1
أقول: أنا مفتون بمفردة مدينة وبكل مالها من امتداد ودلالات، وكثيرة هي المرات التي أوردتها في عناوين قصصي منذ بواكيري، أذكر هنا أمثلة: من ذكريات فارس المدينة (عنوان مقطع من قصة) و»»لعبة المدينة»«، و»»البطل والمدينة»« ثم في مجموعة البورتريهات »»وجوه مرت»« هناك أكثر من عنوان مثل »»شاعر المدينة»« و»»حامل أثقال المدينة««، كما أنني أسميت أحد مجاميعي القصصية في سبعينيات القرن الماضي، »»ذاكرة المدينة««.
في متون قصصي ورواياتي، تحضر المدينة حاضنة لأولئك الأبطال الخارجين عن النسق. في روايتي القصيرة »»عيون في الحلم«« يدور فتية رافضون، صاخبون ليزرعوا التهريج في ليل المدينة النائمة التي لا تدور في أزقتها إلا القطط والكلاب وأحيانا عسس مسنون على أكتافهم بنادق صدئة من مخلفات الاحتلال البريطاني للعراق.
2
لعلها مصادفة جميلة أن يسبق لقاءنا هذا بأيام صدور كتاب للناقد والباحث الجامعي التونسي د.محمد البدوي وموضوعه ثلاث مدن في أدبي هي: الناصرية، بغداد وتونس، وفي كتابه يشير إلى مدينة عربية رابعة لها حضورها في رواياتي وقصصي هي بيروت وهذه المدينة توقفت عندها طويلا منذ روايتي «»الأنهار»« ثم »»خطوط الطول خطوط العرض»،« وأخيرا روايتي »»نحيب الرافدين««.
وما كان لي ولا بمستطاعي أن أكتب عن هذه المدن ولو لم أقم فيها، وطالت إقامتي - كما في تونس - وبشكل أقل »»بيروت« «عدا» »الناصرية»« مسقط الرأس وسنوات الطفولة والنضخ، و»»بغداد»» أجل المرافئ الثقافية. والمدينة الأم التي احتوتنا في سنوات تعبنا وحلمنا نحن الذين أطلقوا علينا جيل الستينيات.
3
أنا أمام عنوان محدد في ندوتنا هذه، ولابد لورقتي من الحديث فيه وعنه رغم أنني مضيت بها إلى ما اعتدت أن أسميه »»الشهادة«« لأتنصل من أي مسعى أكاديمي لست من أهله، ما دام النص السردي شاغلي قبل هذا وذاك.
وأقول في هذا المسعى إن المدينة الوحيدة التي سعيت لكتابة سيرتها هي «»الناصرية««، مسقط رأسي وحيث أقامت أسرتي ومازال امتدادها فيها، أشقاء، شقيقات وأبناؤهما وأحفادهما، وحيث يقيم أيضا إبني الكبير »»حيدر»« الذي ولد في بغداد، ولكن ما مر بالعراق بعد احتلاله عام 2003 غير جغرافيا الاقامة، وجعل بعض أبناء هذه المدينة أو تلك الذين ولدوا وأقاموا في مدن أخرى يختارون العودة إلى مدن أبائهم الأولى وتلك حكاية مؤلمة بالنسبة لنا نحن الذين كنا نظن أن كل مدن الله مدننا، نقيم حيث شئنا وحيث نجد الاحترام والاطمئنان.
وإذا كانت «»الناصرية» «حاضرة»« بكثافة في عدد كبير من قصصي ورواياتي إلا أنني أستطيع القول بوثوقية أن هذه المدينة تكاد تكون الوحيدة التي فكرت بكتابة سيرتها، نعم، فكرت بداية ولكنني لم أبق الفكرة مجرد مشروع بل عملت على تحويل هذا المشروع إلى منجز سردي.
ويبدو لي أننا مهما أحببنا من مدن وأصبح قدرنا أن نقيم فيها ونمد جذورنا فإن هناك مدينة ماهي أقرب إلى الحب الأول أو أنها كذلك. أو أنها المنزل الذي يحن إليه الفتى كما يقول بيت الشعر العربي الشهير:
(كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل)
هي الناصرية المدينة الجنوبية الوادعة، القرية من ثغر العراق ومينائه »»البصرة«« العزيزة الناصرية، المدينة الأحدث في سلسلة المدن العراقية، فهي ليست البصرة، وليست الموصل، كما أنها ليست بغداد.
عدت إلى نشأتها على يد ناصر باشا السعدون الملقب بناصر الأشقر الذي سميت بإسمه وبناء على رغبة الوالي العثماني مدحت باشا هو ينتمي إلى عشائر «»المنتفك»« أو «»المنتفج«« وفق التسمية التي كانت شائعة في الفترة الملكية إذ كانت »»الناصرية»« مركز لواء المنتفك، واللواء صار إسمه محافظة بعد ذلك أو ولاية هي التسمية في تونس، و»»المنتفك»« قبائل عربية، لها امتدادها في الخليج العربي في السعودية بشكل خاص والامارات والأردن.
ومادامت المدينة حديثة النشأة (عام 1879 فإن أوائل من سكنها كانوا من موظفي الإدارة العثمانية، وبعض أبناء العشائر القريبة.
وشيد الأثرياء قصورهم على ضفة واحدة من الفرات هي الضفة الجنوبية.
لقد تعقبت في كتاباتي السردية مسار المدينة منذ تلك النشأة دون أن أنقاد إلى ماهو تاريخي وإن كان لجوئي إليه واضحا ولكن إلى ماهو سيري. وفي روايتي «»القمر والأسوار»« عن فترة العراق الملكي والتركيبة السياسية للبلد التي انعكست على المدينة لحيويتها السياسية والثقافية، وهنا أذكر أن يوسف سلمان المعروف بلسم «»فهد»« زعيم الحزب الشيوعي العراقي كان من عائلة مسيحية تقيم في الناصرية وهو زعيم الحزب الذي صعد المشنقة في العهد الملكي مع اثنين من رفاقه: أحدهما مسلم من النجف والآخر من الديانة اليهودية.
