كنت في الحادية عشرة من عمري عندما قامت ثورة يوليو، وبعد شهور من نجاحها كان قائدها في ذلك الوقت محمد نجيب يزور بعض الأقاليم، وقال أبي أمامي ليسمعني: إنه قرأ في إحدى الجرائد أن صبيًا في الحادية عشرة ألقى أمام محمد نجيب قصيدة حياه بها، وأبدى والدي-رحمه الله- إعجابًا شديدًا بهذا الصبي الذي في مثل سني، وكانت هذه طريقته عندما يريد أن يوجهني إلى شيء أو يحفزني عليه. وقد قيل: أيامها إنّ محمد نجيب سوف يزور إحدى القرى التابعة لشبين الكوم بالمنوفية، وسوف يذهب إليها عن طريق الباجور وهو الطريق الذي يمرّ على قريتنا، وقيل: إنه سوف يتوقف قليلا عند قريتنا. فقفز إلى ذهني ذلك الصبي الذي استأثر بإعجاب والدي، وفكرت أن أصنع صنيعه، وأنال شيئًا من إعجاب أبي وأُقر عينَه بي. وأذكر أنني عكفت يومًا أو يومين على كتابة (قصيدة) أحيي بها قائد الثورة عندما يتوقف عند قريتنا، ولم يكن في ذهني من مثال للشعر الذي أريد أن أكتبه إلا الأناشيد التي كنا نحفظها في المدرسة الإلزامية، ولم يكن في مخزوني اللغوي إلا القرآن الكريم الذي كنت أتممت حفظه قبل ذلك بعام، ولذلك جاء ما كتبته آنذاك بعض نصائح لقائد الثورة، وبعض سبابٍ للعهد الملكي في كلام أظهر ما فيه السجع وبعض العبارات المنقولة بنصها من القرآن الكريم. ثم سارعت فأعطيت ما كتبت لأبي، وحظيت منه بابتسامة صامتة لم أستطع أن أميز وقتها أهي ابتسامة إعجاب أو أنها يمازجها شيء من الإشفاق؟ من هذا التاريخ البعيد بدأ خيالي الصغير يُشغل بهذا الشيء الذي يسمّى الشعر، وبدأت أكثر من الهذرفة والمحاولة والتقليد. وقد أكسبتني هذه المحاولات المبكرة التعلق بالشعر، وحبه، والقدرة على الحفظ والاستجابة للنغم الكلامي. ألحقني أبي – الذي كان قد نذرني للأزهر الشريف – بعد ذلك بمعهد القاهرة الديني، ووجدتني مع زملائي أدرس الفقه والنحو والتوحيد والحساب والجغرافيا والسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، ولم يكن للشعر نصيب إلا حصة المحفوظات التي لم تكن تحظى لدى الأساتذة والطلاب معًا بشيء من الاهتمام، وكان يكفي الطالب أن يحفظ بعض الأبيات يلقيها أمام لجنة الامتحان الشفوي آخر العام. وكان هذا الامتحان نفسه لا يظفر بالاهتمام الواجب؛ إذ كان التركيز فيه منصبًّا – إن وجد – على حفظ القرآن الكريم، فقرّ في نفسي من أول عام لي في الأزهر أن سبيل الشعر إمّا كنتُ سالكَه عليَّ أن أسلكه وحدي.
بعد أن أديت امتحان السنة الأولى الابتدائية بمعهد القاهرة الديني زرت في طريق عودتي إلى القرية ابن عمتي الأستاذ عبد الباري خطاب – عليه رحمة الله – وكان مدرسًا للغة العربية بوزارة التربية والتعليم، وهو أحد خريجي كلية اللغة العربية بالأزهر، وكان خطيبًا شاعرًا، فقدم لي كتابين قيمين نصحني أن أقرأهما في الإجازة الصيفية، أولهما كتاب (المنتخب من أدب العرب) وهو من خمسة أجزاء، ألفه طه حسين وأربعة معه، والآخر كتاب (التوجيه الأدبي) لمؤلفي المنتخب أنفسهم. وجدت في كتاب المنتخب اختيارًا لشعراء العربية بدءًا من امرئ القيس في العصر الجاهلي وما بعده في العصور الأدبية المتوالية حتى العصر الحديث. فأقبلت على القصائد المختارة أقرأ، وأحفظ منها ما أحفظ، وأباهي أقراني وزملائي بما أحفظه، وما أحصله من مفردات جديدة لا عهد لهم بها. ومن خلال كتاب (التوجيه الأدبي) حصلت شيئًا من تاريخ الأدب ونقده، وطرفًا من الأجناس الأدبية الأخرى، وتعريفًا بها بدءًا من المرحلة اليونانية، وانتهاء بالعصر الأوروبي الحديث. وكان هذا بابا لمجال واسع عليّ في ذلك الوقت المبكر. وكلما حصلت شيئًا في هذا الميدان أدركت أن الشوط طويل وأن المدى واسع وأنني تائه غريب، وأحسست أيضًا بضرب من التفرد بين زملائي مما جعلني أشعر بالاغتراب؛ إذْ لم يكن أحد ممن أعرف في هذه المرحلة يهتم بمثل ما أهتم به، ويحاول مع الشعر شيئًا مما أحاول.
