مما لا ريب فيه، ولا شك أن أدب السجون ظاهرة عرفها الإنسان منذ أقدم عصوره، فقد عثر على أشعار وكتابات مصرية قديمة وآشورية وبابلية وإغريقية تمجد الحرية، وتشكو ظلمة السجون. ولم تخل الكتب المقدسة من الإشارة لذلك، ولم يخل الشعر العربي القديم والحديث، من ذكر الزنازين، فهذا معين بسيسو في واحدة من غرره يفخر ببطولات المعتقلين السياسيين في السجون:
من لم تودع بنيها بابتسامتها = إلى الزنازين لم تحبل ولم تلدِ
وقد لوحظ أن ظاهرة السجن، والسجين السياسي خاصة، حظيت بعناية الروائيين واهتمامهم، وهي ملاحظة دفعت بسمر روحي الفيصل – الناقد السوري- لتتبع تجربة السجن في الروايات العربية، وبصفة خاصة الرواية السورية، التي كثرت فيها موضوعات السجن، والسجين، وممارسات الفاشية فيها، إن كان ذلك في عهد الأسد الأب أو الابن.
وقد صدر مؤخرًا في عمان كتاب بعنوان «فضاء السجن في الرواية العربية» (فضاءات 2020) للباحثة جمانة صوان، التي تتبع فيه تتبعا يقظا دقيقا ظاهرة السجن والسجين السياسي في غير قليل من الروايات القديمة والحديثة. فأقدمها رواية «سبعة أبواب» للمغربي عبد الكريم غلاب 1965 وأحدثها رواية «القط الذي علمني الطيران» للأردني هاشم غرايبة2011. وفي هذا التتبع تركز الباحثة على جانبين اثنين، أولهما: ترصد فيه طريقة الروائي في تصويره معاناة المعتقل السياسي، ابتداءً من مراقبته وملاحقته بعيون المخبرين، إلى أن يتم إلقاء القبض عليه بطريقة دراماتيكية لا تخلو في العادة من العنف، ثم الزج به في إحدى الزنازين. وهذا يتكرر في جل الروايات، وإن كان وضوح الموقف تتفاوت فيه كل رواية عن سائر الروايات الأخرى. وهذا شيء طبيعي ومتوقع.
فرجب – على سبيل المثال – في رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف يتوارى عن أعين المخبرين، لكنهم بعد أن اختفى أربعة أيام، نصبوا له كمينا تناوبوا عليه في أوقات متتالية في البيت، إلى أن حضر بنفسه وألقوا عليه القبض. وردّادٌ في رواية «الساحات» للأردني سالم النحاس، لم يسلم والده وعمه من تلك المطاردة، فاعتقلا واتخذا رهينتين إلى أن يسلم نفسه، وهذا ما كان. وفي «القوقعة» للسوري مصطفى خليفة يفشل المخبرون في اعتقال البطل، فاعتقلوا أخاه نسيم عوضًا عنه. وتذكر الباحثة أنَّ المعتقلين من أقارب المطلوب، بصفتهم رهائن لا يتم إطلاقهم بعد استسلامه، فكثيرًا ما يقضون سنوات طويلة وهم رهن الاعتقال بدون تهمة سوى تهمة القرابة لذلك السجين.
ومن عادة الكاتب الروائي ألا يترك سجينه بمجرد وضعه في هذه الزنزانة أو تلك، بل يتابع المجريات. فعلى الرغم من أن بعض المعتقلين يُعتقلون بالخطأ، أو لتشابه اسم باسم، وعلى الرغم من أنهم يأملون إطلاق سراحهم في وقت قصير بعد تأكد المخبرين من أخطائهم، إلا أنَّ هذا لا يحدث. وقد يبقون في السجن لسنوات وسنوات. وقد يتعرضون لأسوأ أنواع التعذيب. يقول أحد المعتقلين في رواية العراقي فاضل العزاوي «القلعة الخامسة»: لست خائفا، فقد اعتقلتُ خطأً. ولا بدَّ من أنْ يطلق سراحي» إلا أنَّ هذا أيضا لم يحدث.
