الحياة الثقافية ـ القراءة والكتابة ـ الترجمة ـ تلفزيون ـ راديو ـ رياضة . طقوس دينية ـ ندوات ـ محاضرات ـ تدريس
بينت في مناسبات سابقة، أن البناء الثقافي في سجن الاحكام الخاصة / أبو غريب كان النشاط الأوفر أمكانية والفرصة الأكثر متاحة، ولكن بنسب متفاوتة في الأهمية بالنسبة للنزلاء، والفرصة الأكثر متاحة، ولكن بنسب متفاوتة في الأهمية بالنسبة للنزلاء، هناك من لم يقرأ كتاباً واحداَ خلال فترة سجنه كلها وفي ذلك خسارة فادحة بنظري.
هل كان النزلاء يقرأون..؟ . نعم ولا.. كان أكثر النزلاء لا علاقة له بالقراءة البتة وبعضهم يقرأ القرآن فقط ... ربما عدداً بسيطاً قرأ بعض الكتب الدينية ولكن القليل كان يقرأ، والأقل من يفعل ذلك باستمرارية، ونادراً من كان يقرأ ليحدث تراكماً ويخلق استنتاجات أما الذين كانوا يقرأون من أجل بلورة أراء واتجاهات، فلم يكونوا أكثر من أصابع اليد الواحدة.
كانت هناك مكتبة السجن التي لا بأس بها، بل وكانت تضم أحياناً كتباً هامة في جميع المجالات(منها مثلاً دلالة على جديتها وأهميتها): الإمبراطورية الأمريكية، لكلود جوليان، وهذا من أفضل ما كتب عن الإمبريالية الأمريكية، نهب العالم الثالث، لبير جاليه، كتاب عن اقتصاد التخلف البرتيني، وهو من الكتب الممتازة، وهكذا فأن حجم الكتب المهمة في السياسة والاقتصاد والتاريخ كان في الواقع كبيراً، ناهيك عن كتب الأدب والمسرح والشعر، وحجم المكتبة بلغ في أفضل الأوقات ربما إلى عشرين ألف كتاب عدا الصحف والمجلات والدوريات. وكانت مصادر المكتبة: من تبرعات النزلاء أولاً، ثم من بعض الدوائر الحكومية، وكانت هذه المكتبة تكفي لو أراد النزيل أن يضع برنامجاً جديا للتثقيف الذاتي، وأن يطالع فيها لسنوات طويلة، وقد تبرعت شخصياً بمئات من الكتب من مختلف الاتجاهات.
ولكن...!
وهذه اللاكن محزنة طبعاً... ويؤسفني القول أن هذه المكتبة الممتازة تعرضت للسرقة والنهب على يد النزلاء أولاً، ثم أجهز عليها موظفي الإدارة، وكذلك للتمزيق وشطب عبارات وجمل وإضافة غيرها، أو اقتلاع صفحات كاملة لا يستسيغها البعض لكتب وأعمال ممتازة وهناك كتب دون على حواشيها شتائم وعبارات بذيئة .. وهلم جرا .. وتعرض المكتبة للسرقة والنهب جرى بصفة خاصة بعد عفو 1991 بحيث أصبحت المكتبة في نهاية التسعينات مهلهلة وشبه خاوية مع الأسف.
والإمكانية المتاحة في القراءة كانت أيضاً فيما يجلبه الأهل من الكتب لك ونزلاء آخرين ، وعلى المرء هنا أن يكون دقيقاً، فلا يحاول جلب كتاب ممنوع أو مثير، فالإدارة كانت مبدئياً تسمح بالكتب المطبوعة في العراق أو في الخارج ولكن بعناوين غير مثيرة (سياسية مثل الكتب الشيوعية أو دينية طائفية) ولكن مع ذلك فقد دخلت إلى السجن كميات من الكتب الدينية بعضها كان ممنوعاً، فعلى سبيل المثال فقد قرأت 12 تفسيراً للقرآن الكريم كانت كلها غير ممنوعة باستثناء واحدة منها كانت ممنوعة: في ظلال القرآن لسيد قطب، كما قرأت كتباً ممنوعة دينية وغير دينية. ولكن الكتب الأدبية والعلمية والتاريخية وباللغات الأجنبية كانت مسموحة، وكذلك القواميس والموسوعات وكتب تعليم اللغات.
إذن كان موجود المكتبة كافياً، لاسيما في الثمانينات، والمسموح إدخاله كان ممكناً والمطلوب هو الإرادة فقط وتحويل هواية المطالعة أو الرغبة في القراءة إلى برنامج ثقافي يؤدي إلى نتيجة مؤكدة، هي إضافة مهمة إلى وعي النزيل وقدراته العلمية والثقافية وكنت أحدث الأخوة النزلاء عن تجربة القائد الاشتراكي الأسباني كاباليرو الذي أعتقل في عهود الرجعية بأسبانيا وكان عاملاً بسيطاً وأمياً، بيد أنه تمكن في غضون بضعة سنوات، أن يتعلم أكثر من لغة واحدة ويثقف نفسه ثقافة ممتازة. وأنا برغم أنني أقرأ وبنهم منذ طفولتي، إلا أنني قرأت في السجن أضعاف ما قرأت خارج السجن، ولا أستطيع معرفة عدد الكتب التي قرأتها، بل لا أستطيع حتى تخيل ذلك، فقد كانت الكتب تردني من مصادر عديدة، بما في ذلك باللغة الأجنبية، واستطعت أن أدرس برامج كاملة، الأمر الذي ساعدني بصورة مؤكدة على الكتابة في تلك المواضيع وسأذكر ذلك في مجال تجربتي في الكتابة.
وبذلك يبدو أن القراءة والكتابة كانت الأكثر إتاحة من بين ما يمكن أن يشغل الإنسان وإني أعتقد أن استمرارية القراءة كاللياقة البدنية، فعلى المرء أن يحافظ على لياقته البدنية ثم أنك حتى تستطيع أن تكتب، عليك أن تتقن بضعة أشياء في مقدمتها أحاطه تامة بالموضوع الذي تنوي الكتابة فيه. وإذا وافقت على فكرة أن الإنسان يستخدم فكره قبل قلمه، لذلك يجب ملئ الفكر كضرورة ملئ القلم بالحبر. وإني أعتقد أن حياة الإنسان وموته هي مسألة فكرية، وقد يبدو رأي هذا للوهلة الأولى مبالغة، ولكن علمياً وطبياً، أليس موت الدماغ وتوقفه علامة على الموت المؤكد للإنسان، وحتى توقف القلب يمكن للأطباء مواصلة العمل معه بأحداث رجات كهربائية، أما موت الدماغ، القائد للإنسان، أفكاره وأفعاله، فهو الموت النهائي الذي يحيل الإنسان إلى كومة من اللحم البارد ليس إلا.
وكانت الكتابة عندي (منذ 1975)، أي منذ بدأت الدراسات العليا قد تحولت إلي عمل لا شأن له بالمزاج أو ازدحام جدول الأعمال، فالقراءة والكتابة دائماً على رأس جدول الأعمال ولا يقعدني عنها سوى المرض الشديد، حتى في حالات الرقود في الفراش(وهي أسوء أصناف القراءة)، فهناك الكثير من القراءات الخفيفة التي لا تحتاج إلى تركيز شديد، أو كتابة ملاحظات على طاولة المكتب.
كنا قد تلقينا أثناء دراستنا الجامعية العليا في ألمانيا أصول التعلم والمعرفة واكتساب الحقائق وتكريسها وتطوير الإدراكات متميز الجوهري من السطحي، والرئيسي عن العارضي، وصياغة قواعد وقوانين واستنباط غيرها، الأمر الذي يكَون معرفة دقيقة، بل حاسة في معرفة الكتاب، الغث منه والسمين، والتدرج في تجرع العلم والمعرفة، وهكذا فقد وظفت كافة امكاناتي العقلية والمادية في دراسة مكثفة ومعمقة مستغلاً كل ما هو ممكن ومتاح في هذا المجال. وهكذا كانت احتياجاتي من المواد: كتب، مجلات تخصصية كانت تردني دون انقطاع وليس بوسعي أن أشكو أحداً من أهلي وأصدقائي، فقد كانوا يلبون كل طلباتي، وكذلك حاجاتي من الورق والدفاتر والأقلام، وأخوة من النزلاء كانوا يسرعون ويقدمون لي ما لديهم من الأوراق والأقلام والدفاتر، ولا أنسى ألطافهم نحوي أمثال الأخوة: الأخ الحاج عامر الجزائري، والأخ ميثم البصري، والأخ غالب أبو إبراهيم، وغيرهم.
وقد ركزت بنسبة مهمة في دراساتي وأبحاثي في مجال دراسة الشريعة. وكما هو معروف فأن الشريعة تعمل في اتجاهين:
الأول ـ العبادات: وهي الواجبات الدينية من الالتزامات والفرائض وأبرزها، الصوم والصلاة، والحج، والزكاة، وشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والابتعاد عن الشرك وصيغه.
الثاني ـ المعاملات: وهي تعاملات المسلمين في الحياة وهي تتضمن ما يتعامل به الناس من تعاملات مادية وشخصية، وكل هذه الاتجاهات درسناها دراسة كافية، لكننا ركزنا على جانب من المعاملات، مهم ومؤثر، وهو الدولة. هذا المصطلح المهم والخطير، وما يتبع ذلك من مفاهيم سياسية عن الأمارة وشروطها وأدلة الحكام الشرعية وأركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأسس التي قام عليها التشريع، هذه الدراسات العميقة التي قادت إلى مباحث في الفكر السياسي الإسلامي. وإني أقرر هنا أن فكراً سياسياً عربياً / إسلاميا عميق الجذور، واسع الأفق والشمول، وهناك عناصر مكونة للفكر السياسي العربي الإسلامي وهي مادية وراسخة وليست مبنية على تأويل، وهناك مصادر للفكر العربي الإسلامي، واضحة وتحدد بدقة شخصية هذا الفكر وتفرده الفريد.
القراءة والدراسة كانت جنة السجين، يهرب إليها من جحيم السجين. وبالنسبة لي كانت تمثل أجازة طويلة للقراءة والعمل المفيد الممتع. فأنا لم أضيع ولا يوماً واحداً مجاناً، سوى مرحلة التوقيف وفي زنزانة الإعدام حيث كانت المواد للقراءة غير متوفرة، ولا الورق والقلم.. كنا فيها نكتفي بأحاديث لها طابع تاريخي، معلومات عن أحداث مهمة، تأريخ دول، أسباب الحروب المهمة، والصراعات الكبرى في التاريخ..الخ.
ولكن من المؤكد أن النزلاء لم يكونوا جميعاً بنفس الرغبة الجامحة في القراءة والبحث، والسبب هو أن القراءة بهدف تكوين تراكم ثقافي يستلزم شروط ذاتية وموضوعية عديدة، وليس ضرورياً أن يكون الجميع على درجة واحدة من الاهتمام، نعم إن الثقافة العامة مهمة، ولكن العمل في قطاع في قطاع التكنولوجيا مهم أيضا، ثم أليس البحث في علوم الهندسة والطب مهم، بديهي أن هذه الاتجاهات مهمة ومن المؤسف أن بعض الأخوة من النزلاء ممن لديهم اهتمامات علمية صرفة تعذر عليهم متابعة تخصصاتهم بسبب الظروف المحيطة، حيث يصعب وجود مختبرات علمية أو ورش عمل تكفي طموحهم، وإن كان بعضهم قد أقدم على محاولات جريئة منهم الأخ د. محمد الخياط الذي أنجز ترجمة بحث مهم عن موضوع كنت أمتلك معلومات بسيطة عنه وهو زراعة الكمأة وكنت أتصور أنه سر من أسرار الطبيعة، وأنه لا يزرع أبداً.. وكذلك الأخ الدكتور معن محمد رشاد الذي أنجز بحثاً عن أمكانية تأسيس معمل بسيط للماء المقطر.
كان تواجد الأدباء والكتاب في السجن نادراً أذكر منهم: المرحوم القاص العراقي الكبير محمود جنداري، و د. جليل كمال الدين، أستاذ الأدب الروسي ومترجم لعدد كبير من الأعمال المهمة منها رواية وداعاً غولساري، لجنكيز أتماتوف، والكاتب والأديب شوقي كريم حسن، كما كان أخ فاضل وأديب من آل الأعسم. وعلى حد علمي فأن الأخ المرحوم محمود جنداري، كان يعمل داخل السجن، وكذلك الأخ شوقي كريم حسن. كما أن الأخ د. عبد الكريم هاني (طبيب) أنجز ترجمة رائعة عن تاريخ حضارات المكسيك، وبلغته الإنكليزية الرائعة قدم للمكتبة العربية كتاباً عملاً مهماً للغاية.
