الجاحظ - كتاب " فخر السودان على البيضان"

بسم الله الرحمن الرحيم
تولاك الله وحفظك، وأسعدك بطاعته، وجعلك من الفائزين برحمته.
ذكرت - أعاذك الله من الغشِّ - أنك قرأت كتابي في محاجة الصرحاء للهجناء، وردِّ الهجناء، وجواب أخوال الهجناء، وأني لم أذكر فيه شيئاً من مفاخر السودان. فاعلم حفظك الله أني إنما أخرت ذلك متعمداً.
وذكرت أنك أحببت أن أكتب لك مفاخر السودان، فقد كتبت لك ما حضرني من مفاخرهم.
قال الأصمعى: قال الفرز عبد فزارة وكانت في أذنه خُربة: إن الوئام يتترع في جميع الطَّمْش: لا يقرب العنز الضَّأن ما وجدت الماعز، وتنفر الشاة من المخلب ولا تأنس بالخف.
وأنشد أبو زيد النحوي: " لولا الوئام هلك الإنسان " .
وقال شدادٌ الحارثيُّ - وكان خطيباً عالماً - : قلت لأمةٍ سوداء بالبادية: لمن أنت يا سوداء؟ قالت: لسيد الحضر يا أصلع. قال: قلت أو لستِ سوداء؟ قالت: أو لست أصلع؟ قلت: ما أغضبك من الحق. قالت: الحق أغضبك، لا تشتُمْ حتى تُرهب، ولأن تتركه أمثل.
وقال شداد: لقد كلَّمتها وأنا أظنُّ أنِّي أفي بأهل نجد، وما نزعت عنِّي إلا وأنا عند نفسي لا أفي بأمَتِي.
وقال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: قال ذو الرُّمَّة: قاتل الله أمةَ آل فلانٍ السوداء، ما كان أفصحها وأبلغها! سألتها كيف كان المطر عندكم؟ قالت: غٍثْنا ما شئنا.
مناقب السودان

أن لقمان الحكيم منهم، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك.
وقال لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلاً فأغضِبْه ذلك، فإنْ ، أنصفك وإلا فاحذره.
ولم يرووا ذلك عنه إلا وله أشياء كثيرة. وأكثر من هذا مَدْحُ الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه.
ومنهم: سعيد بن جبير، قتله الحجَّاج قبل موته بستة أشهر وهو ابن تسعٍ وأربعين سنة، ومات الحجّاج وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. وكان سعيدٌ أورع الخَلْق وأتقاهم، وكان أعظم أصحاب ابن عباس. وأصحاب الحديث يطعنون في الذي يجيء من قبل أصحاب ابن عباس حتى يجيء من سعيد بن جبير. وأبوه مولى بني أسد، وهو مولى بني أميّة، وقُتِل يوم قُتِل والناس يقولون: كلُّنا محتاجٌ إليه.
ومنهم: بلالٌ الحبشيُّ رضي الله عنه، الذي يقول فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أبا بكرٍ سيدنا وأعتق سيدنا، وهو ثلث الإسلام.
ومنهم: مهجع، وهو أول قتيلٍ قُتِل بين الصِّفَّين في سبيل الله.
ومنهم: المقداد، وهو أول من عدا به فرسه في سبيل الله.
ومنهم وحشيٌّ قاتل مُسيلمة الكذاب. وكان يقول: قتلت خير الناس - يعني حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه - وقتلت شر الناس - يعني مُسيلمة الكذاب - .
ومنهم: مكحولٌ الفقيه.
ومنهم: الحَيقُطان الشاعر، الذي كان يَفضُل في رأيه وعقله وهمَّته. وهو الذي يقول في الإخوان: لا تعرفُ الأخ حتَّى ترافقه في الحضر، وتزامله في السفر.
ومنهم: جُليبِيب الذي تحدثت الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزاةٍ فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً. ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً. ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا في الثالثة: لا. قال: لكني أفقد جُليبيباً، اطلبوه. فطلبوه بين سبعةٍ قد قتلهم ثم قُتِل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قتل سبعةً ثم قتلوه. هذا منِّي وأنا منه " . قال: ثم حمله على ساعديه حتى حفروا له، ما له سريرٌ غير ساعدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ولم يذكروا غُسْلاً.
ومنهم: فرجٌ الحجَّام وكان من أهل العدالة، والمقدَّمين في الشَّهادة. أعتقه جعفر بن سليمان؛ وذلك أنه خدمه دهراً يصلح شاربه ولحيته ويهيئه، فلم يره أخطأ في قولٍ ولا عمل، فقال: والله لأمتحنَّنه، فإن كان ما أرى منه عن تدبيرٍ وقصدٍ لأعتقنه ولأزوَّجتَّه ولأغنينَّه. وإن كان على غير ذلك عرفتُ الصنع فيه. فقال له ذات يوم وهو يحجمه: يا غلامُ، أتحتجم؟ قال: نعم. قال: ومتى؟ قال: عند الحاجة. قال: وتعرفُ ذلك؟ قال: أعرفُ أكثره وربما غلِطت. قال: فأيَّ شيء تأكل؟ قال: أمَّا الشتاء فداكبراه خائرة حلوة. وأما في الصيف فسكباجةٌ حامضة عذبة. فبلغ به جعفر بن سليمان ما قال. وهو الذي يقول فيه أبو فرعون:
خلُّوا الطَّريق زوجتي أمامي ... أنا حميمُ فرجِ الحجّام
قال: وبلغ من عدالته ونبله في نفسه وتوقِّيه وورعه، أن مواليه من ولد جعفرٍ وكبار أهل المربد، كانوا لا يطعمون أن يُشْهده إلا على أمرٍ صحيح لا اختلاف فيه.
