لطالما عانت اللغة العربية من العجز وضآلة المفردات والتراكيب المعبرة عن التجربة الإيروتيكية التي يعيشها كل إنسان. اذ تغيب التعابير الإيروتيكية عن اللغة على رغم روافدها. هذا ما يقودنا إلى السؤال: ما هو الإيروتيكي أصلاً؟
في أكثر من حديث تطرق الروائي اللبناني الياس خوري إلى ضعف اللغة العربية لناحية التعابير والمفردات التي تتعلق بالتعبير عن الجسد، الجنساني، الشهواني، وكذلك الأيروسي. وهذه الحال تنسحب على التعابير اللغوية سواء في النثر أو الشعر، فلطالما عانت اللغة العربية من العجز وضآلة المفردات والتراكيب المعبرة عن التجربة الإيروتيكية التي يعيشها كل إنسان.
لكن في الوقت ذاته، وبالعودة إلى المعاجم والقواميس العربية من مثل “لسان العرب”، و”تاج العروس”، نجد أنهما يشكلان وحدهما مكتبة معرفية كاملة من حيث الكم الكبير لمجموعة الكلمات التي تتعلق بالجسد. إذاً، ليست المفردات التي تغيب عن اللغة العربية، بل التعابير، أي التراكيب اللغوية التي تمكّن اللسان العربي، وبالتالي الفكر العربي، من التعبير عن مشاعره، أحاسيسه، شهواته، تفضيلاته، وتحديداً التعبير عن التجربة الإيروتيكية.
في كتابه “الشبق المحرم: أنطولوجيا النصوص الممنوعة”، دار رياض الريس، 2002، يذكر المؤلف ابراهيم محمود، خمسة أنواع من المعرفة الجسدية التي تغرق الثقافة العربية بنماذجها:
النوع الأول يتعلق حتماً باللغة، لأنه يتحدث عن ذلك النوع من الكتب التي تتصدر واجهة المكتبات العامة، كتب تتحدث عن أسرار الليلة الأولى، وما يحتاج إليه العريس في مخدع عروسه، وشهر العسل، وأسرار حول الجنس، والزواج المثالي، وأجمل رسائل العشاق، مع صور استعراضية تحملها أغلفة الكتب تلك، وتروج سريعاً، ويُقبل على شرائها، من دون اعتراض يذكر حول هذه العناوين. لكن في هذا النوع من الثقافة الجسدية، يبرز الجسد الذكري دوماً في وضع فحولي، والجسد الأنثوي في وضع شبقي، ينتظر مداهمة الآخر له. هذه القيمومية لم تزل قائمة، على رغم وجود أكثر من حالة قهر اجتماعي ونفسي وثقافي تشمل الجنسين، وبالتالي هي بعيدة من إنتاج تعابير تخص الخصوصية الإيروتيكية.
النوع الثاني من الكتب المتوافر في المكتبة العربية، هي كتب التراث التي تتناول موضوعات الجنس والنكاح والأفعال الجنسية العربية الأخرى. من أشهر هذه الكتب “الروض العاطر في نزهة الخاطر، للشيخ النفزاوي، و”نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب” لشهاب الدين التيفاشي. لكن من هذا النوع من الكتب تُنتج هندسة معرفية تحيل الجسد إلى أبواب ونواف وطاقات، إلى معابر، إلى كلمات سر ينفتح بها وينغلق. ونجد أيضاً نوعاً من المراقبة الدقيقة لأنواع أطعمة دون أخرى، تأثيرات تلك الأطعمة في الحيز الجنسي، ولمقومات القدرة الجنسية عبر مشروبات مختلفة، وسلوكيات مرغوبة وظيفية لنيل المراد، فهي إذاً معرفة لغوية تتعلق بالعضوي، وليس بالإيروتيكي.
النوع الثالث الذي يغرق اللغة العربية بمفرداته وتعابيره المتعلقة بالجسدي والجنسي هو ما تطالعنا به الأدبيات العلمية من تشريح للجسد، والدخول فيه في أقسام الطب المختلفة، وعيادات الأطباء، وعلى الصعيد السيكولوجي، وما يرافق ذلك من إطلاق أسماء ورموز لا تبقي طية واحدة في الجسد من دون إضاءتها وتعليمها، وجعلها موضوعاً لأكثر من درس وظيفي: عضوياً ومعرفياً وسلوكياً. لكن هذا النوع من التعابير والمفردات اللغوية يطغى على التعابير التي يحتاجها الإيروتيكي حين يدخل في حيز الأدبي: الشعري والقصصي والروائي والفلسفي، فهي ليست بالمنشود الضال حين نرغب في الحديث عن التعبير الإيروتيكي للجسد العربي.
