د. قيس كاظم الجنابي - مشروع النهضة الفكرية عند العقاد

توطئة
يعد محمود عباس العقاد( 1889-1964م) من أدباء ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهو رجل عصامي ، بنى نفسه بنفسه، على خلاف طه حسين، الذي أهّل نفسه أكاديمياً ورعته الدولة المصرية وأوصلته الى سدة الوزارة، وكان ذو منهج بحث خاص يقوم على تبني نظرية الشك لديكارت، من أجل الوصول الى اليقين ،وكان العقاد انفعالياً عاطفياً متوهجاً بالعطاء، ولكن ايمانه الديني بالإسلام لا يتزعزع ؛ بينما كان طه حسين متشككاً، وميالاً الى تهديم الأطر القديمة وبناء أطر جديدة وأسلوب العقاد هو دائماً وأبداً أسوب كتابة المقالة الأدبية، حتى عندما يتناول موضوعات سياسية أو شبه سياسية قريبة من موضوعاته ، أو عندما يتناول موضوعاً تاريخياً ن فهو في كتاباته التحليلية يبتعد عن الأسلوب المنهج في الاقتباس والاحالة الى المصادر والمراجع؛ وهذا ما يفعله طه حسين لأنه يملي مقالاته املاءً.

العقاد مقالياً
ما ذكر طه حسين الاّ وذكر معه العقاد، فكل منهما اهتم بكتابة المقالة بأنواعها كافة ( الصحفية والسياسية والأدبية)، وكان للعقد أسلوبه الخاص به، ولكنهما يختلفان من صراحة وحدّية العقاد ومباشرته، وسلاسة أسلوب طه حسين، يقول أحد دارسي العقاد:” أما العقاد فهو أحد المقاتلين ،والسياسة أحد مجالاته الفكرية، وكذلك طه حسين ،وربما كانت لطه حسين عبارات أجرأ وأعنف ولكن أسلوب طه حسين كان يحميه من النقد ،أما العقاد فكان أسلوبه مباشراً ،وكذلك كان النقد الموجه اليه مباشراً أيضاً، وطه حسين قال في الأدب ما يستحق عليه السجن ،ولو كان العقاد هو الذي قاله لاستباح الناس! فطه حسين أشار الى أن القرآن الكريم “نص أدبي” يجب أن ندرسه بهذا المعنى”.(1)
ومعظم كتب العقاد ، هي عبارة عن مقالات نشرها في الصحافة الأدبية، أو الصحافة اليومية، ثم أعاد نشرها في كتبه، وهو كاتب متمكن من كتابة المقالة أدبياً بطريقة تطبيقية جميلة أخاذة ومثيرة، ولكن العقاد كان يدخل في معارك ذات طبيعة سياسية أو فكرية منافحاً عن مواقفه وحياته؛ فهو عاشق للثقافة ،ولابدّ للعاشق أن يعبر عن كوامن عواطفه الجياشة والمتدفقة بقوة ،ولا ينقاد الى استفزازات الآخرين، ولكن العقاد في دراساته الاسلامية، وسردياته عن نفسه وعن غيره في كتبه:( أنا، سارة، حياة قلم)؛ فقد كان كاتباً يحاول ان يرسم سيرته الذاتية بطريقة ما، سيرة قلمه الذي تعرض لشتى أنواع النقد، لهذا كانت ردوده عنيفة، ومتحاملة وفائقة في الاستعداد ، بحيث يبدو فيها عزف القلم ، بكل قوة.
في كتبه ذات الطبيعة المقالية، مثل:( عيد القلم، فصول، يسألونك، آراء في الآداب والفنون، مراجعات في الأدب والفنون، مطالعات في الكتب والحياة)؛ يبرز هيكل المقالة وحجمها وعناصر بنائها بوضوح ويبدو أسلوبه متوازناً ولغته طيعة، وهي ذات حجم مناسب ،وموضوع موحد، موجزة، ومكثفة ،ولكنها معبرة عن أسلوبه أسلوب الثائر الجامح والمتوقد.
وللعقاد موقف ورأي خاص بالمقالة الأدبية التي يكتبها (مونتين)ويعدها البعض محاورات، وقد غلبت عليها صبغة الجد والاتقان؛ لهذا يبدو كتابه( يسألونك) معبراً عن أسلوب المحاورات ، حيث الأسئلة تحتاج الى اجابات تعبر عن جدتها وقوة بلاغتها واحتدام العواطف في صدر كاتبها حدّ الانفعال؛ ومن هنا تبدو سيكولوجية العقاد الطامحة الى الاكثار من الاسئلة من أجل الاجابة عنها.
وفي كتابه (آراء في الآداب والفنون) يبدو مؤمناً تمام الايمان بأن ما يكتبه هو المقالة أدبية أو سياسية او اجتماعية أو اقتصادية، حتى أنه لا يكتب بعض الأحيان لكتبه مقدمة تشير الى موضوع الكتاب، وانما يزج واحدة من مقالات الكتاب لتكون هي مقدمة او توجيهاً الى المقدمة، لكن طول المقالة يتحكم بها الموضوع الذي بالمقالات ، من دون الخوض في الجانب الأكاديمي وتفاصيله ،ولكن مزاج العقاد يبدو انفعالياً خاضعاً لاعتداده بنفسه وطبيعة سلوكه ،وهو ناثراً أو شاعراً يبدو قريباً من الشاعر في الكتابة، وهذه واحدة من مواصفات المقالة الأدبية ،وتبدو تعليقاته ذات طبيعة صدامية وعنيفة ،وهذه من مواصفات المقالة الصحفية والسياسية ،أو أكثر من كونها من موضوعات المقالة الدبية الانشائية أو القصصية أو النقدية.
