أحمد بوزفور - أبيض كالدم. أحمر كالحليب... قصة قصيرة

1-
كنا على الشاطئ، بالمايوهات. رجل غريب يلبس لباسا كاملا ( بذلة وقبعة وحذاء )، ويحمل مظلة، جلس إلى جانبنا. وأخذ ينظر طويلا إلى فيلا بيضاء تبدو على الشاطئ من بعيد. ثم نظر إلينا وقال:
ـــ تصوروا أن في تلك الفيلا طفلة صغيرة في السابعة من عمرها، تلبس تنورة حمراء وقميصا أخضر، وتلعب بالعرائس. تتخيل عرائسها بنات صغيرات يلعبن بالدُّمَى، وتتخيل لها تلك الدُّمَى. إحدى الدمى تلبس تنورة زرقاء وقميصا أحمر، وتضع في شعرها شريطا أبيض من حرير، وتقفز على الحبل. تصوروا.. سقطت الطفلة ذات التنورة الزرقاء، وجُرحت ركبتاها. تضعها ماماها على حجرها وتبحث بيدها عن زجاجة الدواء الأحمر. تمد لها الطفلةُ ذاتُ التنورة الحمراء الزجاجةَ التي أمدها لها أنا، فأنا أيضا هناك. وأنا أب الطفلة.
وسكت، فانفجرنا فجأة في ضحك جماعي صاخب.
قال له أحدنا: هل فقدتَ بنتا لك في السابعة من عمرها يا سيدي؟
ـــ ما أهمية ذلك؟ المهم أن تتصوروا. أنا رجل عازب لا زوجة لي ولا أولاد.
ــــ إذن فقد قتلتَ بنتا في السابعة من عمرها.
نظر الرجل إلينا في دهشة، ونهض وهو يقول: أنا أتصور العالم، وأنتم تتصورون المعنى. ما أهمية المعنى؟ المهم هو العالم.

2-
حين نمت تلك الليلة رأيته في الحلم. كان يسير مع فتاة جميلة. جميلة؟ بل فاتنة. رأيته يسير معها مزهوا كديك. وكان ينظر إليّ أحيانا ويغمزني بعينه اليسرى غمزا متواطئا، كأنني كنت أعرف الفتاة، أو أعرف العلاقة بينهما. تبعتهما حتى وصلا إلى فيلا منعزلة ودخلاها. بقيت أنا واقفا أمام الباب، أعدُّ النمل الأسود الخارج من الفيلا في سلسلة منظمة طويلة. خرج الرجل بعد برهة قصيرة، وقال لي: ما رأيك؟ قلت: من هذه الفتاة؟ نظر إليّ في دهشة وقال: إنها بنت الفيلا البحرية طبعا. قلت: كبرَتْ بهذه السرعة؟ ابتسم وقال: لا أهمية للزمن. هي دائما كما تحب أن تراها.
ـــ أقصد أنها كبرَتْ على اللعب
ـــ أنت الذي كبرتَ على اللعب. نحن نلعب دائما حين نريد، والكون كله يلعب معنا.
ثم اتسعت ابتسامته وهو يقول: أزوجها لك؟
خجلتُ وحدرتُ عينيّ إلى السلسلة السوداء، فلم أجدها. ولا نملة واحدة. وأفقت.

3-
في الغد، رجعت إلى الشاطئ مع أصحابي. كنا نسير على الشاطئ المكتظ نبحث عن مكان فارغ، حين رأيت الرجل منعزلا خلف المصطافين. هو نفسه بكامل لباسه، جالسا على الرمل، وينظر بعيدا إلى هناك، حيث يلتقي الماء بالسماء والأرض والأشجار جميعا. تخلفت عن أصحابي وجلست بجانبه. قال، كأنه يتابع حديثا سابقا، ودون أن ينظر إليّ:
فيل أبيض جميل حملني بخرطومه، ووضعني على ظهره وسار في الغابة. ظهره واسع كسرير ملكي، وأنا مضطجع فوقه على ظهري، أنظر إلى السماء المرصعة بالنجوم المحيطة بالقمر الملك... أسير على صفحة السماء. ألتقط حصوات النجوم وأقذف بها إلى البحر البعيد، فتمخره نشوى كقوارب الصيادين. أمسح الكَلَفَ عن وجه القمر فيصير أجمل وأضوأ. أجعله صاحبي وأسميه ( منير ).
ثم نظر إليّ وقال: مثل اسمك.
ـــ كيف عرفت اسمي؟
ـــ تصورتُه
ـــ ولكن، لماذا انتقلت من ظهر الفيل إلى السماء
ـــ ههه ...لأنني أسير على عينيّ. قل لي: هل أنت فيلسوف؟
ـــ لماذا؟
ـــ لأنك شغوف ب ( لماذا ). الفيلسوف قطار فقير يبني سكة ويسير عليها. أما الشاعر فملياردير. يملك العالم كله، ويتجول فيه حرا، ويخلق حيثما حلَّ عوالم أخرى جديدة. هل تدري أيها الشغوف ب ( لماذا ) لماذا خلقنا الله؟ لكي نكون مثله، ونخلق نحن أيضا خَلْقَنا الخاص.
ـــ الله خلق الفلاسفة أيضا
ـــ طبعا.. سبحانه ( ويجعل من يشاء عقيما )
ـــ رأيتك أمس في الحلم
ـــ أنت تحلم إذن. الحمد لله. طمأنتني. لن تحلم بي بعد الآن. ستخلق شخصياتك أنت، وعوالمك أنت. ستخلق ما لا يوجد إلا في خيالك.
ثم نهض ينفض الرمل عن ثيابه وهو يبتسم ويقول:
ـــ سأذهب... خيال
لوّحتُ له بيدي قائلا:
ـــ خيال
أما الرجل فقد ابتعد حتى غاب. وأما أنا فنظرت إلى الأفق البعيد، حيث رأيتني في الغابة أركب فرسا أبيض كالدم.. كالدم في نحر قربان، وأطارد غزالا أحمر كالحليب.. كالحليب في نهد فتاة كاعب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى