في الشهر العاشر من عام 1989 تعرفت على حسن مطلك الروضان الذي كان يعمل مدرساً في كركوك ويبيت في القسم الداخلي الذي كان يقع أمام منزلنا في حي الاسكان الجديد. الدافع الأساس في رغبتي للتعرف عليه كان بهدف معرفته عن قرب وذلك بسبب إعجابي بكتاباته الأدبية، وخاصة في مجال القصة القصيرة، وكنا قد تبادلنا بعض الرسائل قبل عام من ذلك التاريخ، ثم توطدت علاقاتنا وتوسعت بشكل سمح لي بالتعرف من خلاله على القاص محمود جنداري جمعة والمثقف ناصر محمود، وكلاهما كانا يعيشان في كركوك. بعد أن تكررت لقاءاتنا، وأكثرها كانت تجري إما في منزل أحدنا أو في النوادي، وكانت محاور جلساتنا تتركز على المواضيع الأدبية والمناقشات الثقافية.
ذات يوم، في منتصف شهر تشرين الثاني، اتصل بي حسن مطلك ليبدي رغبته في الجلوس معا في منزل ناصر محمود، الذي كان يسكن في شقة في حي المصلى، فذهبنا معاً إلى المنزل عند الرابعة عصراً، وبعد نصف ساعة، وصل الاستاذ محمود جنداري. كان حديث حسن مختلفاً تماماً في تلك الجلسة، حيث تطرق إلى مواضيع سياسية وتحليل للوضع القائم في البلد، وخاصة في ظل العواقب السلبية ومخلفات الحرب العراقية-الإيرانية وآثارها على مجمل جوانب الحياة مع ترسيخ الدكتاتورية والحكم المطلق لصدام حسين.
كانت أفكارنا متطابقة في الدعوة إلى حرية الفكر والديموقراطية وإنشاء دولة القانون في ظل دستور مدني حديث يليق بالإنسان العراقي، الذي يستحق حياة كريمة في ظل الثروة الهائلة والطاقة البشرية البناءة التي يتمتع بها بلدنا، لكننا لم نفكر بالخروج عن دائرة الأدب والنقد لننخرط مباشرة في الاهتمام السياسي. أخيراً أخبرَنا حسن بوجود تنظيم سياسي في باكورة تشكيله، يتمركز في مناطق تكريت، وخاصة بين أبناء عشيرة الجبور، التي كان ينتمي هو اليها. كما أخبرنا بانتمائه إلى الجناح المدني من التنظيم، حيث كان يشكل الجناح العسكري الثقل الرئيسي منه، وأكثر أعضائه من الضباط الشباب، بدرجات مختلفة، وفي مواقع وأجهزة حساسة جداً مثل الحرس الخاص والحرس الجمهوري.
كانت ردود أفعالنا تجاه ما أفشى به حسن من سر ودعوته لنا بالانضمام إلى التنظيم متفاوتة تماماً، ففي حين أيده ناصر في الحال، تحفظ محمود جنداري على الموضوع ووعده بالإجابة على دعوته وأفكاره بشكل مكتوب. أما بالنسبة لي، فقد رفضت الطلب، مع تعهدي لهم بالشرف على أن أحفظ السر وألا أسبب لهم أي أذى، مع عزمي على مواصلة الصداقة، وحتى مساعدتهم عند الشدة، وذلك من منطلق الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاههم.
رجعت إلى البيت بعد حلول الليل، وشعور من الخوف والقلق ينتابني. الشيء الوحيد الذي كنت أخفف به من وطأة الخوف على نفسي، كان بكل بساطة، أنه في حال انكشاف الأمر واعتقال المتورطين، فبأمكاني التخلص دون عقاب، كوني لا أعمل معهم ولم أُؤيدهم أصلاً، مما كان يعكس جهلي التام بأحكام قانون العقوبات العراقي تجاه قضية تسمى بالتستر على مؤامرة تهدف إلى قلب نظام الحكم، والتي تندرج تحت الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي. لكنني قررت من جانبي الابتعاد عنهم لفترة وعدم التطرق إلى الموضع قدر الإمكان.
مر أكثر من شهر على جلسة المفاتحة تلك، وأنا كنت أعمل آنذاك بعقد في مشروع سد العظيم بصفة مراقب، دون أن أعلم بأن كل من حسن مطلك وناصر محمود قد تم اعتقالهما في الأسبوع الأول من العام الجديد 1990. في عصر يوم 19 من كانون الثاني 1990 عندما كنت جالسا في غرفتي مع صديق لي يدعى نوزاد أحمد أسود، وهو مثقف وكاتب من الجيل الذي أنتمي إليه، نناقش موضوعاً يتعلق بالترجمة الأدبية، دخَلت علينا أُختي مهاباد لتخبرني بأن ثلاثة رجال يستقلون سيارة برازيلية بيضاء، يسألون عني وهم يتكلمون العربية. فخرجت إليهم وأنا أرتدي بيجاما وبلوزا خفيفاً، دون أن يخطر ببالي أي شيء غير عادي. كان اثنان منهم واقفين بجانب السيارة والسائق في مقعده ينتظر. عندما صافحتُ أحدهم، أمرني بالصعود إلى السيارة لكي أرافقهم إلى دائرة الأمن، قال بأن أخي ريبوار معتقل هناك بسبب خلاف مع شخص آخر. حاولت التأكد من الأمر، لكنه سحبني بقوة وبمساعدة الرجل الثاني إلى داخل السيارة، ساحباً مسدسه تجاهي، فلم أستطع المقاومة ووجدت نفسي بينهما والسيارة تسير باتجاه مركز المدينة. بعد دقائق من انطلاق السيارة، غطى أحدهم رأسي بسترة جلدية وهو يضغط بفوهة مسدسه على خاصرتي ويدفع برأسي إلى الأسفل.
وقفت السيارة تحت سقف مرآب في باحة بناية حكومية لم أكن أعرفها من قبل، ثم تم وضعي داخل حجرة صغيرة فيها شباك صغير في أعلى الحائط وباب حديدي عادي. نظرت إلى بعض الكتابات والخواطر الموجودة على الحائط فأدركت بأنني في دائرة المخابرات. بعد أقل من ساعة، أخذوني إلى غرفة أخرى وأوقفوني أمام رجل بزي مدني، كان يجلس خلف منضدة عليها بعض الأوراق وسوط أسود، ثم تركوني وحيداً مع الرجل، وكنت مقيّد اليدين إلى الخلف. نهض الرجل من مكانه متوجها نحوي وسألني فيما لو كنت أعرف سبب إحضاري إلى المكان، فأجبته بالنفي. ثم سألني فيما إذا كنت أشك بأحد قد وشى بي فأجبته بالنفي أيضاً. حاولت السيطرة على جسدي الذي بدأ يرتجف من الخوف والبرد، فسألني عن سبب الارتجاف، فقلت إنه من البرد، فأجابني بنبرة ساخرة، بأنهم سيرسلونني إلى مكان دافئ وهادئ، ثم وجه إليّ صفعة قوية مع سيل من الشتائم، وبعدها، طلب من الرجلين إعادتي إلى الحجرة.