وتكشف الباحثةُ من خلال اتكائها على السرد أنَّ بعض الذين يُزجُّ بهم في السجون – علاوة على براءتهم مما اتهموا به- اعتقلوا بسبب وشاية كيديَّة من أحدهم لعداوة شخصية لا غير. ومثال ذلك اعتقال بطل رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة عند عودته إلى دمشق قادمًا من باريس، بسبب تقرير لأحد زملائه الطلاب رفعه للجهات الأمنية، يدَّعي فيه أنَّ البطل تفوَّه بعبارات غير لائقة بحق رئيس الجمهوريَّة. وقد اتضح لاحقاً من المجريات أن هذا التقرير تلقته هاتيك الأجهزة قبل 15 عامًا. وعلى الرغم من أنَّ عقوبة هذا التهمة، على فرض أنها ليست كاذبة، الحبس لمدة لا تتجاوز 3 سنوات، إلا أنَّ البطل أمضى في السجن 10 سنوات زيادة على الثلاث.
ولم يفت الباحثة أن تلفت نظر القارئ لشيء آخر، وهو ما يتعرَّض له المعتقلون السياسيون من تعذيب نفسي، وجسدي، ومن عزل في زنازين انفرادية تصيبُ المعتقل بشتى صنوف الاكتئاب، علاوة على الاستفزاز الذي يرافق التحقيق، وما أدراك ما التحقيق.
مسرح هزلي
ومن تراجيديا الاعتقال إلى مسرحية المحاكمة ثمَّة ما يستحقُّ المتابعة. فالمؤلفة تروي عن محاكمات المعتقلين ما يشبه محاكمة جوزيف (ك) في رواية فرانز كافكا (1929) المحاكمة. فأبطال روايات السجون العربية تعرضوا لمثل تلك المسرحية الكوميدية. إذ تقتصر محاكمة المعتقلين في السجن الصحراوي في سورية ـ مثلا- على سؤال المتهم عن اسمه ثم تنتهي المحاكمة ليتم إدخال السجين التالي، ولا يتوقف سير المحاكمة الدورية إلا إذا اعترض أحدهم منكرًا التهم الموجَّهة إليه، وفي هذه الحال يردُّ إلى غرف التعذيب. وإذا لم يعترض أي من المعتقلين تمْضي المحاكمة بسلاسة، ويسر، بدون أن يبصر المعتقلون القاضي الذي يصدر الحكم عليهم بالإعدام، أو المؤبد، أو أيّ حكم آخر. وطبقا لهذا تجري المحاكمات بأسرع من السُرْعة. ويتضح في رواية هاشم غرايبة «القط الذي علمني الطيران» أن الحكم عليه بالحبس لمدة 10 سنوات جرى في أقلَّ من دقيقتين، لأنَّ شاهدًا أكد أنه شيوعي خطير.
وتقتضي الدراسة متابعة شؤون السجين أثناء قضائه عقوبة الحبس على النحو الذي وجدته الباحثة في الروايات موْضع الدراسة. ففي نهاية الأمر إما أنْ يُعدم، أو يطلق سراحه بعد قضاء المحكوميَّة. والروائيون لا تفوتهم متابعة أحوال السجين بعد تحرره من القفص. وقد شبَّهت الباحثة ما تصوره الروايات بالانتقال من السجن الضيق الصغير إلى سجن أكبر. فالمعتقل لا يُطلق سراحه إلا بشروط أمْنيَّة، وهذه الشروط أشد أذى من بقائه في المعتقل. يقول رجب لأخته أنيسة في «شرق المتوسط»: «الحياة في السجن أرْحمُ» والسجين الذي أفرج عنه في رواية عبد الكريم غلاب «سبعة أبواب» يقول بعد خروجه لفضاء الحرية، إنه يتمنى العودة إلى السجن حيث الرفاق الذين يفهمونه بدلا من النظرة التي تزدريه في الشارع، وفي الحيّ، وفي المقهى، وتجنُّب الاقتراب منهُ وكأنَّهُ موبوءٌ. وفي رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة يتحوَّل المعتقل بعد تحرره من الجدران والقضبان إلى دمية بيد السلطة الفاشيَّة. وفي جلِّ الأمثلة التي جرت دراستها يشعر المعتقل الذي أصبح خارج السجن بأنه سجين حيثما حلَّ، وحيثما ارْتحَل. والموقفُ الأكثر إيلامًا ـ وسخرية في الوقت نفسه- إبلاغ المعتقل الذي أمضى في السجن 14 عامًا عُذّبَ فيها كثيرًا أنَّ تحريره من الحبس لن يتم رغم انقضاء محكوميته ما لم يبعث ببرقية شكر للسيد الرئيس.