وأعرف أن زميلاً كريماً من دبلوماسي وزارة الخارجية في السبعينات سجن لفترة تزيد عن عشرة سنوات كان قد ترجم أعمالاً مهمة وهو الأخ الأستاذ عطا أمين، وربما هناك من لم يطرق سمعي أسمه الكريم أو أعماله، ولكن عدا هذه الأسماء، كان هناك من يبدي اهتماما بالمطالعة والقراءة الجدية، وربما هناك محاولات كتابية، شعر، قصه قصيرة، رسم، محاولات بحثية، وكان بعضهم موهوباً حقاً ولكن الموهبة بحاجة إلى التواصل والتصميم، مثل الأخوة: أحمد الصافي، وفالح مكطوف، وأحمد عبد الستار، وأزهر عدنان، وسعدون عبد الأمير، وعامر غانم، وفؤاد الطرفي، ورزكار عزيز، وفؤاد توفيق، وعبد الرزاق سعد حرج، ونشأت فرج. وحسين صالح جبر، وكان آخرون يهتمون بمطالعة الصحف والمجلات بهدف التسلية وقضاء الوقت أو مطالعة كتباً ودراسات ذات الطابع الديني.
واليوم، وبعد أن خرجنا إلى الحرية، يسألني الكثيرون عن سر مقاومتنا لعسف السنين الطويلة، والقدرة على تجرع كم خرافي من الآلام، فأني لا أمتلك إلا إجابة واحدة: القراءة والكتابة. نعم، وبها فقط لم ندع الكرة الحديدية الهائلة أن تسحقنا، بل واصلنا البناء في ظروف صعبة، معقدة، خارجية وداخلية، وبذلك قلصنا الخسارة إلى حد كبير... ولكن من ينكر أن ليس هناك شيء أروع من الحرية... ولكن القراءة والكتابة كانت تتيح لي التحليق بعيداً، بعيداً عن أسوار سجن أبو غريب وأحداثه المؤلمة... كانت الجسر العظيم إلى الحرية المفقودة كانت صراعاً مع قضبان السجن تأكيداً للذات وقد انتصرت في هذا الصراع.
والاتجاه الثاني الذي كان ممكناً في السجن هو الكتابة: والكتابة بطبيعة الحال أصعب من القراءة، ذلك أن الكتابة هي ممارسة ذاتية، أي أنك تدون أرائك وأفكارك، وهل هناك أخطر من الآراء والأفكار في الشرق المعتاد على مصادرة الآراء والأفكار أيما تعود !! وتنطبق علينا مقولة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب(رض): "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وبتقديري، فأن العبودية هنا ليست العبودية المملوكة فحسب، بل هي العبودية بكافة أشكالها: الطبقية/ الاجتماعية، والفكرية/الثقافية، حتى أضحى إنسان هذا العصر محاصراً حتى خلايا الدماغ. مقيد بالأغلال من كل مكان. تتفاوت طبيعة الغلال، ولكنها أغلال على كل حال، وأسوء تلك الأغلال هي من يشتريها المرء بنقوده التي كد ليحصل عليها، ويضعها بيده في عنقه بسرور وفرح ! وليس نادراً أن توضع الأغلال في الفكر فتمنعه من القراءة والكتابة... ألم يحل روجيه غارودي في فرنسا إلى المحاكمة بسبب أفكاره في ختام القرن العشرين ؟
عندنا في الشرق... فالأغلال واضحة وقاسية، فالمرء يخاف، ولا بد له أن يخاف.. من أبوه وشقيقه الأكبر، أما الفتاة فتخاف حتى من جدران البيت، ثم لابد له أن يخاف من وجهاء العشيرة والمحلة، ومن أهل النفوذ والحضوة، ويخاف من مدير دائرته، ثم لابد أن يخاف عندما يسمع بعض الإذاعات، أو يقرأ صحف وأشياء ممنوعة، ثم لابد أن يخاف القانون(خوف وليس طاعة) ثم الأمن والمخابرات، ووزير الداخلية، وضع ما شئت من العناوين، فكل ذلك يحيلك إلى كائن تملئك الهواجس والمخاوف من الذي يأتي ولا يأتي:" فتقرأ التقويم بحيلة المغلوب، فآه ثم آه " *
(*هذه أبيات للشاعر الكبير، صديقي عبد الوهاب البياتي، أبو علي رحمه الله).
الكتاب الممنوع، حيازة وتداول، خطورة ولكنها لا تنطوي على عواقب وخيمة، سواء كان داخل السجن أو خارجه على أساس القاعدة: ناقل الكفر ليس بكافر، ربما ملعون فقط ! وعقوبته بسيطة، أما الكتابة، فأنه يمثل موقفك ورأيك في الأحداث، الماضي منها والحاضر، وربما المستقبل. وهذه تضعك تحت طائلة الحساب، وما أدراك ما الحساب. والحساب هو المادة 208 في القانون العراقي، وهي مادة مطاطة شاملة تحت عبارة قصاصات ورقية. وكانت هذه المادة من جملة المواد التي أحلت بموجبها إلى محكمة الثورة بسبب مقال وجد معي وكان بعنوان "النداء الأخير قبل غرق السفينة " وإنني أعتقد أن هذا المقال هو السبب الحقيقي للقسوة البالغة التي جوبهت بها، وأثارت حفيظة ذكريات قديمة ومخاوف السلطة.
والمقال لم يكن ينطوي على شتائم أو تهجم (إنني بصدد عرض حجج ولست في معركة كلامية) بل كان نظرة إلى أعماق النظام الشرقي/الإسلامي بصفة عامة. والمقال وإن لم يتضمن تفاصيل أو مشروع برنامج لما ينبغي أن يكون عليه النظام، ولكنه كان يشير إلى ثغرات خطيرة في أنظمتنا العربية/الإسلامية. وبتقديري، أن هذه الثغرات هي عامة، ولكن بهذه الدرجة أو تلك من الخطورة، وبهذا الوضوح أو ذاك. والمقال وإن كان لما ينجز بعد(ثلاث أو أربع صفحات)، إلا أن المقال كان مزعجاً أشد الإزعاج للسلطات(التحقيق والمحاكمة)، على أن هذا الهاجس يلح ويطرح أسئلة كثيرة.
والحقيقة أن الأسئلة المحيرة هي كثيرة جداً في تاريخنا السياسي العربي/ الإسلامي، بل أن الإجابة على بعض تلك الأسئلة محرجة وتستلزم مواجهة مع ألذات، أنفسنا جميعاً، ونحن نعلم أن مواجهة ألذات هي أصعب المواجهات وتتطلب الشجاعة والصراحة، والمعرفة الدقيقة بالأحداث، وكفاءة على صعيد أجراء التحليل. والحاكم الذي حكم على الفقير لله أبو فراس ضرغام عبد الله الدباغ، لم يفهم أو لم يتفهم أو أن يحاول الفهم، أن جدية الهموم هي التي دفعتني لكتابة ذلك المقال، ولم يفهم من المسألة سوى: " ها... أنت تقصد أن الوضع الحالي في العراق سيء" مع العلم أن أسم العراق لم يرد في المقال، وكل ذلك بعصبية وصخب وضجيج، ختمها بالحكم علينا بالإعدام شنقاً حتى الموت، قائلاً: " يالله أطلع روح ".
ويا للأسف، لو كان من سمع ندائي ونداء غيري، ورأي وآراء غيري لربما كان بالإمكان تجنب ما كان، صراعات دموية ذات تكاليف باهضة. والآن ألا نتمنى جميعاً من حل مشكلاتنا باللجوء إلى العقل والحكمة والعلم والسياسة والدبلوماسية ؟ نعم بالتأكيد إن مثل هذه الإمكانية متوفرة، ولكن العقل الشرقي مغرق بالفردية والتسلط، فيما أن تاريخنا ثري، ثري للغاية وأن القراءة الصحيحة للشريعة تتيح لنا المرونة والتوصل إلى حلول لا إلى أزمات معقدة. ألم يقل الأمام الشافعي قبل أكثر من 1200 عاماً: " إن اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية" وهو القائل أيضاً : " رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه"، ولكن ترى هل من يسمع النداء ...........؟
كانت مثل هذه الهواجس والأفكار تملأ فكري حتى ما قبل السجن بما لا يقل عن السنتين، وأي مراقب ذو رؤية علمية يكاد أن يرى بوضوح مآل هذه الصراعات الدموية والتوظـيف السـيئ للتناقضات التي يميل الكثيرون إلى العراقي تصنيفها كتناقضات تناحرية التي لا تؤدي إلا نهائية محطة واحدة: مجازر وخسائر لا داعي لها، ثم لا غالب ولا مغلوب، في حين أن الكثير منها لا يستحق (من وجهة نظر علمية بحتة) حتى كلمة تناقضات، فأنا لا أرى للأسف في هذه الصراعات التي دارت، أو أنها مازالت تدور حتى اليوم، إلا جانباً كبيراً من الدوافع الذاتية التكتلية (هكذا.. حتى أقل من سمات معركة نقابية) مقابل جانب بسيط جداً مما يستحق تسميته تناقضاً، وهو تناقض ثانوي على أية حال، وليس تناقضاَ رئيسياَ أو تناحرياً، فنحن للأسف لا نتقبل أي كلمة أو تصرف من بعضنا البعض وتضيق الصدور ولا يتحمل أحدنا لآخر، نتباهى ونفتخر بالتطرف والعصبية، ونشهر الأسلحة لأتفه الأسباب، ويتطور الأمر إلى صراعات دموية، يطل بعدها الثأر الشرقي والكرامة والقيم التي هي خليط بين القيم العشائرية / والإقطاعية على المشهد فيزيده دموية، فمن أجل جثة واحدة تجدنا مستعدين لان نضع ألف جثة جديدة على الأرض، مستعدين للتفاهم مع الأجنبي القوي، ونتساهل... وما أدراك ما التساهل، ولكننا نقف مواقف جدية متصلبة، تحت عناوين من البطولة والمبدأية العالية.. ليس في بلادنا فقط، بل في بلاد الشرق عامة.
اشتركت مرة في إقامة الصلح بين شقيقين تخاصما في زنزانة الإعدام، وكنت أكبر الموجودين سناً، فطلبوا مني إقامة الصلح بينهما قبيل صلاة الجمعة. وأمام الجميع حدثتهما بهذه الواقعة: حدث مرة ما يكدر الخاطر بين سيدنا الحسين وسيدنا محمد بن الحنفية، وكلاهما من أبناء سيدنا الإمام على بن أبي طالب، فلما عاد سيدنا محمد بن الحنفية إلى داره كره أن يكون قد أزعج أخاه الأكبر الحسين فكتب إليه رقعة يقول فيها: " من محمد بن علي بن أبي طالب أبن خولة الحنفية، إلى أخي الحسين بن علي بن أبي طالب أبن فاطمة الزهراء(يريد بذلك أن يذكر أخاه الحسين بأنه أعلى مقاماً): أطلب إليك، فور استلامك رقعتي هذه أن تأتي إلى داري وتسترضيني ولا تجعلني سابقك بالفضل ". وبالطبع هرع الحسين الكبير إلى أخاه واسترضاه، وكنت وأنا أروي هذا للشقيقين المتخاصمين في زنزانة الإعدام (وكلاهما ملتزمان دينياً)، والدموع تنهمر من عيني لعظمة هذا المثال الأخلاقي، وهو مثال تقشعر له الأبدان، وكنت أتوقع أن ينهار كلا الشقيقان، فإذا بهما يواصلان السباب والشتائم، فتأمل كم نحن قساة القلوب.
كانت هذه الأفكار والهواجس تدفعني إلى الغوص في بطون التاريخ والوصول إلى أعمق نقطة، وقد قرأت عدة كتب: كانت محرضة لي على هذا الغوص، منها: تاريخ الملوك والبلدان، للطبري ذو الأجزاء العشرة، ثم كتاباً رائعاً مع تحفظي على بعض أجزائه للكاتب البريطاني/ اللبناني الأصل البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، فابتدأت رحلة طويلة منذ العام 1988 الاهتمام والتركيز والتخصص في دراسة الشريعة ـ المعاملات ـ الفكر السياسي العربي / الإسلامي. وهناك الكثير من الكتب التي مثلت مصابيح هادية قوية منها: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي، والسياسة الشرعية في أصلاح الراعي والرعية، لأبن تيمية، وروح الدين الإسلامي، لعفيف عبد الفتاح طبارة، وكتاب الخراج للقاضي أبو يوسف والمقدمة لأبن خلدون، والسيرة النبوية لأبن هشام، وغيرها مئات من الكتب العربية والأجنبية أبرزها موسوعة تاريخ العرب(أربعة أجزاء) لمجموعة من العلماء الألمان( وقد ترجمتها بنفسي إلى العربية)، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، لكلود كاهن.
والقراءة الكثيفة مع تسجيل الملاحظات والاستنتاجات والتوصل إلى أفكار جديدة، يدفع كما الحال في عملية خلق فكري، يدفع إلى استنباط وسائل لطرح هذا الموضوع أو ذاك واكتشاف اتجاهات لم يشبعها الباحثون بحثاً، ثم تخلق أراء جديدة، وهكذا وجدت أن البحث يستلزم سبر غور وغوص عميقاً إلى الجذور الحقيقية للفكر العربي الإسلامي، تعود إلى أسس الحضارة التي قامت قي الأمصار العربية: وادي الرافدين، بلاد الشام، وادي النيل، الجنوب العربي، اليمن وحضرموت ووسط شبه الجزيرة العربية، والفهرس الذي توصلنا إليه، هذا الجهد أنتج مؤلف من جزئين بعنوان: تطور نظريات السياسة والحكم العربية في العصر القديم(قبل الإسلام) والوسيط(بعد الإسلام)، ثم تطورت البحوث والاستنتاجات، حول الموضوع، فكان أن وضعت مؤلفاً بعنوان: تحليل نظام الخلافة العربي / الإسلامي.