عند المغيب، فتحوا الباب وأدخلوا رجلاً يرتدي معطفاً أسود ثم أوصدوا باب الحجرة علينا. بعد برهة نظرنا إلى بعضنا.. فإذا به القاص محمود جنداري. أخبرني على وجه السرعة بأن كلاً من حسن مطلك وناصر محمود قد اعتقلا قبل أسبوعين، كما تم اعتقال العشرات من الضباط والمدنيين، وخاصة في مناطق تكريت وقرى (السديرات) التابعة لها، بتهمة الاعداد لانقلاب ضد السلطة، كما روجت لها الدعايات وبعض وسائل الإعلام المعارضة. سألني محمود جنداري عن موقفي، فأجبته بأنه الموقف نفسه الذي أعلنته في آخر لقاء بيننا ولم أخطو خطوة بغير ذلك الاتجاه. وعن نفسه، قال بأنه قد شرح موقفه من الأمر كتابة، وسلمه إلى حسن مطلك، بيّن فيه أسباب رفضه الانضمام إلى التنظيم السري... أخيرا، اتفقنا على أن ننقل الموقف كما هو، مما يثبت براءتنا عن تهمة الانضمام أو المساهمة مع التنظيم المذكور. لم يأخذوا محمود جنداري إلى الاستجواب، فبقينا ليلتان في الحجرة نفسها. وفي صباح اليوم الثالث قيدوا أيدينا وعصبوا أعيننا وأدخلونا في سيارة لا أتذكر نوعها، بصحبة رجلين والسائق. بعد قرابة ثلاث ساعات، توقفت السيارة فأزالوا العصابة عن أعيننا، ولكن أيدينا بقيت مكبَّلة. كانت بناية كبيرة مكونة من عدة طوابق. أدخلونا إلى أحد الطوابق لنستلم الملابس المخصصة للمعتقلين وإيداع ملابسنا وما نحمله من أشياء شخصية في المكان نفسه (لم أكن أحمل معي سوى قطعة نقدية معدنية واحدة من فئة دينار واحد وساعة إلكترونية عادية). بعد ذلك، تفرقنا، وتم إيقافي في زنزانة صغيرة ذات لون أحمر داكن تحمل الرقم 35 داخل بناية جهاز المخابرات في منطقة الحاكمية ببغداد.. كما عرفت ذلك لاحقاً.
بعد أيام، أخذوني للتحقيق معصوب العينين. أمر المحقق بفتح عيني والجلوس على كرسي يبعد عنه مسافة مترين من مقعده. وكان يجلس بجانب المنضدة شخص آخر يدون الإفادة والأقوال. قبل أن يسألني المحقق عن علاقتي بحسن مطلك وجماعته ومعرفتي بما كانوا يخططون له وعن السبب وراء عدم إبلاغي عنهم، ذكر بأن حسن مطلك وناصر محمود قد اعترفا بكل شيء ومن بين ذلك طبيعة علاقتي بهم ودوري في الموضوع بشكل عام. فشرحت له الأمر وعلاقتي بحسن مطلك والمجموعة، كما اتفقت مع محمود جنداري من قبل. وعن سبب عدم الإبلاغ، ذكرت بأنني لم أصدق الأمر أصلاً.. بل واستهزأت منه، فقلت؛ كيف أُخبر عن أمر أعتبره ضرباً من الخيال. بعدها، وقَّعتُ على الإفادة، وقبل أن أغادر الغرفة، رأيت محمود جنداري، وهم يدخلونه إلى الغرفة معصوب العينين.
أمضيت أكثر من شهر في زنزانتي الانفرادية، وذات يوم، فتحوا الباب وأدخلوا إليها رجلين فأصبحنا ثلاثة اشخاص معاً، وهما (عبد محمد جرو) الذي كان يعمل مديراً لدائرة آثار محافظة صلاح الدين و(محمد صالح خلف) الذي كان برتبة نائب ضابط في الحرس الخاص، وكانا معتقلين بسبب القضية نفسها. آنذاك، تبينت لي حقيقة الأمر وأسراراً كنت أجهلها تماماً، فقد تحدثا لي بالتفصيل عن الموضوع وخلفياته. كان هناك تنظيم مسلح بجناح مدني يتشكل من العرب السنة، وخاصة أحد أفخاذ عشيرة الجبور من محافظة صلاح الدين، وعلى رأسهم شخص كان يدعى بـ(الشيخ هيجل شبيب الجبوري) يهدف إلى اغتيال صدام حسين أثناء استعراض عسكري بمناسبة عيد الجيش في 6 كانون الثاني 1990 وذلك بقذائف تطلق من مدفع دبابة مشاركة في الاستعراض يقودها الضابط الشاب(سطم غنام الجبوري) من قوات الحرس الجمهوري، والذي حصل على لقب (السبابة الذهبية) خلال الحرب العراقية-الإيرانية، ولكن الخطة انكشفت قبل تنفذها بأكثر من أسبوع، من قبل شخص تمت مفاتحته فرفض وقام بالإبلاغ عنهم، كما سمعت ذلك من بعض المعتقلين معي، وكان الشخص من أقرباء صديقي حسن مطلك.
بعد أيام، أصبحنا خمسة معتقلين داخل الزنزانة نفسها، بعد جلب كلا من (حسن رشيد أحمد البدراني) الضابط في الحرس الجمهوري و(أحمد غربي حسن) الذي كان يعمل موظفاً صحياً في إحدى قرى السديرات. كما أدركنا بان الردهة كانت تضم أكثر الموقوفين على ذمة التحقيق في القضية نفسها.
حل شهر رمضان ومن ثم العيد ونحن في المعتقل. أثناء ذلك، تم إطلاق سراح حسن رشيد لعدم علاقته بالقضية، وقبل أن يغادر الزنزانة، طلبت منه إخبار عائلتي عن مكاني وقضيتي، لأنهم كانوا يجهلون مصيري تماماً، لذا أعطيته رقم هاتف منزل خالي وعنوانهم، فوعدني بأن يقوم بذلك، رغم علمه بخطورة الأمر، (اليوم أذكر وبكل امتنان، أن حسن رشيد قد ذهب بنفسه إلى بيت خالي وأوصل الخَبر إلى عائلتي). أما أحمد غربي فقد تم تحويله من الزنزانة إلى مكان آخر.
