تأمل في التوراة
✍ أمل الكردفاني
وتنبثق التوراة من روح الديانات القديمة، محتفية بالكلمة، بالنطق، إذ الكلمة تحمل طاقتها، وكأنما تحتفي التوراة بالشعر...
يقول يوحنا في إصحاح -إنجيله- الأول:(فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ).
الكلمة هي اللوغوس ، المعرفة، العقل، الرمز.
ويوحنا يطلعنا على مفهوم شديد العلمانية في ظاهره، إذ هو مستمد في الأصل من الإصحاح الأول في سفر التكوين Genesis. يشرح الراهب أيفانيوس المقامري: عنوان السفر في العبرية البدء (براشيت)، أما في السبعينية-أي الترجمة السبعينية- (التكوين).
ففي بداية الإصحاح يأتي الفعل:(في البدء {عمل} الله السماء والأرض).
عمل هنا كما يشرح أيفانيوس: خلق أو أبدع او أنشأ.
فهو نشاط مادي، أما ما تلى تلك النقطة فلم يكن نشاطا مموهاً بل كان الكلمة: إذ الله لا يعمل، بل يقول، وكأنما القول جزءٌ من الله، جزء له اعتباره، :(لتفِض المياه...لتخرج الأرض نفساً حية..ليكن جلد في وسط المياه...الخ).
وسنلاحظ ذلك الإحتفاء الشعري عند مبدع هذا السفر ، والاهتمام المكثف بإنطلاقة النص، تلك الانطلاقة الجذابة والمشوقة، إذ تحاول أن تمنع القارئ من ملاحظة الفراغات المنطقية فيه:
( في البدء عمل الله السماء والأرض، وكانت الأرض غير مرئية، وغير مهيأة، وفوق الغمر ظلام، وروح الله يرف فوق المياه. وقال الله: "ليكن نور" فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور وبين الظلام. ودعا الله النور نهاراً، والظلام دعاه ليلاً. وكان مساء وكان صباح، يوم واحد.
(وفوق الغمر ظلام)، وهي لغة معكوسة، إذ الظلام يغمر لا يُغمر. لكنها لغة شاعرية، تفرز الغمر عن الظلمة، فتثبت أن الغمر (وهو اللا مدرك أو العدم)، له ذاتية تفصله عن الظلام (إذ هو المدرك بغيره). وهي كما أجبت إحدى السائلات عن معنى قصة كتبتها؛ إنني لا أكتب لأجل المعنى، بل لأجل الشعور. إن المعنى خشن، وخطي، وابتذالي، والشعور هلامي وغائم، والشعور أكثر اتساعاً من المعنى، لأنه المعنى المشعور الذي لا يمكن إمساكه ووصفه، ولأن الشعور، متدفق وفيَّاض وأما المعنى فمحدود ومتكلس. لم تكن بداية السفر لتحقيق المعنى بل لتحقيق اللوغوس، المعرفة الرمزية، وبداية المعرفة هي إدراك انتفائها فينا، أن ندرك أننا لا نعرف، ففوق الغمر ظلام.
(وروح (ألوهيم، ادوناي، الرب، الله)..يرف فوق المياه)..
وتخفي هذه الرمزية ثقل التساؤلات المختزلة في المعرفة الدنيوية مثل: وأين كانت المياه؟ وكلمة (فوق) التي هي ظرف يفترض الخضوع للمكان، أي للحدود.. ولكن النص التوراتي الشعري، يختبي خلف الرمز كمصادره القديمة؛ إذ يشير فراس السواح إلى أسطورة بابلية تقول:(في تلك الأزمان الأولى. لم يكن سوى المياه).
ويشير إلى التناص القرآني:(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) هود-٧.
إن الماء هو اجتماع ذرتي هيدروجين بذرة أوكسجين، وهذا معنى به حمولات الكتلة، القوة، الحركة،المكان والزمان...إلا أن الرمز البابلي والتوراتي ليس كذلك، فالماء هو الحياة، إن روح الرب ترف على الحياة، تستشرفها، وتستقبلها، فالحياة هي المختباة أسفل روح الله، وهي تنكشف بالكلمة(باللوغوس). وقال الله: "ليكن نور" .. فكان نور.. فالحياة تتكشف بالوعي، وهي بالتالي تصوير لميلاد الإنسان. إن الكاتب التوراتي ومن قبله الأسطوري البابلي لم يفعل شيئاً سوى أنه أسقط الميلاد البشري على الله.
البشري الذي يولد داخل سائل، تغمره الظلمة، يخرج إلى العالم، إلى النور، إلى الوعي بكينونته. إن كاتب التوراة كان يقصد الإنسان، أو كان يماثل بين الله والإنسان، ولذلك أخذ يرسم ما يعرفه عن ميلاد الإنسان بريشة مقدسة...فهل كان كاتب التوراة إنسانوياً. ينفي ذلك وهو يقول بأن الله خلق آدم على صورته...ليبعد الشبهة عن إسقاطاته البشرية.