وهذه الدراسات والأبحاث بوصفها تتناول تاريخاً قديماً، كان العمل فيه لا ينطوي على مخاطر، لذلك كانت المصادر تردني إلى السجن بسهولة تقريباً، وهي كتب غير ممنوعة في غالبيتها العامة باستثناء كتاب أبن تيمية في السياسة الشرعية وتفسير في ضلال القرآن للسيد قطب، وقد استعرتهما من زملاء معنا، وكذلك كان كتاب البرت حوراني ممنوعاً، وكذلك كتاب تاريخ الحركات السرية في الإسلام د.محمد إسماعيل، وفيما عدا ذلك كانت الكتب التاريخية مجازة وتباع في الأسواق العراقية، على إنني حاولت العمل في بحث أحاول فيه دراسة جذور الفكر اليساري في الإسلام، ولكنني سرعان ما أدركت أن البحث في هذا الموضوع ينطوي على مخاطر حيازة كتب ممنوعة، حديثة وقديمة بالإضافة إلى أن مسألة اليسار المرعبة للجميع. ولكنني مع ذلك بلورت تلك الأفكار في مؤلف يحمل عنوان(مباحث في الفكر العربي الإسلامي) درست فيه أفكار ثلاثة علماء: الماوردي، أبن خلدون، أبن تيمية، وثلاث حركات: المعتزلة، القرامطة، والزنج.
وبنتيجة هذه الدراسات وبعمل كان يستغرق مني وقتي بأجمعه (كنت اعمل بين 12-10 ساعة يومياً)، كان اهتمامي بالفكر السياسي قد بلغ وتوصل إلى تبلورات جديدة وأفكار كثيرة قادت إلى أحداث مقارنات مع الفكر السياسي الذي نقراه في الجامعات، القديم منه والحديث(الإغريقي ـ الروماني ـ المسيحي/عصر النهضة ـ الليبرالي ـ عصر التنوير وتطوراته)، قاد ذلك إلى وضع منهج لدراسة في الفكر السياسي المقارن: الفكر السياسي الرافديني/ الإغريقي ـ العربي الإسلامي / المسيحي الليبرالي، والعمل يحمل عنوان: الاستهلال والاستكمال، وقد عملت فيه زمناً طويلاً كلفني جهداً كبيراً، إذ عملت فيه ما يزيد على السنتين والنصف.
وباستثناء هذه الأعمال ذات الطابع الفكري والسياسي، كانت هناك أعمال غير مثيرة للسلطات: مثل الدروس الأساسية في اللغة الألمانية، وكذلك: تعلموا الألمانية وهذان كتابان في تعلم اللغة من خلال خبرتي في تدريس اللغة الألمانية، وكراس 60 صفحة تقريباً: تحليل عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق 1959 – 1958 ، وكراس عن العولمة/الإمبريالية الجديدة. وإني أعتقد أن العولمة تلطيف لواقع الإمبريالية الجديدة، بالإضافة إلى أعمال أدبية، فقد كتبت خمس مسرحيات، كانت تنطوي على مغزى نقدي، لذلك كنت أخفيها بدقة وأسربها إلى خارج السجن فور الانتهاء منها وهي: تغريد بلابل متعبة، أيها السادة يرجى الانتباه، إفادة شاهد عيان، مختصر الحكاية، حكاية عطب بسيط، وهناك أشعار لبعضها دلالات سياسية، وإن كنت لا أكتب الشعر كثيراً ولكن تلك الأبيات تمثل وتعكس الموقف الوجداني والسياسي ولم أفكر يوماً بنشرها.
إذن كانت مساحة الكتابة واسعة، وفي الواقع أن دراستنا الجامعية في ألمانيا ساهمت بالطبع في حيازة الأسس المعرفية والمنهجية في التعليم وكتابة البحوث. فهناك قواعد في القراءة المفيدة، وكذلك قواعد في الكتابة، وهي تمثل الأسس الموضوعية للجهد البحثي، ثم يليه أو يأتلف معه الجهد الذاتي المتمثل في القراءة المكثفة الموجهة والمركزة، وامتلاك الرؤية العميقة والاختصاص في موضوعة البحث.
وإلى جانب الكتابة، كانت هناك أمكانية متاحة في عمل الترجمة، التي كانت بالنسبة لي تمثل مكاسب عديدة في آن واحد. فالترجمة كانت تضعني على تماس مباشر مع اللغة الألمانية التي لم أكن أريد أن أخسرها، فهي بالنسبة لي عمل لا يستطيع أن يفصلني منه أحد، يا إلهي كم أنا بحاجة إلى عمل لا يفصلني منه أحد، يا إلهي كم أنا بحاجة إلى عمل لا يفصلني منه أحد !... الفصل .. يا لها من كلمة مرعبة ولكنها كانت في حياتي عادية جداً، وباعث آخر مهم، فقد كانت معظم الكتب التي ترجمتها مهمة للقراء العرب.
وكنت قبل السجن قد ترجمت مقالات عديدة بعضها مهم للغاية، ولكني ترجمت كتاباً رائعاً عن أحداث الحرب الأهلية الأسبانية، وأنا أعلم كم هي كبيرة حاجة المثقفين العرب إليه. وبعد سنة من وجودي في السجن، طلب مني ترجمة كتاب ميكانيكا وقيادة السيارات والإشارات الدولية في جزأين، ثم وقع بين يدي مصادفة رواية لكاتب أقدره كثيراً وهو الكاتب التقدمي الأمريكي جاك لندن مؤلف رواية العقب الحديدية، وقد أهداه لي الأخ نزار القاضي الذي غادر السجن وهي رواية (عصيان على السفينة الزينورا)، ولكني بعد ذلك ولمدة تجاوزت السنة عملت بصورة مرهقة جداً بكتاب هو من أروع الكتب في تاريخ العرب، لمستشرقين ألمان بأربعة أجزاء. وكان عملاً مرهقاً لبصري وصحتي عامة، ولكنه عمل يستحق التعب، وبعد ذلك ترجمت كتاباً عن حضارة الأزتيك والمايا والأولميك في المكسيك، (وقد ترجم الأخ الدكتور عبد الكريم هاني فيما بعد عملاً مهماً عن حضارة المكسيك)، ثم ترجمت رواية مهمة من أدب المقاومة للكاتب الألماني كلاوس مان بعنوان (هروب إلى الشمال ) وكان هدية من الأخ الدكتور رشدي الرشدي المختص بدراسات أدب المقاومة، ورواية أخرى من أدب المقاومة لكاتب ألماني مشهور وهو هارالد هاوزر بعنوان سفير بلا تفويض.
ثم وقعت بيدي صفة مجموعة كتب بالألمانية ترجمت منها روايتين لكاتب ألماني مشهور، هاينز كونزاليك، وهذا الكاتب غزير الإنتاج، ويكتب بأسلوب يشبه أسلوب أحسان عبد القدوس، ويثير أعجاب قطاعات واسعة من القراء والروايتان: طريق إلى الجحيم، تدور أحداثها حول ثورة عمالية في البرازيل، والأخرى: مسرح الجبهة، تدور أحداثها في الحرب العالمية الثانية في جبهات الاتحاد السوفياتي والنرويج، وهي ذات طابع إنساني/ مقاومة، ورواية ثالثة لكونزاليك وجدانية وغير مهمة سياسياً.
ولكن وقبيل خروجي من السجن بأشهر، ترجمت مقدمة لترجمة القرآن الكريم للأستاذة الألمانية المعروفة آنا ماريا زيشل (45) صفحة، وعمل آخر جميل هو دفتر تخطيطات مايكلو أنجلو للأستاذ الألماني ديتر شمت، وهو (كما أعتقد) لا غنى لطلبة معاهد وأكاديميات الفنون الجميلة.ودراسات تاريخ الفن.
لاحظ أن جميع هذه الترجمات هي غير خطيرة(على صعيد الإدارة والأمن) ولكنها بالنسبة لي، فأن أي مساهمة مهما كانت صغيرة في التأثير على مستوى وعي الناس وثقافتهم مكسب كبير لقد عملت لمدة ستة عشر عاما متواصلة مع القراءة والكتابة والترجمة دون توقف، وكنت أحياناً أعمل لساعات طويلة وليس من مواد مسـاعدة سوى قامـوس شريجلة وموسوعة دودن الألمانية Duden، وكان لهذا الكتابان قيمة لا تقدر بثمن وكذلك كتاب المنجد، وأريد بذلك القول أن بإمكان المرء أن يعمل حتى في ظروف تقارب المستحيل, وكانت الإدارة تمنع الكتب وتصادرها، ولكنها كانت تعيد الكتب غير الممنوعة، بما في ذلك كتباً صادرة عن دار التقدم في موسكو(وهي دار نشر غير مرغوبة) وبذلك كان بإمكان النزيل أن يشغل وقته، وما أكثر وقته إن شاء استغلاله استغلالا حسناً في ظروف ومعطيات معقولة.
في ظل نظام منع الراديو عن النزلاء(رغم وجود عدد لا باس به من أجهزة الراديو لدى السجناء بشكل سري، وكان اكتشافه يعرضهم للعقاب أو المصادرة)، لذلك كان وجود التلفزيون مهماً، بل حاسماً في حياة النزلاء ولا يمكن تصور الآثار السلبية لغيابه، وإن كان بعض الأخوان من النزلاء لا يقدرون هذه المسألة حق قدرها، فالتلفاز كان الجهاز المدهش الوحيد الذي نستطيع عبره أن نشاهد الطبيعة والماء والبحار والأشجار والحيوان، والأرض والعلوم والألوان، الأخبار السياسية والثقافية والعلمية والفنية وموسيقى وأفلام، نحن الذين لا تمتد أبصارنا إلا بضعة أمتار فقط، مقطوعين الصلات مع العالم الخارجي بكل ما فيه، إلا عبر هذا الجهاز، وبواسطته نطلع على الأخبار، ثم على الصور والأفلام السينمائية، وبعضها رائع وجميل ومفيد، وفعاليات رياضية.
فالتلفاز كان شيئاً مهماً للغاية، وبدونه لم يكن لدى النزيل إلا الفراغ التام الذي تكمن فيه جوانب سيئة، مدمرة للشخصية، وإنني أعتقد وإن كنت لست من مدمني مشاهدة التلفاز بسبب انغماسي التام في القراءة والكتابة، إلا أن التلفاز يتيح لك مشاهدة ومتابعة أحداث مهمة ويجعلك على صلة بالأحداث العالمية، وكنت لا أفوت مشاهدة نشرة الأخبار والمتابعات الدولية والثقافية، لذلك كنت أسعى بكل قواي أن لايحرم النزلاء من هذا المصدر الثقافي الذي يدونه يستحيل حياة السجن إلى فراغ هائل ومطحنة رهيبة لعقل الإنسان.
كانت إدارة السجن تسمح بوجود تلفزيون كبير الحجم، يوضع للجميع في الممر، وكان النزلاء يجمعون التبرعات لشراء التلفاز، وبالإضافة لذلك كانت تسمح (بسهولة أو بصعوبة، وغالباً عن طريق المافيا) بإدخال أجهزة تلفزيون خاصة يضعها النزيل في غرفته، كما شاع في الآونة الأخيرة تلفزيونات صينية صغيرة الحجم زهيدة الثمن لا يتجاوز ثمنها 40,000 دينار أو أقل20)) دولار، كانت المافيا وقياداتها الجبارة تتولى إدخال هذه الأشياء(ثلاجة ـ مجمدة ـ مكيفة هواء) مقابل (أتعاب) معقولة، وهكذا كان التلفاز من الفقرات المهمة في حياة النزيل.
كان التلفاز العراقي يبث أربع قنوات: العامة، الشباب، الفضائية العراقية وقناة الرياضة، وإذا ضربنا صفحاً عن المواد الدعائية ، فإن هذه البرامج كانت تتيح مجالاً لا باس به من المتابعات الثقافية. ولكن اهتمامات النزلاء متفاوتة بالطبع، فكان هناك من يحرص على متابعة المواد الثقافية وآخرين يهتمون بالأفلام والغناء، وهناك من يتابع الرياضة.. وهلم جرا.
الرياضة كانت من بين الفعاليات المهمة سواء على صعيد المشاهدة أو متابعة للأخبار، ومشاهدتها في النقل ألتلفازي، ولكن كانت هناك فرصة لممارسة أنواع عديدة من الرياضة في مقدمتها كرة القدم والكرة الطائرة وكرة السلة ورياضة كمال الأجسام وكرة الطاولة، كما شاع بين النزلاء أيضاً تعلم الرياضات القتالية، كراتيه، وتايكوندو وبوكسينك، وكان هناك من يدعي أنه مدرب أو بطل، أو صاحب باع طويل. ولا شك أن بعضهم كان حقاً على دراية واسعة بهذه الرياضة، ولكن كالعادة فالسجن يزخر بالمدعين، وبمن يبالغ في تقدير إمكانياته، وبعضهم لم يكن يعوزه الخيال، فيروي قصصاً خيالية، ربما شاهدها في الأفلام، فيختلط الحلم بالحقيقة.