النوع الرابع من المعرفة الجسدية لا يتعلق باللغة المكتوبة، بل باللغة الشفاهية المتداولة في ما يحكى ويستأنس به في جلسات وليالي الأنس والخلان، وحتى في حفلات خاصة، لا تخفي إيروتيكيتها وفي صمت حيث الليل يخيم، بينما في العميق ينفتح الجسد على ما يحركه حقيقة ويغذيه، ويعيش لأجله، وفي انتظاره. ولكن أياً من المفردات والتعابير التي تخرج من هذا السياق، أي السياق الشعبي الشفهي، فإنه لا يلبث أن يعتم عليه، ويعتبر خدشاً للحياء العام، وإساءة إلى الأخلاقيات العامة، وتتخذ إجراءات متعددة لإظهار الفاعل هنا بالعاق اجتماعياً، والشاذ والموجه، وهنا يمارس العنف المؤسسي دوره في ضبط الاجتماعي.
النوع الخامس والأخير من المعرفة الجسدية لا يتعلق باللغة مباشرةً، ولكن يمكن أن يكون عاملاً في رفدها بالمفردات والتعبير، هو ما تمكن مشاهدته وبسهولة في البرامج والمسلسلات والأفلام التلفزيونية، أو في الإنتاج البرنوغرافي حيث التقنية الحديثة تخدم فيه ما يرغب فيه شهوياً، عدا أفلام الفيديو والمجلات المتداولة بصور غرائزية مختلفة. في هذا النوع من تداول الجسدي البورنوغرافي يتم تغييب الكلمات، ويعتَّم على سلوكيات وقيم بدعوى الالتزام بالقيم والتقاليد، ويختزل الجسد فيها إلا ما هو غريزي، جنسي، وما هو مقنن أيضاً، أي أن الإنتاج البورنوغرافي يعيد تأكيد القيم والتقاليد الاجتماعية وأحياناً الدينية الطهرية وذلك في سيناريو الحبكات وقصص الأفلام، وبالتالي في الحوارات والتعابير اللغوية.
ما هو الإيروتيكي أصلاً؟
لكن، إن كانت هذه الروافد الخمسة المذكورة ترفد معرفة الجسدي في اللغة، فلماذا تغيب التعابير الإيروتيكية عن اللغة على رغم هذه الروافد. هذا ما يقودنا إلى السؤال: ما هو الإيروتيكي أصلاً؟
كما لاحظنا فإن الإيروتيكي، ليس الجنسي، وليس العضوي البيولوجي، وليس العلمي، وليس البورنوغرافي بالطبع، وأخيراً ليس الشعبي الشفاهي. إن الإيروتيكي هو الجمالي، هو النقيض الشعري لكل ما سبق، فهو الروحي من الجنسي، والعاطفي من العلمي، والوصفي من العضوي، والشعوريّ في البورنوغرافي، وأخيراً هو العشقي من الشعبي الشفاهي.
يورد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن عبارة “استعمال اللذات” عنت قديماً Chrésis Aphrodision، وأن ممارسة الحب وضعت مقابل Aphrodisia . فأفروديت التي تعتبر إلهة الحب والخصب هي ذاتها تعني الممارسة الحبية الجنسية، أي أنه يربط بين الجنس والحب بطريقة لا تحتمل الفكاك. هذا المفهوم اليوناني الذي يعمل عليه فوكو يقربنا مرة أخرى مما قدمناه من تعريف للإيروتيكي في الفقرة السابقة.
ولكن لماذا الاهتمام بموضوعة التعبير الإيروتيكي؟ ألا يترتب علينا الاهتمام بالتعابير العلمية والتكنولوجية في اللغة العربية والعمل على تطويرها؟ بلى، علينا الاهتمام بكل أنواع التعابير التي تنقص أو تندر في اللغة العربية، لكن ها هو ابراهيم محمود في كتابه المذكور يحدثنا عن أهمية الجسد والجسدي حين يكتب: “إن الجسد مهما انسلخ عنا يظل داخلنا، لأن كل ما يعنينا وكل ما نتعرض له ونتفاجأ به يأتي عبره. إنه حديث الممنوع في النصوص، والمحظور الكامن في ما نحن نفكر فيه أو نعيشه. جسدنا نتقاسمه قيمياً عبر العصور. إن حديثنا عن الجسد هو تناولنا لكل ما يعنينا: سياسياً واجتماعياً وادبياً واقتصادياً وتشريعياً وفقهياً وفنياً. فهو موضوعنا الذي يمتد فينا، وربما ننتسب إليه، نكون به وعبره. وهو خزاننا العدمي والوجودي يفرغ ويمتلئ، وهو أفقنا وقوة حجتنا، وهو ذاتنا التي بها نعرف، إنه مسقط معارفنا، وقمة لا بل سدرة منتهى تطلعاتنا، حدودنا وتيهنا وبوصلتنا ومنبرنا”.