وكان مؤسس حزب البعث فؤاد الركابي من الناصرية أيضا. وقد أنجبت المدينة عددا من المناضلين، سواء من كانوا في صفوف الشيوعيين أو في صفوف القوميين وأنصار الحزب الوطني الديمقراطي.
وشغل فؤاد الركابي منصب وزير البلديات، إذ كان متخرّجا من كلية الهندسة ببغداد في أول حكومة عراقية جمهورية شكلها زعيم ثورة 14 تموز (جويلية) عبد الكريم قاسم ممثلا عن حزبه الذي كان وليداً يومذاك ولم يأخذ الامتداد الذي عرفه.
هناك تفاصيل كثيرة في هذه الرواية تتعلق بالمدينة حتى هندستها وطقسها وشوارعها ومعالمها والأسر التي سكنتها وطقوسها في الأفراح وغنائها الشعبي المعروف (الأبوذية) وكان أشهر مغنيي الريف من أبنائها ناصر حكيم وحضيري أبو عزيز وداخل حسن .
تلك الرواية «»القمر والأسوار»،« هي رواية الناصرية، عنيت بسيرتها، ولم يخطر ببالي أنني رويت ما رويت عنها لأبقيها مشيدة عامرة، كما عرفتها وكما عشت فيها، كأنني بما كتبت قد شيدت معماراً سيبقى، ورويت سيرة ستروى وأوقدت شموع ذاكرة لا تطفأ.
ولم أفكر أن معاول الهدم ستمتد إلى أجمل معالمها، وأنها ستهد القديم لا لسبب إلا لأنه تراثي، امتد به العمر ولم يقهره الزمن، لم يعرف أولئك الجهلة أنهم بما فعلوه قد قطعوا جذوراً ممتدة، هدوا أجمل مبنى حكومي بأقواسه وآجره وجدرانه التي تبلغ عدة أمتار عرضاً، وهذا مثال إذ تم تعويضه ببناء من الآجور والإسمنت غاية في القبح ورداءة الذوق.
ماكتبته في روايتي هذه، كان أيضاً توثيقا. فالمكان الجغرافي لها لم يكن اختياراً مجانياً، بل كان مدروسا، تماما كما حصل لبغداد.وقد توالت أحاديث عن موقع الناصرية الجغرافي بأن ناصر الأشقر من اختار موقعها وأطلق عليها اسمه خصها بتهديد لأبناء العشائر الذين قطنوها بأن وجودها في منخفض يسهّل عليه إغراقها بمياه سد »»أبو جدّاحة«« غربي المدينة إن حصل أي تمرد عليه.
هذه الحكاية لم أهملها، بل أخذتها وأنا أروي سيرتها الموازية لسيرة أبطال الرواية الذين هم منها، وأيضاً جئت على ذكر المهندس الألماني الذي أوكلت إليه مهمة خارطة المدينة. وقد وضع شارعاً عريضاً مستقيماً يمتد من غربي المدينة الى شرقيها، ومنه تتفرع عدة شوارع على الجانبين، وهو شارع يوازي مسرى نهر الفرات، وإن كانت تفصله عنه عدة شوارع.
وسيطلق الناس على هذا الشارع اسم «»شارع الهواء»« لسعته أو »»عكد الهوا«« وفق التسمية الشعبية. وتتوسطه على امتداده أشجار اليوكالبتوس الظليلة، يسهر عليها فلاحون ماهرون، وفي ظلال الأشجار يغرسون الزهور الموسمية.
وكان أول بناء في المدينة سراي الحكومة وهو شبيه بمباني منطقة «»القشلة«« في بغداد التي سلم البعض منها من معاول الهدم، فحولت إلى متحف، كما علمت، ولكن سراي الناصرية هد بعد ذلك، والبناء الثاني هو الجامع بمنارته العالية وهو يطل على الفرات، وهو الجامع الوحيد ذو المنارة في الناصرية، إذ أن بقية المساجد الأخرى بدونها وأغلبها ما اصطلح عليه بالحسينيات التي كان يرفع الآذان فيها مؤذنون تتفاوت أصواتهم بين العذوبة والقبح.
4
بعد سنوات من كتابتي ل «»القمر والأسوار»«، كان يسكنني إحساس بأنني لم أكتب فيها كل شيء من سيرة تلك المدينة التي غادرتها ووصفتها في حديث تلفزي لقناة الشرقية العراقية بأنها أمي. والعراق أبي. وقد عدت إليها في سياق سيرتي الذاتية «»أية حياة هي؟ سيرة البدايات»،« وهي أيضاً عن آخر سنوات العراق الملكي التي وعيتها حيث دخلت في كل تفاصيل حياة أهل المدينة، طعامهم وشرابهم وعاداتهم وطقوسهم الدينية والأولياء الذين تنتشر مزاراتهم حولها، وحكاية كل مزار وكيف نبت، وكذلك التركيبة الدينية والعرقية لسكان المدينة، إذ كانت مدارسها تضم طلاباً مسلمين ويهوداً ومسيحيين وصابئة، وللصابئة محلة كاملة غربي المدينة على ضفاف الفرات، حيث كانت طقوسهم مائية، وكانوا معروفين بلحاهم الطويلة ويشاميغهم الحمراء وهم ينكبون في دكاكينهم ذات الواجهات الزجاجية ليصنعوا أجمل المصاغات الذهبية والفضية وفق ذائقة نساء المدينة أو نساء القرى وتوّقفت عند أسماء الأسر المسيحية التي كانت جزءاً من نسيج المدينة والمهن التي شغلوها.
غصت في تفاصيل كثيرة، وقبل السيرة كانت لي روايتان هما: »»عيون في الحلم»« التي روت حياة مجموعة من الشبان الفنانين الذين تضيق بهم المدينة ويضيقون بها، يتحزبون ويعتقلون والرواية أيضاً عن الفترة الملكية.