أما عروض العقاد للكتب ، فإنها جزء من كتاباته المقالية التي تعبر عن عارض/ مراجع قدير في قراءة الكتاب وتقريبه الى القارئ، لكن الطابع النقدي الصارم ، كثيراً ما يتسلل الى قلمه الجامح، فتتحول المقالة من العرض الى النقد المثير.
وكان كتابه (حياة قلم) الذي يوحي بشيء من سيرته الذاتية والصحفية يبدو أقرب الى المقالة الأدبية المرتبة ترتيباً شيقاً وبسيطاً، لتعبر عن فلسفة خاصة، فلسفة الكتابة ،والتعبير عن مواقفه وآرائه حول الأدب والثقافة والحياة، ففي (ولادة قلم) يشير الى انه يحاول ان يقنع نفسه بوجهة غير الوجهة التي تعنيه.

أنبياء العقاد
يتميز العقاد بأنّه كاتب موسوعي ،وأديب منشئ فذ، وشاعر وقاص وكاتب سيرة، وباحث اسلامي ،وكاتب مقالة أدبية متميزة، وهو كاتب انفعالي لا يستطيع كتم رأيه أو اخفاء موقفه ،وتفاعله مباشر، وفي اسلامياته كتب عدداً كبيراً من المؤلفات تتناول قضايا حساسة من حياة المسلم وعلاقاته وشخصياته الاسلامية التي كثر الحديث حولها؛ فقد كانت البداية مع (الله)، وكتاباته الاسلامية يمكن عدها من باب المقالات الأدبية ذات الطبيعة الخاصة، لأنه يكتب كل فصل من فصول كتبه بصفة مقالة، وهو كاتب محترف ، الكتابة لديه عمل يومي مستمر، وبحث دائم عن الحقيقة، وهو في كل مقالة يناقش ما دار حول الموضوع الذي يكتب عنه، واعتقادات الانسان الدينية منذ بدء الخليقة ، ثم ظهور الأنبياء ودعواتهم الى عبادة الله؛ فهو يقول:” فاليوم قد تبيّن – على الأقل – أنّ الامعان في البحث عن حقيقة المادة يؤدي بنا الى الحقيقة المجردة وينتهي بنا الى التسليم بكائنات ” لا مادية” تخالف ما كنا ندركه من صور المادة المحسوسة”.(2) فهو بالتالي انسان مؤمن بحقيقة وجود الخالق تعالى، وهو يريد أن يثبت للآخرين صحة هذا الايمان، وضرورة هذا الاعتقاد، وتتميز كتابات العقاد النهضوية بطابعها الاسلامي والأدبي بشكل خاص، ومن هذا المنطلق، بدأ العقاد مهادناً ، غير جموح ،ولا متعاطف يتتبع هوى وجدانه وتنامي عاطفته، والعقاد مؤمن وايمانه جزء من تكوينه الاخلاقي والثقافي، وهو من دون شك، يستلهم طروحات جمال الأفغاني ومحمد عبده ،وهو مع طه حسين كان كيساً ولبيباً وحذراً من اثارة المعارك وخصوصاً في موضوع الاعتقادات الدينية، وهو يمسك موضوعه منذ البداية ، بوصفه سلسلة من الأفكار المتتالية يبدأ بفك مغاليقها بإمعان، لأنه يريد أن يقنع القارئ بطروحاته وأفكاره ويستدرجه نحو الايمان؛ لهذا يقسّم الفصل الواحد الى فقرات ، يفصل بينها بثلاث نجمات، من دون أن يلجأ الى ترقيمها كما يحدث في كتابة المقالة الأدبية، لكن هذا الأسلوب لا يعني تخليه عن منهج كتابة المقالة في اسلامياته ؛ لهذا يبدو متحفظاً وغير قابل للاستفزاز ، حين يقول:
” يرى كثير من العلماء ان الأساطير هي أصل الدين بين الهمج. وهو رأي لا يرفض كلّه ولا يقبل كله. لأن العقائد الهمجية قد تلبست بالأساطير في جميع القبائل الفطرية ن فلا يسهل من أجل هذا ان نرفض القول بالعلاقة بين الأسطورة والعقيدة، ولكن يسهل من أجل هذا أن نرفض القول بالعلاقة بين الأسطورة والعقيدة، ولكن لا يسهل من جهة أخرى أن نطابق بين العقيدة والأسطورة في كل شيء وفي كل خاصة، لأن العقيدة قد تحتوي الأسطورة ولكن الأسطورة لا تحتويها”.(3)
كان هذا الرأي في مقالته الأولى في كتاب (الله)، وعنوانها ( أصل العقيدة)، حيث سينتقل منها الى (أطوار العقيدة الالهية)، ولعل العقاد استوعب ما طرحته الديانات والحضارات القديمة في شأن الاعتقادات والأديان ،ولم يجد فيها ما يروي ضمأه بشان عبادة الله وتوحيده ،ولكنه كان على يقين واضح بوجود من يناضل معه من أجل الايمان منذ أقدم العصور حين قال:” ولا ننسى أن الموحدين في جهادهم القديم لم ينكروا وجود الأرباب الأخرى، بل سلموا وجودها واعتبروها من شياطين الشر التي ترين العقول وتحجبها عن هداية الدين القديم”.(4)
وهو يحاول أن ينتقل الى قارئه من الشك الى اليقين، من خلال اعتقاده بأن ” الله ذات واعية”.(5) ثم ينتقل الى عرض البيانات القديمة، فيبدأ بمصر ثم الهند، ثم بالصين واليابان ، ثم فارس، ثم بابل ، ثم اليونان؛ فينتقل الى الديانات السماوية مثل بني اسرائيل وغيرهم، والعقاد مهموم بقضية اثبات وجود الله، وطبيعة الايمان الذي يوحد الخالق ،ليخلص من خلال مناقشاته لموضوع العقيدة الدينية لدى اليونان ، الى ” أنّ اليونان أخذوا فيهل كل شيء ولم يعطوا شيئاً يضيف الى تراث البشر في مسائل الايمان ،وأنهم حين بدأوا عصر الفلسفة كان أساسها الأول ممهداً لهم في العقائد التي أخذوها من الديانات الآسيوية والمصرية ،وأنهم ظلوا بعد الفلسفة يدينون بالوثنية التي كانوا يدينون بها قبل الميلاد بعدة قرون”.(6)