البناءُ الروائي
على أن المؤلفة، وطبقًا لالتزامها بأعراف الدراسة النقدية الأدبيَّة، لا تقتصر في كتابها هذا على الجانب الخاص بالمعتقل من حيث هو المضمون الأساسي – إذا جاز التعبير – للدراسة. ولكنَّها تجيب على أسئلة البناء الفني والتشكيل المعماري للروايات. وهي رواياتٌ تختلفُ وتَتَباينُ من هذه الجهة، على الرغم من وحدة المحتوى. لذا يجد القارئ في الفصل الثالث من الكتاب فِصَلًا تتأمَّل فيها، وتعاين، توظيف الروائي للمكان، وفي مقدمة ذلك السجن. ثم تتأمل تعامل الكتّاب مع الزمن الروائي، وما فيه من ارتدادات نحو الماضي، ومن تكرارات في ما يدعى بالتواتر. وما فيه من وقفاتٍ تؤدّي للإحساس بالإيقاع البطيء للسرد الحكائي. وتقفُ في هذه الدراسة المطولة إزاء توظيف الروائيين للشخوص، وموقع المعتقل من هذه الإشكالية كوْنَ السجين السياسي يحتلُّ- شئنا أم أبينا – موضع البؤرة في الخِطاب. ولا يعني أنَّ الشخصيات الأخرى غير مهمَّة، أو أنَّ الكاتب لا يبذل الكثير في إطلاعنا على ما يمور في عوالمها الداخلية من تياراتٍ، تكشف عن تبايُن الذوات، بأساليب تراعي أن يكون تحليل الشخصيات عن طريق الحوار، والأفعال، لا عن طريق الوصف التقريري. فهي لا تفتأ تقتبسُ من الروايات ما يُفصح عن تلك التقنية البارعة في استخدام المونولوج. بدون أن تغفل عن ترابط الحوارات والحوادث، في سردٍ لا ينثني فيه السارد عن مراعاة قانونيْ الاحتمال والضرورة في سوْقه هاتيك الحوادث والمُجْريات.
وصفوة القول إن هذا الكتابَ، إذا أضيف لمصنفاتٍ أخرى، وقفتْ بنا عند أدب السجون النثري والسردي، كتابٌ يسدُّ مع غيره فجوة في المكتبة العربية التي هي في حاجةٍ ماسَّةٍ لمثل هذه الدراسات.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن
القدس العربي
من لم تودع بنيها بابتسامتها = إلى الزنازين لم تحبل ولم تلدِ
وقد لوحظ أن ظاهرة السجن، والسجين السياسي خاصة، حظيت بعناية الروائيين واهتمامهم، وهي ملاحظة دفعت بسمر روحي الفيصل – الناقد السوري- لتتبع تجربة السجن في الروايات العربية، وبصفة خاصة الرواية السورية، التي كثرت فيها موضوعات السجن، والسجين، وممارسات الفاشية فيها، إن كان ذلك في عهد الأسد الأب أو الابن.
وقد صدر مؤخرًا في عمان كتاب بعنوان «فضاء السجن في الرواية العربية» (فضاءات 2020) للباحثة جمانة صوان، التي تتبع فيه تتبعا يقظا دقيقا ظاهرة السجن والسجين السياسي في غير قليل من الروايات القديمة والحديثة. فأقدمها رواية «سبعة أبواب» للمغربي عبد الكريم غلاب 1965 وأحدثها رواية «القط الذي علمني الطيران» للأردني هاشم غرايبة2011. وفي هذا التتبع تركز الباحثة على جانبين اثنين، أولهما: ترصد فيه طريقة الروائي في تصويره معاناة المعتقل السياسي، ابتداءً من مراقبته وملاحقته بعيون المخبرين، إلى أن يتم إلقاء القبض عليه بطريقة دراماتيكية لا تخلو في العادة من العنف، ثم الزج به في إحدى الزنازين. وهذا يتكرر في جل الروايات، وإن كان وضوح الموقف تتفاوت فيه كل رواية عن سائر الروايات الأخرى. وهذا شيء طبيعي ومتوقع.