وأما الحَيقُطان فقال قصيدةً تحتجُّ بها اليمانية على قُريشٍ ومضر، ويحتجُّ بها العجم والحبشُ على العرب، وكان جريرٌ رآه يوم عيدٍ في قميص أبيض وهو أسود، فقال:
كأنه لما بدا للناس ... أير حمارٍ لُفَّ في قرطاس
فلما سمع بذلك الحيقطان وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال هذا الشعر:
لئن كنتُ جعد الرَّأسِ والجلدُ فاحمٌ ... فإنَّي لَسَبْطُ الكفِّ والعرضُ أزهر
وإنَّ سواد اللَّون ليس بضائِري ... إذا كنتُ يوم الروع بالسَّيف أخطرُ
فإن كنت تبغي الفخر في غير كنهه ... فرهُط النَّجاشي منك في الناس أفخر
تأبَّى الجُلَنْدَي وابن كسرى وحارثٌ ... وهوذة والقبطي والشيخُ قيصرُ
وفاز بها دون الملوك سعادةً ... فدام له الملك المنيع الموفّرُ
ولقمان منهم وابنه وابنُ أمِّه ... وأبرهةُ الملك الذي ليس يُنكَرُ
غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم ... وأنتم كقبْصِ الرمل أو هو أكثر

وأنتم كطير الماء لما هوى لها ... ببلقعةٍ، حُجن المخالبِ أكدرُ
فلو كان غير الله رامَ دفاعه ... علمت وذو التَّجريب بالناس أخبرُ
وما الفجرُ إلا أن تبيتوا إزاءه ... وأنتم قريبٌ ناركم تتسعَّرُ
ويدلُف منكم قائد ذو حفيظة ... نُكافحه طوراً وطورا يدبَّرُ
فأما التي قُلتم فتلكم نُبوَّة ... وليس بكم صُون الحرام المستَّرُ
وقلتم لقاحٌ لا نؤدي إتاوة ... فإعطاء أريانٍ من الفَرِّ أيسر
ولو كان فيها رغبةٌ لمتوَّجٍ ... إذاً لأتتها بالمقاول حميرُ
وليس بها مشتىً ولا متصيَّف ... ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّر
ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ... ولكن تجراً، والتجارة تُحقَر
ألست كُليبيّا وأمك نعجةً ... لكم في سمان الضّان عارٌ ومفخر
أما قوله:
تأبى الجلندى وابن كسرى وحارثٌ ... وهوذة والقبطى والشيخ قيصرُ
فإنه يقول: كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بني الجُلندي فلم يُؤمنوا وكذلك كسرى، وكذلك الحارث بن أبي شَمِر، وكذلك هوذة بن علي الحنفي، وكذلك المقوقس عظيم القبطِ صاحبُ الإسكندرية، وكذلك قيصر ملك الرُّوم. على أن بني الجُلندي قد أسموا من بعد ذلك الكتاب، ولكنَّ النَّجاشيَّ أسلم قبل الفتح، فدام له ملكه ونزع الله من هؤلاء النِّعمة. وقيصر إنْ كان قد بقي من ملكه شيءٌ فقد أخرجوه من كلِّ مكانٍ يبلغُه ظِلفٌ أو حافر، وصار لا يتمنَّع إلا بالخليج وبالعقاب والحصون وبالشتاء والثلوج والأمطار.
وفخر بلقمان وابنه.
وأما قوله:
غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم ... وأنتم كقِبْص الرَّمل أو هو أكثر
فإنه يعنى صاحب الفيل حين أتى ليهدم الكعبة. يقول: كنتم في عدد الرَّمل، فلم فررتمْ منه ولم يلقه أحدٌ منكم حتَّى أفضى إلى مكة، ومكة أمُّ القرى، ودار العرب، هي جزيرة العرب ومكة قريةٌ من قراها، ولكن لما كانت أقدمها قدما، وأعظمها خطراً، جُعلِت لها أمّاً. ولذلك قيل لفتح مكة: فتح الفتوح. وعلى مثل ذلك سميت فاتحة الكتاب: أمَّ الكتاب والعرب قد تجعل الشىء أمَّ ما لم يَلِدْ. من ذلك قولهم: ضربه على أمِّ رأسه، وكذلك أمّ الهاوية. والضَّيف يسمى ربّة منزله أمَّ مثواي.
وقال أعرابيٌّ وقد أصابته براغيثُ عند امرأةٍ كان نزل بها:
يا أمَّ مثواى عدِمت وجهك ... أنقذنى ربُّ العُلا من مصرك
ولذع بُرغوثٍ أراه مُهلكى ... أبيت ليلي دائب التحكّك
تحكّك الأجراب عند المبرك
وقد أبان الله تعالى مكة والبيت حين قال: " إن أوَّلَ بيتٍ وضع للناس لَلَّذِي بِبَكَّة مُباركاً وهدىً للعالمين " .
يقول: فإذا غُزِيت - وهي أمُّ القرى وفيها البيتُ الحرام الذي هو شرفُكم - فقد غُزِي جميعكم.
وأما قوله:
وأما التي قُلتم فتلكم نبوّةٌ ... وليس بكم صُون الحرام المستَّرُ
وقلتم لقاحٌ لا نؤدّى إتاوةً ... فإعطاء أريانٍ من الفرِّ أيسر
فاللقاح: البلد الذي لا يُؤدِّى إلى الملوك الأريان. والأريان: هو الخراج، وهو الإتاوة. وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص:
أبوا دِين الملوك فهم لَقاحٌ ... إذا نُدِبوا إلى حربٍ أجابوا
قال: فقلتم إنَّا لقاحٌ ولسنا نؤدّي الخراج والأريان.
قال: فإعطاء الخراج أهون من الفرار وإسلام الدار وأنتم مثل عدد مَنْ جاءكم المرار الكثيرة.
وأما قوله:
وليس بها مَشْتىً ولا متصيَّف ... ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّرُ
قال: ليس في الغلبة على مكة رغبة، ولولا ذلك لغزاها أهل اليمن وغيرهم. وليس بها مشتىً ولا متصيَّف؛ لأنهم يتبرَّدون بالطائف ويتدفَّوْن بجدَّة. وجؤاثا: عينٌ بالبحرين. وليس بمكة شيءٌ يدانى ذلك.
وقال:
ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ... ولكنَّ تجراً والتجارة تُحقرُ

يقول: ليس بها متنزَّهات، وصيدها حرام، وإنما بها تُجَّار والتُجَّار يُحقرون. يقول: هم عند الناس في حدِّ الضعف ولا يستجيز ملكٌ أخذ الذي به يتعيَّشون، ولا يكون ما يُؤخذ منهم يقوم بنوائب الملوك، وهم قومٌ ليس عندهم امتناعٌ. ولذلك يقول الشاعر معاوية بن أوس، وهو جاهليٌّ:
وزِقٍّ سبأتُ لدى مَتجرٍ ... أُسيوِدَ كالرَّجل الأسحم
ضربتُ بفيهِ على نحره ... وقائمه كيد الأجذَم
إلى التاجر العربي الشحي ... ح أو خمر ذي النَّطف الطمطم
أراد بهذا كلِّه قريشاً. يقول: هم تجّار وقد اعتصموا بالبيت، وإذا خرجوا علَّقوا عليهم المُقْل ولحاء الشَّجر حتى يُعرفوا فلا يقتلهم أحد.
وأما قوله:
ألست كليبيّاً وأمُّك نعجةٌ ... لكم في سمان الضَّأن عارٌ ومفخرُ
فإن بنى كُليبٍ يُرمون بإتيان الضَّأن، وكذلك بنو الأعرج، وسُليم. وأشجع تُرمى بإتيان المَعْز.
