُعتبر هذا الأدب مهمًا؟
لعلّ واحدًا من أهم الذين كتبوا في أدب السجون هو الكاتب النمساوي فيكتور فرانكل، الذي تناول معسكرات الاعتقال النازية التي عانى منها، والتي استخلص من خلال تجربته فيها ما يسميه بـ”العلاج النفسي الوجودي” (logo-therapy). توصل فرانكل من تجربته في معسكرات الاعتقال إلى نتيجة مفادها أنّ السجناء الذين تمكنوا من الخروج بمعنى لتجربة السجن، على المستوى الشخصي أو الديني، هم الذين استطاعوا أن يستمروا برغم الآلام التي مرّوا بها.
لا شكّ بأنّ تجربة السجون كما يرويها المعتقلون السابقون تكشف عن مكنونات في النفس الإنسانية، تحديدًا في حالتين اثنتين: العزلة عن المؤثرات المجتمعية، وعلاقة الإنسان بذاته في أقسى الظروف التي يمكن تصوّرها. يتكلم ياسين الحاج صالح، في كتابه “بالخلاص يا شباب”، عن تجربة اعتقاله كحالة انعتاق من سجونٍ من نوع آخر، سجون العقيدة والحزب والأيديولوجيا، التي يقول إنها تفقد الكثير من أهميتها، خصوصًا لدى الشباب من السجناء الذين يمرون بما يسميه “ترويض الوحش”، فيعتبر أن “السجن في مجمله تجربة انعتاق عبر الصراع مع السجن ومع النفس ومع الغير، وعبر التعلم من الرفاق ومن الكتب”. ويفرق الحاج صالح في مقابلة له مع الصحافية المفقودة رزان زيتونة نشرها في كتابه المذكور بين من سُجن وهو شاب، فاستطاع تخطي سجون الخارج بسهولة، ومن سُجن وهو في سن متقدمة، فقرأ تجربة سجنه من خلال عدسة الحزب أو المعتقد فقط. ولذلك، فهو يرى أنّ للسجن فضلًا عليه، إذ إنّه عرّفه بنفسه وبفردانيته، وعزّز ملكته النقدية.
إن تجربة السجن تكشف للإنسان الكثير عن نفسه، لجهة القدرة على تحمل تجارب التحقيق والتعذيب. كما أنّ العزلة في السجن تدفع بالمعتقل إلى أن “يقتات على الذكريات”، فيراجع تفاصيل حياته ويقيّمها، ما يؤدي إلى تحوّله جذريًا لدى خروجه من التجربة. والسجن يكشف قدرة الإنسان على تخطي الوقت، وعلى خلق الأهداف مهما كانت ضئيلة. يروي الحاج صالح في كتابه أنّ السجناء يتعاملون مع الوقت من خلال الأحداث، كالزيارات الدورية، أو مواعيد تلقي الكتب، لكن ذلك لا يتوفر في السجون كافة. فحين نُقل الحاج صالح إلى سجن تدمر، حيث لا زيارات ولا كتب ولا متغيّرات، “تجمّد زمن كلّ سجينٍ عند لحظة دخوله السجن”، وكان ذلك هو السجن الأصعب الذي واجهه.
يستحضر السجين أمرين أساسيين بشكلٍ خيالي ومثالي: المرأة والمكان، وقد تتحول هذه المرأة إلى كائن متخيل يبادل السجين الشعور، ويكلمه ويتعامل معه
في المقابل، يحاول الكثير من السجناء خلق مشاريع صغيرة ليسهّلوا مرور الوقت. يروي جورج صبرا أنّه كان يجمع التراب عن حبّات البطاطا حتى تمكن من زرع بذرة في التراب الذي راكمه على مدى أسابيع، وكانت مراقبة النبتة التي زرعها هي مشروعه الصغير في المعتقل. وحين اكتشف مسؤولو السجن هذه النبتة وداسوها، عاود محاولته من جديد، ليعبّر من خلال “مشروعه” هذا عن “شهوة الحياة”. مثالٌ آخر على ذلك ما فعلهالشاب عمر الشغري، حيث كان يقتسم طعامه اليومي بينه وبين سجين، ويتفق مع ذلك السجين على إعطائه بعض طعامه بعد أسبوع، وخلال سبعة أيام، يكون قد فعل الأمر نفسه مع سبعة سجناء، يقومون بدورهم بإعطائه بعض طعامهم في اليوم نفسه، ليحظى بوجبة كاملة مشبعة بعد أسبوع، تكفيه ليملأ بطنه و”يموت وهو سعيد”.