في أكثر من حديث تطرق الروائي اللبناني الياس خوري إلى ضعف اللغة العربية لناحية التعابير والمفردات التي تتعلق بالتعبير عن الجسد، الجنساني، الشهواني، وكذلك الأيروسي. وهذه الحال تنسحب على التعابير اللغوية سواء في النثر أو الشعر، فلطالما عانت اللغة العربية من العجز وضآلة المفردات والتراكيب المعبرة عن التجربة الإيروتيكية التي يعيشها كل إنسان.
لكن في الوقت ذاته، وبالعودة إلى المعاجم والقواميس العربية من مثل “لسان العرب”، و”تاج العروس”، نجد أنهما يشكلان وحدهما مكتبة معرفية كاملة من حيث الكم الكبير لمجموعة الكلمات التي تتعلق بالجسد. إذاً، ليست المفردات التي تغيب عن اللغة العربية، بل التعابير، أي التراكيب اللغوية التي تمكّن اللسان العربي، وبالتالي الفكر العربي، من التعبير عن مشاعره، أحاسيسه، شهواته، تفضيلاته، وتحديداً التعبير عن التجربة الإيروتيكية.
في كتابه “الشبق المحرم: أنطولوجيا النصوص الممنوعة”، دار رياض الريس، 2002، يذكر المؤلف ابراهيم محمود، خمسة أنواع من المعرفة الجسدية التي تغرق الثقافة العربية بنماذجها:
النوع الأول يتعلق حتماً باللغة، لأنه يتحدث عن ذلك النوع من الكتب التي تتصدر واجهة المكتبات العامة، كتب تتحدث عن أسرار الليلة الأولى، وما يحتاج إليه العريس في مخدع عروسه، وشهر العسل، وأسرار حول الجنس، والزواج المثالي، وأجمل رسائل العشاق، مع صور استعراضية تحملها أغلفة الكتب تلك، وتروج سريعاً، ويُقبل على شرائها، من دون اعتراض يذكر حول هذه العناوين. لكن في هذا النوع من الثقافة الجسدية، يبرز الجسد الذكري دوماً في وضع فحولي، والجسد الأنثوي في وضع شبقي، ينتظر مداهمة الآخر له. هذه القيمومية لم تزل قائمة، على رغم وجود أكثر من حالة قهر اجتماعي ونفسي وثقافي تشمل الجنسين، وبالتالي هي بعيدة من إنتاج تعابير تخص الخصوصية الإيروتيكية.
النوع الثاني من الكتب المتوافر في المكتبة العربية، هي كتب التراث التي تتناول موضوعات الجنس والنكاح والأفعال الجنسية العربية الأخرى. من أشهر هذه الكتب “الروض العاطر في نزهة الخاطر، للشيخ النفزاوي، و”نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب” لشهاب الدين التيفاشي. لكن من هذا النوع من الكتب تُنتج هندسة معرفية تحيل الجسد إلى أبواب ونواف وطاقات، إلى معابر، إلى كلمات سر ينفتح بها وينغلق. ونجد أيضاً نوعاً من المراقبة الدقيقة لأنواع أطعمة دون أخرى، تأثيرات تلك الأطعمة في الحيز الجنسي، ولمقومات القدرة الجنسية عبر مشروبات مختلفة، وسلوكيات مرغوبة وظيفية لنيل المراد، فهي إذاً معرفة لغوية تتعلق بالعضوي، وليس بالإيروتيكي.
النوع الثالث الذي يغرق اللغة العربية بمفرداته وتعابيره المتعلقة بالجسدي والجنسي هو ما تطالعنا به الأدبيات العلمية من تشريح للجسد، والدخول فيه في أقسام الطب المختلفة، وعيادات الأطباء، وعلى الصعيد السيكولوجي، وما يرافق ذلك من إطلاق أسماء ورموز لا تبقي طية واحدة في الجسد من دون إضاءتها وتعليمها، وجعلها موضوعاً لأكثر من درس وظيفي: عضوياً ومعرفياً وسلوكياً. لكن هذا النوع من التعابير والمفردات اللغوية يطغى على التعابير التي يحتاجها الإيروتيكي حين يدخل في حيز الأدبي: الشعري والقصصي والروائي والفلسفي، فهي ليست بالمنشود الضال حين نرغب في الحديث عن التعبير الإيروتيكي للجسد العربي.