بتاريخ 18/6/1990 تم نقلنا إلى (محكمة الثورة) التي كان يترأسها (عواد البندر) آنذاك. لم أكن أتصور قطعاً محاكمة شكلية كالتي شهدتها بنفسي. كنا سبعة وعشرون معتقلاً واقفين في القفص نفسه، ومتهمين بالقضية نفسها التي وضِعت تحت عنوان "التآمر على الدولة"، عدا الشيخ هيجل، الذي كان يقف منفصلاً عن المجموعة. لم يُقر أحد منا بالتهمة الموجهة إليه، كما شهدت موقفاً شجاعاً ودفاعاً عن النفس من قبل عدد من المتهمين وحتى عن موقفهم المعارض للسلطة الحاكمة، مما أدى برئيس المحكمة إلى استخدام كلمات بذيئة بحقهم وتطاول على عشيرة الجبور وعوائل المتهمين. كان موقف محامي الدفاع مرسوما له ومثيراً للسخرية، أما المدعي العام فقد دعى إلى إنزال أشد العقوبات بحق المتهمين. انتهت المحاكمة بإصدار الأحكام بحق الجميع وفق المادة (2/175 ق ع) التي تنص على عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد بحق المتهمين. لم تستغرق المحاكمة ساعتين، فصدر الحكم بالإعدام على سبعة عشر شخصا منا وعلى العشرة الباقية بالسجن المؤبد، وكنت أنا من بين المحكومين بالمؤبد وهم:
1- اوات محمد محمد أمين (مدني)
2- عبد محمد جرو (مدني)
3- محمود جنداري جمعة (مدني)
4- محمد صالح خلف (نائب ضابط/ الحرس الخاص)
5- علي عبد الله احمد (نائب ضابط/ الحرس الخاص)
6- حميدي محمد سعيد (نائب ضابط/ الحرس الخاص)
7- ابراهيم حسين جاسم (جهاز الامن الخاص)
8- محمود المظهور (نقيب درع/ الحرس الجمهوري)
9- جمال محمود البدراني (ملازم أول/ الحرس الجمهوري)
10-غانم عبد طلب (ملازم أول/ الحرس الجمهوري)
أما المحكومون بالإعدام فكانوا:
1- الشيخ هيجل محمد شبيب الجبوري (مدني)
2- حسن مطلك الروضان (مدني)
3- ناصر محمود (مدني)
4- احمد غربي حسن (مدني)
5- فندي طلب سلامة (مدني)
6- سطم غنام المجذاب (نقيب/الحرس الجمهوري)
7- جمال شعلان احمد (نقيب/الحرس الجمهوري)
8- خضير خضر الجبوري (نقيب/الحرس الجمهوري)
9- ابراهيم احمد عبدالله (نقيب/الحرس الجمهوري)
10- محمود عبدالله المحجوب (نقيب/الحرس الجمهوري)
11- مصطفى حادي السواطي (نقيب/الحرس الجمهوري)
12- مضحي علي حسين (نقيب/الحرس الجمهوري)
13- صالح جاسم (نقيب/الحرس الجمهوري)
14- صباح عبدالله (نقيب/الحرس الجمهوري)
15- خيرالله حميد (ملازم اول/الحرس الجمهوري)
16- قيس عسكر محمد (نائب ضابط/الحرس الخاص)
17- حسن نايف عبدالله (نائب ضابط/الحرس الخاص-الفصيل الخاص)
بعد المحاكمة مباشرة، تم نقلنا بسيارات مغلقة إلى السجن المركزي في أبي غريب. هناك، بقينا يومان في ردهة الاستقبال، حيث تم وضع كل أربعة أو خمسة منا في غرفة صغيرة. في اليوم الثاني تغذينا مما تبقى من وليمة أعدت خصيصاً لمجموعة من الضباط والموظفين هناك. بعد الغداء، تم جمعنا في غرفة كبيرة وطلبوا من المحكومين بالإعدام أن يدلوا بوصاياهم إلى من يختارون من المحكومين بالسجن المؤبد كي ينقلوها إلى ذويهم. هناك التقيت بحسن مطلك وناصر محمود ومحمود جنداري، بعد خمسة أشهر من العزل. قبّلني حسن مطلك ثم راح يعبر بصوت منهك ووجه شاحب عن أسفه واعتذاره لما حدث، فطلب مني العفو لما سببه لي ولأهلي من متاعب وآلام. أما ناصر محمود فقد تحدث عن التعذيب القاسي الذي تعرضوا له، كما عبر عن الاعتذار قائلاً بأنهم لم يتصوروا هذه العقوبة الشديدة لشخص رفض الانضمام إلى التنظيم ولم يقبل بالفكرة أصلاً.
في عصر يوم 20/6/1990 نقلنا نحن المحكومون بالمؤبد إلى قسم الأحكام الخاصة فتم توزيعنا على القاعات، وهناك، تفرقنا وأصبح لكل منا حرية اختيار المجموعة التي يرغب في الاشتراك معها في المكان والمأكل بما كان يسمى بـ(السفرداشية). غالبا ما كانت المجموعة المحكومة بالقضية نفسها، يجتمعون معاً ويسمي أحدهم الآخر بـ(ابن دعوة). أنا ومحمود جنداري بقينا معاً والتحقنا بمجموعة من ثلاثة مسجونين لنشكل سفرداشية من خمسة أشخاص. الثلاثة الآخرون كانوا:
1- بيرج دونابيت كيروكسيان (أرمني، عضو الفرقة السمفونية العراقية)
2- طارق مدحت القرغولي (عميد، مديرية النقل والتموين في الجيش)
3- عبدالوهاب أحمد عسكر (كردي، يعمل في السمكرة)
كان سجن أبو غريب تابعاً لوزارة الشؤون الاجتماعية، وكذلك أفراد الحراسة من الشرطة… ومن سخرية القدر فإن أبي كان يخدم سجّاناً في أبي غريب منذ أكثر من عشرين سنة، ولكنه في اليوم الذي أُودعنا السجن، كان هو في اجازة عند العائلة في كركوك. حين سمع بالخبر، قطع اجازته وعاد إلى العمل. عندما التقينا لم يسأل كثيراً عما حدث، لكنه طلب مني الصبر والشكر لله الذي أنقذني من الإعدام، فالعقوبة ستمضي على أية حال ولا أحد يعلم ماذا سيحدث غداً.