في الرابعة عشرة من العمر، وكنت ما أزال في المرحلة الابتدائية، وقعت في (الحب) وبطبيعة الحال كان حب المراهقة، وكانت إحدى جارات بيتنا في القرية، وكانت تكبرني بعام، وكانت أكثر نضجًا مني. وكانت كلمة (الحب) نفسها في قريتي مما يعاب في هذا الزمن أي في الخمسينيات من القرن الماضي. وكم أحسّ بالدهشة والحسرة على أبناء جيلي عندما أذهب إلى قريتي الآن ويدور حديث مألوف غير منكور عن أن فلانًا (يحب) فلانة، أو أن فلانة (تحب) فلانًا. ويفيض بقلبي الألم على ما حدث لي في ذلك الزمن الغابر الذي كان المرء يشعر فيه بخزي شديد إذا أذيع سرّ حبه. كنت أحس في ذلك الوقت أني أحمل بين جنبي سرّا خطيرًا من أسرار الكون، وبقدر ما كنت أشعر بالسعادة الغامرة أن اختارتني المقادير لهذا الحب كنت أحسّ بالرثاء لنفسي مما أعانيه من كتمان، وبدوت بيني وبين نفسي رومانسيًّا حالمًا، وكنت أعزي النفس بأن هذا من قدر (الشعراء)، ووجدت في محاولاتي الشعرية متنفَّسًا أفضي فيها بذات نفسي وأبوح بما ينوء به القلب المكلوم. ومَثّل لي الحب في هذه المرحلة رافدًا كنت أراه ضروريًا من روافد الشعر ودافعًا من دوافعه، وكم رأيت نفسي في بعض الشعراء العذريين، وكنت لا أستطيع أن أكفكف نفسي عندما كانت عيناي تغرق بالدمع، ويشرق به حلقي لقراءة قصيدة من قصائد مجنون ليلى أو جميل بثينة، ولعل فتنتي بمسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي في هذه المرحلة كانت بسبب أني خيّلت لي نفسي أني أنا (المجنون). ولي مع مسرحية أحمد شوقي (مجنون ليلى) قصة فيها من الطرافة طرف، ذلك أني كنت في الرابعة الابتدائية، وكنت جالسًا في الفصل أقرأ هذه المسرحية وقد وضعت يدي بها أسفل درج المقعد الذي أجلس عليه، ودخل مدرس حصة المحفوظات الذي كان يدخل الفصل علينا لأول مرة بعد مرور أكثر من نصف العام، إذ كان ذلك في أواخر فبراير سنة 1958م ولم أشعر به لأني كنت مندمجًا مع المشهد الذي يبكي فيه مجنون ليلى على قبرها اندماجًا كاملا، وطلب المدرس من الطلاب أن يخرجوا كراسات المحفوظات ليملي عليهم قصيدة يكتبونها، ولم أستجب للطلب لأني لست معه، فأتى إليّ متمهلا، وأنا لا أشعر به، ووجد في يدي المسرحية فأخذها مني – وكنت استعرتها من أحد الطلاب الذين يسبقونني – ولما لم تكن معي كراسة للمحفوظات وبَّخني توبيخًا شديدًا ونقلني إلى مقعد خال أمام الطلاب عن يمين المدرس، وحرمني من متابعة القراءة بإبقاء المسرحية معه، وكان قد هم بقطعها قسمين، ولم يكمل، وألقى القصيدة على الطلاب بيتًا بيتًا وكانت عن الوحدة بين مصر وسوريا التي كانت قد تمت منذ أقل من شهر، ولما فرغ سأل: من يستطيع قراءة القصيدة؟ وكانت من حوالي أربعة وعشرين بيتًا، ومطلعها مازلت أذكره وهو:
سلامٌ شعب سوريّا ومصرا * لقد حققتَ للتاريخ نصرا ورفع عدد قليل من الطلاب أيديهم وكنت أحد الذين رفعوا أيديهم مستجيبًا لطلب قراءة القصيدة، وحانت من المدرس التفاتة إليّ فرآني أرفع يدي، فقرَّعني ووبَّخني توبيخًا شديدًا. وقلت له في أدب شديد: لماذا توبخني؟ حضرتك طلبت من أحد الطلاب أن يقرأ القصيدة وأنا واحد من هؤلاء الطلاب. فقال لي: أنت لم تكتبها! فقلت له: سيادتك طلبت قراءتها وأنا مستعد لذلك. فقال مندهشًا: اقرأ. وأسمعته القصيدة كاملة من الذاكرة، وكنت سلّيت نفسي بحفظها منه عند إملائها على الطلاب. وبعد أن فرغت من قراءتها، اعتذر لي بشدة عما بدر منه من توبيخي، وامتدح ذكائي أمام زملائي، وكان مما قاله لي: “والله يا بني لم أكن أعرف أنك عبقري”، فأحسست أنه ردّ لي اعتباري. وكان الفضل في ذلك لقوة الحافظة التي مرنت على حفظ الشعر، وتمرست به.
** يتبع …..
بعد أن أديت امتحان السنة الأولى الابتدائية بمعهد القاهرة الديني زرت في طريق عودتي إلى القرية ابن عمتي الأستاذ عبد الباري خطاب – عليه رحمة الله – وكان مدرسًا للغة العربية بوزارة التربية والتعليم، وهو أحد خريجي كلية اللغة العربية بالأزهر، وكان خطيبًا شاعرًا، فقدم لي كتابين قيمين نصحني أن أقرأهما في الإجازة الصيفية، أولهما كتاب (المنتخب من أدب العرب) وهو من خمسة أجزاء، ألفه طه حسين وأربعة معه، والآخر كتاب (التوجيه الأدبي) لمؤلفي المنتخب أنفسهم. وجدت في كتاب المنتخب اختيارًا لشعراء العربية بدءًا من امرئ القيس في العصر الجاهلي وما بعده في العصور الأدبية المتوالية حتى العصر الحديث. فأقبلت على القصائد المختارة أقرأ، وأحفظ منها ما أحفظ، وأباهي أقراني وزملائي بما أحفظه، وما أحصله من مفردات جديدة لا عهد لهم بها. ومن خلال كتاب (التوجيه الأدبي) حصلت شيئًا من تاريخ الأدب ونقده، وطرفًا من الأجناس الأدبية الأخرى، وتعريفًا بها بدءًا من المرحلة اليونانية، وانتهاء بالعصر الأوروبي الحديث. وكان هذا بابا لمجال واسع عليّ في ذلك الوقت المبكر. وكلما حصلت شيئًا في هذا الميدان أدركت أن الشوط طويل وأن المدى واسع وأنني تائه غريب، وأحسست أيضًا بضرب من التفرد بين زملائي مما جعلني أشعر بالاغتراب؛ إذْ لم يكن أحد ممن أعرف في هذه المرحلة يهتم بمثل ما أهتم به، ويحاول مع الشعر شيئًا مما أحاول.