وقال النَّجاشي:
ولو شتمتنى من قريشٍ قبيلةٌ ... سوى ناكة المعزى سُليمٌ وأشجعُ
وقال الفرزدق:
ولستُ مضحِّياً ما دمت حيّاً ... بشاةٍ من حَلوبةِ أعرجى
فما أدري إذا أنفقتُ مالي ... لعلَّ الشاة تُبقر عن صبيِّ
وقال الآخر:
إذا أحببت أن تغْلى أتاناً ... فدُلَّ الدراميَّ على شراها
ويُقبِّل ظهرها ويكاد لولا ... قحول الظَّهر يدنو من قفاها
وودَّ الدرامى لو أنَّ فاه ... إذا نال الحمارة نال فاها
وقال عبد بن رشيد:
قبيلةُ سوءٍ خيرهم مثل شرِّهم ... ترى منهم للضأن فحلاً وراعيا
إذا جُليتْ فيهم عروسٌ لبعلها ... ترى النَّعجة البقعاء أبكى البواكيا
ولذلك قال الأخطل:
فانعقْ بضأنك يا جرير فإنما ... منَّتك نفسك في الخلاء ضلالا
ولذلك قال الحيقطان:
ألست كليبيّاً وأمك نعجةٌ ... لها في سمان الضَّأن عارٌ ومفخرُ
أما العار فالذي شاع عليهم من ذكر النِّعاج. وأما المفْخر يقول: إذا فخروا فخروا بالشَّاء، ولا يبلغون إلى حدِّ الإبل.
ومن مفاخر السُّودان والزِّنج والحبش مع ما ذكرنا من قصيدة الحيقطان، أنَّ جرير بن الخطفى لما هجا بنى تغلب وقال:
لا تطلُبَنَّ خؤولةً في تغلبٍ ... فالزِّنج أكرم منهم أخوالا
غضب سنيح بن رباح شار، فهجا جريراً، وفخر عليه بالزِّنج فقال:
ما بال كلبٍ من كليبٍ سبَّنا ... أن لم يوازن حاجباً وعقالا
إن امأً جعل المراغة وابنها ... مثل الفرزدق جائر قد فالا
والزِّنج لو لاقيتهم في صفِّهم ... لاقيت ثمَّ جحاجحاً أبطالا
فسل لبن عمرو حين رام رماحهم ... أرأى رماح الزِّنج ثمَّ طوالا
فجعوا زياداً بابنه وتنازلوا ... لكما دُعُوا لنزال ثمَّ نزالا
ومربِّطين خيولهم بفنائهم ... وربطت حولك شيِّها وسخالا
كان ابن ندبة فيكم من نجلنا ... وخفافٌ المحمَّل الأثقالا
وابنا زُبيبة: عنترٌ وهراسةٌ ... ما إن نرى فيكم لهم أمثالا
سل ابن جيفر حين رام بلادنا ... فرأى بغزوتهم عليه خبالا
وسليكٌ اللَّيث الهزبر إذا عدا ... والقرمُ عبّاسٌ علوك فعالا
هذا ابن خازمٍ ابن عجلى منهم ... غلب القبائل نجدةً ونوالا
أبناء كلِّ نجيبةٍ لنجيبةٍ ... أسدٌ تربِّب عندها الإشبالا
فلنحن أنجب من كليب خؤولةً ... ولأنت ألأم منهم أخوالا
وبنو الحباب مطاعن ومطاعم ... عند الشِّتاء إذا تهبُّ شمالا
أما ابن عمرٍو الذي ذكر، فهو حفص بن زياد بن عمرٍو العتكى، كان خليفة أبيه على شرطة الحجاج، فغلب رباح شار الزِّنجى على الفرات، فتوجَّه إليه حفص بن زيادٍ فقتله رباحٌ وقتل أصحابه واستباح عسكره.
وأما ابن جيفر فهو النعمان بن جيفر بن عباد بن جيفر بن الجلندى. كان غزا بلاد الزِّنج فقتلوه وغنموا عسكره.

ثم ذكر أبناء الزِّنجيات حين نزعوا إلى الزِّنج في البسالة والأنفة. فذكر خفاف بن ندبة، وعباس بن مرداس، وابنى شدادٍ: عنترة الفوارس وأخاه هراسة، وسليك بن السُّلكة. فهؤلاء أسد الرجال، وأشدُّهم قلوباً وأشجعهم بأساً، وبهم يضرب المثل.
ومنهم: عبد الله بن خازمٍ السُّلمى، وبنو الحباب: عمير بن الحباب وإخواته.
وكان أيضاً منهم: الجحَّاف بن حكيم.
وهم أيضاً يفخرون برباحٍ أخى بلال وحاله وصلاحه.
ويفخرون بعامر بن فهيرة، بدرى استشهد يوم بئر معونة، فرآه الناس قد رفعه الله بين السماء والأرض، فليس له في الأرض قبر.
ومنهم: آل ياسر.
قالوا: ومنَّا الغداف صاحب عبيد الله بن الحرّ. لم يكن في الأرض أشد منه؛ كان يقطع على القافلة وحده بما فيها من الحماة والخفراء.
وكعبويه صاحب المغيرة بن الفزْر، كان مثلاً في الشجاعة.
ويقولون: ومنَّا مرْبح الأشرم، غلام أبى بحرٍ القائد، الذي كان قدم من الشام أيام قتيبة بن مسلم، وكان لا يرام لقاؤه، وأمره مشهور.
قالوا: ومنا المغلول وبنوه، وهم من الخول، ليس في الأرض أعرف ولا أثقف ولا أعلم بالبادية منهم.
قالوا: ومنَّا أفلح، الذي قطع على القوافل بخراسان وحده عشرين سنة. قالوا: وإنما قتله مالك بن الرَّيب، لأنه وطئه في جوف الليل وهو سكران خائر. والشاهد على قولنا قول ابنه:
أمالك لولا السُّكر أيقنت أنَّه ... أخو الورد أو يُربى على الأسد الورد
قالوا: ونحن قد ملكنا بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة، وجرت أحكامنا في ذلك أجمع. وهزمْنا ذا نواسٍ، وقتلنا أقيال حمير. وأنتم لم تملكوا بلادنا. وقد قال شاعركم:
وخرب غُمداناً وهدَّم سقفه ... رياطٌ بأجنادٍ وصولته هصر
أطافت به الأحبوش ليلاً فقوضوا ... بناً شدَّه الأقيال في سالف الدَّهر
بجمعٍ من اليكسوم سودٍ كأنهم ... أسودُ الشرى اجتابت جلوداً من النُّمْر
قالوا: ومنا كباجلا، لم يصعد نهر سليمان ولا قاتل في المخارجات أحدٌ قطُّ يشبهه.