لقد أصبحت سجيناً محكوماً بالمؤبد في سجن أبي غريب سيء الصيت، وأنا أخاف حتى من الحديث عن القضية التي سُجنت بسببها "محاولة انقلاب فاشلة"، ولكن، منذ اليوم الأول، بدأنا نسمع المعلومات حول الأحكام والمواد العقابية والجرائم والتهم الكيدية.
هناك حصلت على نسخة من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، فقرأت المادة التي حُكم عليّ بموجبها، فكانت مادة ضبابية من حيث المضمون والتفسير… وبعد أقل من شهر ونصف، حين استيقظنا في صباح اليوم الثاني من شهر آب 1990 سمعنا بخبر هز العالم بأكمله، ألا وهو احتلال القوات العراقية لدولة الكويت تحت شعار عودة الفرع إلى الأصل.
كان الشعب العراقي على يقين بأن حرباً جديدة باتت على الأبواب، وما هي إلا مسالة وقت. فحدث ما حدث ونحن في السجن، خلف القضبان نتابع تطورات الأحداث بدءا من قرارات مجلس الأمن ضد العراق والتحشيدات العسكرية لقوات التحالف الدولي ومن ثم الحرب الفعلية في 17 كانون الثاني 1991. تابعنا ونحن في السجن أخبار الانتفاضة الشعبية في بداية شهر آذار من العام نفسه، منطلقة من الجنوب، ومن ثم انتفاضة كردستان حتى تحرير كركوك في 21 آذار، وكان الأمل بالنجاة يغمرنا مع خوف مبرر من انتقام السلطة ضدنا، فلا أمان ونحن في قبضتها. خيم اليأس والحزن علينا، ونحن نسمع باستعادة النظام لسلطته على جميع المدن المنتفضة خلال فترة وجيزة، ومن ثم الهجرة المليونية لشعب كردستان في بداية شهر نيسان. كان لدي راديو جيب صغير، جلبه لي أبي، فكنت أستمع إلى القنوات العالمية بسرية تامة، ولم أكن أعلم بأن ثلاثة من أخوتي قد وقعوا ضمن الاعتقالات العشوائية التي أمر بها المجرم علي حسن المجيد، وأن بقية العائلة هربت نحو الحدود الإيرانية مشياً على الأقدام (بعد سنوات، حين كنت أشاهد فلماً وثائقياً عن الهجرة، وإذا بي أشاهد فيه أمي وأفراد عائلتي وهم يمضون ضمن الحشود نحو مصير مجهول، فجدد المشهد فيَّ الألم وذكريات حزينة عن سنوات سوداء عشتها بكل قسوتها)… أثناء كل تلك المآسي، فوجئنا ذات مساء، حين كنا نجلس أمام التلفاز (وكانت متابعة الأخبار المحلية إلزامية على المسجونين) فإذا بالرئيس صدام حسين يستقبل وفداً من قيادة الأحزاب الكردستانية التي جاءت إلى بغداد لغرض التفاوض، في حين مازال مئات الآلاف من أبناء الكرد مشردين خلف الحدود الإيرانية والتركية.
كانت الأيام تمر ثقيلة جداً في السجن، وكنا نعيش في أجواء نفسية مضطربة جداً، كما كنا نلاحظ بوضوح حالة الانهيار المعنوي المستمر لدى أزلام النظام، مما يجعلنا نتوقع منهم القيام بأي عمل انتقامي ضدنا، كما أن تأثير الحصار الدولي على العراق كان شديداً جداً على الوضع المعيشي والنفسي للمسجونين. لقد رأيت بأم عيني، ثلاثة من المسجونين وهم يطاردون قطة حتى أمسكوا بها وطبخوها كوجبة عشاء. كانت حملات التبرع بالدم تأتي إلى داخل السجن ويأخذون الدم من المسجونين بكل قسوة وإجبار، فكانت أشد ما يخيفني، لأنني كنت أعاني من فقر دم وصحة متردية أصلاً... في شهر أيار، حصل تغيير في إدارة السجن، حيث تم تسليم مهام الأمن والحراسة إلى قوات الأمن بدلاً من الشرطة، كما أُحيل أبي على التقاعد، وبذلك.. فقدت إنساناً كانت مساعدته لي، بدافع الغريزة الأبوية، نوعاً من السلوان.
كان الحديث عن احتمال صدور عفو عام على لسان كل سجين.. إلى أن أصبح ذلك حقيقة، فصدر قرار العفو المرقم 241 في 21/7/1991 لكن التنفيذ الفعلي لم يتم إلا بعد خمسة أشهر، أي في 21/12/1991 وكانت عملية إطلاق السراح، تتم على شكل وجبات. لقد شمل القرار جميع المسجونين والموقوفين إلا من كان مشمولاً بالاستثناءات التي تضمنها قرار العفو. وقد كنت قبل ذلك بيومين قد استلمت تبليغاً من مديرية أمن الاصلاح الاجتماعي داخل السجن، بمراجعة مديرية أمن كركوك خلال عشرة أيام من إطلاق سراحي.
وصلت بيتي في الساعة التاسعة من ليلة 25/12/1991 وكان الحدث بالنسبة لي ولادة جديدة بمعنى الكلمة ولعائلتي كان مبعث سرور. بقيت ثلاثة أيام بين العائلة، وفي اليوم الذي كان من المفروض أن أراجع فيه مديرية الأمن في المدينة، حملت كيساً يحتوي على ملابس منزلية وسيت حلاقة ومنشفة صغيرة متوجهاً نحو إقليم كردستان، وبالتحديد إلى مدينة جمجمال، حيث كانت تسكن أختي المتزوجة منذ أن غادرت العائلة كركوك. كانت الحكومة العراقية قد سحبت إداراتها وأجهزتها الأمنية من محافظات إقليم كردستان منذ ثلاثة أشهر، فأصبحت المنطقة تحت سيطرة قيادة الجبهة الكردستانية. كانت جمجمال بالنسبة لي الملاذ الآمن الذي يمكنني اللجوء إليه، حيث وجدت فيها الكثير من الأقارب والأصدقاء… حينها، كانت جولات التفاوض بين القيادة الكردستانية والحكومة مازالت قائمة، ولكن احتمالات الخروج بنتائج إيجابية كانت بعيدة في نظر أغلب الناس.