كانت هناك فرقاً رياضية منتظمة للألعاب الجماعية، وهناك دوري لكرة القدم وكؤوس وجوائز، وهو عمل يستحق الإشادة. وإلى جانب هذه الألعاب، كان النزلاء يشعرون بصفة عامة بأهمية الرياضة للجسم والصحة، فكان الجميع يمارس الرياضة بما يقدر عليه وما يعرفه، ومن ذلك، الهرولة أو السير لمدة طويلة، وكان البعض يمارس التمارين التكوينية(وهي من تمارين اللياقة للقوات الخاصة). أما النزلاء الذين تجاوزوا سن الشباب، فقد كان الهدف من ممارسته للرياضة هو الحفاظ على لياقة بدنية معقولة، كما أن التجربة أثبتت أن لا يمكن أن تكون الصحة سليمة مع جسم خامل لا يتحرك، والآم الظهر والمفاصل والعظام، إنما هي نتاج للمكوث الطويل دون حركة في الغرف، لذلك ومهما كانت المساحة ضيقة، لا بد من ممارسة الرياضة يومياً ولو لدقائق معدودة وهذا ما كنا نفعله، وربما أن السر يكمن هنا في خروجنا من السجن بوضع قادرين فيه على مواصلة الحياة بدرجة نشاط معقولة.
مثلت الطقوس الدينية جانباً من النشاط الثقافي للسجين. والفعاليات الدينية تتمثل بشكل أساسي، بالصوم والصلاة وقراءة القرآن. وكان كثير من النزلاء يسعون في إتقان قراءة أو تلاوة البعض يحاول التجويد، ويمارسون ذلك في مجالس الفاتحة التي يقيمها النزلاء عند وفاة قريب له، كما أن عدداً لا بأس به من النزلاء حفظ القرآن.
النزلاء بصفة عامة يحافظون على الصلاة، إذ أن عدداً كبيراً من النزلاء من التيارات الدينية وغيرهم، يعتبرون أن الدين جزء مهم من الهوية، لذلك كانت ممارسة الطقوس الدينية تتم على هذا الأساس وأيضاً على أسس دينية / سياسية /ثقافية..الخ وهناك من لا يعتبر الدين من اهتماماته الشخصية سواء كان ذلك داخل السجن أو خارجه ولكن عدد هؤلاء قليل.
كان شهر رمضان رائعاً في السجن، حيث يطول السهر ويكثر السمر ودعوات الإفطار وسماع القرآن وصلاة التراويح، وكثرة الأطعمة وتنوع الحلويات. ففي رمضان تعمل الأفران بطاقة مضاعفة (وهنا تضرب المافيا طبعاً ضربتها من أصحاب الأفران) ثم يحل العيد بعد رمضان، وهناك تقاليد خاصة حيث يزور صغار السن الكبار، وأحيانا يتلطف الكبار بروح أخوية زيارة من هم أصغر منهم، وفي الأعياد يتصالح المتخاصمون، وتقام الولائم والأطعمة الفاخرة من الأسماك والدجاج وتشيع أجواء الفرح والبهجة رغم أن السجن ثقيل على نفسية النزلاء ومعنوياتهم. وكانت المواجهة تتم عادة في ثاني أيام العيد، وأنا وإن كنت محروماً من مقابلة عائلتي طيلة الفترة ( أمضيت 31 عيداً في السجن يضاف عليها8 أعياد محجوزاً في البيت)، إلا أنني كنت ألاحظ بألم شديد مقابلة النزلاء لأبنائهم وعوائلهم في هذه الأيام المجيدة ... أنها ألآم تدرج على رصيد فائض الألم الذي لا طائل منه... أنه لأمر مؤسف إلى أقصى درجة....
كان النزلاء يحاولون تداول العلم والثقافة فيما بينهم بوسائل مختلفة، وكنت أجد لدى العديد منهم، رغبة في التعلم، وعند آخرين منهم الفكرة عن نقل بسيط للثقافة. إن التعلم والثقافة هي عملية تطول سنوات كثيرة جداً، ربما تستغرق العمر كله. إن الإنسان لا يقرأ لكي يقال عنه أنه مثقف، بل لكي يجيب على أسئلة العصر المعقدة، وبسببها أصبحت الثقافة معقدة أيضاً. والمرء يقرأ لكي يستطيع أن يتنبأ ما يمكن أن يحدث سياسياً/ اقتصادياً/ ثقافياً، وتشعبت الاتجاهات وتعددت، وتشعبت سبل ووسائل التعليم والثقافة، ولكنني كنت أقابل كل رغبة في التعلم بإيجابية قدر الإمكان فطموحات البعض العلمية تتجاوز قدراتهم، ثم أني كنت أتجنب الخوض في القضايا السياسية الحساسة، وقد علمت أن أحدهم قد أبلغ الإدارة بأني كنت أوجه هذه الجهة أو تلك، وقد كتبت عني تقارير كثيرة جداً ولحسن الحظ، أنها كانت متناقضة جداً، فقد كتب عني أنني من البعث اليسار، وشيوعي، ولكن لحسن الحظ، التناقض أبطل مفعولها. بل كتبوا عني بأنني الموجه لتيار السيد الصدر، وفي الواقع أن المنتمين إلى هذا التيار كانوا يتجهون للقراءة والثقافة، والعلم، أكثر من غيرهم من السجناء ومن هنا كانت علاقتي بهم أخوية وودية.
ولما كانت المحاضرات ممنوعة بالطبع، إذ أن التجمعات ممنوعة، وكان للإدارة عيونها وآذانها بين النزلاء، لذلك فالتجمعات خطرة جداً، ولكن ذلك لم يكن ليمنع أن يجلس اثنان أو ثلاثة في مكان قصي من الساحة في أوقات مناسبة، ليتحدثوا بعفوية أو شبه عفوية في موضوعات ذات طابع سياسي/ ثقافي مهم، وأساساً لم يكن هناك الكثير من المؤهلين(اختصاصاً) لخوض موضوعات كبيرة وبجدية، وأحاطته بما يستحقه كمحاضرة أو كندوة. ومن القليل النادر الذي حدث، جلسة أو جلستين أو ثلاثة، شبه عفوية في مناقشة لكتاب الرأسمالية الجديدة، د. فؤاد مرسي، وهذا الكتاب وجد في الأسواق العراقية في أواخر الثمانينات وطبع في الكويت، وأدخلته إلى السجن وطالعه بعض الأصدقاء، وجرت مناقشة لهذا الكتاب الممتاز الذي كانت معطياته وبياناته تطرح استنتاجا مفاده، أن الأقطاب الرأسمالية في حركة شديدة، وإن شدة التمركز في الولايات المتحدة تطرح احتمالات استقطاب جديدة. كما جرت في مناسبات أخرى مناقشة موقف الطاقة/النفط وحركة الأسواق وتقلبات الأسعار. وربما في مناسبة أو أخرى حول موضوعات مماثلة. وكانت هذه المناقشات لم تكن تدور حول موضوعات خطيرة (برأي السلطات طبعاً)، ولكن مجرد جلوس ثلاثة أو أربعة أشخاص يثير اجتماعهم مغزى غير مقبول، ويتبعه على الأغلب إجراء ما.
فالمحاضرات والندوات كانت تعتبر شكلاً من أشكال التجمع، وإلا كان من الممكن تحقيق برامج ثقافية في السجن إذ كان بيننا عدد لا بأس به من الأختصاصيين في مجالات متعددة: طب، هندسة، سياسة، شريعة، جيولوجيا، آداب، طيارين، قادة وضباط ركن...الخ ولكن تلك هي من الفرص الضائعة أيضاً.
ولكن إذا كانت المحاضرات والندوات محظورة، بيد أن الأحاديث العادية ذات طابع الدردشة، كانت توفر معلومات لا بأس بها مما يثير اهتمام النزيل. فعلى سبيل المثال كان لوجود ضابط طيار كفء وألمعي (المقدم الطيار عبد الله، أبو محمد) بالقرب من سريري، مناسبة لكي يروي يومياً عن أحداث وقصص الطيران، بل شرح لي بدقة تامة، وهو معلم طيران، كل شيء عن هذا العلم، وكان بالإمكان الاستفادة من فرص كهذه في شتى الاتجاهات العلمية والمهنية حتى لو كانت بسيطة وغير مهمة. ولكن كما ذكرت في غير مكان من هذا الكتاب، قسوة ظروف السجن، وكانت مطرقة السجن، هائلة، قاسية، مدمرة، وكان الكثير من النزلاء يئنون تحت قسوته، ترى هل هناك فسحة للثقافة، بل أن تتعب نفسك لكي تحصل على بصيص نور، كوة صغيرة تطل منها، نعم كان ذلك ممكناً، لأنه الممكن الوحيد. ولكن النفوس مرهقة ومتعبة، نعم بوسعك أن تنصح وأن تحث على الصمود، وتقوية ألذات وتنوير الطريق، ولكن ليس بوسعك أن تعاتب المتعب والمرهق.
كنت أحدث الأخوة النزلاء بمنطق العارف، بل الخبير بالمشكلة: أفترض أنك سقطت من حاجز سفينة مبحرة في وسط المحيط الأطلسي... فمواصلة السباحة حتى البر مستحيلة نظرياً، فأمامك بضعة الآف كيلومترات وورائك بضعة الآف كيلومترات، ولكن من المستحيل أن تسدل ذراعيك وأن تتعمد إغراق نفسك ! أسبح... أسبح حتى تتعب، وعندما تتعب أسبح... لا أعرف ماذا سيحصل، ولكني أعرف إن عليك أن لا تستسلم، ربما أنك ستجد قطعة تطوف عليها، أو ربما ستمر سفينة لتلتقطك، ولكن ليس عليك أن تستسلم !
وكان تخصصي في العلوم السياسية والتاريخ، يغري الكثيرين للاقتراب مني وطرح أسئلة سياسية، ولكني وإن كنت أرحب بتطوير الوعي السياسي للأخوة النزلاء، وكنت أفعل ذلك طالما أن الأمر لا يتناول موضوعات حساسة، ولكني كنت أفضل العمل في موضوعات مفيدة ولكنها غير خطرة، تعليم اللغة مثلاً، فهي مفيدة للغاية، ولا تنطوي على مخاطر، مفضلاً الطالب الجاد المصمم، ذو الإرادة القوية. وقد درست حوالي 150 نزيلاً اللغة الألمانية كان 30 – 25 منهم بمستوى طيب جداً، بعضهم أتقن اللغة قراءة وكتابة، ولكن المشكلة كانت في المحادثة، حيث لم تكن هناك أي أمكانية(تقريباً) على الحديث باللغة الألمانية، لكني علمت فيما بعد، أن عدداً من النزلاء الذين غادروا السجن قبلنا، استفادوا حقاً من هذه الدراسة استفادة كبرى، وكان صديق عزيز، وهو المهندس فؤاد توفيق، يدرس اللغة الفرنسية، كما كان الأخ المهندس السيد حامد يدرس اللغة الإنكليزية والأخ يشار عمر اللغة التركية. كانت هناك أمكانية ممتازة لتعلم اللغة، ولكن بدرجات من الجودة والحزم متفاوتة بين الطلاب والمدرسين، كان هناك من يبدأ، ولكنه يترك الدراسة بعد فترة وجيزة، الأمر يستلزم الدراسة والتعب والاجتهاد، ولم يكن الجميع على هذا القدر من العزم.
الثقافة كانت ممكنة، والدراسة كانت ممكنة كذلك وكذلك التعليم، كنت أحث الأخوة النزلاء على الدراسة والقراءة، لأنني متأكد أن لا شيء يمكن إيقاف الهدم من الخارج إلا بناء من الداخل، وأنه صراع بين الفرد والقوى الخارجية أي كانت مسمياتها... القوى الغاشمة المسلطة على الإنسان كثيرة، وعلى حريته ولكن على فكره أيضا، وكذلك وضعه الاقتصادي. ولا شيء يطلق الإنسان حراً من قيوده السخيفة، فيعلو ويسمو عليها، يترفع عن التعصب والتطرف، فيدرك أن قيمة كل شيء إنما يكمن في فائدته لأكبر عدد من الناس، وعندما يتعب الإنسان لكي يصبح راقياً يدرك كم هو صعب الارتقاء إلى المستوى الرفيع، لذلك يتخلى عن التعصب، لأن التعصب يحشر الإنسان في زاوية يأبى الخروج منها، ويدرك أيضاً، أن التعصب حتى للحق إنما هو خطأ.. فإنك وصلت للحق بمشقة وتعب وقوة، قد لا يملكها غيرك.