فلما بلغ العقائد الاسرائيلية اعتبرها نقطة التحول في الانتقال من تعدد الآلهة الى توحيدها بإله واحد” حتى عبدوا الاله الأحد المنزه عن التجسيد وعن خلائق البشر القادر على كل شيء والعليم بما كانوا ويكون والرحيم الذي يحب الرحماء والودعاء والعاملين بالبر والعدل والاحسان”.(7) ولكنه ينتقل من بني اسرائيل الى الفلسفة ، حتى يكمل حلقة التطورات الدينية ، متناولاً بعض الديانات ؛ومشيراً الى أهمية الفلسفة اليونانية وتطورها بشكل خاص، وهذا تعبير عنة استيعابه للتطور التاريخي للحياة الانسانية، في انتقالها من عبادة الأشياء الى عبادة رب الأشياء، من اجل تمهيد الطريق لقراءة المسيحية وطبيعتها في الايمان ، حتى توصل الى قناعة واضحة وجلية مفادها ، كما يقول :” وأقطع من هذا في استضعاف تلك الملاحظات – أنّ روح المسيحية في ادراك فكرة الله- هي روح متناسقة تشف عن جوهر واحد لا يشبهه ادراك فكرة الله في عبادة من تلك العبادات”.(8)
ثم ينتقل الى الاسلام، وهو دينه الذي يريد أن يثبت صحته وصحة كتابه ( القرآن الكريم)؛ وكانت بداياته تنمّ عن روح الانسان الذي تلقى توجهاته الاصلاحية من الأفغاني ومحمد عبده، وفي عدم الايمان بالمسلمات الا بعد التدليل على صحتها ، لهذا يقول:” فلما ظهر الاسلام في الجزيرة العربية كان عليه أن يصحح أفكاراً كثيرة لا فكرة واحدة عن الذات الالهية، وكان عليه أن يجرد الفكرة الالهية من أخلاط شتى من بقايا العبادات الأولى وزيادات المتنازعين على تأويل الديانات الكتابية”.(9)
ثم يحاول أن يلحقها بما سبقها في نوع من الموازنة بين جانبين متقاربين زمنياً مشيراً الى أن رسالة المسيحية هي أول دين أقام العبادة على الضمير الانساني ،وأن رسالة الاسلام هي” أول دين تمم الفكرة الالهية وصححها مما عرض لها من أطوار الديانات، ولكي يكمل طبيعة بحثه عن الحقيقة ،واقناع القارئ بصحة رأيه، وبصحة وجود الخالق، عمد الى اكمال العلاقة بين الأديان والفلسفة؛ فبدأ مع الديانة (اليهودية بعد الفلسفة)؛ وكأنّه يشير الى أن الفلسفة تحاول أن تغري الانسان بفهم مختلف للدين، فهو يرى أن المفكرين اليهود” لا ينقطعون عن أصولهم كل الانقطاع ولا ينقطعون عن ثقافة العالم كل الانقطاع ،ولا سيما الثقافة التي تدخل في اعتقاد الجماعات وتتأثر بها حركات الأمم ونزعات المسيطرين عليها.
وأقدم فلاسفة اليهود الذين أسسوا قنطرة الاتصال بين الدين والفلسفة هو ولا شك فيلون الاسكندري”.(10)
ثم ينتقل بما يشبه المقالة الى موضوع (المسيحية بعد الفلسفة)، حيث العلاقة بين العقل والدين من جانب آخر، والى (الاسلام بعد الفلسفة) محاولاً سرد الكثير من الأفكار الفلسفية المتأثرة بالفلسفة اليونانية كالأشعرية والمعتزلة والشيعة ، محاولاً بيان علاقتها بالسّنة والاجماع؛ لهذا يرى بأن “الفرق التي تنتمي الى الاسلام وتقول بالحلول وتناسخ الأرواح أو بالوساطة بين الخلق والخالق – فالرأي المتفق عليه أن اعتقادها مخالف للكتاب والسّنة واجماع المسلمين”.(11)
وبع ذلك ينتقل الى موضوع (الفلسفة بعد الأديان الكتابية)، ثم الى (التصوف)، في مقالة بسيطة غير متعمقة ، وهي تكاد تكون مقالة طارئة لأنه يريد أن ينتقل بعدها الى (براهين وجود الله)، وحين ينتهي من عرض الآراء المختلفة وخصوصاً آراء الفلاسفة منذ البدء حتى ( عمانوئيل كانت) يتوصل الى قناعة مفادها ” أن الايمان الالهي لا يقوم عليها وحدها في البصيرة الانسانية ،وان قصاراها من الاقناع أنها أرجح وزناً من ردود المنكرين، ولا سيما المنكرين الذين في أفكارهم ادعاء وهجوم على الفروض بغير دليل ،وبغير ايمان”.(12)
ولأنه مسلم وترسباته الدينية متوغلة في ذاته وتربيته وأفكاره فإنّه يحاول أن يثبت أن (البراهين القرآنية)، كانت صحيحة، وقد تجاوزت التوراة والانجيل، ولهذا كانت كتابات العقاد الاسلامية مؤثرة ومعبرة عن نهضة حقيقية في نفوس القراء العرب، بالمقارنة مع كتابات سلامة موسى، ذات الطبيعة العلمانية المفتعلة.