ثم كتبت روايتي »»الوشم«« عن الصراع السياسي في العهد الجمهوري الوليد، وحيث برزت في المدينة وهو ما برز في العراق كله من قوى وأحزاب كانت ناشئة صغيرة في أواخر العهد الملكي مثل حزب البعث والتيار القومي الناصري، وهو غير التيار القومي في العراق الذي كان يمثله حزب الاستقلال وانحسر دور أحزاب وطنية عراقية كانت فاعلة في الحياة السياسية العراقية مثل الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة المرحوم كامل الجادرجي.
وبدلا من أن يكون الصراع مع السلطة الحاكمة، صار الصراع بين الأحزاب التي من المفترض أن تكون صاحبة المصلحة في العهد الجمهوري، إذ كلها كانت تعارض الحكم الملكي ورجالاته، وعلى رأسهم نوري السعيد.
بطل الرواية زيادة في تأكيد انتمائه للناصرية، لقبته بالناصري »»كريم الناصري««.
كأن كل عمل روائي جديد لي فيه، استكمل سيرة الناصرية في مراحل لاحقة، وهذا ما أكدته في روايتي »»نحيب الرافدين»« عن العراقيين وانعكاسات الحرب مع إيران عليهم.
هذه الرواية، وإن تعددت فيها المدن من بيروت الى بغداد الى الناصرية، فإن في حديثي عن الناصرية، استكمال لسيرتها التي رويتها فصولا في رواياتي الأولى.
كنت قد دوّنت مشاهد الخراب والدمار التي حلت بها عندما زرتها للمرة الأخيرة، رأيت كل ماتركته جميلا قد انهد وتلاشى فحل القبح وكأن الحرب لا تقترن إلا بالقبح.
حتى الأصدقاء، الذين تركتهم فيها قد تسرب إليهم العطب، وبدوا لي ذاهلين قرفين، كأن وجودي بينهم قد أيقظهم من غفوة كانت تأخذهم.
كان رد فعلي الأول قصة قصيرة عنونتها ب »»هناك في تلك المدينة«« دونت فيها فزعي مما حل في المدينة من خراب. هذه القصة، صدرت في مجموعتي القصصية »»السومري»« ط 1 سنة 1993.
وكأنني في مواصلتي لسرد حياة المدينة، أستكمل ما فاتني من شخصيات واحداث بقصص قصيرة اخرها مجموعتي و جوه مرت - بورتريهات عراقية ط 1 سنة 2004 حيث عدت لاستكمل سيرة بعض من عرفتهم المدينة من شخصيات نادرة مازالوا في ذاكرتها رغم انني قد مررت على البعض منهم في رواياتي وربما كان اخر من تذكرتهم «الخياط جودي» الذي خصه شاعر من المدينة غادرها الى الجامعة وبعد تخرجه اخذته الدنيا فاكمل دراسته لنيل درجة الدكتوراه في بريطانيا مازال مقيما فيها هو الدكتور عبد اللطيف اطميش الذي ظل «جودي» في ذاكرته فكتب عنه قصيدة، ومضيت انا للقصة القصيرة فكتبت عنه قصة بعنوان «جودي الذي كان يغني» لكونه صاحب صوت جميل يردد اغاني الريف الجنوبي الحزينة.
5
تلك الناصرية البعيدية التي لم ازرها منذ عام 1989 تبدلت كثيرا كما أسمع أخبارها، وجرى هد معالم وتبديل أسماء بأخرى، فصار «شارع الهواء» يحمل اسم «شارع الحبوبي»، وهو شاعر ثورة 1920 ضد بريطانيا، جاء رفقة الثوار، فباغته المرض الذي تسبب في وفاته وهو في الناصرية، وقد وضع له تمثال كبير يتصدر هذا الشارع.
ولكن أبناء هذه المدينة يعتزون بانتمائهم لها، إذ ان موقعها لا يبعد اكثر من 30 كيلومترا عن اثار مدينة اور عاصمة السومريين ومسقط رأس ابي الانبياء ابراهيم الخليل التي تقع شمالي المدينة. وكم ذهبنا إليها في سفراتنا المدرسية ويكبر أسفنا على ما ابتلعته الرمال والسباخ من اثارها. وتقع في جنوبها وعلى المسافة نفسها حوالي 30 كيلو مترا اثارا مدينة «تللوة» السومرية هي الاخرى والموروث السومري يلح على جيل كامل من المبدعين الذين ينتمون للمدينة او للمحافظة كلها التي صار اسمها الجديد «محافظة ذي قار» لكون معركة ذي قار الشهيرة وقعت في المنطقة نفسها.
وفي روايتي «نحيب الرافدين» استرجاعات سومرية وتباه بالانتماء لتلك المرحلة المنيرة من تاريخ البشرية يكفي ان نذكر «ملحمة جلجامش» مثلا.