ولكن تحدي الكرة الحديدية كان يستلزم الشجاعة والذكاء والصبر وقوة الإرادة. والنجاح في هذا لا يختصر بكلمات ....
بينت في مناسبات سابقة، أن البناء الثقافي في سجن الاحكام الخاصة / أبو غريب كان النشاط الأوفر أمكانية والفرصة الأكثر متاحة، ولكن بنسب متفاوتة في الأهمية بالنسبة للنزلاء، والفرصة الأكثر متاحة، ولكن بنسب متفاوتة في الأهمية بالنسبة للنزلاء، هناك من لم يقرأ كتاباً واحداَ خلال فترة سجنه كلها وفي ذلك خسارة فادحة بنظري.
هل كان النزلاء يقرأون..؟ . نعم ولا.. كان أكثر النزلاء لا علاقة له بالقراءة البتة وبعضهم يقرأ القرآن فقط ... ربما عدداً بسيطاً قرأ بعض الكتب الدينية ولكن القليل كان يقرأ، والأقل من يفعل ذلك باستمرارية، ونادراً من كان يقرأ ليحدث تراكماً ويخلق استنتاجات أما الذين كانوا يقرأون من أجل بلورة أراء واتجاهات، فلم يكونوا أكثر من أصابع اليد الواحدة.
كانت هناك مكتبة السجن التي لا بأس بها، بل وكانت تضم أحياناً كتباً هامة في جميع المجالات(منها مثلاً دلالة على جديتها وأهميتها): الإمبراطورية الأمريكية، لكلود جوليان، وهذا من أفضل ما كتب عن الإمبريالية الأمريكية، نهب العالم الثالث، لبير جاليه، كتاب عن اقتصاد التخلف البرتيني، وهو من الكتب الممتازة، وهكذا فأن حجم الكتب المهمة في السياسة والاقتصاد والتاريخ كان في الواقع كبيراً، ناهيك عن كتب الأدب والمسرح والشعر، وحجم المكتبة بلغ في أفضل الأوقات ربما إلى عشرين ألف كتاب عدا الصحف والمجلات والدوريات. وكانت مصادر المكتبة: من تبرعات النزلاء أولاً، ثم من بعض الدوائر الحكومية، وكانت هذه المكتبة تكفي لو أراد النزيل أن يضع برنامجاً جديا للتثقيف الذاتي، وأن يطالع فيها لسنوات طويلة، وقد تبرعت شخصياً بمئات من الكتب من مختلف الاتجاهات.
ولكن...!
وهذه اللاكن محزنة طبعاً... ويؤسفني القول أن هذه المكتبة الممتازة تعرضت للسرقة والنهب على يد النزلاء أولاً، ثم أجهز عليها موظفي الإدارة، وكذلك للتمزيق وشطب عبارات وجمل وإضافة غيرها، أو اقتلاع صفحات كاملة لا يستسيغها البعض لكتب وأعمال ممتازة وهناك كتب دون على حواشيها شتائم وعبارات بذيئة .. وهلم جرا .. وتعرض المكتبة للسرقة والنهب جرى بصفة خاصة بعد عفو 1991 بحيث أصبحت المكتبة في نهاية التسعينات مهلهلة وشبه خاوية مع الأسف.
والإمكانية المتاحة في القراءة كانت أيضاً فيما يجلبه الأهل من الكتب لك ونزلاء آخرين ، وعلى المرء هنا أن يكون دقيقاً، فلا يحاول جلب كتاب ممنوع أو مثير، فالإدارة كانت مبدئياً تسمح بالكتب المطبوعة في العراق أو في الخارج ولكن بعناوين غير مثيرة (سياسية مثل الكتب الشيوعية أو دينية طائفية) ولكن مع ذلك فقد دخلت إلى السجن كميات من الكتب الدينية بعضها كان ممنوعاً، فعلى سبيل المثال فقد قرأت 12 تفسيراً للقرآن الكريم كانت كلها غير ممنوعة باستثناء واحدة منها كانت ممنوعة: في ظلال القرآن لسيد قطب، كما قرأت كتباً ممنوعة دينية وغير دينية. ولكن الكتب الأدبية والعلمية والتاريخية وباللغات الأجنبية كانت مسموحة، وكذلك القواميس والموسوعات وكتب تعليم اللغات.
إذن كان موجود المكتبة كافياً، لاسيما في الثمانينات، والمسموح إدخاله كان ممكناً والمطلوب هو الإرادة فقط وتحويل هواية المطالعة أو الرغبة في القراءة إلى برنامج ثقافي يؤدي إلى نتيجة مؤكدة، هي إضافة مهمة إلى وعي النزيل وقدراته العلمية والثقافية وكنت أحدث الأخوة النزلاء عن تجربة القائد الاشتراكي الأسباني كاباليرو الذي أعتقل في عهود الرجعية بأسبانيا وكان عاملاً بسيطاً وأمياً، بيد أنه تمكن في غضون بضعة سنوات، أن يتعلم أكثر من لغة واحدة ويثقف نفسه ثقافة ممتازة. وأنا برغم أنني أقرأ وبنهم منذ طفولتي، إلا أنني قرأت في السجن أضعاف ما قرأت خارج السجن، ولا أستطيع معرفة عدد الكتب التي قرأتها، بل لا أستطيع حتى تخيل ذلك، فقد كانت الكتب تردني من مصادر عديدة، بما في ذلك باللغة الأجنبية، واستطعت أن أدرس برامج كاملة، الأمر الذي ساعدني بصورة مؤكدة على الكتابة في تلك المواضيع وسأذكر ذلك في مجال تجربتي في الكتابة.
وبذلك يبدو أن القراءة والكتابة كانت الأكثر إتاحة من بين ما يمكن أن يشغل الإنسان وإني أعتقد أن استمرارية القراءة كاللياقة البدنية، فعلى المرء أن يحافظ على لياقته البدنية ثم أنك حتى تستطيع أن تكتب، عليك أن تتقن بضعة أشياء في مقدمتها أحاطه تامة بالموضوع الذي تنوي الكتابة فيه. وإذا وافقت على فكرة أن الإنسان يستخدم فكره قبل قلمه، لذلك يجب ملئ الفكر كضرورة ملئ القلم بالحبر. وإني أعتقد أن حياة الإنسان وموته هي مسألة فكرية، وقد يبدو رأي هذا للوهلة الأولى مبالغة، ولكن علمياً وطبياً، أليس موت الدماغ وتوقفه علامة على الموت المؤكد للإنسان، وحتى توقف القلب يمكن للأطباء مواصلة العمل معه بأحداث رجات كهربائية، أما موت الدماغ، القائد للإنسان، أفكاره وأفعاله، فهو الموت النهائي الذي يحيل الإنسان إلى كومة من اللحم البارد ليس إلا.
وكانت الكتابة عندي (منذ 1975)، أي منذ بدأت الدراسات العليا قد تحولت إلي عمل لا شأن له بالمزاج أو ازدحام جدول الأعمال، فالقراءة والكتابة دائماً على رأس جدول الأعمال ولا يقعدني عنها سوى المرض الشديد، حتى في حالات الرقود في الفراش(وهي أسوء أصناف القراءة)، فهناك الكثير من القراءات الخفيفة التي لا تحتاج إلى تركيز شديد، أو كتابة ملاحظات على طاولة المكتب.
كنا قد تلقينا أثناء دراستنا الجامعية العليا في ألمانيا أصول التعلم والمعرفة واكتساب الحقائق وتكريسها وتطوير الإدراكات متميز الجوهري من السطحي، والرئيسي عن العارضي، وصياغة قواعد وقوانين واستنباط غيرها، الأمر الذي يكَون معرفة دقيقة، بل حاسة في معرفة الكتاب، الغث منه والسمين، والتدرج في تجرع العلم والمعرفة، وهكذا فقد وظفت كافة امكاناتي العقلية والمادية في دراسة مكثفة ومعمقة مستغلاً كل ما هو ممكن ومتاح في هذا المجال. وهكذا كانت احتياجاتي من المواد: كتب، مجلات تخصصية كانت تردني دون انقطاع وليس بوسعي أن أشكو أحداً من أهلي وأصدقائي، فقد كانوا يلبون كل طلباتي، وكذلك حاجاتي من الورق والدفاتر والأقلام، وأخوة من النزلاء كانوا يسرعون ويقدمون لي ما لديهم من الأوراق والأقلام والدفاتر، ولا أنسى ألطافهم نحوي أمثال الأخوة: الأخ الحاج عامر الجزائري، والأخ ميثم البصري، والأخ غالب أبو إبراهيم، وغيرهم.
وقد ركزت بنسبة مهمة في دراساتي وأبحاثي في مجال دراسة الشريعة. وكما هو معروف فأن الشريعة تعمل في اتجاهين:
الأول ـ العبادات: وهي الواجبات الدينية من الالتزامات والفرائض وأبرزها، الصوم والصلاة، والحج، والزكاة، وشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والابتعاد عن الشرك وصيغه.
الثاني ـ المعاملات: وهي تعاملات المسلمين في الحياة وهي تتضمن ما يتعامل به الناس من تعاملات مادية وشخصية، وكل هذه الاتجاهات درسناها دراسة كافية، لكننا ركزنا على جانب من المعاملات، مهم ومؤثر، وهو الدولة. هذا المصطلح المهم والخطير، وما يتبع ذلك من مفاهيم سياسية عن الأمارة وشروطها وأدلة الحكام الشرعية وأركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأسس التي قام عليها التشريع، هذه الدراسات العميقة التي قادت إلى مباحث في الفكر السياسي الإسلامي. وإني أقرر هنا أن فكراً سياسياً عربياً / إسلاميا عميق الجذور، واسع الأفق والشمول، وهناك عناصر مكونة للفكر السياسي العربي الإسلامي وهي مادية وراسخة وليست مبنية على تأويل، وهناك مصادر للفكر العربي الإسلامي، واضحة وتحدد بدقة شخصية هذا الفكر وتفرده الفريد.
القراءة والدراسة كانت جنة السجين، يهرب إليها من جحيم السجين. وبالنسبة لي كانت تمثل أجازة طويلة للقراءة والعمل المفيد الممتع. فأنا لم أضيع ولا يوماً واحداً مجاناً، سوى مرحلة التوقيف وفي زنزانة الإعدام حيث كانت المواد للقراءة غير متوفرة، ولا الورق والقلم.. كنا فيها نكتفي بأحاديث لها طابع تاريخي، معلومات عن أحداث مهمة، تأريخ دول، أسباب الحروب المهمة، والصراعات الكبرى في التاريخ..الخ.
ولكن من المؤكد أن النزلاء لم يكونوا جميعاً بنفس الرغبة الجامحة في القراءة والبحث، والسبب هو أن القراءة بهدف تكوين تراكم ثقافي يستلزم شروط ذاتية وموضوعية عديدة، وليس ضرورياً أن يكون الجميع على درجة واحدة من الاهتمام، نعم إن الثقافة العامة مهمة، ولكن العمل في قطاع في قطاع التكنولوجيا مهم أيضا، ثم أليس البحث في علوم الهندسة والطب مهم، بديهي أن هذه الاتجاهات مهمة ومن المؤسف أن بعض الأخوة من النزلاء ممن لديهم اهتمامات علمية صرفة تعذر عليهم متابعة تخصصاتهم بسبب الظروف المحيطة، حيث يصعب وجود مختبرات علمية أو ورش عمل تكفي طموحهم، وإن كان بعضهم قد أقدم على محاولات جريئة منهم الأخ د. محمد الخياط الذي أنجز ترجمة بحث مهم عن موضوع كنت أمتلك معلومات بسيطة عنه وهو زراعة الكمأة وكنت أتصور أنه سر من أسرار الطبيعة، وأنه لا يزرع أبداً.. وكذلك الأخ الدكتور معن محمد رشاد الذي أنجز بحثاً عن أمكانية تأسيس معمل بسيط للماء المقطر.
كان تواجد الأدباء والكتاب في السجن نادراً أذكر منهم: المرحوم القاص العراقي الكبير محمود جنداري، و د. جليل كمال الدين، أستاذ الأدب الروسي ومترجم لعدد كبير من الأعمال المهمة منها رواية وداعاً غولساري، لجنكيز أتماتوف، والكاتب والأديب شوقي كريم حسن، كما كان أخ فاضل وأديب من آل الأعسم. وعلى حد علمي فأن الأخ المرحوم محمود جنداري، كان يعمل داخل السجن، وكذلك الأخ شوقي كريم حسن. كما أن الأخ د. عبد الكريم هاني (طبيب) أنجز ترجمة رائعة عن تاريخ حضارات المكسيك، وبلغته الإنكليزية الرائعة قدم للمكتبة العربية كتاباً عملاً مهماً للغاية.