قالوا: ومنا الأربعون الذين خرجوا بالفرات أيام سوَّار بن عبد الله القاضي، فأجلوا أهل الفرات عن منازلهم، وقتلوا من أهل الأبُلَّة مقتلةً عظيمة.
قالوا: ومنَّا الذي ضرب عنق عيسى بن جعفر بعُمان، بمنجلٍ بحرانيّ، بعد أن لم يجسر عليه أحد.
قالوا: والناس مجمعون على أنه ليس في الأرض أمّةٌ السخاء فيها أعمُّ، وعليها أغلب من الزِّنج. وهاتان الخلَّتان لم توجدا قطُّ إلا في كريم.
وهي أطبع الخلق على الرقص الموقَّع الموزون، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديبٍ ولا تعليم.
وليس في الأرض أحسن حلوقاً منهم. وليس في الأرض لغةٌ أخفُّ على اللسان من لغتهم، ولا في الأرض قومٌ أذْربُ ألسنةً، ولا أقلُّ تمطيطاً منهم.
وليس في الأرض قومٌ إلا وأنت تصيب فيهم الأرتَّ والفأفاء والعيى، ومن في لسانه حبسة، غيرهم.
والرجل منهم يخطب عند الملك بالزِّنج من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فلا يستعين بالتفاتةٍ ولا بسكتةٍ حتى يفرغ من كلامه.
وليس في الأرض أمةٌ في شدة الأبدان وقوة الأسر أعمُّ منهم فيهما. وإن الرجل ليرفع الحجر الثقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم. وهم شجعاءٌ أشداء الأبدان أسخياء. وهذه هي خصال الشرف.
والزنجي مع حسن الخلق وقلة الأذى، لا تراه أبداً إلا طيب النفس، ضحوك السّنّ، حسن الظّنّ. وهذا هو الشرف.
وقد قال ناسٌ: إنهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ولقصر رويَّاتهم، ولجهلهم بالعواقب.
فقلنا لهم: بئس ما أثنيتم على السخاء والأثرة، وينبغى في هذا القياس أن يكون أوفر الناس عقلاً وأكثر الناس علماً أبخل الناس بخلاً وأقلهم خيرا.
وقد رأينا الصَّقالبة أبخل من الرُّوم، والروم أبعد رويةً وأشدُّ عقولا. وعلى قياس قولكم أن قد كان ينبغى أن تكون الصَّقالبة أسخى أنفساً وأسمح أكُفّاً منهم.

وقد رأينا النساء أضعف من الرجال عُقولاً، والصِّبيان أضعف عقولا منهم، وهم أبخل من النساء، والنِّساء أضعف عقولاً من الرجال. ولو كان العقل كلَّما أشدَّ كان صاحبه أبخل، كان ينبغي أن يكون الصبيُّ أكرم الناس خصالاً. ولا نعلم في الأرض شرّاً من صبيّ: هو أكذب الناس وأنم الناس، وأشره الناس وأبخل الناس، وأقل الناس خيراً وأقسى الناس قسوة.
وإنما يخرج الصبيُّ من هذه الخلال أولاً فأولاً، على قدر ما يزداد من العقل فيزداد من الأفعال الجميلة.
فكيف صار قلّةُ العقل هو سبب سخاء الزِّنج، وقد أقررتم لهم بالسِّخاء ثم ادَّعيتم ما لا يُعرف. وقد وقفناكم على إدحاض حجتكم في ذلك بالقياس الصحيح.
وهذا القول يوجب أن يكون الجبان أعقل من الشُّجاع، والغادر أعقل من الوفى. وينبغى أن يكون الجزوع أعقل من الصَّبور. فهذا ما لا حجة فيه لكم، بل ذلك هبةٌ في الناس منالله.والعقلهبةٌ، وحسن الخلق هبة، والسَّخاء والشجاعة كذلك.
وقد قالت الزِّنج للعرب: من جهلكم أنَّكم رأيتمونا لكم أكفاءً في الجاهلية في نسائكم، فلمَّا جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسداً، وما بنا الرغبة عنكم. مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوَّج ورأس وساد، ومنع الذِّمار، وكنفكم من العدوّ.
قال: وقد ضربتم بنا الأمثال وعظَّمتم أمر ملوكنا، وقدَّمتموهم في كثيرٍ من المواضع على ملوككم. ولو لم تروا الفضل لنا في ذلك عليكم لما فعلتم.
وقال النَّمْر بن تولب:
أتى ملكه ما أتى تُبّعاً ... وأبرهة الملك الأعظما
فرفعه على ملوك قومه.
وقال لبيد بن ربيعة:
لو كان حيٌّ في الحياة مخلِّداً ... في الدهر أدركه أبو يكسوم
وهذا شيءٌ من وصف الفضل لم يوصف أحدٌ بمثله.
قالوا: ومما قدَّمتم به ملوكنا على ملوككم قوله:
غلب الليالى خلف آل مُحرِّق ... وكما فعلن بتُبّع وبهرْقل
وغلبن أبرهة الذي ألفيته ... قد كان خُلِّد فوق غُرفة موْكل
فقدم أبرهة وأراد التَّسوية.
قالوا: ومن الحبشة عكيمٌ الحبشى، وكان أفصح من العجَّاج. وكان علماء أهل الشام يأخذون عنه كما أخذ علماء أهل العراق من المنتجع بن نبهان.
وكان المنتجع سنديّاً في أذنه خُرْبة، وقع إلى البادية وهو صبيٌّ، فخرج أفصح من رؤبة.
ولما قال حكيم بن عيّاشٍ الكلبى:
لا تفخرنَّ بخالٍ من بنى أسد ... فإنَّ أكرم منها الزِّنج والنُّوب
اعترض عليه عُكيمٌ الحبشى، فقال:
ويوم غُمدان كنَّا الأُسد قد علموا ... ويوم يثرب كنَّا فِحْلة العرب
وليلة الفيل إذ طارت قلوبهم ... وكلُّهم هاربٌ موفٍ على قتب
منّا النَّجاشى وذو العقصين صهركم ... وجدُّ أبرهة الحامى أبي طلب
هبْنى غفرت لعدنانٍ تهكُّمهمْ ... فما لحمير والمقوال في النسب
حمَّارة جُمعت من كلِّ محربةٍ ... جمع الشُّبيكة نون الزَّاخر اللَّجب
غمدان: حصنٌ كان ينزله الملك الذي يكون على اليمن، وكان عجميّاً، فلما ملكت الحبشة اليمن أخربته إلا بقايا هدمها عثمان بن عفان رضي الله عنه في الإسلام. وقال: " ينبغى لمآثر الجاهليَّة أن تُمحى " . وكان في الحصن مصنعةٌ عليها قُبّةٌ من طلق، وفيها يقول خلفٌ الأحمر:
ومصنعة الطِّلْق أودى بها ... عوادى الأحابيش بالصَّيدن
وفيها يقول قدامة حكيم المشرق، وكان صاحب كيمياء:
فأوقد فيها ناره ولو أنَّها ... أقامت كعمر الدهر لم تتصرَّم
لأن الطلق لو أوقد عليه ألف عامٍ لم يسخن. وبه يتطلَّى النّفَّاطون إذا أرادوا الدخول في النار.