أخيراً.. خرجت من السجن ومن ثم من مدينتي ومن بين عائلتي لأذهب إلى مكان لا يبعدني عنهم سوى نصف ساعة من الزمن، ولكنني لم أرجع إليهم إلا بعد 12 عاماً، أي بعد سقوط النظام البعثي الدكتاتوري في 9 نيسان 2003 وكان كل شيء قد تغير… فقدت العديد من الأصدقاء، وحل الفراق والغياب محل الألفة والصحبة، ملامح الأماكن لم تكن على ما كانت عليها قبل اعتقالي… لقد أصبح الكثير منها جزءا من الماضي الأسود الثقيل الذي لا أريد أن أتذكره ولا حتى في الأحلام.. لكن صراعي مع الحياة مازال مستمرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فصل من كتاب مذكرات قيد التدوين.
ذات يوم، في منتصف شهر تشرين الثاني، اتصل بي حسن مطلك ليبدي رغبته في الجلوس معا في منزل ناصر محمود، الذي كان يسكن في شقة في حي المصلى، فذهبنا معاً إلى المنزل عند الرابعة عصراً، وبعد نصف ساعة، وصل الاستاذ محمود جنداري. كان حديث حسن مختلفاً تماماً في تلك الجلسة، حيث تطرق إلى مواضيع سياسية وتحليل للوضع القائم في البلد، وخاصة في ظل العواقب السلبية ومخلفات الحرب العراقية-الإيرانية وآثارها على مجمل جوانب الحياة مع ترسيخ الدكتاتورية والحكم المطلق لصدام حسين.
كانت أفكارنا متطابقة في الدعوة إلى حرية الفكر والديموقراطية وإنشاء دولة القانون في ظل دستور مدني حديث يليق بالإنسان العراقي، الذي يستحق حياة كريمة في ظل الثروة الهائلة والطاقة البشرية البناءة التي يتمتع بها بلدنا، لكننا لم نفكر بالخروج عن دائرة الأدب والنقد لننخرط مباشرة في الاهتمام السياسي. أخيراً أخبرَنا حسن بوجود تنظيم سياسي في باكورة تشكيله، يتمركز في مناطق تكريت، وخاصة بين أبناء عشيرة الجبور، التي كان ينتمي هو اليها. كما أخبرنا بانتمائه إلى الجناح المدني من التنظيم، حيث كان يشكل الجناح العسكري الثقل الرئيسي منه، وأكثر أعضائه من الضباط الشباب، بدرجات مختلفة، وفي مواقع وأجهزة حساسة جداً مثل الحرس الخاص والحرس الجمهوري.
كانت ردود أفعالنا تجاه ما أفشى به حسن من سر ودعوته لنا بالانضمام إلى التنظيم متفاوتة تماماً، ففي حين أيده ناصر في الحال، تحفظ محمود جنداري على الموضوع ووعده بالإجابة على دعوته وأفكاره بشكل مكتوب. أما بالنسبة لي، فقد رفضت الطلب، مع تعهدي لهم بالشرف على أن أحفظ السر وألا أسبب لهم أي أذى، مع عزمي على مواصلة الصداقة، وحتى مساعدتهم عند الشدة، وذلك من منطلق الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاههم.
رجعت إلى البيت بعد حلول الليل، وشعور من الخوف والقلق ينتابني. الشيء الوحيد الذي كنت أخفف به من وطأة الخوف على نفسي، كان بكل بساطة، أنه في حال انكشاف الأمر واعتقال المتورطين، فبأمكاني التخلص دون عقاب، كوني لا أعمل معهم ولم أُؤيدهم أصلاً، مما كان يعكس جهلي التام بأحكام قانون العقوبات العراقي تجاه قضية تسمى بالتستر على مؤامرة تهدف إلى قلب نظام الحكم، والتي تندرج تحت الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي. لكنني قررت من جانبي الابتعاد عنهم لفترة وعدم التطرق إلى الموضع قدر الإمكان.
مر أكثر من شهر على جلسة المفاتحة تلك، وأنا كنت أعمل آنذاك بعقد في مشروع سد العظيم بصفة مراقب، دون أن أعلم بأن كل من حسن مطلك وناصر محمود قد تم اعتقالهما في الأسبوع الأول من العام الجديد 1990. في عصر يوم 19 من كانون الثاني 1990 عندما كنت جالسا في غرفتي مع صديق لي يدعى نوزاد أحمد أسود، وهو مثقف وكاتب من الجيل الذي أنتمي إليه، نناقش موضوعاً يتعلق بالترجمة الأدبية، دخَلت علينا أُختي مهاباد لتخبرني بأن ثلاثة رجال يستقلون سيارة برازيلية بيضاء، يسألون عني وهم يتكلمون العربية. فخرجت إليهم وأنا أرتدي بيجاما وبلوزا خفيفاً، دون أن يخطر ببالي أي شيء غير عادي. كان اثنان منهم واقفين بجانب السيارة والسائق في مقعده ينتظر. عندما صافحتُ أحدهم، أمرني بالصعود إلى السيارة لكي أرافقهم إلى دائرة الأمن، قال بأن أخي ريبوار معتقل هناك بسبب خلاف مع شخص آخر. حاولت التأكد من الأمر، لكنه سحبني بقوة وبمساعدة الرجل الثاني إلى داخل السيارة، ساحباً مسدسه تجاهي، فلم أستطع المقاومة ووجدت نفسي بينهما والسيارة تسير باتجاه مركز المدينة. بعد دقائق من انطلاق السيارة، غطى أحدهم رأسي بسترة جلدية وهو يضغط بفوهة مسدسه على خاصرتي ويدفع برأسي إلى الأسفل.
وقفت السيارة تحت سقف مرآب في باحة بناية حكومية لم أكن أعرفها من قبل، ثم تم وضعي داخل حجرة صغيرة فيها شباك صغير في أعلى الحائط وباب حديدي عادي. نظرت إلى بعض الكتابات والخواطر الموجودة على الحائط فأدركت بأنني في دائرة المخابرات. بعد أقل من ساعة، أخذوني إلى غرفة أخرى وأوقفوني أمام رجل بزي مدني، كان يجلس خلف منضدة عليها بعض الأوراق وسوط أسود، ثم تركوني وحيداً مع الرجل، وكنت مقيّد اليدين إلى الخلف. نهض الرجل من مكانه متوجها نحوي وسألني فيما لو كنت أعرف سبب إحضاري إلى المكان، فأجبته بالنفي. ثم سألني فيما إذا كنت أشك بأحد قد وشى بي فأجبته بالنفي أيضاً. حاولت السيطرة على جسدي الذي بدأ يرتجف من الخوف والبرد، فسألني عن سبب الارتجاف، فقلت إنه من البرد، فأجابني بنبرة ساخرة، بأنهم سيرسلونني إلى مكان دافئ وهادئ، ثم وجه إليّ صفعة قوية مع سيل من الشتائم، وبعدها، طلب من الرجلين إعادتي إلى الحجرة.