ولم يفت العقاد ان يتناول (آراء الفلاسفة المعاصرين في الحقيقة الالهية)، مشيراً الى ” أن الفلسفة والديانة ليستا بالنقيضين ،ولكنهما ليستا بشيء واحد، فقد يوجد الشيئان المنفصلان ولا يتناقضان”.(13)
ثم ينتقل بعد ذلك الى (العلوم الطبيعية والمباحث الالهية)، والتي كانت هي أساس النهضة الفكرية والعلمية في مصر وغيرها من البلدان العربية محاولاً أن يثبت من خلالها صحة وجود الله ، ثم اختتم كتابه هذا بخاتمة عنوانها (خاتمة المطاف)، كانت اغلاقاً لموضوع البحث وتعبيراً عن اكتمال رحلة البحث عن الله.
أما كتابه (ابراهيم أبو الأنبياء)، فهو محاولة لوضع تسلسل زمني وفكرة للديانات السماوية التي توحد الله، والتي أثبتت وجود الله، ووجود الرسل والأنبياء ،وهو كتاب يبحث في شخصية النبي ابراهيم والديانات التي تلته وانبثقت من خلال دعوته ،وهو الآخر كتاب يتكون من مقالات متتالية تبحث في اثبات حقيقة الديانات والانبياء الذي نقلوا الينا تلك الحقيقة التي تثبت وجود الخالق، وقد بدأ العقاد من الارث التوراتي الذي يتعلق بشخصية النبي ابراهيم ، في بحث يشبه البحث بسيرته وطبيعة تفكيره والتحديات التي واجهته، وتبدو مناقشات العقاد ذات علاقة حقيقية بأسلوب البحث المتعمق الذي يريد أن يؤكد وجود النبي في مصادره اليهودية؛ محاولاً الكشف عن عمليات التزوير في المصادر التوراتية ، لهذا يقول:
” ويندر الاتفاق على أصل قصة واحدة من القصص التي تفيض بها كتب المدراش وحواشيها ، بل ترى الأسماء والأعلام أحياناً على روايات متعددة، ومن ذلك أنهم يذكرون سارة باسم إسكاحISCAH ويقولون أنها مأخوذة من النظر، ويوحدون بين اسم ابراهيم واسم إيثان الازراحي في المزمور التاسع والثمانين ،ويقولون أنّ داود كتبه بمشاركته الخليل”.(14)
ثم ينتقل الى المصادر المسيحية حول شخصية الني ابراهيم مشيراً الى أنّ العقائد التي ” ظهرت مع المسيحية أن رسالة ابراهيم روحية وليست جسدية ،وأنّ المقصود بذريته من يسيرون على نهجه ويعملون بوصيته ، فهي انسانية وليست عصبية مقصودة على قوم من الأقوام”.(15)
أما المصادر الاسلامية فإنّ القرآن الكريم يأخذ فيها حصة الأسد، ثم الأحاديث النبوية الشريفة، ثم ينتقل الى مصادر الصابئة التي قال عنها بأنها أشبه بحوض” نصب فيه مسارب الماء من كل موردٍ ، فإذا أخذت ماءه فحللته وجدت فيه أثراً من كلِّ مسربِ، ولكنها توجد فيه على امتزاج ولا بدّ من الجهد لتصفيته والرجوع بكلّ جزء من أجزائها الى ينبوعه الذي صدر منه في أصله البعيد..” .(16)
وفي كتابه( حياة المسيح) فهو محاولة لربط حياة النبي ابراهيم بالأنبياء الذي بشروا بالنبوة بعده، حتى يصبح التطور نحو الايمان متصلاً، من الله الى الأنبياء، ثم ينتقل الى الشخصيات الاسلامية الأخرى؛ واذا كان العقاد ميالاً، الى كتابة سير الأنبياء والترجمة للشخصيات عبر أسلوب التراجم الذي يستفيد بطريقة ما من أدب التراجم والسير العربية الذي برع فيه عدد كبير من المؤرخين المسلمين منذ محمد بن سعد ، كاتب الواقدي في كتابه الشهير (الطبقات الكبرى)، حتى ابن الجوزي الذي كتب بعض السير المهمة، ولكن العقاد بطبعه ميال الى الانطلاق من مثابات معينة ، ينطلق منها للبحث والكشف والتوثيق بطريقته المعهودة، وقد كان دوره في هذا الجانب واضحاً ،لأنه يعد حجة تاريخية ، لها من المصداقية والتثبت الشيء الكثير؛ لهذا تضمنت مقدمته كشفاً عن منهجه في البحث والنقد التاريخي، ثم انتقل من ذلك عبر بناء مقالي واضح الى سيرته من خلال القرآن الكريم ، ثم الكتاب المقدس.
