بولص آدم - سائق القطار (ملف أدب السجون العراقي)

ـ كفاكم مافعلتم به، أتركوه، أتركوا سامر وشأنه، وإلا تنتظركم طعنة مدية.
في أول ظهور لسجان على مقربة من بوابة القسم، سمع عن المدية، من الرجل القصير الثخين، ذا الرأس الملفوف بيشماغ، ونظارة بعدسة واحدة فقط. دخل السجان، يُعنف ويفتش عنها في كل شبر من مكان سائق القطار عامر..
ـ أين المدية، أخرجها فوراً وإلا؟
ـ لقد صدقتم حيوان شاذ ولا تصدقون إنسان شريف، ليس بحوزتي مدية!

في القسم الذي يحوي سبعين سجيناً يتوزعون على أسرة بطابقين، موزعة على مربعات نُسميها حظائر، ينفتح ضلعها على ممر ضيق في منتصفها، يمتد من الباب وحتى الجدار المقابل في المؤخرة، سَكَنَ عامر الذي يُعاني من مغص كلوي، في الزاوية القصوى، على السرير الأسفل وعلى سرير فوقه، يضطجع سامرو بحماية عامر وكان يهتم به وكأنه ابنه:
ـ أعطيت أمه كلمة شرف، أن ليس يصيبه أذى..

كان سامر النحيل، ذو القزحيتين الملونتين وشعر رأس فاحم، بارعا في حياكة سِلّية صيد السمك، مُربعات دقيقة، تُعقدُ بخيوط رفيعة، يُنهي كُل واحدة منها خلال أُسبوعين تقريباً، تأخذها أمه في المواجهة وتبيعها للصيادين في سوق النجف..
لولا سائق القطار، لكان سامر عاطلا هُنا، معطوباً بالحبوب المُخدرة التي يتم مَدها سراً، وتحت رحمة حثالة مكبوتين.. هو الوحيد، من يهتم بعامر في أشد ساعات الفشل الكلوي وآلامه، إذ لم يُسمح للجميع أن يقترب من حضيرتهما..

وأنا أُدخن سيجارتي الأولى صباحاً، لم يكن سهلا تلافي النظر نحو كولاج لورق مقوى أخضر، كان مُلصقاً على الجدار فوق رأسي، عربات تتبع مقطورة، وأمرأة تلوح للقطار بمنديل أبيض، ذلك المُلصق الذي شكَّلته ذات يوم مُتلبسا بالحنين، نقلته معي أينما تنقلت في أبو غريب، وكان في مكانه دوما، فوق الرأس، صلة موصول بمكان ولادتي وطفولتي حتى اليوم، حياتنا في محطة القطار وماحولها من بيوت العمال.. ذلك الكولاج البسيط، كان محط أنظار السُّجناء، وكان شفيعهم في الخلاص ورمز الأنطلاقة الأخيرة الى الحرية يوم إطلاق السراح المُنتظر.. لولا قطاري الأخضر وتلك المرأة الملوحة بالمنديل، لما عرفت عامر، وحكاية قطار الموت التي سمعها زميله في المقطورة مع صوت رطمات الريل على القضبان، قطارُ البصرة الذي يقوده، وأوصله الى السجن!..