عند المغيب، فتحوا الباب وأدخلوا رجلاً يرتدي معطفاً أسود ثم أوصدوا باب الحجرة علينا. بعد برهة نظرنا إلى بعضنا.. فإذا به القاص محمود جنداري. أخبرني على وجه السرعة بأن كلاً من حسن مطلك وناصر محمود قد اعتقلا قبل أسبوعين، كما تم اعتقال العشرات من الضباط والمدنيين، وخاصة في مناطق تكريت وقرى (السديرات) التابعة لها، بتهمة الاعداد لانقلاب ضد السلطة، كما روجت لها الدعايات وبعض وسائل الإعلام المعارضة. سألني محمود جنداري عن موقفي، فأجبته بأنه الموقف نفسه الذي أعلنته في آخر لقاء بيننا ولم أخطو خطوة بغير ذلك الاتجاه. وعن نفسه، قال بأنه قد شرح موقفه من الأمر كتابة، وسلمه إلى حسن مطلك، بيّن فيه أسباب رفضه الانضمام إلى التنظيم السري... أخيرا، اتفقنا على أن ننقل الموقف كما هو، مما يثبت براءتنا عن تهمة الانضمام أو المساهمة مع التنظيم المذكور. لم يأخذوا محمود جنداري إلى الاستجواب، فبقينا ليلتان في الحجرة نفسها. وفي صباح اليوم الثالث قيدوا أيدينا وعصبوا أعيننا وأدخلونا في سيارة لا أتذكر نوعها، بصحبة رجلين والسائق. بعد قرابة ثلاث ساعات، توقفت السيارة فأزالوا العصابة عن أعيننا، ولكن أيدينا بقيت مكبَّلة. كانت بناية كبيرة مكونة من عدة طوابق. أدخلونا إلى أحد الطوابق لنستلم الملابس المخصصة للمعتقلين وإيداع ملابسنا وما نحمله من أشياء شخصية في المكان نفسه (لم أكن أحمل معي سوى قطعة نقدية معدنية واحدة من فئة دينار واحد وساعة إلكترونية عادية). بعد ذلك، تفرقنا، وتم إيقافي في زنزانة صغيرة ذات لون أحمر داكن تحمل الرقم 35 داخل بناية جهاز المخابرات في منطقة الحاكمية ببغداد.. كما عرفت ذلك لاحقاً.
بعد أيام، أخذوني للتحقيق معصوب العينين. أمر المحقق بفتح عيني والجلوس على كرسي يبعد عنه مسافة مترين من مقعده. وكان يجلس بجانب المنضدة شخص آخر يدون الإفادة والأقوال. قبل أن يسألني المحقق عن علاقتي بحسن مطلك وجماعته ومعرفتي بما كانوا يخططون له وعن السبب وراء عدم إبلاغي عنهم، ذكر بأن حسن مطلك وناصر محمود قد اعترفا بكل شيء ومن بين ذلك طبيعة علاقتي بهم ودوري في الموضوع بشكل عام. فشرحت له الأمر وعلاقتي بحسن مطلك والمجموعة، كما اتفقت مع محمود جنداري من قبل. وعن سبب عدم الإبلاغ، ذكرت بأنني لم أصدق الأمر أصلاً.. بل واستهزأت منه، فقلت؛ كيف أُخبر عن أمر أعتبره ضرباً من الخيال. بعدها، وقَّعتُ على الإفادة، وقبل أن أغادر الغرفة، رأيت محمود جنداري، وهم يدخلونه إلى الغرفة معصوب العينين.
أمضيت أكثر من شهر في زنزانتي الانفرادية، وذات يوم، فتحوا الباب وأدخلوا إليها رجلين فأصبحنا ثلاثة اشخاص معاً، وهما (عبد محمد جرو) الذي كان يعمل مديراً لدائرة آثار محافظة صلاح الدين و(محمد صالح خلف) الذي كان برتبة نائب ضابط في الحرس الخاص، وكانا معتقلين بسبب القضية نفسها. آنذاك، تبينت لي حقيقة الأمر وأسراراً كنت أجهلها تماماً، فقد تحدثا لي بالتفصيل عن الموضوع وخلفياته. كان هناك تنظيم مسلح بجناح مدني يتشكل من العرب السنة، وخاصة أحد أفخاذ عشيرة الجبور من محافظة صلاح الدين، وعلى رأسهم شخص كان يدعى بـ(الشيخ هيجل شبيب الجبوري) يهدف إلى اغتيال صدام حسين أثناء استعراض عسكري بمناسبة عيد الجيش في 6 كانون الثاني 1990 وذلك بقذائف تطلق من مدفع دبابة مشاركة في الاستعراض يقودها الضابط الشاب(سطم غنام الجبوري) من قوات الحرس الجمهوري، والذي حصل على لقب (السبابة الذهبية) خلال الحرب العراقية-الإيرانية، ولكن الخطة انكشفت قبل تنفذها بأكثر من أسبوع، من قبل شخص تمت مفاتحته فرفض وقام بالإبلاغ عنهم، كما سمعت ذلك من بعض المعتقلين معي، وكان الشخص من أقرباء صديقي حسن مطلك.
بعد أيام، أصبحنا خمسة معتقلين داخل الزنزانة نفسها، بعد جلب كلا من (حسن رشيد أحمد البدراني) الضابط في الحرس الجمهوري و(أحمد غربي حسن) الذي كان يعمل موظفاً صحياً في إحدى قرى السديرات. كما أدركنا بان الردهة كانت تضم أكثر الموقوفين على ذمة التحقيق في القضية نفسها.
حل شهر رمضان ومن ثم العيد ونحن في المعتقل. أثناء ذلك، تم إطلاق سراح حسن رشيد لعدم علاقته بالقضية، وقبل أن يغادر الزنزانة، طلبت منه إخبار عائلتي عن مكاني وقضيتي، لأنهم كانوا يجهلون مصيري تماماً، لذا أعطيته رقم هاتف منزل خالي وعنوانهم، فوعدني بأن يقوم بذلك، رغم علمه بخطورة الأمر، (اليوم أذكر وبكل امتنان، أن حسن رشيد قد ذهب بنفسه إلى بيت خالي وأوصل الخَبر إلى عائلتي). أما أحمد غربي فقد تم تحويله من الزنزانة إلى مكان آخر.