كنت أنشد ملاحقة مراحل من التاريخ العراقي الحديث والسياسي والاجتماعي وإن كانت «الناصرية» نموذجي الأول وميداني فان لي وباهتمامي المقابل ببغداد العاصمة بكل مافيها من ارث وامتداد ولكنني لم اكتب بغداد كما كتبت الناصرية لانني عرفتها فتى يومت توجهت لها عام 1957 لانضم لمعهد الفنون الجميلة، وقد رويت هذا في سيرتي «ايه حياة هي» سيرة البدايات». واستكملته في الجزء الثاني المخطوط منها «زمان الوصل في بغداد»، وعن بغداد كانت روايتي «الوكر» التي تناولت حياة مجموعة من المثقفين المنتمين لاحزاب سياسية معارضة سرية، و تحول كريم الناصري بطل «الوشم» بعد اعترافه وخروجه من المعتقل الى بغداد، كما ان روايتي «خطوط الطول خطوط العرض» تدور احداثها في بغداد اضافة الى عاصمتين عربيتين اخريين هما: بيروت وتونس وتلك كانت تجربة عن تعدد المناخ الجغرافي وما ينجر عنه من تعدد في الشخصيات ربما كان منطلقه قصتي القصيرة الطويلة «هموم عربية «المنشورة في مجموعتي «الأفواه» ط 1 سنة 1979
وهنا أعود إلى كتاب الناقد التونسي د. محمد البدوي «الناصرية - بغداد تونس - دراسات في ادب عبد الرحمن مجيد الربيعي». والكتاب من عنواه، يحيل على سيرة المدن الثلاث وحضورها في رواياتي وهي دراسة مهمة، اعتز بها لكونها انتبهت الى عنايتي بتدوين سير المدن الثلاث المذكورة، واشير هنا الى رسالة ماجستير تعود الى عام 1999 قدمها الباحث العراقي حسن سالم هندي الدكتور حاليا، والاستاذ في جامعة تكريت، وعنوان الرسالة:» المكان في روايات عبد الرحمن مجيد الربيعي». وهو المكان المديني، اذ انني ورغم انحداري من اسرة ريفية مازال اغلب ابنائها في قرية «ابو هاون» الواقعة على نهر الغراف بين مدينتي الشطرة والرفاعي علي مسافة اربعين كيلو تقريبا عن الناصرية مركز محافظة ذي قار. اقول رغم منحدري الريفي الا انني ابن المدينة هكذا يتم وصف مدن كثيرة بهذه الصفة التي فيها تفاؤل. فهي (مدن - قرى) مادام سكانها يحملون معهم ارثهم القبائلي وعاداتهم العشائرية من قراهم الى المدن ولم تسلم حتى العاصمة بغداد من هذا. اذ ان الكثير من الاحياء فيها يتجمع في بيوتها الاقارب المنتمون الى قبيلة واحدة.
من بين الروائيين وكتاب القصة في العراق يذكر دائما اسم الروائي الراحل غائب طعمة فرمان، فهو روائي بغداد بجدارة. ورغم اقامته الطويلة في موسكو الا انه ظل يكتب عن بغداد، ولكنه لا يكتب عن بغداد الماثلة بل بغداد التي في ذاكرته، بغداد الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي في رواياته المعروفة «خمسة أصوات» و »»القربان«« و ««النخلة والجيران» و»المركب».
إذ نراه يستعمل حتى أسماء الأماكن التي عرفها رغم أنها استبدلت بأخرى ونسي الناس الأسماء الأولى. واذكر هنا ان اخر لقاء لي معه كان في مدينة مكناس وفي ندوة عن القصة العربية القصيرة عام 1983 نظمها اتحاد كتاب المغرب، وكانت روايته «المركب» حديثة الصدور وقد فرغت من قراءتها قبل لقائنا بايام، ومن الاسماء مثلا التي وردت فيها جزيرة أم الخنازير وهي جزيرة في نهر دجلة قرب بغداد، جرى استبدال اسمها بجزيرة العرائس، حيث بنيت فيها بيوت تؤجر للمتزوجين لاتمام شهور عسلهم، ولم يعد احد يعرف الاسم القديم لها، واذكر انه اجابني: لقد كتبت ما أعرفه.
هنا أتساءل: أليس في روايات غائب طعمة فرمان ما يشبه اعادة بناء ما كان والذي لم يعد قائما الان، واقول: أليس هذا مطلوبا من الرواية المدينية التي تعني بسير المدن؟
لأن هذا التساؤل أحيله علي ايضا ،فما افعله بالنسبة للناصرية هو الشيء نفسه الذي فعله فرمان بالنسبة لبغداد.
وقد ذكرت في احدى شهاداتي ان الادباء الشبان من ابناء الناصرية الذين جاؤوا بعدنا بعقدين واكثر سألني البعض منهم: عن أي ناصرية تكتب؟ فالناصرية في روايتك «القمر والأسوار» لا وجود لها.
فأجيبهم: أنتم محقون، لقد كتبت عن الناصرية التي كانت، ناصرية، الذاكرة، وكأني أعيد بناء ماهدم منها وإن كان ذلك على الورق.
ومن بين الروائيين الذين كتبوا سير مدن معينة، نذكر المرحوم عبد الرحمن منيف في كتابه عن سيرة العاصمة الاردنية عمان، وكذلك اشتغالات روائيين عرب آخرين على مدن عرفوها.
ومن العراق أيضا لابد من ذكر النص الجميل «بصرياثا» لمحمد خضير، هذا النص الذي بقدر ما وثق لمدينته «البصرة» والاشتقاق واضح في العنوان «بصرياثا» فإنه أسطر مدينته التي ولد فيها ودرس واشتغل حتى يوم الله هذا، هو هنا اشبه بمن غرس فسيلة صغيرة وظل يرعاها ويتابعها حتى امتدت وتسامقت وتدلت عذوقها.
اختلاف محمد خضير في «بصرياثا» عن محدثكم هو أنه عرف كل حقب مدينته، أما أنا، فقد غادرت ولم أتابع ما جرى بعدي إلا في لقاءات عابرة ينقصها الاستقصاء والتثبت.
كانت كتاباتي الأخيرة في روايتي «نجيب الرافدين» مثلا اشبه ما تكون بردود افعال من صدمات الخراب التي عمت البلد مما أضاع البراءة الأولى، وافتقدنا التلذذ بما جاء بعد كل هذا. وظلت ذكريات زمن كان جميلا نسغا وعنوانا لمدننا التي لم نشف من حنيننا لها، حنين يسلمنا الى البكاءأ، بكاء من فقد شيئا عزيزا عليه وعجز عن استرجاعه.
* نص الورقة المقدمة لندوة»سير المدن في الرواية العربية»،التي نظمتها مديرية الكتاب في وزارة الثقافة المغربية بتاريخ 30 مارس 2013 في اطار معرض الدار البيضاء السنوي للكتاب.