وقال لبيد:
أصاحِ ترى بُريقاً هبَّ وهناً ... كمصباح الشَّعيلة في الذُّبال
أرقت له وأنجد بعد هدءٍ ... وأصحابى على شعب الرِّحال
يُضىء ربابه في المزن حُبشاً ... قياماً بالحرب وبالإلال
وقال ذلك لبيدٌ لأنهم إذا أقبلوا بحرابهم ورماحهم وقسيِّهم وسيوفهم، وراياتهم، وخيولهم وفيولهم، مع سواد ألوانهم وضخم أبدانهم رأيت هوْلاً لم تر مثله ولم تسمع به، ولم تتوهَّمه.
وأما قوله: ويوم يثرب كنَّا فحلة العرب.

فإن مسرف بن عقبة المرّيَّ، حين كان أباح المدينة، زعموا أنه قد كان هناك أمرٌ قبيحٌ من السودان والجند، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء مضر:
فسائلْ مسرف المُرِّىَّ عنكم ... غداة أباح للجند العذارى
فمازجكم على حنق زنوجٌ ... وفزَّ الشام كالأسد الضواري
ودافع وهرزٌ والرس عنكم ... ورأس الحبش يحكم في ذمار
فأفسد نسلكم بسواد لونٍ ... وأيرٍ مثل غرمول الحمار
فذكر إباحة الحبش لليمن كما ذكر إباحة مسرفٍ للمدينة.
وأما قوله:
حمارة جمعت من كل محزوة ... جمع الشُّبيكة نون الزاحر اللَّجب
فإنه ذهب إلى ما تقوله الرواة أن حمير كانت حَمَّارة.
وأما الشُّبيكة فأراد الشبكة.
وقال السودان: فهذا الفضل فينا، ولم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا على جنازةٍ أو قبر، إلا النجاشىّ فإنه صلّى عليه وهو بالمدينة وقبر النَّجاشيّ بالحبشة.
قالوا: والنجاسي هو كان زوَّج أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا خالد بن سعيدٍ فجعله وليَّها، وأصدق عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينلر.
قالوا: وثلاثة أشياء جاءتكم منْ قبلنا. منها الغالية، وهي أطيب الطيب وأفخره وأكرمه. ومنها النَّعْش وهو أستر للنساء وأصون للحرم. ومنها المصحف، وهو أوقى لما فيه وأحصن له، وأبهى وأهيأ.
قالوا: ونحن أهول في الصدور وأملأ للعيون، كما أن المسوِّدة أهول في العيون وأملأ للصدور من المبيِّضة، وكما أن الليل أهول من النهار.
قالوا: والسَّواد أبداً أهول. وإن العرب لتصف الإبل فتقول: الصُّهب سرع، والحُمْر غزْر، والسُّود بهْي. فهذا في الإبل.
قالوا: ودهم الخيل أبهى وأقوى، والبقر السود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى. والحمر السُّود أثمن وأحسن وأقوى. وسود الشَّاء أدسم ألباناً وأكثر زبداَ، والدبس أغزر من الحمر.
وكل جبلٍ وكل حجرٍ إذا كان أسود كان أصلب صلابةً وأشد يبوسةً. والأسد الأسود لا يقوم له شيء.
وليس من التمر أحلى حلاوةً من الأسود، ولا أعم منفعةً ولا أبقى على الدهر. والنخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود الجذوع.
وجاء: " عليكم بالسواد الأعظم " . وقال الأنصاري:
أدين وما ديني عليَّ بمغرمٍ ... ولكن على الشُّمِّ الطوال القراوح
على كل خوارٍ كأن جذوعها ... طلين بقارٍ أو بدمِّ ذبائح
قالوا: وأحسن الخضرة ما ضارع السَّواد. قال الله جلّ وعلا: " ومن دونهما جنتان " ، ثم قال لما وصفهما وشوَّق إليهما: " مدهمتان " قال ابن عباس: خضراوان من الرّيّ سوداوان.
وليس في الأرض عودٌ أحسن خشباً ولا أغلى ثمناً، ولا أثقل وزناً ولا أسلم من القوادح، ولا أجدر أن ينشب فيه الخطُّ من الآبنوس. ولقد بلغ من اكتنازه والتئامه وملوسته وشدة تداخله، أنه يرسب في الماء دون جميع العيدان والخشب. ولقد غلب بذلك بعض الحجارة؛ إذ صار يرسب وذلك الحجر لا يرسب.
والإنسان أحسن ما يكون في العين ما دام أسود الشعر. وكذلك شعورهم في الجنة.
وأكرم ما في الإنسان حدقتاه؛ وهما سوداوان. وأكرم الأكحال الإثمد، وهو أسود. ولذلك جاء أن الله يُدخل جميع المؤمنين الجنة جُرداً مُرداً مكحَّلين.
وأنفع ما في الإنسان له كبده التي بها تصلح معدته، وينهضم طعامه، وبصلاح ذلك قام بدنه؛ والكبد سوداء.
وأنفس ما في الإنسان وأعزُّه سويداء قلبه، وهي علقةٌ سوداء تكون في جوف فؤاده، تقوم في القلب مقام الدماغ من الرأس.
ومن أطيب ما في المرأة وأشهاه شفتاها للتقبيل، وأحسن ما يكونان إذا ضارعتا السَّواد.
وقال ذو الرُّمَّة:
لمياء في شفتيها حُوَّةٌ لمس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
وأطيب الظِّلِّ وأبرده ما كان أسود. وقال الراجز: " سود غرابيب كأظلال الحجر " .
وقال حميد بن ثور:
ظللنا إلى كهفٍ وظلَّت ركابنا ... إلى مستكفاتٍ لهنَّ غروب
إلى شجرٍ ألمى الظلال كأنه ... رواهب أحرمن الشراب عذوب
وجعل الله الليل سكناً وجماما، والنهار للكسب والكدّ.