ولم يفته أن يتناول الحياة السياسية والاجتماعية في عصر المسيح، حيث ظهرت ثورة (سبارتاكوس) المشهورة ضد الدولة الرومانية، ثم اتجه نحو قراءة المشهد الديني في تلك المرحلة، ثم تناول الحياة الفكرية ، حيث انتشرت الفلسفة اليونانية، وخصوصاً فلسفة (فيثاغورس)، ثم الفلسفة الرواقية، ولكنه أشار الى أن اليهود اعتمدوا على الكنعانيين في شؤون الثقافة والفن، وان بقي ميالاً نحو النقد والبحث ، لتوكيد شخصية الباحث المجرد، والذي يريد أن يثبت آرائه بالدليل القاطع، وبالنص المستقى من المصادر الموثوقة ،وهو يستقي معلومات أم من المصادر التاريخية أو من الأناجيل المتداولة، وهو يناقش موقف اليهود من المسيح، فيقول:” فعالم اسرائيل كان يؤمن بالمسيح المنتظر وبموعده في تلك الحقبة من الزمن، والعالم المعمور كان يؤمن ايماناً “سلبياً” بإفلاس الوثنية واقفار النفوس من الرجاء ،وكان عامته في بؤس ويأس ،وخاصته مستسلمين للمتاع أو مستسلمين للتصوف”.(17)
وهذا الرأي على حصافته ، يعبر عن ذكاء العقاد، في التخلص من الرأي الجازم، وعجزه عن اثبات طبيعة هذه الديانة وعلاقتها بشخصية النبي ابراهيم . ثم ينتقل الى (مصادر التاريخ القديم)، الاسلامي وغير الاسلامي، ولكنه توصل الى موقف واضح ،ورأي يشير الى وجود بعض الأخبار المسكوت عنها والأخرى الضائعة ؛ وذلك لنقص المصادر اليهودية ، وان كتب اليهود لم تذكر قط أخبار عاد وثمود ، بينما انفرد القرآن بذكرها ، ثم أشار الى الأنبياء من غير بني اسرائيل والى العقائد والشعائر ، حتى يبلغ مرحلة المسيحية حيث سيتناول حياة السيد المسيح في كتاب خاص.
ثم ينتقل في كتاب آخر الى (مطلع النور) حول البعثة النبوية، الذي أردفه بعنوان آخر هو ( أو طوالع البعثة المحمدية)، بدأه بمقدمة عنوانها( مقدمة المقدمات)، لأنها تعبر عن حماسة العقاد وايمانه بالإسلام وما جاء به النبي . فقال في المقالة التي تليها ،والتي عنوانها ( الطوالع والنبوءات):” رائدنا في البحث عن مقدمات الدعوة النبوية ان ارادة الله ظاهرة في ملكه وآيات خلقه، وان الناس مطالبون بالنظر في هذه الارادة قبل النظر في المعجزات والخوارق التي لا تأتي في كل حين ولا تخصُّ المؤمنين دون سائر المصدقين بالحس والعيان”.(18) مما يعني ـن (اسلاميات) العقاد هي عبارة عن سير مهمة كشفت عن خفايا مثيرة في الحياة الدينية منذ العصور الأولى ، حيث بدأ في معرفة الخالق ، ثم معرفة الرسالات السماوية بعده.

عبقريات العقاد
وقد انتقل العقاد من الأنبياء الى العبقريات، فكتب عدة تصانيف موجزة أولها( عبقرية محمد)،ثم الخلفاء الراشدين وغيرهم ،وقد نوه في مقدمته لكتابه هذا وكأنه وضع لنفسه خطة لكتابة عبقريات أخرى، مشيراً الى أن ما يكتبه يدخل ضمن أدبيات السيرة؛ مما يعني أن العقاد في كتاباته التاريخية بقي أديباً، بالدرجة الأولى، متسلحاً بهيكل المقالة الأدبية التي تتوزع على الكثير من العلوم فيستطيع أن يعبر عن خلجات الكاتب من خلالها؛ فهو يقول عن كتابه هذا:” عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة تضاف الى السير العربية والافرنجية التي حفلت بها ” المحكمة المحمدية” حتى الآن .. لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات ، على اعتقادنا أنّ المجال متسع لعشرات من الأسفار في هذا الموضوع(…) انما الكتاب تقدير ” لعبقرية محمد” بالمقدار الذين يدين به كلّ انسان ولا يدين به المسلم وكفى”.(19)
وهو لا يفوته أن يعود الى كتب السيرة لكتابة نشأة النبي المبكرة، ولكنه يريد أن يتوغل نحو أبرز معالم تلك العبقرية ، فتناول نجاح الدعوة ،والعبقرية العسكرية، منافحاً عن الاسلام وعن سلوك المسلمين وهم يحفون بالنبي ويؤازرونه ؛ لهذا يقول:” لم يكن الاسلام اذن دين قتال، ولم يكن النبي رجلاً مقاتلاً يطلب الحرب للحرب أو يطلبها وله مندوحة عنها، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير اذ أوجبت الحرب ودعته اليها المصلحة اللازمة…”.(20)
وهو في هذا يردّ على الكثير من الدارسين من الأوربيين الذين صوروا وبحثوا حياته ، بعيداً عن بيئته ،أو قارنوه بنابليون ، ثم يحاول أن يبحث في سجاياه الأخرى، فهو الصّديق والزوج والأب والسيد لعبيده والعابد.