عبد الرحمن مجيد الربيعي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 04 - 2013
أقول: أنا مفتون بمفردة مدينة وبكل مالها من امتداد ودلالات، وكثيرة هي المرات التي أوردتها في عناوين قصصي منذ بواكيري، أذكر هنا أمثلة: من ذكريات فارس المدينة (عنوان مقطع من قصة) و»»لعبة المدينة»«، و»»البطل والمدينة»« ثم في مجموعة البورتريهات »»وجوه مرت»« هناك أكثر من عنوان مثل »»شاعر المدينة»« و»»حامل أثقال المدينة««، كما أنني أسميت أحد مجاميعي القصصية في سبعينيات القرن الماضي، »»ذاكرة المدينة««.
في متون قصصي ورواياتي، تحضر المدينة حاضنة لأولئك الأبطال الخارجين عن النسق. في روايتي القصيرة »»عيون في الحلم«« يدور فتية رافضون، صاخبون ليزرعوا التهريج في ليل المدينة النائمة التي لا تدور في أزقتها إلا القطط والكلاب وأحيانا عسس مسنون على أكتافهم بنادق صدئة من مخلفات الاحتلال البريطاني للعراق.
2
لعلها مصادفة جميلة أن يسبق لقاءنا هذا بأيام صدور كتاب للناقد والباحث الجامعي التونسي د.محمد البدوي وموضوعه ثلاث مدن في أدبي هي: الناصرية، بغداد وتونس، وفي كتابه يشير إلى مدينة عربية رابعة لها حضورها في رواياتي وقصصي هي بيروت وهذه المدينة توقفت عندها طويلا منذ روايتي «»الأنهار»« ثم »»خطوط الطول خطوط العرض»،« وأخيرا روايتي »»نحيب الرافدين««.
وما كان لي ولا بمستطاعي أن أكتب عن هذه المدن ولو لم أقم فيها، وطالت إقامتي - كما في تونس - وبشكل أقل »»بيروت« «عدا» »الناصرية»« مسقط الرأس وسنوات الطفولة والنضخ، و»»بغداد»» أجل المرافئ الثقافية. والمدينة الأم التي احتوتنا في سنوات تعبنا وحلمنا نحن الذين أطلقوا علينا جيل الستينيات.
3
أنا أمام عنوان محدد في ندوتنا هذه، ولابد لورقتي من الحديث فيه وعنه رغم أنني مضيت بها إلى ما اعتدت أن أسميه »»الشهادة«« لأتنصل من أي مسعى أكاديمي لست من أهله، ما دام النص السردي شاغلي قبل هذا وذاك.
وأقول في هذا المسعى إن المدينة الوحيدة التي سعيت لكتابة سيرتها هي «»الناصرية««، مسقط رأسي وحيث أقامت أسرتي ومازال امتدادها فيها، أشقاء، شقيقات وأبناؤهما وأحفادهما، وحيث يقيم أيضا إبني الكبير »»حيدر»« الذي ولد في بغداد، ولكن ما مر بالعراق بعد احتلاله عام 2003 غير جغرافيا الاقامة، وجعل بعض أبناء هذه المدينة أو تلك الذين ولدوا وأقاموا في مدن أخرى يختارون العودة إلى مدن أبائهم الأولى وتلك حكاية مؤلمة بالنسبة لنا نحن الذين كنا نظن أن كل مدن الله مدننا، نقيم حيث شئنا وحيث نجد الاحترام والاطمئنان.
وإذا كانت «»الناصرية» «حاضرة»« بكثافة في عدد كبير من قصصي ورواياتي إلا أنني أستطيع القول بوثوقية أن هذه المدينة تكاد تكون الوحيدة التي فكرت بكتابة سيرتها، نعم، فكرت بداية ولكنني لم أبق الفكرة مجرد مشروع بل عملت على تحويل هذا المشروع إلى منجز سردي.
ويبدو لي أننا مهما أحببنا من مدن وأصبح قدرنا أن نقيم فيها ونمد جذورنا فإن هناك مدينة ماهي أقرب إلى الحب الأول أو أنها كذلك. أو أنها المنزل الذي يحن إليه الفتى كما يقول بيت الشعر العربي الشهير:
(كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل)
هي الناصرية المدينة الجنوبية الوادعة، القرية من ثغر العراق ومينائه »»البصرة«« العزيزة الناصرية، المدينة الأحدث في سلسلة المدن العراقية، فهي ليست البصرة، وليست الموصل، كما أنها ليست بغداد.
عدت إلى نشأتها على يد ناصر باشا السعدون الملقب بناصر الأشقر الذي سميت بإسمه وبناء على رغبة الوالي العثماني مدحت باشا هو ينتمي إلى عشائر «»المنتفك»« أو «»المنتفج«« وفق التسمية التي كانت شائعة في الفترة الملكية إذ كانت »»الناصرية»« مركز لواء المنتفك، واللواء صار إسمه محافظة بعد ذلك أو ولاية هي التسمية في تونس، و»»المنتفك»« قبائل عربية، لها امتدادها في الخليج العربي في السعودية بشكل خاص والامارات والأردن.
ومادامت المدينة حديثة النشأة (عام 1879 فإن أوائل من سكنها كانوا من موظفي الإدارة العثمانية، وبعض أبناء العشائر القريبة.
وشيد الأثرياء قصورهم على ضفة واحدة من الفرات هي الضفة الجنوبية.
لقد تعقبت في كتاباتي السردية مسار المدينة منذ تلك النشأة دون أن أنقاد إلى ماهو تاريخي وإن كان لجوئي إليه واضحا ولكن إلى ماهو سيري. وفي روايتي «»القمر والأسوار»« عن فترة العراق الملكي والتركيبة السياسية للبلد التي انعكست على المدينة لحيويتها السياسية والثقافية، وهنا أذكر أن يوسف سلمان المعروف بلسم «»فهد»« زعيم الحزب الشيوعي العراقي كان من عائلة مسيحية تقيم في الناصرية وهو زعيم الحزب الذي صعد المشنقة في العهد الملكي مع اثنين من رفاقه: أحدهما مسلم من النجف والآخر من الديانة اليهودية.
وكان مؤسس حزب البعث فؤاد الركابي من الناصرية أيضا. وقد أنجبت المدينة عددا من المناضلين، سواء من كانوا في صفوف الشيوعيين أو في صفوف القوميين وأنصار الحزب الوطني الديمقراطي.
وشغل فؤاد الركابي منصب وزير البلديات، إذ كان متخرّجا من كلية الهندسة ببغداد في أول حكومة عراقية جمهورية شكلها زعيم ثورة 14 تموز (جويلية) عبد الكريم قاسم ممثلا عن حزبه الذي كان وليداً يومذاك ولم يأخذ الامتداد الذي عرفه.
هناك تفاصيل كثيرة في هذه الرواية تتعلق بالمدينة حتى هندستها وطقسها وشوارعها ومعالمها والأسر التي سكنتها وطقوسها في الأفراح وغنائها الشعبي المعروف (الأبوذية) وكان أشهر مغنيي الريف من أبنائها ناصر حكيم وحضيري أبو عزيز وداخل حسن .
تلك الرواية «»القمر والأسوار»،« هي رواية الناصرية، عنيت بسيرتها، ولم يخطر ببالي أنني رويت ما رويت عنها لأبقيها مشيدة عامرة، كما عرفتها وكما عشت فيها، كأنني بما كتبت قد شيدت معماراً سيبقى، ورويت سيرة ستروى وأوقدت شموع ذاكرة لا تطفأ.
ولم أفكر أن معاول الهدم ستمتد إلى أجمل معالمها، وأنها ستهد القديم لا لسبب إلا لأنه تراثي، امتد به العمر ولم يقهره الزمن، لم يعرف أولئك الجهلة أنهم بما فعلوه قد قطعوا جذوراً ممتدة، هدوا أجمل مبنى حكومي بأقواسه وآجره وجدرانه التي تبلغ عدة أمتار عرضاً، وهذا مثال إذ تم تعويضه ببناء من الآجور والإسمنت غاية في القبح ورداءة الذوق.
ماكتبته في روايتي هذه، كان أيضاً توثيقا. فالمكان الجغرافي لها لم يكن اختياراً مجانياً، بل كان مدروسا، تماما كما حصل لبغداد.وقد توالت أحاديث عن موقع الناصرية الجغرافي بأن ناصر الأشقر من اختار موقعها وأطلق عليها اسمه خصها بتهديد لأبناء العشائر الذين قطنوها بأن وجودها في منخفض يسهّل عليه إغراقها بمياه سد »»أبو جدّاحة«« غربي المدينة إن حصل أي تمرد عليه.
هذه الحكاية لم أهملها، بل أخذتها وأنا أروي سيرتها الموازية لسيرة أبطال الرواية الذين هم منها، وأيضاً جئت على ذكر المهندس الألماني الذي أوكلت إليه مهمة خارطة المدينة. وقد وضع شارعاً عريضاً مستقيماً يمتد من غربي المدينة الى شرقيها، ومنه تتفرع عدة شوارع على الجانبين، وهو شارع يوازي مسرى نهر الفرات، وإن كانت تفصله عنه عدة شوارع.
وسيطلق الناس على هذا الشارع اسم «»شارع الهواء»« لسعته أو »»عكد الهوا«« وفق التسمية الشعبية. وتتوسطه على امتداده أشجار اليوكالبتوس الظليلة، يسهر عليها فلاحون ماهرون، وفي ظلال الأشجار يغرسون الزهور الموسمية.
وكان أول بناء في المدينة سراي الحكومة وهو شبيه بمباني منطقة «»القشلة«« في بغداد التي سلم البعض منها من معاول الهدم، فحولت إلى متحف، كما علمت، ولكن سراي الناصرية هد بعد ذلك، والبناء الثاني هو الجامع بمنارته العالية وهو يطل على الفرات، وهو الجامع الوحيد ذو المنارة في الناصرية، إذ أن بقية المساجد الأخرى بدونها وأغلبها ما اصطلح عليه بالحسينيات التي كان يرفع الآذان فيها مؤذنون تتفاوت أصواتهم بين العذوبة والقبح.
4
بعد سنوات من كتابتي ل «»القمر والأسوار»«، كان يسكنني إحساس بأنني لم أكتب فيها كل شيء من سيرة تلك المدينة التي غادرتها ووصفتها في حديث تلفزي لقناة الشرقية العراقية بأنها أمي. والعراق أبي. وقد عدت إليها في سياق سيرتي الذاتية «»أية حياة هي؟ سيرة البدايات»،« وهي أيضاً عن آخر سنوات العراق الملكي التي وعيتها حيث دخلت في كل تفاصيل حياة أهل المدينة، طعامهم وشرابهم وعاداتهم وطقوسهم الدينية والأولياء الذين تنتشر مزاراتهم حولها، وحكاية كل مزار وكيف نبت، وكذلك التركيبة الدينية والعرقية لسكان المدينة، إذ كانت مدارسها تضم طلاباً مسلمين ويهوداً ومسيحيين وصابئة، وللصابئة محلة كاملة غربي المدينة على ضفاف الفرات، حيث كانت طقوسهم مائية، وكانوا معروفين بلحاهم الطويلة ويشاميغهم الحمراء وهم ينكبون في دكاكينهم ذات الواجهات الزجاجية ليصنعوا أجمل المصاغات الذهبية والفضية وفق ذائقة نساء المدينة أو نساء القرى وتوّقفت عند أسماء الأسر المسيحية التي كانت جزءاً من نسيج المدينة والمهن التي شغلوها.
غصت في تفاصيل كثيرة، وقبل السيرة كانت لي روايتان هما: »»عيون في الحلم»« التي روت حياة مجموعة من الشبان الفنانين الذين تضيق بهم المدينة ويضيقون بها، يتحزبون ويعتقلون والرواية أيضاً عن الفترة الملكية.