قبل أعوام طويلة، حَمل السطول المملؤة بالماء، شارك عامر برش عربات القطار الحديدية..وعندما نبتت شعيرات الشارب واللحية، أدركَ بأن تبريد تلك العربات المُستخدمة لنقل المواشي والأخشاب، كان لأنقاذ مئات المسجونين السياسيين المنقولين الى السماوة، كان الأعدام بأنتظارهم ..
صار عامر رجلا بالغا يُعتَمَد عليه، وامتهن سياقَة القطارات على نفس السكة، قطارات الحمل التي تنقل الخشب والمواشي، يتشرب عقلُهُ وتتلون روحه بعالم خطوط السكك الحديدية، وجوه ناظري المحطات وهم يلاحقون عربات القطارات المُغادرة بعيون ناعسة، تُظلل الأيادي عيونهم من الشمس، الأعلام اليدوية الخضراء والحمراء، الأكواخ البعيدة الغاطسة في سراب الأصياف والقطارات تزحف هادرة في براري صماء، قطيع الأغنام التي ينتظرُ راعيها ممتطيا حماره، مرور القطار لينقل قطيعه الى الجهة الُأخرى و تتحول المسافات من شباك القطار إلى امتدادات..
يتوقفُ فجأة عن مواصلة المونولوغ، عند أشتداد ألآم كليته، ينسحبُ محدودباً، يترُكني ويُغادر حضيرة الخرّيجين صوب سريره، يتكفلُ سامر بتغطيته بعد سقيه جُرعة ماء، ولحسن الحظ، فقد تمت ظهيرة هذا النهار، الموافقة على نقله الى مُستشفى في بغداد لغرض غسل الكلية..
كان الزائر الكريه بنظارة العدسة الواحدة، يُحاول الأقتراب من القسم في غياب عامر، يقف عند الباب وينظر صوب سامر المشغول بالسلّية، ثُم يختفي، وعند عودة عامر من بغداد..
ـ .. يقطع القطار مسافة كبيرة وهو يمضي متمهلاً، شكل القرى التي تتابع من خلال النافذة، هادئة تمضي وتسلم إلى أخرى لاتختلف عنها والقطار يسير بأتجاه البصرة.. الا أن قطاري لم يصل أبدا! طوال الوقت، تحدثتُ عن قطار الموت، وبطولة سائقه ( عبد عباس المفرجي) الذي خالف تعليمات السياقة البطيئة وأنطلق بقطاره وبالسرعة القصوى نحو مدينة السماوة.. ظننتُ بأنها من القصص الغابرة التي لم يعُد لها شأن، مَرَّ عليها سنوات طويلة.. لكن التوقف الطويل في المحطة الهرمة التالية، حدث وبصفاء نية رُبما، أن يُسمِعَ زميل لي كان في المقطورة، أقرب شرطي على الرصيف، حكايتي عن سياسيين وصل بهم الأمر الى لعق العرق من أذرع زملائهم، فالعطش والحر في العربات الحديدية المغلقة، كان قاتلا.. ثُم سألَ زميلي سامحه الله:
ـ ياأبو اسماعيل، هل أن الحكاية التي قصها علي عامر، صَحيحة؟!
.. أبي كان السبب، نعم أبي، كان حُلمي أن أتعلم كل شئ يخص الكهرباء، الا أنه منعني، فالكهرباء تقتل وترميك جثة متفحمة بعيدا لأبسط خطأ، مُرغما صرت ماأراد، بمرور الوقت أحببت تلك المهنة، ثم أن ساعات السياقة في المقطورة، أبعدتني عن مشاكل لاتنتهي، وكانت فترات أستراحة رُغم قَلَق وارهاق الرحلات .. مع ذلك، أبي كان السبب!

نُقِل عامر، من الزنزانة عدة مرات الى مستشفى في بغداد، وفي المرة الأخيرة، أخبر الطبيب، السجان المُرافق، بأن:
ـ الفشل الكلوي عند هذا السجين مُتفاقم، لانفع من وصف أدوية له، هو لايسمح للدواء أن يأخذ وقته ليظهر مفعوله، ويُطالبني بعلاج قوي آخر، لدي قواعد طبية أعمل وفقها وليسَ قواعد الجهلة!
في طريق العودة الى أبو غريب، يفصله عن سائق سيارة السجن والسجان الجالس جواره، شباك صغير، كانا يتحدثان عن أوامر بجمع دم المسجونين وتسليمه الى المستشفى العسكري في بغداد، حاجة ماسة لأي قطرة دم يتم التبرع بها لجرحى الحرب، رافق ذلك صوت مرتفع ينبعث من مسجلة السيارة، لكأنها مسامير تُدَق في رأسه، تلك النقرات السريعة على أوتار العود في مقدمة أغنية الربيع، تُزعج عامر المُنكمش على كليتيه، كُل شئ هنا يعمل ضده، فسميعة فريد الأطرش، لم يكن يهمهم ساعة الأندماج، حتى ولو أحترق ألماً..
.. العاصفة القوية التي نسمعُ صفير ريحها و جريان مياه المطر في المزاريب لكأنها شلالات و صرخات عامر الذي يُعذبهُ ماء تسرب الى رئتيه، سعاله الجاف يشُقُّ صدره ويُلفت انتباه المُتعاطفين في القسم.. توجهنا نحو الباب السميك ونادينا من خلال فتحته المُشبكة، صَرخنا مُنادين الحرس بأعلى صوت وبدأنا ركل الباب بقوة، رُبما يسمعُنا أي سجان، لكن،لاجدوى، تفصلنا عنهم، الساحة الرصاصية الغارقة في الظُّلمة، والعاصفة تَلطُم جدران السجن وسقوفه، نسمَعُ خفقات توتياء وحديد على بعض..
ـ يا جماعة، ياأساتذة، ياأنتم الذين هُناك، عامر يحتضر..
وقالوا متجمهرين حوله، وأحدهم يضغط بأبهامه على وريد المعصم:
ـ مكتوب له، أن يموت في أبو غريب!




بولص آدم


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
808
آخر تحديث
أعلى