***
أما كتابه الثاني (عبقرية الصديق)، حاول أن ينوه الى التسوية، كما فعل مع كتابه الثاني؛ لهذا قال: ” ولكنما قصدت أن أرسم للصديق صورة نفسية، تعرفنا به وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعمال ، كما تجلو الصورة ملامح من تراه العين. فلا تعنينا الوقائع والأخبار الا بمقدار ما تؤدي أداءها في هذا المقصد الذي لا مقصد لنا غيره (…) ومن همنا أن تكون الصورة صادقة كل الصدق في جملتها وتفصيلها … فليس من غرضنا التجميل الذي يخرج الصورة عن حقيقتها”.(21)
والحقيقة أن عبقريات العقاد، تكاد تكون متشابهة من حيث بناء السيرة الموضوعية للشخصية ، فيها الشيء الكثير من المادة التاريخية المستقاة من كتب التاريخ ، وفيها لمسات من قلم العقاد الموضوعي ،والبعيد عن المبالغة ،والدقيق في تصوير الشخصية والبحث في الخفايا الراسخة في الأعماق، وهو يسبل على أسلوبه مفردات أنيقة مشبعة بطراوة الأديب الحاذق ،والكاتب المتمكن، والناثر المنشئ ،والمؤرخ الحازم، فقد وصف حياة أبي بكر الصديق ، بالقول:” ولقد عاش أبو بكر ما عاش أليفاً لقومه ، محباً محبوباً لمن حوله، رحيماً بالغرباء فضلاً عن الأقربين وفضلاً عن الأنباء، الا أن هذا الرجل الرحيم نهض الى مبارزة ابنه ودعا عليه بالهلاك حين شهد الحرب مع المشركين”.(22)
لقد كان جهد العقاد نهضوياً لأنه يريد أن يقرّب صور هذه الشخصيات بطريقة معتدلة بعيدة عن التطرف ،والمواقف السبقة ، فهو بالتالي يعمل على وفق منظومة فكرية استقاها من الشيخ محمد عبده، لكي يستطيع أن يستفيد من منظومات مختلفة تلقاها من قراءاته المستمرة في العلوم المختلفة ؛ فهو حين يكتب عن أي شخصية تاريخية يوغل في كشف طبيعتها الاجتماعية والنفسية، ويختار ابرز مزايا، ولا يميل الى التنفير والقدح والانتقاد ،وانما يسوق ملاحظاته وآرائه بطريقة أبوية جميلة؛ سارداً ،وناثراً حصيفاً، وشاعراً يتأمل مزايا الآخر، ويحاول أن يكون موضوعياً ،لأنه يرى بأنه سيكون أمام محكمة التاريخ، فهو يعرض الشخصية من زوايا مختلفة ، حتى لا تطغى زاوية على أخرى، أو تكون ملامحها عيالاً على الأخرى، وهو مثقف وكاتب موسوعي ، له باع في القراءة مثلما له باع في الكتابة؛ ومن هنا جاءت كتاباته عن العبقريات الاسلامية، وهو مع شخصية الصديق أوجز فأحسن، وأسهب فأسمن، فقد وصف ثقافته بقوله:” طبع سليم وملاحظة صادقة وخبرة بالدنيا طريق المعاملة والسياحة ،وإصغاء الى الحسن من القول ،والوثيق من الأخبار، وعلم الانسان والتواريخ مشهور بين المشهورين منة أربابه ،واستيعاب للقرآن كله ولفقه الدين كله، ودراية بما استوعب من معانيه عن فهم وعن سماع ممن نزل عليه القرآن الكريم صلوات الله عليه”.(23)
***
وعلى نسق كتابه عن النبي والصديق كتب كتابه عن عمر بن الخطاب(عبقرية عمر)، فأشار في مقدمته منوهاً الى انّ الكتاب ” ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنبياء.. ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره ، ودلالة على خصائص عظمته واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة، فلا قيمة للحادث الأخلاقي جل أو دقّ الا من حيث أفاد في هذه الدراسة، ولا يمنعني صغر الحادث أو أقدمه بالاهتمام والتنويه على أضخم الحوادث، ان كان أوفى تعريفاً بعمر وأصدق دلالة عليه”.(24)
ومن هنا كانت مؤلفاته وصفاً لعبقريات معينة، ومن هنا فإنه جعل عنوان فصوله عن عمر بعنوان( عبقري )؛ أشار فيه الى أن من “علامات العظمة التي تحيي موات الأمم أن تختص بقدرتين لا تعهدان في غيرها ،أولاهما أن تعبث كوامن الحياة ودوافع العمل في الأمة بأسرها وفي رجالها الصالحين لخدمتها ،والأخرى أن تنفذ ببصيرتها الى أعماق النفوس فتعرف بالبديهة الصائبة والوحي الصادق قيم تكون عظمة العظيم ،ولأيّ المواقف يصلح ،وبأي الأعمال يضطلع، ومتى يحين أوانه وتجب ندبته ،ومتى ينبغي التريث في أمره الى حين ؟..”.(25)
فهو يصف هذه العبقرية بهدف أن ينهض بالصورة من معناها القديم ، الى معناها الجديد الذي يلبي لدينا فكرة النهوض بالدراسات الحديثة، بعيداً عن الصراعات المذهبية والقدسيات المتعددة، والنظر الى الأشخاص بصفة تأليهية تأخذ الجانب الأهم من الموقف الحقيقي، ومن هنا كان العقاد، حاذقاً وذكياً حين جعل كل المذاهب الاسلامية تقرأ هذه الصور والعبقريات، وكل منهم مطمئن الى أنه يلبي حاجته، و يطرح وجهة نظره ؛ لهذا أعطى صورة مجملة عن عمر بن الخطاب في نهايات كتابه، بعد أن صحبه في الجاهلية والاسلام، فقال عنه:” ورسخت في طويته خليقة المساواة في العدل حتى أصبحت كالوظيفة العضوية التي لا تنفصل منه، وحتى أصبح يتجرد من نفسه أو يجرد منها شخصياً آخر غريباً عنه لا فرق بينه وبين أحد من حدود الله وحرمانه”.(26) وهذه الصورة المقتضبة عبرت عن رؤية سديدة لدى العقاد، فهو لا يضفي على شخصيته وصفات أسطورية ،وانما يستنبط تلك الصفات من بطون الكتب ،ومن دون ان يجعلها مقحمة او مقصودة، لأنه كاتب مقالة، وكاتب المقالة يكتبها وصورة القارئ تبدو أمامه شاخصة، فهي نمامة تكشف ضعف كاتبها ،ونواياه البعيدة ، ولهذا لابدّ أن يبدو موضوعياً وصادقاً.
***
وخلال تناوله لشخصية عثمان بن عفان، يحاول أن يعطي صورة مقاربة لما أعطاها للنبي وأبي بكر وعمر، لأنه في مضمار الحديث عن العبقريات الاسلامية، حتى أنه وصف سيرته بأنها” نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الاسلامية من سير الخلفاء ،وغير الخلفاء”.(27) وأمثالهم من الصحابة والتابعية ، وما تمتعوا به من مزايا عظيمة.