فرجب – على سبيل المثال – في رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف يتوارى عن أعين المخبرين، لكنهم بعد أن اختفى أربعة أيام، نصبوا له كمينا تناوبوا عليه في أوقات متتالية في البيت، إلى أن حضر بنفسه وألقوا عليه القبض. وردّادٌ في رواية «الساحات» للأردني سالم النحاس، لم يسلم والده وعمه من تلك المطاردة، فاعتقلا واتخذا رهينتين إلى أن يسلم نفسه، وهذا ما كان. وفي «القوقعة» للسوري مصطفى خليفة يفشل المخبرون في اعتقال البطل، فاعتقلوا أخاه نسيم عوضًا عنه. وتذكر الباحثة أنَّ المعتقلين من أقارب المطلوب، بصفتهم رهائن لا يتم إطلاقهم بعد استسلامه، فكثيرًا ما يقضون سنوات طويلة وهم رهن الاعتقال بدون تهمة سوى تهمة القرابة لذلك السجين.
ومن عادة الكاتب الروائي ألا يترك سجينه بمجرد وضعه في هذه الزنزانة أو تلك، بل يتابع المجريات. فعلى الرغم من أن بعض المعتقلين يُعتقلون بالخطأ، أو لتشابه اسم باسم، وعلى الرغم من أنهم يأملون إطلاق سراحهم في وقت قصير بعد تأكد المخبرين من أخطائهم، إلا أنَّ هذا لا يحدث. وقد يبقون في السجن لسنوات وسنوات. وقد يتعرضون لأسوأ أنواع التعذيب. يقول أحد المعتقلين في رواية العراقي فاضل العزاوي «القلعة الخامسة»: لست خائفا، فقد اعتقلتُ خطأً. ولا بدَّ من أنْ يطلق سراحي» إلا أنَّ هذا أيضا لم يحدث.
وتكشف الباحثةُ من خلال اتكائها على السرد أنَّ بعض الذين يُزجُّ بهم في السجون – علاوة على براءتهم مما اتهموا به- اعتقلوا بسبب وشاية كيديَّة من أحدهم لعداوة شخصية لا غير. ومثال ذلك اعتقال بطل رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة عند عودته إلى دمشق قادمًا من باريس، بسبب تقرير لأحد زملائه الطلاب رفعه للجهات الأمنية، يدَّعي فيه أنَّ البطل تفوَّه بعبارات غير لائقة بحق رئيس الجمهوريَّة. وقد اتضح لاحقاً من المجريات أن هذا التقرير تلقته هاتيك الأجهزة قبل 15 عامًا. وعلى الرغم من أنَّ عقوبة هذا التهمة، على فرض أنها ليست كاذبة، الحبس لمدة لا تتجاوز 3 سنوات، إلا أنَّ البطل أمضى في السجن 10 سنوات زيادة على الثلاث.
ولم يفت الباحثة أن تلفت نظر القارئ لشيء آخر، وهو ما يتعرَّض له المعتقلون السياسيون من تعذيب نفسي، وجسدي، ومن عزل في زنازين انفرادية تصيبُ المعتقل بشتى صنوف الاكتئاب، علاوة على الاستفزاز الذي يرافق التحقيق، وما أدراك ما التحقيق.
مسرح هزلي
ومن تراجيديا الاعتقال إلى مسرحية المحاكمة ثمَّة ما يستحقُّ المتابعة. فالمؤلفة تروي عن محاكمات المعتقلين ما يشبه محاكمة جوزيف (ك) في رواية فرانز كافكا (1929) المحاكمة. فأبطال روايات السجون العربية تعرضوا لمثل تلك المسرحية الكوميدية. إذ تقتصر محاكمة المعتقلين في السجن الصحراوي في سورية ـ مثلا- على سؤال المتهم عن اسمه ثم تنتهي المحاكمة ليتم إدخال السجين التالي، ولا يتوقف سير المحاكمة الدورية إلا إذا اعترض أحدهم منكرًا التهم الموجَّهة إليه، وفي هذه الحال يردُّ إلى غرف التعذيب. وإذا لم يعترض أي من المعتقلين تمْضي المحاكمة بسلاسة، ويسر، بدون أن يبصر المعتقلون القاضي الذي يصدر الحكم عليهم بالإعدام، أو المؤبد، أو أيّ حكم آخر. وطبقا لهذا تجري المحاكمات بأسرع من السُرْعة. ويتضح في رواية هاشم غرايبة «القط الذي علمني الطيران» أن الحكم عليه بالحبس لمدة 10 سنوات جرى في أقلَّ من دقيقتين، لأنَّ شاهدًا أكد أنه شيوعي خطير.