النوع الرابع من المعرفة الجسدية لا يتعلق باللغة المكتوبة، بل باللغة الشفاهية المتداولة في ما يحكى ويستأنس به في جلسات وليالي الأنس والخلان، وحتى في حفلات خاصة، لا تخفي إيروتيكيتها وفي صمت حيث الليل يخيم، بينما في العميق ينفتح الجسد على ما يحركه حقيقة ويغذيه، ويعيش لأجله، وفي انتظاره. ولكن أياً من المفردات والتعابير التي تخرج من هذا السياق، أي السياق الشعبي الشفهي، فإنه لا يلبث أن يعتم عليه، ويعتبر خدشاً للحياء العام، وإساءة إلى الأخلاقيات العامة، وتتخذ إجراءات متعددة لإظهار الفاعل هنا بالعاق اجتماعياً، والشاذ والموجه، وهنا يمارس العنف المؤسسي دوره في ضبط الاجتماعي.
النوع الخامس والأخير من المعرفة الجسدية لا يتعلق باللغة مباشرةً، ولكن يمكن أن يكون عاملاً في رفدها بالمفردات والتعبير، هو ما تمكن مشاهدته وبسهولة في البرامج والمسلسلات والأفلام التلفزيونية، أو في الإنتاج البرنوغرافي حيث التقنية الحديثة تخدم فيه ما يرغب فيه شهوياً، عدا أفلام الفيديو والمجلات المتداولة بصور غرائزية مختلفة. في هذا النوع من تداول الجسدي البورنوغرافي يتم تغييب الكلمات، ويعتَّم على سلوكيات وقيم بدعوى الالتزام بالقيم والتقاليد، ويختزل الجسد فيها إلا ما هو غريزي، جنسي، وما هو مقنن أيضاً، أي أن الإنتاج البورنوغرافي يعيد تأكيد القيم والتقاليد الاجتماعية وأحياناً الدينية الطهرية وذلك في سيناريو الحبكات وقصص الأفلام، وبالتالي في الحوارات والتعابير اللغوية.
ما هو الإيروتيكي أصلاً؟
لكن، إن كانت هذه الروافد الخمسة المذكورة ترفد معرفة الجسدي في اللغة، فلماذا تغيب التعابير الإيروتيكية عن اللغة على رغم هذه الروافد. هذا ما يقودنا إلى السؤال: ما هو الإيروتيكي أصلاً؟
كما لاحظنا فإن الإيروتيكي، ليس الجنسي، وليس العضوي البيولوجي، وليس العلمي، وليس البورنوغرافي بالطبع، وأخيراً ليس الشعبي الشفاهي. إن الإيروتيكي هو الجمالي، هو النقيض الشعري لكل ما سبق، فهو الروحي من الجنسي، والعاطفي من العلمي، والوصفي من العضوي، والشعوريّ في البورنوغرافي، وأخيراً هو العشقي من الشعبي الشفاهي.
يورد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن عبارة “استعمال اللذات” عنت قديماً Chrésis Aphrodision، وأن ممارسة الحب وضعت مقابل Aphrodisia . فأفروديت التي تعتبر إلهة الحب والخصب هي ذاتها تعني الممارسة الحبية الجنسية، أي أنه يربط بين الجنس والحب بطريقة لا تحتمل الفكاك. هذا المفهوم اليوناني الذي يعمل عليه فوكو يقربنا مرة أخرى مما قدمناه من تعريف للإيروتيكي في الفقرة السابقة.
ولكن لماذا الاهتمام بموضوعة التعبير الإيروتيكي؟ ألا يترتب علينا الاهتمام بالتعابير العلمية والتكنولوجية في اللغة العربية والعمل على تطويرها؟ بلى، علينا الاهتمام بكل أنواع التعابير التي تنقص أو تندر في اللغة العربية، لكن ها هو ابراهيم محمود في كتابه المذكور يحدثنا عن أهمية الجسد والجسدي حين يكتب: “إن الجسد مهما انسلخ عنا يظل داخلنا، لأن كل ما يعنينا وكل ما نتعرض له ونتفاجأ به يأتي عبره. إنه حديث الممنوع في النصوص، والمحظور الكامن في ما نحن نفكر فيه أو نعيشه. جسدنا نتقاسمه قيمياً عبر العصور. إن حديثنا عن الجسد هو تناولنا لكل ما يعنينا: سياسياً واجتماعياً وادبياً واقتصادياً وتشريعياً وفقهياً وفنياً. فهو موضوعنا الذي يمتد فينا، وربما ننتسب إليه، نكون به وعبره. وهو خزاننا العدمي والوجودي يفرغ ويمتلئ، وهو أفقنا وقوة حجتنا، وهو ذاتنا التي بها نعرف، إنه مسقط معارفنا، وقمة لا بل سدرة منتهى تطلعاتنا، حدودنا وتيهنا وبوصلتنا ومنبرنا”.