ورأى الله النور أنه حسن: وهي جملة تكررت كثيرا في الإبداع الأدبي للإصحاح الأول:
(ودعا الله الجلد سماء. ورأى الله ذلك حسن.
ومجتمعات المياه دعاها بحاراً. ورأى الله ذلك أنه حسن...الخ
ثم يختم الإصحاح بتقييم شمولي:
ورأى الله كل ما عمله فرآه حسن جداً).
إن التقييم هنا ليس تقييم خلق، ولا تقييماً رياضياً هندسياً، ليس تقييم كمال مطلق، بل هو تقييم (فنان).
يقول فلاسفة الفن، بأن الفن لا يُنجز وإنما يُترك.
فالفنان لا يسعى لكمال العمل تقنياً، بل لكماله شعورياً، إن العمل الفني غير قابل للإكتمال، بل هو قابل للمزيد والمزيد من الإضافات والتعديلات والمحو...إن الفنان فقط يترك العمل الفني حين يشعر بأنه أصبح مشبعاً لظمئه الداخلي، أي لإحساسه وشعوره. الفنان لا يقول عن عمله أنه مكتمل، لأنه حينئذٍ ينتقص من قوته الإشباعية الروحية. إن الفنان ينظر لعمله ويقول فقط: (إنه حسن).
والتقييم الإلهي لمنجزه الخلقي في التوراة هو تقييم فن، لأن الله لا يريد أن يبلغ بمنجزه الكمال المطلق، إذ لا يجوز أن يتساوى المخلوق بالخالق في كماليته. إن الله هنا يقيم أداءه على نحو جمالي إبداعي...ثم يعطي تقييما جمالياً إبداعياً شمولياً لما أنجزه على نحو متكامل (المنظومة، النسق).
إنه حسن جداً.
وحسن جداً تعني درجة أعلى من (حسن) فقط. إنه جداً، وتعني أن الله اكتفى بقدر محدد من كمالية ذلك التناسق الإبداعي، ليس عن ضعف بل عن قدرة. فهو رآه حسن..
اي مشبعاً..
ثم استراح في اليوم السابع.
(يتبع).
✍ أمل الكردفاني
وتنبثق التوراة من روح الديانات القديمة، محتفية بالكلمة، بالنطق، إذ الكلمة تحمل طاقتها، وكأنما تحتفي التوراة بالشعر...
يقول يوحنا في إصحاح -إنجيله- الأول:(فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ).
الكلمة هي اللوغوس ، المعرفة، العقل، الرمز.
ويوحنا يطلعنا على مفهوم شديد العلمانية في ظاهره، إذ هو مستمد في الأصل من الإصحاح الأول في سفر التكوين Genesis. يشرح الراهب أيفانيوس المقامري: عنوان السفر في العبرية البدء (براشيت)، أما في السبعينية-أي الترجمة السبعينية- (التكوين).
ففي بداية الإصحاح يأتي الفعل:(في البدء {عمل} الله السماء والأرض).
عمل هنا كما يشرح أيفانيوس: خلق أو أبدع او أنشأ.
فهو نشاط مادي، أما ما تلى تلك النقطة فلم يكن نشاطا مموهاً بل كان الكلمة: إذ الله لا يعمل، بل يقول، وكأنما القول جزءٌ من الله، جزء له اعتباره، :(لتفِض المياه...لتخرج الأرض نفساً حية..ليكن جلد في وسط المياه...الخ).
وسنلاحظ ذلك الإحتفاء الشعري عند مبدع هذا السفر ، والاهتمام المكثف بإنطلاقة النص، تلك الانطلاقة الجذابة والمشوقة، إذ تحاول أن تمنع القارئ من ملاحظة الفراغات المنطقية فيه:
( في البدء عمل الله السماء والأرض، وكانت الأرض غير مرئية، وغير مهيأة، وفوق الغمر ظلام، وروح الله يرف فوق المياه. وقال الله: "ليكن نور" فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور وبين الظلام. ودعا الله النور نهاراً، والظلام دعاه ليلاً. وكان مساء وكان صباح، يوم واحد.