بتاريخ 18/6/1990 تم نقلنا إلى (محكمة الثورة) التي كان يترأسها (عواد البندر) آنذاك. لم أكن أتصور قطعاً محاكمة شكلية كالتي شهدتها بنفسي. كنا سبعة وعشرون معتقلاً واقفين في القفص نفسه، ومتهمين بالقضية نفسها التي وضِعت تحت عنوان "التآمر على الدولة"، عدا الشيخ هيجل، الذي كان يقف منفصلاً عن المجموعة. لم يُقر أحد منا بالتهمة الموجهة إليه، كما شهدت موقفاً شجاعاً ودفاعاً عن النفس من قبل عدد من المتهمين وحتى عن موقفهم المعارض للسلطة الحاكمة، مما أدى برئيس المحكمة إلى استخدام كلمات بذيئة بحقهم وتطاول على عشيرة الجبور وعوائل المتهمين. كان موقف محامي الدفاع مرسوما له ومثيراً للسخرية، أما المدعي العام فقد دعى إلى إنزال أشد العقوبات بحق المتهمين. انتهت المحاكمة بإصدار الأحكام بحق الجميع وفق المادة (2/175 ق ع) التي تنص على عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد بحق المتهمين. لم تستغرق المحاكمة ساعتين، فصدر الحكم بالإعدام على سبعة عشر شخصا منا وعلى العشرة الباقية بالسجن المؤبد، وكنت أنا من بين المحكومين بالمؤبد وهم:
1- اوات محمد محمد أمين (مدني)
2- عبد محمد جرو (مدني)
3- محمود جنداري جمعة (مدني)
4- محمد صالح خلف (نائب ضابط/ الحرس الخاص)
5- علي عبد الله احمد (نائب ضابط/ الحرس الخاص)
6- حميدي محمد سعيد (نائب ضابط/ الحرس الخاص)
7- ابراهيم حسين جاسم (جهاز الامن الخاص)
8- محمود المظهور (نقيب درع/ الحرس الجمهوري)
9- جمال محمود البدراني (ملازم أول/ الحرس الجمهوري)
10-غانم عبد طلب (ملازم أول/ الحرس الجمهوري)
أما المحكومون بالإعدام فكانوا:
1- الشيخ هيجل محمد شبيب الجبوري (مدني)
2- حسن مطلك الروضان (مدني)
3- ناصر محمود (مدني)
4- احمد غربي حسن (مدني)
5- فندي طلب سلامة (مدني)
6- سطم غنام المجذاب (نقيب/الحرس الجمهوري)
7- جمال شعلان احمد (نقيب/الحرس الجمهوري)
8- خضير خضر الجبوري (نقيب/الحرس الجمهوري)
9- ابراهيم احمد عبدالله (نقيب/الحرس الجمهوري)
10- محمود عبدالله المحجوب (نقيب/الحرس الجمهوري)
11- مصطفى حادي السواطي (نقيب/الحرس الجمهوري)
12- مضحي علي حسين (نقيب/الحرس الجمهوري)
13- صالح جاسم (نقيب/الحرس الجمهوري)
14- صباح عبدالله (نقيب/الحرس الجمهوري)
15- خيرالله حميد (ملازم اول/الحرس الجمهوري)
16- قيس عسكر محمد (نائب ضابط/الحرس الخاص)
17- حسن نايف عبدالله (نائب ضابط/الحرس الخاص-الفصيل الخاص)
بعد المحاكمة مباشرة، تم نقلنا بسيارات مغلقة إلى السجن المركزي في أبي غريب. هناك، بقينا يومان في ردهة الاستقبال، حيث تم وضع كل أربعة أو خمسة منا في غرفة صغيرة. في اليوم الثاني تغذينا مما تبقى من وليمة أعدت خصيصاً لمجموعة من الضباط والموظفين هناك. بعد الغداء، تم جمعنا في غرفة كبيرة وطلبوا من المحكومين بالإعدام أن يدلوا بوصاياهم إلى من يختارون من المحكومين بالسجن المؤبد كي ينقلوها إلى ذويهم. هناك التقيت بحسن مطلك وناصر محمود ومحمود جنداري، بعد خمسة أشهر من العزل. قبّلني حسن مطلك ثم راح يعبر بصوت منهك ووجه شاحب عن أسفه واعتذاره لما حدث، فطلب مني العفو لما سببه لي ولأهلي من متاعب وآلام. أما ناصر محمود فقد تحدث عن التعذيب القاسي الذي تعرضوا له، كما عبر عن الاعتذار قائلاً بأنهم لم يتصوروا هذه العقوبة الشديدة لشخص رفض الانضمام إلى التنظيم ولم يقبل بالفكرة أصلاً.
في عصر يوم 20/6/1990 نقلنا نحن المحكومون بالمؤبد إلى قسم الأحكام الخاصة فتم توزيعنا على القاعات، وهناك، تفرقنا وأصبح لكل منا حرية اختيار المجموعة التي يرغب في الاشتراك معها في المكان والمأكل بما كان يسمى بـ(السفرداشية). غالبا ما كانت المجموعة المحكومة بالقضية نفسها، يجتمعون معاً ويسمي أحدهم الآخر بـ(ابن دعوة). أنا ومحمود جنداري بقينا معاً والتحقنا بمجموعة من ثلاثة مسجونين لنشكل سفرداشية من خمسة أشخاص. الثلاثة الآخرون كانوا:
1- بيرج دونابيت كيروكسيان (أرمني، عضو الفرقة السمفونية العراقية)
2- طارق مدحت القرغولي (عميد، مديرية النقل والتموين في الجيش)
3- عبدالوهاب أحمد عسكر (كردي، يعمل في السمكرة)
كان سجن أبو غريب تابعاً لوزارة الشؤون الاجتماعية، وكذلك أفراد الحراسة من الشرطة… ومن سخرية القدر فإن أبي كان يخدم سجّاناً في أبي غريب منذ أكثر من عشرين سنة، ولكنه في اليوم الذي أُودعنا السجن، كان هو في اجازة عند العائلة في كركوك. حين سمع بالخبر، قطع اجازته وعاد إلى العمل. عندما التقينا لم يسأل كثيراً عما حدث، لكنه طلب مني الصبر والشكر لله الذي أنقذني من الإعدام، فالعقوبة ستمضي على أية حال ولا أحد يعلم ماذا سيحدث غداً.
لقد أصبحت سجيناً محكوماً بالمؤبد في سجن أبي غريب سيء الصيت، وأنا أخاف حتى من الحديث عن القضية التي سُجنت بسببها "محاولة انقلاب فاشلة"، ولكن، منذ اليوم الأول، بدأنا نسمع المعلومات حول الأحكام والمواد العقابية والجرائم والتهم الكيدية.
هناك حصلت على نسخة من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، فقرأت المادة التي حُكم عليّ بموجبها، فكانت مادة ضبابية من حيث المضمون والتفسير… وبعد أقل من شهر ونصف، حين استيقظنا في صباح اليوم الثاني من شهر آب 1990 سمعنا بخبر هز العالم بأكمله، ألا وهو احتلال القوات العراقية لدولة الكويت تحت شعار عودة الفرع إلى الأصل.
كان الشعب العراقي على يقين بأن حرباً جديدة باتت على الأبواب، وما هي إلا مسالة وقت. فحدث ما حدث ونحن في السجن، خلف القضبان نتابع تطورات الأحداث بدءا من قرارات مجلس الأمن ضد العراق والتحشيدات العسكرية لقوات التحالف الدولي ومن ثم الحرب الفعلية في 17 كانون الثاني 1991. تابعنا ونحن في السجن أخبار الانتفاضة الشعبية في بداية شهر آذار من العام نفسه، منطلقة من الجنوب، ومن ثم انتفاضة كردستان حتى تحرير كركوك في 21 آذار، وكان الأمل بالنجاة يغمرنا مع خوف مبرر من انتقام السلطة ضدنا، فلا أمان ونحن في قبضتها. خيم اليأس والحزن علينا، ونحن نسمع باستعادة النظام لسلطته على جميع المدن المنتفضة خلال فترة وجيزة، ومن ثم الهجرة المليونية لشعب كردستان في بداية شهر نيسان. كان لدي راديو جيب صغير، جلبه لي أبي، فكنت أستمع إلى القنوات العالمية بسرية تامة، ولم أكن أعلم بأن ثلاثة من أخوتي قد وقعوا ضمن الاعتقالات العشوائية التي أمر بها المجرم علي حسن المجيد، وأن بقية العائلة هربت نحو الحدود الإيرانية مشياً على الأقدام (بعد سنوات، حين كنت أشاهد فلماً وثائقياً عن الهجرة، وإذا بي أشاهد فيه أمي وأفراد عائلتي وهم يمضون ضمن الحشود نحو مصير مجهول، فجدد المشهد فيَّ الألم وذكريات حزينة عن سنوات سوداء عشتها بكل قسوتها)… أثناء كل تلك المآسي، فوجئنا ذات مساء، حين كنا نجلس أمام التلفاز (وكانت متابعة الأخبار المحلية إلزامية على المسجونين) فإذا بالرئيس صدام حسين يستقبل وفداً من قيادة الأحزاب الكردستانية التي جاءت إلى بغداد لغرض التفاوض، في حين مازال مئات الآلاف من أبناء الكرد مشردين خلف الحدود الإيرانية والتركية.
كانت الأيام تمر ثقيلة جداً في السجن، وكنا نعيش في أجواء نفسية مضطربة جداً، كما كنا نلاحظ بوضوح حالة الانهيار المعنوي المستمر لدى أزلام النظام، مما يجعلنا نتوقع منهم القيام بأي عمل انتقامي ضدنا، كما أن تأثير الحصار الدولي على العراق كان شديداً جداً على الوضع المعيشي والنفسي للمسجونين. لقد رأيت بأم عيني، ثلاثة من المسجونين وهم يطاردون قطة حتى أمسكوا بها وطبخوها كوجبة عشاء. كانت حملات التبرع بالدم تأتي إلى داخل السجن ويأخذون الدم من المسجونين بكل قسوة وإجبار، فكانت أشد ما يخيفني، لأنني كنت أعاني من فقر دم وصحة متردية أصلاً... في شهر أيار، حصل تغيير في إدارة السجن، حيث تم تسليم مهام الأمن والحراسة إلى قوات الأمن بدلاً من الشرطة، كما أُحيل أبي على التقاعد، وبذلك.. فقدت إنساناً كانت مساعدته لي، بدافع الغريزة الأبوية، نوعاً من السلوان.
كان الحديث عن احتمال صدور عفو عام على لسان كل سجين.. إلى أن أصبح ذلك حقيقة، فصدر قرار العفو المرقم 241 في 21/7/1991 لكن التنفيذ الفعلي لم يتم إلا بعد خمسة أشهر، أي في 21/12/1991 وكانت عملية إطلاق السراح، تتم على شكل وجبات. لقد شمل القرار جميع المسجونين والموقوفين إلا من كان مشمولاً بالاستثناءات التي تضمنها قرار العفو. وقد كنت قبل ذلك بيومين قد استلمت تبليغاً من مديرية أمن الاصلاح الاجتماعي داخل السجن، بمراجعة مديرية أمن كركوك خلال عشرة أيام من إطلاق سراحي.
وصلت بيتي في الساعة التاسعة من ليلة 25/12/1991 وكان الحدث بالنسبة لي ولادة جديدة بمعنى الكلمة ولعائلتي كان مبعث سرور. بقيت ثلاثة أيام بين العائلة، وفي اليوم الذي كان من المفروض أن أراجع فيه مديرية الأمن في المدينة، حملت كيساً يحتوي على ملابس منزلية وسيت حلاقة ومنشفة صغيرة متوجهاً نحو إقليم كردستان، وبالتحديد إلى مدينة جمجمال، حيث كانت تسكن أختي المتزوجة منذ أن غادرت العائلة كركوك. كانت الحكومة العراقية قد سحبت إداراتها وأجهزتها الأمنية من محافظات إقليم كردستان منذ ثلاثة أشهر، فأصبحت المنطقة تحت سيطرة قيادة الجبهة الكردستانية. كانت جمجمال بالنسبة لي الملاذ الآمن الذي يمكنني اللجوء إليه، حيث وجدت فيها الكثير من الأقارب والأصدقاء… حينها، كانت جولات التفاوض بين القيادة الكردستانية والحكومة مازالت قائمة، ولكن احتمالات الخروج بنتائج إيجابية كانت بعيدة في نظر أغلب الناس.
أخيراً.. خرجت من السجن ومن ثم من مدينتي ومن بين عائلتي لأذهب إلى مكان لا يبعدني عنهم سوى نصف ساعة من الزمن، ولكنني لم أرجع إليهم إلا بعد 12 عاماً، أي بعد سقوط النظام البعثي الدكتاتوري في 9 نيسان 2003 وكان كل شيء قد تغير… فقدت العديد من الأصدقاء، وحل الفراق والغياب محل الألفة والصحبة، ملامح الأماكن لم تكن على ما كانت عليها قبل اعتقالي… لقد أصبح الكثير منها جزءا من الماضي الأسود الثقيل الذي لا أريد أن أتذكره ولا حتى في الأحلام.. لكن صراعي مع الحياة مازال مستمرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فصل من كتاب مذكرات قيد التدوين.