إحدى المشكلات في السجن تكمن في عدم التمكن من تكوين علاقة وجدانية رومانسية، واضطرار السجين في كثيرٍ من الأحيان للجوء إلى الخيال. ذكر الكاتب مالك داغستاني في مقابلة معه أنّ السجين يستحضر أمرين أساسين بشكلٍ خيالي ومثالي: المرأة والمكان، في إطار حنينٍ وجداني قاتل. وقد تتحول هذه المرأة، بحسب المعتقل السابق حسن النيفي إلى كائن متخيل يبادل السجين الشعور، ويكلمه ويتعامل معه، وهو ما يسميه الناقد كولريدج بـ”الخيال الإنتاجي”. لكن هذا الخيال لا يكفي ليكوّن السجين المهارات العاطفية الضرورية لتشكيل علاقة صحيّة بعد الخروج من السجن، ولذلك يروي الحاج صالح أنّ السجناء جميعًا “يتبهدلون” لاحقًا في علاقتهم بالمرأة؛ “بعضنا يتبهدل أكثر، لكن البهدلة ممر محتوم”.
ولعلّ أحد أكثر ما يؤثر في روايات السجناء اجتماعهم بأحبابهم في المعتقل، فيروي المواطن التركي والسجين السابق في السجون السورية رياض أولر أنّه مكث في زنزانة قرب زنزانة زوجته، وكانا يتبادلان الرسائل، ودائمًا ما كانت تحفزّه بألّا يعترف للسجان أثناء التحقيق، وألّا يقرَّ بأمرٍ لم يفعله ليتخلص من الألم، وكان ذلك من أشد الأمور تثبيتًا له. في المقابل، تروي المعتقلة السابقة لينا الوفائي، التي كانت زنزانتها بجانب زنزانة زوجها كيف كانت تستيقظ قبله لإيقاظه كلّ يوم عبر النقر على الحائط، وكانت تقول للسجان “تصبح على خير” ليسمعها زوجها في الزنزانة المجاورة. وفي هذا انقلابٌ غريبٌ لحالة حاول النظام خلقها، تتمثل بالضغط على المعتقلين من خلال اعتقال أفراد عائلاتهم، لكنه خلق من خلال ذلك حالاتٍ من الدفء المؤلم داخل أقبية السجون.
أمّا عن علاقة المرء بنفسه، فللسجناء كلامٌ طويل في هذا الإطار. يروي عمر الشغري مثلًا أنّه حين كان في صيدنايا، وبعدما توفي أخوه وابن عمّه في السجن، قرّر أن يضحي بنفسه ليقدم الطعام لبقية السجناء (في سجن صيدنايا، كان الشخص الذي يأخذ الطعام من عند باب الزنزانة يوسع ضربًا أحيانًا كثيرة)، ولكنه، مع كلّ ما مرّ به، لم يستطع أن يضحي بنفسه لاكتشافه بأنّها غالية عليه. في المقابل، يروي المحامي أنور البنّي أنّ أحد السجناء، بعدما صار أعمىً ورفض مدراء السجن علاجه، مات بخياره. ولعل في ذلك تصديقًا لما رواه فرانكل حول ملكية الإنسان لحياته، لجهة أنّ إحساسه بمعنى حياته يدفعه للعيش، وأن فقدانه لذلك قد يؤدي إلى موته.
إن تجربة السجن ليست تجربة سياسية فحسب، بل هي تجربة إنسانية قبل كل شيء، تجربة فلسفية ونفسية. هي تجربةٌ تكشف نزعات الإنسان الأصيلة، وكيفية تعامله مع نفسه ومع غيره حين يتم تجريده من كلّ ما يملك؛ كيف يكتشف العقل نفسه حارسًا وملجأً ومهربًا في أحلك الظروف، ولا بدَّ من قراءتها من هذا المنظار. إن الحرية لا تتكوّن إلا بعد الأخذ بالاعتبار الأبعاد الفردانية لتجربة السجن. فالمعتقل الذي ينكر ذاته، والذي لا يجب أن يكون إلّا معبّرًا عن الألم العام، لا يمارس الحرية. والداعي إلى حصر تجارب الاعتقال في هذا الإطار، أو المتجاهل له، إنما يُغفل عن الكثير من الكنوز في تلك التجارب.