والذي يدلُّ على أن السواد في وجه آخر مقرونٌ بالشدة والصرامة، والهيج والحركة، انتشار الحيَّات والعقارب وشدة سمومها بالليل، وهيج السباع واستكلابُها بالليل. وتحرك الأوجاع وظهور الغيلان، هذه كلها بالليل.
قال: وأشبهنا الليل من هذا الوجه.
قالوا: وأبلغ ما تكون القائلة وأشفاها للنفس، وأسرع لمجيئها إذا أردتها، وأبطأ لذهابها إذا كرهتها، ما كان منها في الظلمة، عند إسبال الستور وإغلاق الأبواب.
قالوا: وليس لونٌ أرسخ في جوهره وأثبت في حسنه من سواد.
وقد جرى المثل في تبعيد الشيء: " لا ترى ذلك حتى يبيضَّ القار، وحتى يشيب الغراب " .
وهو العرض الملاَّء عند الحكماء.
وأكرم العطر المسك والعنبر، وهما أسودان.
وأصلب الأحجار سُودها. وقال أبو دهبلٍ الجمحيُّ يمدح الأزرق المخزوميَّ، وهو عبد الله بن عبد شمس بن المغيرة:
فإنَّ شكرك عندي لا انقضاء له ... ما دام بالجزع من لبنان جلمودُ
أنت الممدَّح والمُغلى به ثمناً ... إذ لا يعاتب صخر الجندل السُّود
والعرب تفخر بسواد اللون. فإن قال: فعلام ذلك وهي تقول: فلانٌ هجانٌ، وأزهر وأبيض، وأغرُّ؟ قلنا: ليس تريد بهذا بياض الجلد، إنما تريد به كرم الجوهر ونقاءه. وقد فخرت خضر محاربٍ بأنها سود، والسود عند العرب الخضر. وقال الشَّماخ بن ضرار:
وراحت رواحاً من زرود فنازعت ... زبالة جلباباً من الليل أخضرا
وقال الراجز:
حتى انتضاني الصبح من ليلٍ خضرْ ... مثل انتضاء البطل السيف الذّكرْ
وهم يسمُّن الحديد أخضر لأنه صُلب؛ لأن الأخضر أسود.
وقال الحارث بن حِلِّزة:
إذ رفعنا الجمال من سعف البح ... رين سيراً حتى نهاها الحساء
فهزمنا جمع ابن أمِّ قطام ... وله فارسةٌ خضراء
وقال المحاربيّ وهو يفخر بأنه من الخضر:
في خضر قيسٍ نماني كل ذي فخرٍ ... صعب المقادة آبي الضَّيم شعشاع
وبنو المغيرة خضر بني مخزوم. قال عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ويقال إنها للفضل بن العبّاس اللِّهبي:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجلْ ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
وخضر غسّان بنو جفنة الملوك؛ قال الغسّانيّ:
إن الخضارمة الخضر الذين ودوا ... أهل البريص نماني منهم الحكم
وقد ذكر حسانٌ أو غيره الخضر من بني عكيم حين قال:
ولست من بني هاشمٍ في بيت مكرمةٍ ... ولا بني جمح الخضر الجلاعيد
قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة السَّادة دُلْماً ضخما، نظر إليهم عامر بن الطُّفيل يطوفون كأنهم جمالٌ جونٌ، فقال: بهؤلاء تُمنع السَّدانة.
وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخما. وآل أبي طالبٍ أشرف الخلق، وهم سودٌ وأدمٌ ودلْم.
قالوا: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بُعثت إلى الأحمر والأسود " .
وقد علمت أنه لا يُقال للزِّنج والحبشة والنُّبة بيضٌ ولا حمر، وليس لهم اسمٌ إلا السُّود.
وقد علمنا أن الله عزّ وجل بعث نبيه إلى الناس كافة، وإلى العرب والعجم جميعاً. فإذا قال: " بُعثت إلى الأحمر والأسود " ولسنا عنده حُمرٌ ولا بيض، فقد بُعث إلينا؛ فإنما عنانا بقوله " الأسود " . ولا يخرج الناس من هذين الاسمين، فإن كانت العرب من الأحمر، فقد دخلت في عداد الروم والصَّقالبة، وفارس وخراسان. وإن كانت من السُّود، فقد اشتَّق لها هذا الاسم من اسمنا. وإنما قيل لهم وهم أدم وسمرٌ سودٌ، حين دخلوا معنا في جُملتنا، كما يجعل العرب الإناث من الذكور ذكورا.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمأن الزِّنج والحبشة والنوبة ليسوا بحمرٍ ولا بيض، وأنهم سود، وقد بعثه الله تعالى إلى الأسود والأحمر، فقد جعلنا والعرب سواء، ونكون نحن السُّود دونهم. فإن كان اسم أسود وقع علينا فنحن السُّودان الخُلَّص، والعرب أشباه الخُلَّص. فنحن المتقدِّمون في الدَّعوة. وإذا كان اسمهم محمولاً على اسمنا؛ إذ كنَّا وحدنا يقال لنا سودٌ، ولا يقال لهم سودٌ إلا أن يكونوا معنا.
قالوا: وأنتم ترون كثرة العدد مجداً، ونحن أكثر الناس عدداً وولدا.
قالوا: ونحن صنفان: النَّمل والكلاب.

قالوا: ولو عدلْتم بالنَّمل العرب كلها لأربتْ عليها. فكيف إذا قُرنت إليها الكلاب؟ ثم كيف إذا ضممتم إليها الحبشة والنُّوبة وفزَّان ومرو وزغاوة وغير ذلك من أنواع السُّودان؟ وليست قحطان من عدنان في شيء. ونحن بالحبشة أشبه، وأرحامنا بهم أمسُّ من عدنان بقحطان. وإن ذكرتم اختلاف اللُّغات؛ فإن لغة عجز هوازن، وقد تختلف اللغات والأصل واحد، وقد تتَّفق والنَّجْر مختلف. ومن دخل أوائل خراسان وأواخرها، وأوائل الجبال وفارس وأواخها، علم أن اللغات قد تختلف لاختلاف طبائع البلدان والأصل واحد.
قالوا: وأنتم لم تروا الزِّنج الذين هم الزنج قطُّ، وغنما رأيتم السَّبْي يجيء من سواحل قنبلة وغياضها وأوديتها، ومن مهنتنا وسفلتنا وعبيدنا، وليس لأهل قنبلة جمالٌ ولا عقول. وقنبلة: اسم الموضع الذي ترفون منه سفنكم إلى ساحله. لأن الزِّنج ضربان: قنبلة ولنجوية، كما أن العرب ضربان: قحطان وعدنان. وأنتم لم تروا من أهل لنجوية أحداً قطُّ، لا من السواحل ولا من أهل الجوف، ولو رأيتموهم نسيتم الجمال والكمال.