ثم كتبت روايتي »»الوشم«« عن الصراع السياسي في العهد الجمهوري الوليد، وحيث برزت في المدينة وهو ما برز في العراق كله من قوى وأحزاب كانت ناشئة صغيرة في أواخر العهد الملكي مثل حزب البعث والتيار القومي الناصري، وهو غير التيار القومي في العراق الذي كان يمثله حزب الاستقلال وانحسر دور أحزاب وطنية عراقية كانت فاعلة في الحياة السياسية العراقية مثل الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة المرحوم كامل الجادرجي.
وبدلا من أن يكون الصراع مع السلطة الحاكمة، صار الصراع بين الأحزاب التي من المفترض أن تكون صاحبة المصلحة في العهد الجمهوري، إذ كلها كانت تعارض الحكم الملكي ورجالاته، وعلى رأسهم نوري السعيد.
بطل الرواية زيادة في تأكيد انتمائه للناصرية، لقبته بالناصري »»كريم الناصري««.
كأن كل عمل روائي جديد لي فيه، استكمل سيرة الناصرية في مراحل لاحقة، وهذا ما أكدته في روايتي »»نحيب الرافدين»« عن العراقيين وانعكاسات الحرب مع إيران عليهم.
هذه الرواية، وإن تعددت فيها المدن من بيروت الى بغداد الى الناصرية، فإن في حديثي عن الناصرية، استكمال لسيرتها التي رويتها فصولا في رواياتي الأولى.
كنت قد دوّنت مشاهد الخراب والدمار التي حلت بها عندما زرتها للمرة الأخيرة، رأيت كل ماتركته جميلا قد انهد وتلاشى فحل القبح وكأن الحرب لا تقترن إلا بالقبح.
حتى الأصدقاء، الذين تركتهم فيها قد تسرب إليهم العطب، وبدوا لي ذاهلين قرفين، كأن وجودي بينهم قد أيقظهم من غفوة كانت تأخذهم.
كان رد فعلي الأول قصة قصيرة عنونتها ب »»هناك في تلك المدينة«« دونت فيها فزعي مما حل في المدينة من خراب. هذه القصة، صدرت في مجموعتي القصصية »»السومري»« ط 1 سنة 1993.
وكأنني في مواصلتي لسرد حياة المدينة، أستكمل ما فاتني من شخصيات واحداث بقصص قصيرة اخرها مجموعتي و جوه مرت - بورتريهات عراقية ط 1 سنة 2004 حيث عدت لاستكمل سيرة بعض من عرفتهم المدينة من شخصيات نادرة مازالوا في ذاكرتها رغم انني قد مررت على البعض منهم في رواياتي وربما كان اخر من تذكرتهم «الخياط جودي» الذي خصه شاعر من المدينة غادرها الى الجامعة وبعد تخرجه اخذته الدنيا فاكمل دراسته لنيل درجة الدكتوراه في بريطانيا مازال مقيما فيها هو الدكتور عبد اللطيف اطميش الذي ظل «جودي» في ذاكرته فكتب عنه قصيدة، ومضيت انا للقصة القصيرة فكتبت عنه قصة بعنوان «جودي الذي كان يغني» لكونه صاحب صوت جميل يردد اغاني الريف الجنوبي الحزينة.
5
تلك الناصرية البعيدية التي لم ازرها منذ عام 1989 تبدلت كثيرا كما أسمع أخبارها، وجرى هد معالم وتبديل أسماء بأخرى، فصار «شارع الهواء» يحمل اسم «شارع الحبوبي»، وهو شاعر ثورة 1920 ضد بريطانيا، جاء رفقة الثوار، فباغته المرض الذي تسبب في وفاته وهو في الناصرية، وقد وضع له تمثال كبير يتصدر هذا الشارع.
ولكن أبناء هذه المدينة يعتزون بانتمائهم لها، إذ ان موقعها لا يبعد اكثر من 30 كيلومترا عن اثار مدينة اور عاصمة السومريين ومسقط رأس ابي الانبياء ابراهيم الخليل التي تقع شمالي المدينة. وكم ذهبنا إليها في سفراتنا المدرسية ويكبر أسفنا على ما ابتلعته الرمال والسباخ من اثارها. وتقع في جنوبها وعلى المسافة نفسها حوالي 30 كيلو مترا اثارا مدينة «تللوة» السومرية هي الاخرى والموروث السومري يلح على جيل كامل من المبدعين الذين ينتمون للمدينة او للمحافظة كلها التي صار اسمها الجديد «محافظة ذي قار» لكون معركة ذي قار الشهيرة وقعت في المنطقة نفسها.
وفي روايتي «نحيب الرافدين» استرجاعات سومرية وتباه بالانتماء لتلك المرحلة المنيرة من تاريخ البشرية يكفي ان نذكر «ملحمة جلجامش» مثلا.