(وفوق الغمر ظلام)، وهي لغة معكوسة، إذ الظلام يغمر لا يُغمر. لكنها لغة شاعرية، تفرز الغمر عن الظلمة، فتثبت أن الغمر (وهو اللا مدرك أو العدم)، له ذاتية تفصله عن الظلام (إذ هو المدرك بغيره). وهي كما أجبت إحدى السائلات عن معنى قصة كتبتها؛ إنني لا أكتب لأجل المعنى، بل لأجل الشعور. إن المعنى خشن، وخطي، وابتذالي، والشعور هلامي وغائم، والشعور أكثر اتساعاً من المعنى، لأنه المعنى المشعور الذي لا يمكن إمساكه ووصفه، ولأن الشعور، متدفق وفيَّاض وأما المعنى فمحدود ومتكلس. لم تكن بداية السفر لتحقيق المعنى بل لتحقيق اللوغوس، المعرفة الرمزية، وبداية المعرفة هي إدراك انتفائها فينا، أن ندرك أننا لا نعرف، ففوق الغمر ظلام.
(وروح (ألوهيم، ادوناي، الرب، الله)..يرف فوق المياه)..
وتخفي هذه الرمزية ثقل التساؤلات المختزلة في المعرفة الدنيوية مثل: وأين كانت المياه؟ وكلمة (فوق) التي هي ظرف يفترض الخضوع للمكان، أي للحدود.. ولكن النص التوراتي الشعري، يختبي خلف الرمز كمصادره القديمة؛ إذ يشير فراس السواح إلى أسطورة بابلية تقول:(في تلك الأزمان الأولى. لم يكن سوى المياه).
ويشير إلى التناص القرآني:(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) هود-٧.
إن الماء هو اجتماع ذرتي هيدروجين بذرة أوكسجين، وهذا معنى به حمولات الكتلة، القوة، الحركة،المكان والزمان...إلا أن الرمز البابلي والتوراتي ليس كذلك، فالماء هو الحياة، إن روح الرب ترف على الحياة، تستشرفها، وتستقبلها، فالحياة هي المختباة أسفل روح الله، وهي تنكشف بالكلمة(باللوغوس). وقال الله: "ليكن نور" .. فكان نور.. فالحياة تتكشف بالوعي، وهي بالتالي تصوير لميلاد الإنسان. إن الكاتب التوراتي ومن قبله الأسطوري البابلي لم يفعل شيئاً سوى أنه أسقط الميلاد البشري على الله.
البشري الذي يولد داخل سائل، تغمره الظلمة، يخرج إلى العالم، إلى النور، إلى الوعي بكينونته. إن كاتب التوراة كان يقصد الإنسان، أو كان يماثل بين الله والإنسان، ولذلك أخذ يرسم ما يعرفه عن ميلاد الإنسان بريشة مقدسة...فهل كان كاتب التوراة إنسانوياً. ينفي ذلك وهو يقول بأن الله خلق آدم على صورته...ليبعد الشبهة عن إسقاطاته البشرية.
ورأى الله النور أنه حسن: وهي جملة تكررت كثيرا في الإبداع الأدبي للإصحاح الأول:
(ودعا الله الجلد سماء. ورأى الله ذلك حسن.
ومجتمعات المياه دعاها بحاراً. ورأى الله ذلك أنه حسن...الخ
ثم يختم الإصحاح بتقييم شمولي:
ورأى الله كل ما عمله فرآه حسن جداً).
إن التقييم هنا ليس تقييم خلق، ولا تقييماً رياضياً هندسياً، ليس تقييم كمال مطلق، بل هو تقييم (فنان).
يقول فلاسفة الفن، بأن الفن لا يُنجز وإنما يُترك.
فالفنان لا يسعى لكمال العمل تقنياً، بل لكماله شعورياً، إن العمل الفني غير قابل للإكتمال، بل هو قابل للمزيد والمزيد من الإضافات والتعديلات والمحو...إن الفنان فقط يترك العمل الفني حين يشعر بأنه أصبح مشبعاً لظمئه الداخلي، أي لإحساسه وشعوره. الفنان لا يقول عن عمله أنه مكتمل، لأنه حينئذٍ ينتقص من قوته الإشباعية الروحية. إن الفنان ينظر لعمله ويقول فقط: (إنه حسن).
والتقييم الإلهي لمنجزه الخلقي في التوراة هو تقييم فن، لأن الله لا يريد أن يبلغ بمنجزه الكمال المطلق، إذ لا يجوز أن يتساوى المخلوق بالخالق في كماليته. إن الله هنا يقيم أداءه على نحو جمالي إبداعي...ثم يعطي تقييما جمالياً إبداعياً شمولياً لما أنجزه على نحو متكامل (المنظومة، النسق).
إنه حسن جداً.
وحسن جداً تعني درجة أعلى من (حسن) فقط. إنه جداً، وتعني أن الله اكتفى بقدر محدد من كمالية ذلك التناسق الإبداعي، ليس عن ضعف بل عن قدرة. فهو رآه حسن..
اي مشبعاً..
ثم استراح في اليوم السابع.
(يتبع).