والعقاد حريص كل الحرص أن يكون تناوله لصور العبقريات متوازناً بعيداً عن المؤثرات المتعددة ،وهو يدرس تاريخ شائك وجديد، نهل منه الكثيرون، وكتب فيه الكثيرون، وقد تصارعت الآراء والأفكار فيه وشرّق قوم وغرّب آخرون ، تناوله المسلمون والمستشرقون وكان لطه حسين مواقف وآراء ،ولكن العقاد كان نسيج وحده.
وقد تعرّض عثمان للقتل ، كما تعرّض عمر وعلي، فتعددت المكائد وكثرت النزاعات ، فبعد أن كان الاسلام مجتمع الفقراء، صار الاسلام غنياً، وامتدت مساحته حتى بلغت شمال أفريقيا؛ لهذا كثرت الثورات الداخلية ،وتوقفت الفتوح، وتزعزعت هيبة الدولة في نظر مواطنيها.
وقد ختم كتابه هذا بمقالة له بعنوان( النهاية)، ردّ فيها على من تقوّل على عثمان ، مصححاً ما قراناه في (تاريخ الطبري) وغيره، فهو يقول:” وزعموا أن عثمان نفل مروان بن الحكم بخمس الغنائم التي أرسلها ابن أبي سرح من أفريقية، وهو غير صحيح، وانما الصحيح أن ابن أبي سرح أخرج الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار ، فأخذها الى عثمان ،وبقي من الخمس أصناف من الأثاث والماشية يشق حملها الى المدينة، فاشتراها مروان وبقيت من ثمنها بقية عنده، فوهبها له عثمان، يوم بشرَّه بفتح أفريقية ،والناس على وجل من أخبار الغارات عليها”.(28)
***
أما كتابه (عبقرية الامام علي)، فإنه مزيج من البحث التاريخي والذوق الأدبي لأن في مسيرة الامام ملتقى الفكر والخيال الشعبي والعاطفة الدينية، ولأنه ” كان أديباً بليغاً له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون، وان طالت بينه وبينهم السنون. فهو الحكيم الأديب ،والخطيب المبين ،والمنشئ الذي يتصل انشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناثرين والناظمين..”.(29)
والجانب البلاغي في سيرته تدلل على سعة أفقه وتعدد مزاياه، وقد دغدغ العقاد عواطف الكثير من أتباعه ،وهو مع ذلك يطمح الى أن يكون موضوعياً كل الموضوعية ، وأميناً لقلمه بحيث بدت شخصية العقاد البحثية تنهض بالكثير من الأعباء للتقليل من الجدل والسجال الحاصل بين المذاهب الاسلامية في أهمية شخصية اسلامية مثل علي بن أبي طالب.
ولم يفت العقاد ابراز مزاياه الأخلاقية التي تعبر عن ألمعيته وبراعته وسداد رأيه، حينما قال عنه:” رجل شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع، وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور ،وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أن الناس قد أثبوا له في حياته أجمل صفاته المثلى، فلم يختلفوا على شيء منها الاّ الذي اصطدم بالمطامع وتفرقت حوله الشبهات ،وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه الى الصميم”.(30)
لقد كان العقاد حريصاً كل الحرص على ايصال أفكاره بشكل ينسجم مع طبيعة ثقافته الموسوعية، في الجمع بين التاريخ والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع ، مع حذق في التذوق ،وتمكن في اللغة ، وميل الى الأدب والترسل، وحبّ للتعبير عن خلجات النفس، وهو الحريص على موضوعية البحث وصدق الطوية، ومقالته تسير سيرها الوئيد من بدايتها حتى نهاياتها، ولكن لم يفته أن يثير بعض الأفكار حول كتاب (نهج البلاغة)، حين قال:” وربما تشكك الباحث في نسبة بعضها الى الامام لغلبة الصيغة الفلسفية عليها وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الأغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات ،ولكن الذي يقرؤه الباحث ولا يشك في نسبته الى الامام أوفي جواز نسبته اليه”.(31)
لقد بقي أسلوب العقاد محافظاً على رونقه وفصاحته، وتخلى فيه عن الحدة والانفعال وابتعد فيه من الاحكام الجاهزة، والأفكار المقحمة، والاعتقادات غير اليقينية ،لأنه في محضر كبار الصحابة، وهذا التفرد لدى العقاد يسمح لنا أن نضعه في طليعة رواد النهضة العربية بعد الحرب العالمية الأولى.