في الرابعة عشرة من العمر، وكنت ما أزال في المرحلة الابتدائية، وقعت في (الحب) وبطبيعة الحال كان حب المراهقة، وكانت إحدى جارات بيتنا في القرية، وكانت تكبرني بعام، وكانت أكثر نضجًا مني. وكانت كلمة (الحب) نفسها في قريتي مما يعاب في هذا الزمن أي في الخمسينيات من القرن الماضي. وكم أحسّ بالدهشة والحسرة على أبناء جيلي عندما أذهب إلى قريتي الآن ويدور حديث مألوف غير منكور عن أن فلانًا (يحب) فلانة، أو أن فلانة (تحب) فلانًا. ويفيض بقلبي الألم على ما حدث لي في ذلك الزمن الغابر الذي كان المرء يشعر فيه بخزي شديد إذا أذيع سرّ حبه. كنت أحس في ذلك الوقت أني أحمل بين جنبي سرّا خطيرًا من أسرار الكون، وبقدر ما كنت أشعر بالسعادة الغامرة أن اختارتني المقادير لهذا الحب كنت أحسّ بالرثاء لنفسي مما أعانيه من كتمان، وبدوت بيني وبين نفسي رومانسيًّا حالمًا، وكنت أعزي النفس بأن هذا من قدر (الشعراء)، ووجدت في محاولاتي الشعرية متنفَّسًا أفضي فيها بذات نفسي وأبوح بما ينوء به القلب المكلوم. ومَثّل لي الحب في هذه المرحلة رافدًا كنت أراه ضروريًا من روافد الشعر ودافعًا من دوافعه، وكم رأيت نفسي في بعض الشعراء العذريين، وكنت لا أستطيع أن أكفكف نفسي عندما كانت عيناي تغرق بالدمع، ويشرق به حلقي لقراءة قصيدة من قصائد مجنون ليلى أو جميل بثينة، ولعل فتنتي بمسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي في هذه المرحلة كانت بسبب أني خيّلت لي نفسي أني أنا (المجنون). ولي مع مسرحية أحمد شوقي (مجنون ليلى) قصة فيها من الطرافة طرف، ذلك أني كنت في الرابعة الابتدائية، وكنت جالسًا في الفصل أقرأ هذه المسرحية وقد وضعت يدي بها أسفل درج المقعد الذي أجلس عليه، ودخل مدرس حصة المحفوظات الذي كان يدخل الفصل علينا لأول مرة بعد مرور أكثر من نصف العام، إذ كان ذلك في أواخر فبراير سنة 1958م ولم أشعر به لأني كنت مندمجًا مع المشهد الذي يبكي فيه مجنون ليلى على قبرها اندماجًا كاملا، وطلب المدرس من الطلاب أن يخرجوا كراسات المحفوظات ليملي عليهم قصيدة يكتبونها، ولم أستجب للطلب لأني لست معه، فأتى إليّ متمهلا، وأنا لا أشعر به، ووجد في يدي المسرحية فأخذها مني – وكنت استعرتها من أحد الطلاب الذين يسبقونني – ولما لم تكن معي كراسة للمحفوظات وبَّخني توبيخًا شديدًا ونقلني إلى مقعد خال أمام الطلاب عن يمين المدرس، وحرمني من متابعة القراءة بإبقاء المسرحية معه، وكان قد هم بقطعها قسمين، ولم يكمل، وألقى القصيدة على الطلاب بيتًا بيتًا وكانت عن الوحدة بين مصر وسوريا التي كانت قد تمت منذ أقل من شهر، ولما فرغ سأل: من يستطيع قراءة القصيدة؟ وكانت من حوالي أربعة وعشرين بيتًا، ومطلعها مازلت أذكره وهو:
سلامٌ شعب سوريّا ومصرا * لقد حققتَ للتاريخ نصرا ورفع عدد قليل من الطلاب أيديهم وكنت أحد الذين رفعوا أيديهم مستجيبًا لطلب قراءة القصيدة، وحانت من المدرس التفاتة إليّ فرآني أرفع يدي، فقرَّعني ووبَّخني توبيخًا شديدًا. وقلت له في أدب شديد: لماذا توبخني؟ حضرتك طلبت من أحد الطلاب أن يقرأ القصيدة وأنا واحد من هؤلاء الطلاب. فقال لي: أنت لم تكتبها! فقلت له: سيادتك طلبت قراءتها وأنا مستعد لذلك. فقال مندهشًا: اقرأ. وأسمعته القصيدة كاملة من الذاكرة، وكنت سلّيت نفسي بحفظها منه عند إملائها على الطلاب. وبعد أن فرغت من قراءتها، اعتذر لي بشدة عما بدر منه من توبيخي، وامتدح ذكائي أمام زملائي، وكان مما قاله لي: “والله يا بني لم أكن أعرف أنك عبقري”، فأحسست أنه ردّ لي اعتباري. وكان الفضل في ذلك لقوة الحافظة التي مرنت على حفظ الشعر، وتمرست به.
** يتبع …..
رحلتي مع الشعر (الجزء الأول) – أ.د. محمد حماسة
كنت في الحادية عشرة من عمري عندما قامت ثورة يوليو، وبعد شهور من نجاحها كان قائدها في ذلك الوقت محمد نجيب يزور بعض الأقاليم، وقال أبي أمامي ليسمعني: إنه قرأ في إحدى الجرائد أن صبيًا في الحادية عشرة …
www.hamassa.com