وتقتضي الدراسة متابعة شؤون السجين أثناء قضائه عقوبة الحبس على النحو الذي وجدته الباحثة في الروايات موْضع الدراسة. ففي نهاية الأمر إما أنْ يُعدم، أو يطلق سراحه بعد قضاء المحكوميَّة. والروائيون لا تفوتهم متابعة أحوال السجين بعد تحرره من القفص. وقد شبَّهت الباحثة ما تصوره الروايات بالانتقال من السجن الضيق الصغير إلى سجن أكبر. فالمعتقل لا يُطلق سراحه إلا بشروط أمْنيَّة، وهذه الشروط أشد أذى من بقائه في المعتقل. يقول رجب لأخته أنيسة في «شرق المتوسط»: «الحياة في السجن أرْحمُ» والسجين الذي أفرج عنه في رواية عبد الكريم غلاب «سبعة أبواب» يقول بعد خروجه لفضاء الحرية، إنه يتمنى العودة إلى السجن حيث الرفاق الذين يفهمونه بدلا من النظرة التي تزدريه في الشارع، وفي الحيّ، وفي المقهى، وتجنُّب الاقتراب منهُ وكأنَّهُ موبوءٌ. وفي رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة يتحوَّل المعتقل بعد تحرره من الجدران والقضبان إلى دمية بيد السلطة الفاشيَّة. وفي جلِّ الأمثلة التي جرت دراستها يشعر المعتقل الذي أصبح خارج السجن بأنه سجين حيثما حلَّ، وحيثما ارْتحَل. والموقفُ الأكثر إيلامًا ـ وسخرية في الوقت نفسه- إبلاغ المعتقل الذي أمضى في السجن 14 عامًا عُذّبَ فيها كثيرًا أنَّ تحريره من الحبس لن يتم رغم انقضاء محكوميته ما لم يبعث ببرقية شكر للسيد الرئيس.
البناءُ الروائي
على أن المؤلفة، وطبقًا لالتزامها بأعراف الدراسة النقدية الأدبيَّة، لا تقتصر في كتابها هذا على الجانب الخاص بالمعتقل من حيث هو المضمون الأساسي – إذا جاز التعبير – للدراسة. ولكنَّها تجيب على أسئلة البناء الفني والتشكيل المعماري للروايات. وهي رواياتٌ تختلفُ وتَتَباينُ من هذه الجهة، على الرغم من وحدة المحتوى. لذا يجد القارئ في الفصل الثالث من الكتاب فِصَلًا تتأمَّل فيها، وتعاين، توظيف الروائي للمكان، وفي مقدمة ذلك السجن. ثم تتأمل تعامل الكتّاب مع الزمن الروائي، وما فيه من ارتدادات نحو الماضي، ومن تكرارات في ما يدعى بالتواتر. وما فيه من وقفاتٍ تؤدّي للإحساس بالإيقاع البطيء للسرد الحكائي. وتقفُ في هذه الدراسة المطولة إزاء توظيف الروائيين للشخوص، وموقع المعتقل من هذه الإشكالية كوْنَ السجين السياسي يحتلُّ- شئنا أم أبينا – موضع البؤرة في الخِطاب. ولا يعني أنَّ الشخصيات الأخرى غير مهمَّة، أو أنَّ الكاتب لا يبذل الكثير في إطلاعنا على ما يمور في عوالمها الداخلية من تياراتٍ، تكشف عن تبايُن الذوات، بأساليب تراعي أن يكون تحليل الشخصيات عن طريق الحوار، والأفعال، لا عن طريق الوصف التقريري. فهي لا تفتأ تقتبسُ من الروايات ما يُفصح عن تلك التقنية البارعة في استخدام المونولوج. بدون أن تغفل عن ترابط الحوارات والحوادث، في سردٍ لا ينثني فيه السارد عن مراعاة قانونيْ الاحتمال والضرورة في سوْقه هاتيك الحوادث والمُجْريات.
وصفوة القول إن هذا الكتابَ، إذا أضيف لمصنفاتٍ أخرى، وقفتْ بنا عند أدب السجون النثري والسردي، كتابٌ يسدُّ مع غيره فجوة في المكتبة العربية التي هي في حاجةٍ ماسَّةٍ لمثل هذه الدراسات.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن
القدس العربي