***
وقد كتب العقاد جملة من العبقريات الاسلامية ، مثل خالد بن الوليد ،و تناول بعض الشخصيات بالبحث والدراسة، وهي في غالب الأحيان شخصيات احتدم السجال حولها ،ولعل تشبيه شخصية خالد بعمر بن الخطاب له غاية للسابقية واللاحقين، لهذا كان العقاد يقول في هذا الصدد:” ويلوح لمن يقرأ سيرة الرجلين أن يشبه بينهما يتعدى الملامح والقامة الى معالم الشخصية وطبائع القوة النفسية، فكلاهما يجوز أن يقال فيه أنه” جندي” بالفطرة وان ” مفتاح شخصيته” هو السليقة الجندية ، فاذا أحضرنا في أخلادنا كلمة ” جندي” أو الجندي المطبوع لم نجد في ابن الخطاب ولا في ابن الوليد صفة لا تحتويها هذه الكلمة في معنى من معانيها”.(32)
حياة قلم
كتب العقاد عدداً من الأعمال بعضها ذات طبيعة قصصية ،وبعضها ذات طبيعة استذكارية ، مثل(انا)و (سارة)و( حياة قلم)،وقد أشار الى اختياره للعمل والكتابة في الصحافة لمدة خمسين عاماً، حيث مارس مشروعه النهضوي للتعبير عن حياته، ومواقفه ،وعلاقاته بالسلطة ؛ فبدأ الكتاب مشيراً الى (القدمندان) الانجليزي ، حيث ” كانت لعبة الجيوش في القرن التاسع عشر لعبة الأطفال المفضلة في أسوان ،وكانت دروب المدينة وجيشان المدراس والمكاتب ميادين قتال لا تنتهي بين جيش مصر وجيش السودان وجيش الدراويش وجيش الترك وجيش الانجليز”.(33)
ماراً بتكوينه الثقافي ، حيث نظم الشعر أولاً ،ثم ركز اهتمامه على صحف عبدالله النديم، وعنوانات الكتب والمجلات، والذي وصفه بأنه استاذ مدرسته في الصحافة والدعوة الوطنية، وقد نشأ مصطفى كامل على هذه المدرسة ؛ ومن هنا نشأت مدرسة عبدالله النديم حيث عاش العنصر العربي في مصر ، الباحث عن النهضة الفكرية العربية، وكانت ثورة عرابي وجهود الأفغاني؛ فكانت المدرسة الأولى مدرسة الأفغاني والثانية مدرسة الدعاة الرسميين للسلطة في مصر ، تقف الى جانبها مدرسة صدامية هي مدرسة الجهاد الوطني . والعقاد صريح في الكشف عن بواطن الصراعات ، لا يجامل أحداً، لذا كان يقول:” فمن هؤلاء من كان يضرب المعول في أركان الدولة العثمانية جاهداً مكابراً باسم الاصلاح ،والثورة على الاستبداد ،وهو في باطن الأمر صنيعة للدول وسمسار من سماسرة الاستعمار الذين يقصدون في الواقع الى هدم الاسلام”.(34)
ومع نزعة العقاد الاسلامية ، الاّ أنّه كان ميالاً الى سياسة (مصر للمصريين)، مع الحكم الدستوري ،وهذا يعني أن سيرة العقاد هنا، هي سيرة وطن، وليست سيرة شخص، فقد كان العقاد جزءاً من حركة الحياة والثقافة وتطور حركة الصحافة بمجملها.
ويشير العقاد الى تطور فن المقالة من اطارها البدائي الى البسيط في مصر الى ما كان يكتبه محمد فريد وجدي تحت اسم (الوجديات)، على وفق اسلوب المقامات العربية، ويديرها على المواعظ الاجتماعية وتقريب المثل العليا، التي تصطبغ على الدوام بصبغة الدين أو صبغة الأخلاق المثالية ،وكان لهالا قراء كثيرون يطلبونها كلّما طالت غيبتها ،وقد تصدر منها طبعتان وثلاث طبعات.(35)
والعقاد صحفي مغامر ، يحمل تاريخه تاريخ الصحافة المصرية في زمنه، ولعل عمله واصداره للصحف هو الدليل على علاقته بالسياسة والنهضة العربية، وقد تضمنت سيرته (حياة قلم)، تعريفا بكبار وأهم أصدقائه كالمازني في كتابه مثل:( حصاد الهشيم)و ( قبض الريح)و( صندوق الدنيا)و( عالماشي).وكذلك عرف بعبدالرحمن شكري شاعراً وناثراً، ومن نثره المعروف :( حديث ابليس)و( الاعترافات)و( مذكرات مجنون)و( الصحائف)و( ثمرات).
لقد تجول العقاد في جنبات عصره زماناّ ومكاناّ، فكشف عن الكثير من الاسرار التي عبرت عن ضعف وتدني الاداء السياسي ،وتفشي الفساد، في مصر في تلك الحقبة، وكان حدياً في مواقفه لا يجامل ولا يحابي أحداً، على حساب الحق ولا يستجيب لمطمع؛ لهذا كان تعبيراً عن أخلاقه ومواقفه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عباس محمود العقاد ، قطرات من بحر أدبه: كامل محمد محمد عويضة، دار الكتب العلمية (بيروت، 1414هـ/ 1994م)، ص49.
2- موسوعة عباس محمود العقاد الاسلامية، دار الكتاب العربي (بيروت، 1970-1971م)،1/23.
3- موسوعة العقاد ،1/ 27.
4- موسوعة العقاد ، 1/ 53.
5- موسوعة العقاد،1/ 73.
6- موسوعة العقاد،1/ 128.
7- موسوعة العقاد،1/132.
8- موسوعة العقاد، 1/174.
9- موسوعة العقاد،1/ 176.
10- موسوعة العقاد، 1/181.
11- موسوعة العقاد،1/205.
12- موسوعة العقاد، 1/ 250.
13- موسوعة العقاد،1/ 298.
14- موسوعة العقاد، 1/ 361.
15- موسوعة العقاد،1/ 370.
16- موسوعة العقاد، 1/ 416.
17- موسوعة العقاد، 1/ 695.
18- موسوعة العقاد، 1/ 752.
19- موسوعة العقاد ، 2/22.
20- موسوعة العقاد، 2/ 49.
21- موسوعة العقاد، 2/ 169.
22- موسوعة العقاد، 2/ 202.
23- موسوعة العقاد، 2/ 294.
24- موسوعة العقاد، 2/ 311-312.
25- موسوعة العقاد، 2/ 313.
26- موسوعة العقاد، 2/ 523.
27- موسوعة العقاد، 2/ 534.
28- موسوعة العقاد، 2/ 675.
29- موسوعة العقاد، 2/ 264.
30- موسوعة العقاد، 2/ 699.
31- موسوعة العقاد، 2/ 806.
32- موسوعة العقاد، 2/ 981.
33- حياة قلم: عباس محمود العقاد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ( القاهرة، 2013م)، ص 8.
34- حياة قلم، ص17.
35- حياة قلم، ص 60.




أعلى