كنت أنشد ملاحقة مراحل من التاريخ العراقي الحديث والسياسي والاجتماعي وإن كانت «الناصرية» نموذجي الأول وميداني فان لي وباهتمامي المقابل ببغداد العاصمة بكل مافيها من ارث وامتداد ولكنني لم اكتب بغداد كما كتبت الناصرية لانني عرفتها فتى يومت توجهت لها عام 1957 لانضم لمعهد الفنون الجميلة، وقد رويت هذا في سيرتي «ايه حياة هي» سيرة البدايات». واستكملته في الجزء الثاني المخطوط منها «زمان الوصل في بغداد»، وعن بغداد كانت روايتي «الوكر» التي تناولت حياة مجموعة من المثقفين المنتمين لاحزاب سياسية معارضة سرية، و تحول كريم الناصري بطل «الوشم» بعد اعترافه وخروجه من المعتقل الى بغداد، كما ان روايتي «خطوط الطول خطوط العرض» تدور احداثها في بغداد اضافة الى عاصمتين عربيتين اخريين هما: بيروت وتونس وتلك كانت تجربة عن تعدد المناخ الجغرافي وما ينجر عنه من تعدد في الشخصيات ربما كان منطلقه قصتي القصيرة الطويلة «هموم عربية «المنشورة في مجموعتي «الأفواه» ط 1 سنة 1979
وهنا أعود إلى كتاب الناقد التونسي د. محمد البدوي «الناصرية - بغداد تونس - دراسات في ادب عبد الرحمن مجيد الربيعي». والكتاب من عنواه، يحيل على سيرة المدن الثلاث وحضورها في رواياتي وهي دراسة مهمة، اعتز بها لكونها انتبهت الى عنايتي بتدوين سير المدن الثلاث المذكورة، واشير هنا الى رسالة ماجستير تعود الى عام 1999 قدمها الباحث العراقي حسن سالم هندي الدكتور حاليا، والاستاذ في جامعة تكريت، وعنوان الرسالة:» المكان في روايات عبد الرحمن مجيد الربيعي». وهو المكان المديني، اذ انني ورغم انحداري من اسرة ريفية مازال اغلب ابنائها في قرية «ابو هاون» الواقعة على نهر الغراف بين مدينتي الشطرة والرفاعي علي مسافة اربعين كيلو تقريبا عن الناصرية مركز محافظة ذي قار. اقول رغم منحدري الريفي الا انني ابن المدينة هكذا يتم وصف مدن كثيرة بهذه الصفة التي فيها تفاؤل. فهي (مدن - قرى) مادام سكانها يحملون معهم ارثهم القبائلي وعاداتهم العشائرية من قراهم الى المدن ولم تسلم حتى العاصمة بغداد من هذا. اذ ان الكثير من الاحياء فيها يتجمع في بيوتها الاقارب المنتمون الى قبيلة واحدة.
من بين الروائيين وكتاب القصة في العراق يذكر دائما اسم الروائي الراحل غائب طعمة فرمان، فهو روائي بغداد بجدارة. ورغم اقامته الطويلة في موسكو الا انه ظل يكتب عن بغداد، ولكنه لا يكتب عن بغداد الماثلة بل بغداد التي في ذاكرته، بغداد الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي في رواياته المعروفة «خمسة أصوات» و »»القربان«« و ««النخلة والجيران» و»المركب».
إذ نراه يستعمل حتى أسماء الأماكن التي عرفها رغم أنها استبدلت بأخرى ونسي الناس الأسماء الأولى. واذكر هنا ان اخر لقاء لي معه كان في مدينة مكناس وفي ندوة عن القصة العربية القصيرة عام 1983 نظمها اتحاد كتاب المغرب، وكانت روايته «المركب» حديثة الصدور وقد فرغت من قراءتها قبل لقائنا بايام، ومن الاسماء مثلا التي وردت فيها جزيرة أم الخنازير وهي جزيرة في نهر دجلة قرب بغداد، جرى استبدال اسمها بجزيرة العرائس، حيث بنيت فيها بيوت تؤجر للمتزوجين لاتمام شهور عسلهم، ولم يعد احد يعرف الاسم القديم لها، واذكر انه اجابني: لقد كتبت ما أعرفه.
هنا أتساءل: أليس في روايات غائب طعمة فرمان ما يشبه اعادة بناء ما كان والذي لم يعد قائما الان، واقول: أليس هذا مطلوبا من الرواية المدينية التي تعني بسير المدن؟
لأن هذا التساؤل أحيله علي ايضا ،فما افعله بالنسبة للناصرية هو الشيء نفسه الذي فعله فرمان بالنسبة لبغداد.
وقد ذكرت في احدى شهاداتي ان الادباء الشبان من ابناء الناصرية الذين جاؤوا بعدنا بعقدين واكثر سألني البعض منهم: عن أي ناصرية تكتب؟ فالناصرية في روايتك «القمر والأسوار» لا وجود لها.
فأجيبهم: أنتم محقون، لقد كتبت عن الناصرية التي كانت، ناصرية، الذاكرة، وكأني أعيد بناء ماهدم منها وإن كان ذلك على الورق.
ومن بين الروائيين الذين كتبوا سير مدن معينة، نذكر المرحوم عبد الرحمن منيف في كتابه عن سيرة العاصمة الاردنية عمان، وكذلك اشتغالات روائيين عرب آخرين على مدن عرفوها.
ومن العراق أيضا لابد من ذكر النص الجميل «بصرياثا» لمحمد خضير، هذا النص الذي بقدر ما وثق لمدينته «البصرة» والاشتقاق واضح في العنوان «بصرياثا» فإنه أسطر مدينته التي ولد فيها ودرس واشتغل حتى يوم الله هذا، هو هنا اشبه بمن غرس فسيلة صغيرة وظل يرعاها ويتابعها حتى امتدت وتسامقت وتدلت عذوقها.
اختلاف محمد خضير في «بصرياثا» عن محدثكم هو أنه عرف كل حقب مدينته، أما أنا، فقد غادرت ولم أتابع ما جرى بعدي إلا في لقاءات عابرة ينقصها الاستقصاء والتثبت.
كانت كتاباتي الأخيرة في روايتي «نجيب الرافدين» مثلا اشبه ما تكون بردود افعال من صدمات الخراب التي عمت البلد مما أضاع البراءة الأولى، وافتقدنا التلذذ بما جاء بعد كل هذا. وظلت ذكريات زمن كان جميلا نسغا وعنوانا لمدننا التي لم نشف من حنيننا لها، حنين يسلمنا الى البكاءأ، بكاء من فقد شيئا عزيزا عليه وعجز عن استرجاعه.
* نص الورقة المقدمة لندوة»سير المدن في الرواية العربية»،التي نظمتها مديرية الكتاب في وزارة الثقافة المغربية بتاريخ 30 مارس 2013 في اطار معرض الدار البيضاء السنوي للكتاب.
عبد الرحمن مجيد الربيعي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 04 - 2013