وأعرف أن زميلاً كريماً من دبلوماسي وزارة الخارجية في السبعينات سجن لفترة تزيد عن عشرة سنوات كان قد ترجم أعمالاً مهمة وهو الأخ الأستاذ عطا أمين، وربما هناك من لم يطرق سمعي أسمه الكريم أو أعماله، ولكن عدا هذه الأسماء، كان هناك من يبدي اهتماما بالمطالعة والقراءة الجدية، وربما هناك محاولات كتابية، شعر، قصه قصيرة، رسم، محاولات بحثية، وكان بعضهم موهوباً حقاً ولكن الموهبة بحاجة إلى التواصل والتصميم، مثل الأخوة: أحمد الصافي، وفالح مكطوف، وأحمد عبد الستار، وأزهر عدنان، وسعدون عبد الأمير، وعامر غانم، وفؤاد الطرفي، ورزكار عزيز، وفؤاد توفيق، وعبد الرزاق سعد حرج، ونشأت فرج. وحسين صالح جبر، وكان آخرون يهتمون بمطالعة الصحف والمجلات بهدف التسلية وقضاء الوقت أو مطالعة كتباً ودراسات ذات الطابع الديني.
واليوم، وبعد أن خرجنا إلى الحرية، يسألني الكثيرون عن سر مقاومتنا لعسف السنين الطويلة، والقدرة على تجرع كم خرافي من الآلام، فأني لا أمتلك إلا إجابة واحدة: القراءة والكتابة. نعم، وبها فقط لم ندع الكرة الحديدية الهائلة أن تسحقنا، بل واصلنا البناء في ظروف صعبة، معقدة، خارجية وداخلية، وبذلك قلصنا الخسارة إلى حد كبير... ولكن من ينكر أن ليس هناك شيء أروع من الحرية... ولكن القراءة والكتابة كانت تتيح لي التحليق بعيداً، بعيداً عن أسوار سجن أبو غريب وأحداثه المؤلمة... كانت الجسر العظيم إلى الحرية المفقودة كانت صراعاً مع قضبان السجن تأكيداً للذات وقد انتصرت في هذا الصراع.
والاتجاه الثاني الذي كان ممكناً في السجن هو الكتابة: والكتابة بطبيعة الحال أصعب من القراءة، ذلك أن الكتابة هي ممارسة ذاتية، أي أنك تدون أرائك وأفكارك، وهل هناك أخطر من الآراء والأفكار في الشرق المعتاد على مصادرة الآراء والأفكار أيما تعود !! وتنطبق علينا مقولة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب(رض): "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وبتقديري، فأن العبودية هنا ليست العبودية المملوكة فحسب، بل هي العبودية بكافة أشكالها: الطبقية/ الاجتماعية، والفكرية/الثقافية، حتى أضحى إنسان هذا العصر محاصراً حتى خلايا الدماغ. مقيد بالأغلال من كل مكان. تتفاوت طبيعة الغلال، ولكنها أغلال على كل حال، وأسوء تلك الأغلال هي من يشتريها المرء بنقوده التي كد ليحصل عليها، ويضعها بيده في عنقه بسرور وفرح ! وليس نادراً أن توضع الأغلال في الفكر فتمنعه من القراءة والكتابة... ألم يحل روجيه غارودي في فرنسا إلى المحاكمة بسبب أفكاره في ختام القرن العشرين ؟
عندنا في الشرق... فالأغلال واضحة وقاسية، فالمرء يخاف، ولا بد له أن يخاف.. من أبوه وشقيقه الأكبر، أما الفتاة فتخاف حتى من جدران البيت، ثم لابد له أن يخاف من وجهاء العشيرة والمحلة، ومن أهل النفوذ والحضوة، ويخاف من مدير دائرته، ثم لابد أن يخاف عندما يسمع بعض الإذاعات، أو يقرأ صحف وأشياء ممنوعة، ثم لابد أن يخاف القانون(خوف وليس طاعة) ثم الأمن والمخابرات، ووزير الداخلية، وضع ما شئت من العناوين، فكل ذلك يحيلك إلى كائن تملئك الهواجس والمخاوف من الذي يأتي ولا يأتي:" فتقرأ التقويم بحيلة المغلوب، فآه ثم آه " *
(*هذه أبيات للشاعر الكبير، صديقي عبد الوهاب البياتي، أبو علي رحمه الله).
الكتاب الممنوع، حيازة وتداول، خطورة ولكنها لا تنطوي على عواقب وخيمة، سواء كان داخل السجن أو خارجه على أساس القاعدة: ناقل الكفر ليس بكافر، ربما ملعون فقط ! وعقوبته بسيطة، أما الكتابة، فأنه يمثل موقفك ورأيك في الأحداث، الماضي منها والحاضر، وربما المستقبل. وهذه تضعك تحت طائلة الحساب، وما أدراك ما الحساب. والحساب هو المادة 208 في القانون العراقي، وهي مادة مطاطة شاملة تحت عبارة قصاصات ورقية. وكانت هذه المادة من جملة المواد التي أحلت بموجبها إلى محكمة الثورة بسبب مقال وجد معي وكان بعنوان "النداء الأخير قبل غرق السفينة " وإنني أعتقد أن هذا المقال هو السبب الحقيقي للقسوة البالغة التي جوبهت بها، وأثارت حفيظة ذكريات قديمة ومخاوف السلطة.
والمقال لم يكن ينطوي على شتائم أو تهجم (إنني بصدد عرض حجج ولست في معركة كلامية) بل كان نظرة إلى أعماق النظام الشرقي/الإسلامي بصفة عامة. والمقال وإن لم يتضمن تفاصيل أو مشروع برنامج لما ينبغي أن يكون عليه النظام، ولكنه كان يشير إلى ثغرات خطيرة في أنظمتنا العربية/الإسلامية. وبتقديري، أن هذه الثغرات هي عامة، ولكن بهذه الدرجة أو تلك من الخطورة، وبهذا الوضوح أو ذاك. والمقال وإن كان لما ينجز بعد(ثلاث أو أربع صفحات)، إلا أن المقال كان مزعجاً أشد الإزعاج للسلطات(التحقيق والمحاكمة)، على أن هذا الهاجس يلح ويطرح أسئلة كثيرة.
والحقيقة أن الأسئلة المحيرة هي كثيرة جداً في تاريخنا السياسي العربي/ الإسلامي، بل أن الإجابة على بعض تلك الأسئلة محرجة وتستلزم مواجهة مع ألذات، أنفسنا جميعاً، ونحن نعلم أن مواجهة ألذات هي أصعب المواجهات وتتطلب الشجاعة والصراحة، والمعرفة الدقيقة بالأحداث، وكفاءة على صعيد أجراء التحليل. والحاكم الذي حكم على الفقير لله أبو فراس ضرغام عبد الله الدباغ، لم يفهم أو لم يتفهم أو أن يحاول الفهم، أن جدية الهموم هي التي دفعتني لكتابة ذلك المقال، ولم يفهم من المسألة سوى: " ها... أنت تقصد أن الوضع الحالي في العراق سيء" مع العلم أن أسم العراق لم يرد في المقال، وكل ذلك بعصبية وصخب وضجيج، ختمها بالحكم علينا بالإعدام شنقاً حتى الموت، قائلاً: " يالله أطلع روح ".
ويا للأسف، لو كان من سمع ندائي ونداء غيري، ورأي وآراء غيري لربما كان بالإمكان تجنب ما كان، صراعات دموية ذات تكاليف باهضة. والآن ألا نتمنى جميعاً من حل مشكلاتنا باللجوء إلى العقل والحكمة والعلم والسياسة والدبلوماسية ؟ نعم بالتأكيد إن مثل هذه الإمكانية متوفرة، ولكن العقل الشرقي مغرق بالفردية والتسلط، فيما أن تاريخنا ثري، ثري للغاية وأن القراءة الصحيحة للشريعة تتيح لنا المرونة والتوصل إلى حلول لا إلى أزمات معقدة. ألم يقل الأمام الشافعي قبل أكثر من 1200 عاماً: " إن اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية" وهو القائل أيضاً : " رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه"، ولكن ترى هل من يسمع النداء ...........؟
كانت مثل هذه الهواجس والأفكار تملأ فكري حتى ما قبل السجن بما لا يقل عن السنتين، وأي مراقب ذو رؤية علمية يكاد أن يرى بوضوح مآل هذه الصراعات الدموية والتوظـيف السـيئ للتناقضات التي يميل الكثيرون إلى العراقي تصنيفها كتناقضات تناحرية التي لا تؤدي إلا نهائية محطة واحدة: مجازر وخسائر لا داعي لها، ثم لا غالب ولا مغلوب، في حين أن الكثير منها لا يستحق (من وجهة نظر علمية بحتة) حتى كلمة تناقضات، فأنا لا أرى للأسف في هذه الصراعات التي دارت، أو أنها مازالت تدور حتى اليوم، إلا جانباً كبيراً من الدوافع الذاتية التكتلية (هكذا.. حتى أقل من سمات معركة نقابية) مقابل جانب بسيط جداً مما يستحق تسميته تناقضاً، وهو تناقض ثانوي على أية حال، وليس تناقضاَ رئيسياَ أو تناحرياً، فنحن للأسف لا نتقبل أي كلمة أو تصرف من بعضنا البعض وتضيق الصدور ولا يتحمل أحدنا لآخر، نتباهى ونفتخر بالتطرف والعصبية، ونشهر الأسلحة لأتفه الأسباب، ويتطور الأمر إلى صراعات دموية، يطل بعدها الثأر الشرقي والكرامة والقيم التي هي خليط بين القيم العشائرية / والإقطاعية على المشهد فيزيده دموية، فمن أجل جثة واحدة تجدنا مستعدين لان نضع ألف جثة جديدة على الأرض، مستعدين للتفاهم مع الأجنبي القوي، ونتساهل... وما أدراك ما التساهل، ولكننا نقف مواقف جدية متصلبة، تحت عناوين من البطولة والمبدأية العالية.. ليس في بلادنا فقط، بل في بلاد الشرق عامة.
اشتركت مرة في إقامة الصلح بين شقيقين تخاصما في زنزانة الإعدام، وكنت أكبر الموجودين سناً، فطلبوا مني إقامة الصلح بينهما قبيل صلاة الجمعة. وأمام الجميع حدثتهما بهذه الواقعة: حدث مرة ما يكدر الخاطر بين سيدنا الحسين وسيدنا محمد بن الحنفية، وكلاهما من أبناء سيدنا الإمام على بن أبي طالب، فلما عاد سيدنا محمد بن الحنفية إلى داره كره أن يكون قد أزعج أخاه الأكبر الحسين فكتب إليه رقعة يقول فيها: " من محمد بن علي بن أبي طالب أبن خولة الحنفية، إلى أخي الحسين بن علي بن أبي طالب أبن فاطمة الزهراء(يريد بذلك أن يذكر أخاه الحسين بأنه أعلى مقاماً): أطلب إليك، فور استلامك رقعتي هذه أن تأتي إلى داري وتسترضيني ولا تجعلني سابقك بالفضل ". وبالطبع هرع الحسين الكبير إلى أخاه واسترضاه، وكنت وأنا أروي هذا للشقيقين المتخاصمين في زنزانة الإعدام (وكلاهما ملتزمان دينياً)، والدموع تنهمر من عيني لعظمة هذا المثال الأخلاقي، وهو مثال تقشعر له الأبدان، وكنت أتوقع أن ينهار كلا الشقيقان، فإذا بهما يواصلان السباب والشتائم، فتأمل كم نحن قساة القلوب.
كانت هذه الأفكار والهواجس تدفعني إلى الغوص في بطون التاريخ والوصول إلى أعمق نقطة، وقد قرأت عدة كتب: كانت محرضة لي على هذا الغوص، منها: تاريخ الملوك والبلدان، للطبري ذو الأجزاء العشرة، ثم كتاباً رائعاً مع تحفظي على بعض أجزائه للكاتب البريطاني/ اللبناني الأصل البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، فابتدأت رحلة طويلة منذ العام 1988 الاهتمام والتركيز والتخصص في دراسة الشريعة ـ المعاملات ـ الفكر السياسي العربي / الإسلامي. وهناك الكثير من الكتب التي مثلت مصابيح هادية قوية منها: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي، والسياسة الشرعية في أصلاح الراعي والرعية، لأبن تيمية، وروح الدين الإسلامي، لعفيف عبد الفتاح طبارة، وكتاب الخراج للقاضي أبو يوسف والمقدمة لأبن خلدون، والسيرة النبوية لأبن هشام، وغيرها مئات من الكتب العربية والأجنبية أبرزها موسوعة تاريخ العرب(أربعة أجزاء) لمجموعة من العلماء الألمان( وقد ترجمتها بنفسي إلى العربية)، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، لكلود كاهن.
والقراءة الكثيفة مع تسجيل الملاحظات والاستنتاجات والتوصل إلى أفكار جديدة، يدفع كما الحال في عملية خلق فكري، يدفع إلى استنباط وسائل لطرح هذا الموضوع أو ذاك واكتشاف اتجاهات لم يشبعها الباحثون بحثاً، ثم تخلق أراء جديدة، وهكذا وجدت أن البحث يستلزم سبر غور وغوص عميقاً إلى الجذور الحقيقية للفكر العربي الإسلامي، تعود إلى أسس الحضارة التي قامت قي الأمصار العربية: وادي الرافدين، بلاد الشام، وادي النيل، الجنوب العربي، اليمن وحضرموت ووسط شبه الجزيرة العربية، والفهرس الذي توصلنا إليه، هذا الجهد أنتج مؤلف من جزئين بعنوان: تطور نظريات السياسة والحكم العربية في العصر القديم(قبل الإسلام) والوسيط(بعد الإسلام)، ثم تطورت البحوث والاستنتاجات، حول الموضوع، فكان أن وضعت مؤلفاً بعنوان: تحليل نظام الخلافة العربي / الإسلامي.