فإن قلتم: وكيف ونحن لم نر زنجياً قط له عقل صبيٍّ أو امرأة؟ قلنا لكم: ومتى رأيتم من سَبْي السند والهند قوماً لهم عقول وعلم وأدب وأخلاق حتى تطلبوا ذلك فيما سقط إليكم من الزنج. وقد تعلمون ما في الهند من الحساب وعلم النجوم وأسرار الطب، والخرط والنجر، والتصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة، فكيف لم يتَّفق لكم مع كثرة ما سبيتم منهم واحدٌ على هذه الصفة، أو بعشْر هذه الصِّفة؟ فإن قلتم: أهل الشرف والعقل والعلم إنما ينزلون الواسطة، وبقرب دار الملك، وهؤلاء حاشيةٌ وأعلاجٌ وأكرة، ونُزَّال السواحل والآجام والفيوض والجزائر، من أكارٍ ومن صياد.
قلنا: وذلك من رأيتم ومن لم تروا منا. وجوابنا هو جوابكم لنا.
قالوا: ولو أن الزِّنجيَّ والزنجيَّة إذا تناكحا بقيت أولادهما بعد الحيض والاحتلام ببلاد العراق، كانوا قد غلبوا على الدَّار بالعدد والجلد، والعلم والتدبير، ولكن ولد الهنديِّ والهنديّة، والروميِّ والروميّة، والخراسانيّ والخراسانيّة، يبقون فيكم وفي بلادكم كبقاء آبائهم وأمهاتهم، ولا يبقى ولد الزِّنجيَّين بعد الحيض والاحتلام. على أنّا لا نصيب في عشرة آلافٍ، واحدٌ يبلغ ما ذكرنا، إلا أن يضرب الزّنجيُّ في غير الزِّنجيات، والزنجيّة في غير الزِّنج. ولولا أن الزّنجي والزّنحيّة قليلاً ما يريدان من الغرائب والغرباء، لكْنَّا على حالٍ سنرى لرجال الزِّنج نسلاً كثيراً. ولكنَّ الزّنجيّة لا تكاد تنشط لغير الزّنجيّ.
قالوا: وكذلك البيضان منكم، لا يكادون ينشطون لطلب النَّسل من الزِّنجيات. والزِّنجية أيضاً من الزِّنجي أسرع لقاحاً منها من الأبيض.
قالوا: وأنتم لا تكادون تعدُّن ممن ولد له من صلبه مائة ولدٍ إلا أن يكون خليفةً، فيكون ذلك لكثرة الطَّروقة، ولا تجدون ذلك في سائركم. والزِّنج لا تستكثر هذا ولا تستعظمه؛ لكثرته في بلادهم، لأن الزّنجية تلد نحواً من خمسين بطناً في نحو خمسين عاما، في كل بطنٍ اثنين، فيكون ذلك أكثر من تسعين. لأنه يقال إن النساء لا يلدن إذا بلغن الستين إلا ما يحكى عن نساء قريشٍ خاصة.
والزّنج أحرص من خلق الله على نسائهم، ونساؤهم لهم كذلك، وهنَّ أطيب من غيرهنّ.
قالوا: فتأملوا قولنا واحتجاجنا؛ فإنا قد روينا الأخبار وقلنا الأشعار، وعرفناكم وعرفنا الأمم.
وقد كان الفرزدق أعلم الناس بالنساء، وكان جرب الأجناس كلها فلم يجد مثلهنّ، ولذلك تزوج أم مكّيّة الزنجية وأقام عليها، وترك النساء، للذي وجد عندها. وفي ذلك قال:
يا رُبَّ خوْدٍ من بنات الزِّنج ... تمشي بتنُّورٍ شديد الوهج
أختم مثل القدح الخلْنج
وكانت دنانير بنت كعبوية الزِّنجي عند أعشى سليم، وكانت شديدة السواد، فرآها يوماً وقد خضبت يديها بالحناء، واكتحلت بالإثمد، فقال:
تخضب كفّاً بتكْتْ من زندها ... فتخضب الحناء من مسودِّها
كأنها والكحل في مرودِّها ... تكحل عينيها ببعض جلدها
فلما سمعت ذلك قالت:
وأقبح من لوني سواد عجانه ... على بشرٍ كالقلب أو هو أنصع
فسمَّوه أسود، وصاح به الصبيان فطلقها. وقد كان صبيحة عرسها قال: إن الدنانير تكون سودا.
فقالت:

بياض الرأس أقبح من سوادي ... وشيب الحاجبين هو الفضوح
فأمسك عنها حيناً ثم عاودها، فلما فضحته طلقها.
قالوا: وإن نظر البضان إلى نساء السودان بغير عين الشهوة فكذلك السودان في نساء البضان. على ان الشهوات عاداتٌ وأكثرها تقليد. من ذلك أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم الهنديات وبنات الهنديات والأغوار. واليمن أشهى النساء عندهم الحبشيات وبنات الحبشيات. وأهل الشام أشهى النساء عندهم الروميات وبنات الروميات. وكل قومٍ فإنما يشتهون جلبهم وسبيهم. إلا الشاذ، وليس الشاذ قياس.
قالوا: وأطيب الأفواه نكهةً، وأشدها عذوبةً، وأكثرها ريقاً، أفواه الزنج. والكلاب من بين السِّباع أطيب أفواهاً منها.
قالوا: والسود ملاومٌ للعين، وإذا اعتلت فخيف عليها لم يكن لها دواءٌ خيرٌ من القعود في الظلمة وفي يد صاحبها خرقةٌ سوداء. فالسواد للإبصار، وخير ما في الإنسان البصر.
وقالوا: والسودان أكثر من البيضان، لأن أكثر ما يعد البيضان فارس والجبال وخراسان، والروم والصقالبة وفرنجة والأبر، وشيئاً بعد ذلك قليلاً غير كثير. والسودان يعدون الزنج والحبشة، وفزان وبربر، والقبط والنوبة، وزغاوة ومرو، والسند والهند، والقمار والدبيلا، والصين وماصين. والبحر أكثر من البر، وجزائر البحر ما بين الصين والزنج مملوءةٌ سوداناً، كسرنديب، وكله، وأمل، وزابج وجزائرها إلى الهند إلى الصين إلى كابل وتلك السواحل.
قالوا: وكان الأعمى الاشتيام يقول: السودان أكثر من البيضان، والصخر أكثر من الوحل، والرمل أكثر من التراب، والماء المالح أكثر من العذب.
قالوا: ومنا العرب لا من البيضان؛ لقرب ألوانهم من ألواننا. والهند أسفر ألواناً من العرب، وهم من السودان. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود " . وقد علم الناس أن العرب ليست بحمر كما ذكرنا قبل هذا.