وهذه الدراسات والأبحاث بوصفها تتناول تاريخاً قديماً، كان العمل فيه لا ينطوي على مخاطر، لذلك كانت المصادر تردني إلى السجن بسهولة تقريباً، وهي كتب غير ممنوعة في غالبيتها العامة باستثناء كتاب أبن تيمية في السياسة الشرعية وتفسير في ضلال القرآن للسيد قطب، وقد استعرتهما من زملاء معنا، وكذلك كان كتاب البرت حوراني ممنوعاً، وكذلك كتاب تاريخ الحركات السرية في الإسلام د.محمد إسماعيل، وفيما عدا ذلك كانت الكتب التاريخية مجازة وتباع في الأسواق العراقية، على إنني حاولت العمل في بحث أحاول فيه دراسة جذور الفكر اليساري في الإسلام، ولكنني سرعان ما أدركت أن البحث في هذا الموضوع ينطوي على مخاطر حيازة كتب ممنوعة، حديثة وقديمة بالإضافة إلى أن مسألة اليسار المرعبة للجميع. ولكنني مع ذلك بلورت تلك الأفكار في مؤلف يحمل عنوان(مباحث في الفكر العربي الإسلامي) درست فيه أفكار ثلاثة علماء: الماوردي، أبن خلدون، أبن تيمية، وثلاث حركات: المعتزلة، القرامطة، والزنج.
وبنتيجة هذه الدراسات وبعمل كان يستغرق مني وقتي بأجمعه (كنت اعمل بين 12-10 ساعة يومياً)، كان اهتمامي بالفكر السياسي قد بلغ وتوصل إلى تبلورات جديدة وأفكار كثيرة قادت إلى أحداث مقارنات مع الفكر السياسي الذي نقراه في الجامعات، القديم منه والحديث(الإغريقي ـ الروماني ـ المسيحي/عصر النهضة ـ الليبرالي ـ عصر التنوير وتطوراته)، قاد ذلك إلى وضع منهج لدراسة في الفكر السياسي المقارن: الفكر السياسي الرافديني/ الإغريقي ـ العربي الإسلامي / المسيحي الليبرالي، والعمل يحمل عنوان: الاستهلال والاستكمال، وقد عملت فيه زمناً طويلاً كلفني جهداً كبيراً، إذ عملت فيه ما يزيد على السنتين والنصف.
وباستثناء هذه الأعمال ذات الطابع الفكري والسياسي، كانت هناك أعمال غير مثيرة للسلطات: مثل الدروس الأساسية في اللغة الألمانية، وكذلك: تعلموا الألمانية وهذان كتابان في تعلم اللغة من خلال خبرتي في تدريس اللغة الألمانية، وكراس 60 صفحة تقريباً: تحليل عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق 1959 – 1958 ، وكراس عن العولمة/الإمبريالية الجديدة. وإني أعتقد أن العولمة تلطيف لواقع الإمبريالية الجديدة، بالإضافة إلى أعمال أدبية، فقد كتبت خمس مسرحيات، كانت تنطوي على مغزى نقدي، لذلك كنت أخفيها بدقة وأسربها إلى خارج السجن فور الانتهاء منها وهي: تغريد بلابل متعبة، أيها السادة يرجى الانتباه، إفادة شاهد عيان، مختصر الحكاية، حكاية عطب بسيط، وهناك أشعار لبعضها دلالات سياسية، وإن كنت لا أكتب الشعر كثيراً ولكن تلك الأبيات تمثل وتعكس الموقف الوجداني والسياسي ولم أفكر يوماً بنشرها.
إذن كانت مساحة الكتابة واسعة، وفي الواقع أن دراستنا الجامعية في ألمانيا ساهمت بالطبع في حيازة الأسس المعرفية والمنهجية في التعليم وكتابة البحوث. فهناك قواعد في القراءة المفيدة، وكذلك قواعد في الكتابة، وهي تمثل الأسس الموضوعية للجهد البحثي، ثم يليه أو يأتلف معه الجهد الذاتي المتمثل في القراءة المكثفة الموجهة والمركزة، وامتلاك الرؤية العميقة والاختصاص في موضوعة البحث.
وإلى جانب الكتابة، كانت هناك أمكانية متاحة في عمل الترجمة، التي كانت بالنسبة لي تمثل مكاسب عديدة في آن واحد. فالترجمة كانت تضعني على تماس مباشر مع اللغة الألمانية التي لم أكن أريد أن أخسرها، فهي بالنسبة لي عمل لا يستطيع أن يفصلني منه أحد، يا إلهي كم أنا بحاجة إلى عمل لا يفصلني منه أحد، يا إلهي كم أنا بحاجة إلى عمل لا يفصلني منه أحد !... الفصل .. يا لها من كلمة مرعبة ولكنها كانت في حياتي عادية جداً، وباعث آخر مهم، فقد كانت معظم الكتب التي ترجمتها مهمة للقراء العرب.
وكنت قبل السجن قد ترجمت مقالات عديدة بعضها مهم للغاية، ولكني ترجمت كتاباً رائعاً عن أحداث الحرب الأهلية الأسبانية، وأنا أعلم كم هي كبيرة حاجة المثقفين العرب إليه. وبعد سنة من وجودي في السجن، طلب مني ترجمة كتاب ميكانيكا وقيادة السيارات والإشارات الدولية في جزأين، ثم وقع بين يدي مصادفة رواية لكاتب أقدره كثيراً وهو الكاتب التقدمي الأمريكي جاك لندن مؤلف رواية العقب الحديدية، وقد أهداه لي الأخ نزار القاضي الذي غادر السجن وهي رواية (عصيان على السفينة الزينورا)، ولكني بعد ذلك ولمدة تجاوزت السنة عملت بصورة مرهقة جداً بكتاب هو من أروع الكتب في تاريخ العرب، لمستشرقين ألمان بأربعة أجزاء. وكان عملاً مرهقاً لبصري وصحتي عامة، ولكنه عمل يستحق التعب، وبعد ذلك ترجمت كتاباً عن حضارة الأزتيك والمايا والأولميك في المكسيك، (وقد ترجم الأخ الدكتور عبد الكريم هاني فيما بعد عملاً مهماً عن حضارة المكسيك)، ثم ترجمت رواية مهمة من أدب المقاومة للكاتب الألماني كلاوس مان بعنوان (هروب إلى الشمال ) وكان هدية من الأخ الدكتور رشدي الرشدي المختص بدراسات أدب المقاومة، ورواية أخرى من أدب المقاومة لكاتب ألماني مشهور وهو هارالد هاوزر بعنوان سفير بلا تفويض.
ثم وقعت بيدي صفة مجموعة كتب بالألمانية ترجمت منها روايتين لكاتب ألماني مشهور، هاينز كونزاليك، وهذا الكاتب غزير الإنتاج، ويكتب بأسلوب يشبه أسلوب أحسان عبد القدوس، ويثير أعجاب قطاعات واسعة من القراء والروايتان: طريق إلى الجحيم، تدور أحداثها حول ثورة عمالية في البرازيل، والأخرى: مسرح الجبهة، تدور أحداثها في الحرب العالمية الثانية في جبهات الاتحاد السوفياتي والنرويج، وهي ذات طابع إنساني/ مقاومة، ورواية ثالثة لكونزاليك وجدانية وغير مهمة سياسياً.
ولكن وقبيل خروجي من السجن بأشهر، ترجمت مقدمة لترجمة القرآن الكريم للأستاذة الألمانية المعروفة آنا ماريا زيشل (45) صفحة، وعمل آخر جميل هو دفتر تخطيطات مايكلو أنجلو للأستاذ الألماني ديتر شمت، وهو (كما أعتقد) لا غنى لطلبة معاهد وأكاديميات الفنون الجميلة.ودراسات تاريخ الفن.
لاحظ أن جميع هذه الترجمات هي غير خطيرة(على صعيد الإدارة والأمن) ولكنها بالنسبة لي، فأن أي مساهمة مهما كانت صغيرة في التأثير على مستوى وعي الناس وثقافتهم مكسب كبير لقد عملت لمدة ستة عشر عاما متواصلة مع القراءة والكتابة والترجمة دون توقف، وكنت أحياناً أعمل لساعات طويلة وليس من مواد مسـاعدة سوى قامـوس شريجلة وموسوعة دودن الألمانية Duden، وكان لهذا الكتابان قيمة لا تقدر بثمن وكذلك كتاب المنجد، وأريد بذلك القول أن بإمكان المرء أن يعمل حتى في ظروف تقارب المستحيل, وكانت الإدارة تمنع الكتب وتصادرها، ولكنها كانت تعيد الكتب غير الممنوعة، بما في ذلك كتباً صادرة عن دار التقدم في موسكو(وهي دار نشر غير مرغوبة) وبذلك كان بإمكان النزيل أن يشغل وقته، وما أكثر وقته إن شاء استغلاله استغلالا حسناً في ظروف ومعطيات معقولة.
في ظل نظام منع الراديو عن النزلاء(رغم وجود عدد لا باس به من أجهزة الراديو لدى السجناء بشكل سري، وكان اكتشافه يعرضهم للعقاب أو المصادرة)، لذلك كان وجود التلفزيون مهماً، بل حاسماً في حياة النزلاء ولا يمكن تصور الآثار السلبية لغيابه، وإن كان بعض الأخوان من النزلاء لا يقدرون هذه المسألة حق قدرها، فالتلفاز كان الجهاز المدهش الوحيد الذي نستطيع عبره أن نشاهد الطبيعة والماء والبحار والأشجار والحيوان، والأرض والعلوم والألوان، الأخبار السياسية والثقافية والعلمية والفنية وموسيقى وأفلام، نحن الذين لا تمتد أبصارنا إلا بضعة أمتار فقط، مقطوعين الصلات مع العالم الخارجي بكل ما فيه، إلا عبر هذا الجهاز، وبواسطته نطلع على الأخبار، ثم على الصور والأفلام السينمائية، وبعضها رائع وجميل ومفيد، وفعاليات رياضية.
فالتلفاز كان شيئاً مهماً للغاية، وبدونه لم يكن لدى النزيل إلا الفراغ التام الذي تكمن فيه جوانب سيئة، مدمرة للشخصية، وإنني أعتقد وإن كنت لست من مدمني مشاهدة التلفاز بسبب انغماسي التام في القراءة والكتابة، إلا أن التلفاز يتيح لك مشاهدة ومتابعة أحداث مهمة ويجعلك على صلة بالأحداث العالمية، وكنت لا أفوت مشاهدة نشرة الأخبار والمتابعات الدولية والثقافية، لذلك كنت أسعى بكل قواي أن لايحرم النزلاء من هذا المصدر الثقافي الذي يدونه يستحيل حياة السجن إلى فراغ هائل ومطحنة رهيبة لعقل الإنسان.
كانت إدارة السجن تسمح بوجود تلفزيون كبير الحجم، يوضع للجميع في الممر، وكان النزلاء يجمعون التبرعات لشراء التلفاز، وبالإضافة لذلك كانت تسمح (بسهولة أو بصعوبة، وغالباً عن طريق المافيا) بإدخال أجهزة تلفزيون خاصة يضعها النزيل في غرفته، كما شاع في الآونة الأخيرة تلفزيونات صينية صغيرة الحجم زهيدة الثمن لا يتجاوز ثمنها 40,000 دينار أو أقل20)) دولار، كانت المافيا وقياداتها الجبارة تتولى إدخال هذه الأشياء(ثلاجة ـ مجمدة ـ مكيفة هواء) مقابل (أتعاب) معقولة، وهكذا كان التلفاز من الفقرات المهمة في حياة النزيل.
كان التلفاز العراقي يبث أربع قنوات: العامة، الشباب، الفضائية العراقية وقناة الرياضة، وإذا ضربنا صفحاً عن المواد الدعائية ، فإن هذه البرامج كانت تتيح مجالاً لا باس به من المتابعات الثقافية. ولكن اهتمامات النزلاء متفاوتة بالطبع، فكان هناك من يحرص على متابعة المواد الثقافية وآخرين يهتمون بالأفلام والغناء، وهناك من يتابع الرياضة.. وهلم جرا.
الرياضة كانت من بين الفعاليات المهمة سواء على صعيد المشاهدة أو متابعة للأخبار، ومشاهدتها في النقل ألتلفازي، ولكن كانت هناك فرصة لممارسة أنواع عديدة من الرياضة في مقدمتها كرة القدم والكرة الطائرة وكرة السلة ورياضة كمال الأجسام وكرة الطاولة، كما شاع بين النزلاء أيضاً تعلم الرياضات القتالية، كراتيه، وتايكوندو وبوكسينك، وكان هناك من يدعي أنه مدرب أو بطل، أو صاحب باع طويل. ولا شك أن بعضهم كان حقاً على دراية واسعة بهذه الرياضة، ولكن كالعادة فالسجن يزخر بالمدعين، وبمن يبالغ في تقدير إمكانياته، وبعضهم لم يكن يعوزه الخيال، فيروي قصصاً خيالية، ربما شاهدها في الأفلام، فيختلط الحلم بالحقيقة.
كانت هناك فرقاً رياضية منتظمة للألعاب الجماعية، وهناك دوري لكرة القدم وكؤوس وجوائز، وهو عمل يستحق الإشادة. وإلى جانب هذه الألعاب، كان النزلاء يشعرون بصفة عامة بأهمية الرياضة للجسم والصحة، فكان الجميع يمارس الرياضة بما يقدر عليه وما يعرفه، ومن ذلك، الهرولة أو السير لمدة طويلة، وكان البعض يمارس التمارين التكوينية(وهي من تمارين اللياقة للقوات الخاصة). أما النزلاء الذين تجاوزوا سن الشباب، فقد كان الهدف من ممارسته للرياضة هو الحفاظ على لياقة بدنية معقولة، كما أن التجربة أثبتت أن لا يمكن أن تكون الصحة سليمة مع جسم خامل لا يتحرك، والآم الظهر والمفاصل والعظام، إنما هي نتاج للمكوث الطويل دون حركة في الغرف، لذلك ومهما كانت المساحة ضيقة، لا بد من ممارسة الرياضة يومياً ولو لدقائق معدودة وهذا ما كنا نفعله، وربما أن السر يكمن هنا في خروجنا من السجن بوضع قادرين فيه على مواصلة الحياة بدرجة نشاط معقولة.
مثلت الطقوس الدينية جانباً من النشاط الثقافي للسجين. والفعاليات الدينية تتمثل بشكل أساسي، بالصوم والصلاة وقراءة القرآن. وكان كثير من النزلاء يسعون في إتقان قراءة أو تلاوة البعض يحاول التجويد، ويمارسون ذلك في مجالس الفاتحة التي يقيمها النزلاء عند وفاة قريب له، كما أن عدداً لا بأس به من النزلاء حفظ القرآن.
النزلاء بصفة عامة يحافظون على الصلاة، إذ أن عدداً كبيراً من النزلاء من التيارات الدينية وغيرهم، يعتبرون أن الدين جزء مهم من الهوية، لذلك كانت ممارسة الطقوس الدينية تتم على هذا الأساس وأيضاً على أسس دينية / سياسية /ثقافية..الخ وهناك من لا يعتبر الدين من اهتماماته الشخصية سواء كان ذلك داخل السجن أو خارجه ولكن عدد هؤلاء قليل.
كان شهر رمضان رائعاً في السجن، حيث يطول السهر ويكثر السمر ودعوات الإفطار وسماع القرآن وصلاة التراويح، وكثرة الأطعمة وتنوع الحلويات. ففي رمضان تعمل الأفران بطاقة مضاعفة (وهنا تضرب المافيا طبعاً ضربتها من أصحاب الأفران) ثم يحل العيد بعد رمضان، وهناك تقاليد خاصة حيث يزور صغار السن الكبار، وأحيانا يتلطف الكبار بروح أخوية زيارة من هم أصغر منهم، وفي الأعياد يتصالح المتخاصمون، وتقام الولائم والأطعمة الفاخرة من الأسماك والدجاج وتشيع أجواء الفرح والبهجة رغم أن السجن ثقيل على نفسية النزلاء ومعنوياتهم. وكانت المواجهة تتم عادة في ثاني أيام العيد، وأنا وإن كنت محروماً من مقابلة عائلتي طيلة الفترة ( أمضيت 31 عيداً في السجن يضاف عليها8 أعياد محجوزاً في البيت)، إلا أنني كنت ألاحظ بألم شديد مقابلة النزلاء لأبنائهم وعوائلهم في هذه الأيام المجيدة ... أنها ألآم تدرج على رصيد فائض الألم الذي لا طائل منه... أنه لأمر مؤسف إلى أقصى درجة....
كان النزلاء يحاولون تداول العلم والثقافة فيما بينهم بوسائل مختلفة، وكنت أجد لدى العديد منهم، رغبة في التعلم، وعند آخرين منهم الفكرة عن نقل بسيط للثقافة. إن التعلم والثقافة هي عملية تطول سنوات كثيرة جداً، ربما تستغرق العمر كله. إن الإنسان لا يقرأ لكي يقال عنه أنه مثقف، بل لكي يجيب على أسئلة العصر المعقدة، وبسببها أصبحت الثقافة معقدة أيضاً. والمرء يقرأ لكي يستطيع أن يتنبأ ما يمكن أن يحدث سياسياً/ اقتصادياً/ ثقافياً، وتشعبت الاتجاهات وتعددت، وتشعبت سبل ووسائل التعليم والثقافة، ولكنني كنت أقابل كل رغبة في التعلم بإيجابية قدر الإمكان فطموحات البعض العلمية تتجاوز قدراتهم، ثم أني كنت أتجنب الخوض في القضايا السياسية الحساسة، وقد علمت أن أحدهم قد أبلغ الإدارة بأني كنت أوجه هذه الجهة أو تلك، وقد كتبت عني تقارير كثيرة جداً ولحسن الحظ، أنها كانت متناقضة جداً، فقد كتب عني أنني من البعث اليسار، وشيوعي، ولكن لحسن الحظ، التناقض أبطل مفعولها. بل كتبوا عني بأنني الموجه لتيار السيد الصدر، وفي الواقع أن المنتمين إلى هذا التيار كانوا يتجهون للقراءة والثقافة، والعلم، أكثر من غيرهم من السجناء ومن هنا كانت علاقتي بهم أخوية وودية.
ولما كانت المحاضرات ممنوعة بالطبع، إذ أن التجمعات ممنوعة، وكان للإدارة عيونها وآذانها بين النزلاء، لذلك فالتجمعات خطرة جداً، ولكن ذلك لم يكن ليمنع أن يجلس اثنان أو ثلاثة في مكان قصي من الساحة في أوقات مناسبة، ليتحدثوا بعفوية أو شبه عفوية في موضوعات ذات طابع سياسي/ ثقافي مهم، وأساساً لم يكن هناك الكثير من المؤهلين(اختصاصاً) لخوض موضوعات كبيرة وبجدية، وأحاطته بما يستحقه كمحاضرة أو كندوة. ومن القليل النادر الذي حدث، جلسة أو جلستين أو ثلاثة، شبه عفوية في مناقشة لكتاب الرأسمالية الجديدة، د. فؤاد مرسي، وهذا الكتاب وجد في الأسواق العراقية في أواخر الثمانينات وطبع في الكويت، وأدخلته إلى السجن وطالعه بعض الأصدقاء، وجرت مناقشة لهذا الكتاب الممتاز الذي كانت معطياته وبياناته تطرح استنتاجا مفاده، أن الأقطاب الرأسمالية في حركة شديدة، وإن شدة التمركز في الولايات المتحدة تطرح احتمالات استقطاب جديدة. كما جرت في مناسبات أخرى مناقشة موقف الطاقة/النفط وحركة الأسواق وتقلبات الأسعار. وربما في مناسبة أو أخرى حول موضوعات مماثلة. وكانت هذه المناقشات لم تكن تدور حول موضوعات خطيرة (برأي السلطات طبعاً)، ولكن مجرد جلوس ثلاثة أو أربعة أشخاص يثير اجتماعهم مغزى غير مقبول، ويتبعه على الأغلب إجراء ما.
فالمحاضرات والندوات كانت تعتبر شكلاً من أشكال التجمع، وإلا كان من الممكن تحقيق برامج ثقافية في السجن إذ كان بيننا عدد لا بأس به من الأختصاصيين في مجالات متعددة: طب، هندسة، سياسة، شريعة، جيولوجيا، آداب، طيارين، قادة وضباط ركن...الخ ولكن تلك هي من الفرص الضائعة أيضاً.
ولكن إذا كانت المحاضرات والندوات محظورة، بيد أن الأحاديث العادية ذات طابع الدردشة، كانت توفر معلومات لا بأس بها مما يثير اهتمام النزيل. فعلى سبيل المثال كان لوجود ضابط طيار كفء وألمعي (المقدم الطيار عبد الله، أبو محمد) بالقرب من سريري، مناسبة لكي يروي يومياً عن أحداث وقصص الطيران، بل شرح لي بدقة تامة، وهو معلم طيران، كل شيء عن هذا العلم، وكان بالإمكان الاستفادة من فرص كهذه في شتى الاتجاهات العلمية والمهنية حتى لو كانت بسيطة وغير مهمة. ولكن كما ذكرت في غير مكان من هذا الكتاب، قسوة ظروف السجن، وكانت مطرقة السجن، هائلة، قاسية، مدمرة، وكان الكثير من النزلاء يئنون تحت قسوته، ترى هل هناك فسحة للثقافة، بل أن تتعب نفسك لكي تحصل على بصيص نور، كوة صغيرة تطل منها، نعم كان ذلك ممكناً، لأنه الممكن الوحيد. ولكن النفوس مرهقة ومتعبة، نعم بوسعك أن تنصح وأن تحث على الصمود، وتقوية ألذات وتنوير الطريق، ولكن ليس بوسعك أن تعاتب المتعب والمرهق.
كنت أحدث الأخوة النزلاء بمنطق العارف، بل الخبير بالمشكلة: أفترض أنك سقطت من حاجز سفينة مبحرة في وسط المحيط الأطلسي... فمواصلة السباحة حتى البر مستحيلة نظرياً، فأمامك بضعة الآف كيلومترات وورائك بضعة الآف كيلومترات، ولكن من المستحيل أن تسدل ذراعيك وأن تتعمد إغراق نفسك ! أسبح... أسبح حتى تتعب، وعندما تتعب أسبح... لا أعرف ماذا سيحصل، ولكني أعرف إن عليك أن لا تستسلم، ربما أنك ستجد قطعة تطوف عليها، أو ربما ستمر سفينة لتلتقطك، ولكن ليس عليك أن تستسلم !
وكان تخصصي في العلوم السياسية والتاريخ، يغري الكثيرين للاقتراب مني وطرح أسئلة سياسية، ولكني وإن كنت أرحب بتطوير الوعي السياسي للأخوة النزلاء، وكنت أفعل ذلك طالما أن الأمر لا يتناول موضوعات حساسة، ولكني كنت أفضل العمل في موضوعات مفيدة ولكنها غير خطرة، تعليم اللغة مثلاً، فهي مفيدة للغاية، ولا تنطوي على مخاطر، مفضلاً الطالب الجاد المصمم، ذو الإرادة القوية. وقد درست حوالي 150 نزيلاً اللغة الألمانية كان 30 – 25 منهم بمستوى طيب جداً، بعضهم أتقن اللغة قراءة وكتابة، ولكن المشكلة كانت في المحادثة، حيث لم تكن هناك أي أمكانية(تقريباً) على الحديث باللغة الألمانية، لكني علمت فيما بعد، أن عدداً من النزلاء الذين غادروا السجن قبلنا، استفادوا حقاً من هذه الدراسة استفادة كبرى، وكان صديق عزيز، وهو المهندس فؤاد توفيق، يدرس اللغة الفرنسية، كما كان الأخ المهندس السيد حامد يدرس اللغة الإنكليزية والأخ يشار عمر اللغة التركية. كانت هناك أمكانية ممتازة لتعلم اللغة، ولكن بدرجات من الجودة والحزم متفاوتة بين الطلاب والمدرسين، كان هناك من يبدأ، ولكنه يترك الدراسة بعد فترة وجيزة، الأمر يستلزم الدراسة والتعب والاجتهاد، ولم يكن الجميع على هذا القدر من العزم.
الثقافة كانت ممكنة، والدراسة كانت ممكنة كذلك وكذلك التعليم، كنت أحث الأخوة النزلاء على الدراسة والقراءة، لأنني متأكد أن لا شيء يمكن إيقاف الهدم من الخارج إلا بناء من الداخل، وأنه صراع بين الفرد والقوى الخارجية أي كانت مسمياتها... القوى الغاشمة المسلطة على الإنسان كثيرة، وعلى حريته ولكن على فكره أيضا، وكذلك وضعه الاقتصادي. ولا شيء يطلق الإنسان حراً من قيوده السخيفة، فيعلو ويسمو عليها، يترفع عن التعصب والتطرف، فيدرك أن قيمة كل شيء إنما يكمن في فائدته لأكبر عدد من الناس، وعندما يتعب الإنسان لكي يصبح راقياً يدرك كم هو صعب الارتقاء إلى المستوى الرفيع، لذلك يتخلى عن التعصب، لأن التعصب يحشر الإنسان في زاوية يأبى الخروج منها، ويدرك أيضاً، أن التعصب حتى للحق إنما هو خطأ.. فإنك وصلت للحق بمشقة وتعب وقوة، قد لا يملكها غيرك.
ولكن تحدي الكرة الحديدية كان يستلزم الشجاعة والذكاء والصبر وقوة الإرادة. والنجاح في هذا لا يختصر بكلمات ....