قال: فهذا المفخر لنا وللعرب على جميع البيضان إن أحبَّتْ ذلك العرب؛ وإن كرهته فإن المفخر لنا بالذي ذكرنا على الجميع.
قالوا: ولو لم نكثركم إلا بالزابج وحدها لفضلناكم بهم فضلاً مبيناً؛ وذلك أن ملك الزابج إن غضب على أهل مملكة ولم يتقوه بالخراج بعث ألف سنبوقة في كل سنبوقة ألف رجل على أن لا يجلدونهم ولا يقاتلونهم، ولكن يأمرهم أن يقيموا أبداً فيهم حتى يتَّقوهم بالخراج، فيكون ما يأكلون ويشربون ويغذون ويلبسون، أضر عليهم من مقدار الخراج المرار الكثيرة. فإن اتقوهم بالخراج وإلا أرسل إليهم ألف سنبوقة أخرى، فلا يجد ذلك الملك بداً من أن يتقيه بكل ما طلب، ولا يأمن أن يغضب فيأتي عليه وعلى أهل مملكته.
قالوا: ولقد نزل ملك الزابج على خليجٍ مرةً والخليج فراسخ في فراسخ، فبينما هو على مائدته وفي سرادقه على شواطئ الخليج، إذ سمع صارخةً فقال: ما هذا؟ وقطع الأكل. قالوا: امرأةٌ سقط ابنها في هذا الخليج فأكله التمساح. قال: وفي مكانٍ أنا فيه شيءٌ يشاركني في قتل الناس! ثم وثب فإذا هو في الخليج. فلما رأوه الناس سقطوا عن آخرهم، فخضخضوه وهو فراسخ في فراسخ، حتى أخذوا تمساحٍ فيه أخذ يدٍ.
فقال: إن أهل الزابج وأغبابها أكثر من شطر أهل الأرض.
قالوا: وآخر العمران كله سودانٌ، وما استدار من أقاصي العمران أكثر من أهل الواسطة، كطوق الرحى الذي يلي الهواء، الذي هو أوسع وأكثر ذرعاً مما قصر عنه من فلك الرحى ولنعتبر ذلك بالجناح المطيف، لا يرى أحد ذرعه مع قلة عرضه، ونجده أكثر ذرعاً من نفس الدار.
وليس خلف الزابج بيضانٌ، وكذلك جميع بلاد السودان الساكنة في الأطراف وفي آخر أطواق العمران.
قالوا: فهذا دليل على أنّا أكثر، وإذا كنّا أكثر كنَّا أفخر. وقد قال شاعركم:
ولست بالأكثر منه حصىً ... وإنما العزّة للكاثر
قالوا: والقبط جنسٌ من السودان وقد طلب منهم خليل الرحمن الولد فولد له منهم نبيٌّ عظيم الشأن، وهو أبو العرب إسماعيل عليه السلام.
وطلب النبيُّ صلى الله عليه وسلم منهم الولد، وولد له إبراهيم، وكنَّاه به جبريل.

قالوا: والحجر الأسود من الجنَّة. والنُّحاس إذا اشتد سواده كان أثمن وأجود. فمن استنكر لون السواد فما في فرنجة والرُّوم والصقالبة من إفراط سبوطة الشعر والرّقّة والصهوبة، والحمرة في شعر الرأس واللِّحية، وبياض الحواجب والأشفار، أقبح وأسمج. وليس في السودان مُغْرَب، ليس المغرب إلا فيكم.ولا سواءٌ من لم تنضجه الأرحام وما جازت به حد التمام.
قالوا: ولنا بعد معرفةٌ بالتفلسف والنظر، ونحن أثقف الناس. ولنا في الأسرار حجة. ونحن نقول: إن الله تعالى لم يجعلنا سوداً تشويهاً بخلقنا، ولكن البلد فعل ذلك بنا. والحجة في ذلك أن في العرب قبائل سوداً كبني سليم بن منصور. وكلُّ من نزل الحَّرة من غير بني سليمٍ كلهم سود. وإنهم ليتخذون المماليك للرعي والسقاء، والمهنة والخدمة، من الأشبانيِّين ومن الروم نسائهم، فما يتوالدون ثلاثة أبطن حتى تنقلهم الحرّة إلى ألوان بني سليم. ولقد بلغ من أمر تلك الحرة أن ظباءها ونعمها، وهوامها وذبابه، وثعالبها وشاءها وحميرها، وخيلها، وطيرها كلها سودٌ. والسواد والبياض إنما من قبل خلقة البلدة، وما طبع الله عليه الماء والتربة، ومن قبل قرب الشمس وبعدها، وشدة حرها ولينها. وليس ذلك منقبل مسخٍ ولا عقوبة، ولا تشويه ولا تقصير.
على أن بلاد بني سليم تجري مجرى بلاد الترك. ومن رأى إبلهم ودوابهم وكل شيءٍ لهم تركيٍّ رآه شيئاً واحداً. وكل شيءٍ لهم تركيُّ المنظر. وربما رأى الغزاة دون العواصم أخلاط غنم الروم فلا يخفى عليهم غنم الروم من غنم الشام، للرُّوميَّة التي يرونها فيها.
وقد نرى الناس أبناء الأعراب والأعرابيات الذين وقعوا إلى خراسان فلا نشك ُّ أنهم علوج القرى. وهذا موجودٌ في كل شيء. وقد نرى جراد البقل والرِّيحان وديدانهما خضراً، ونرى قمل رأس الشاب سوداً، ونراها إذا ابيض رأسه بيضاً، ونراها إذا خُضِبت حمراً.
فليس سوادنا ، معشر الزنج، إلا كسواد بني سليم ومن عددنا عليكم من قبائل العرب في صدر هذا الكلام.
وما إفراط سواد من اسودَّ من الناس إلا كإفراط بياض من ابيض من الناس. وكذلك السمرة المتولدة من بينهما، وكذلك الزِّيّ والهيئات، وكذلك الصناعات، وكذلك المطاعم والشهوات.
وقد ذكر الشاعر، حين مدح أسيلم بن الأحنف الأسديَّ، سواد اليمانية فقال:
أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين تداحى أو لأذنٍ تسمَّع
من النَّفر الشُّمِّ الذين إذا انتموا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
جلاً الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدِّهان رأسه وهو أنزع
إذا النَّفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقوا وأوسعوا
وقد عاب بعض البيضان عبد بني جعدة بلونه، فقال:
قد عاب لوني أقوامٌ فقلت لهم ... ما عاب لوني إلا مفرط الحمق
إن كان لوني فيه دعجةٌ كلفٌ ... حزن الإهاب فإني أبيض الخلق
أرضي الصديق وأحمي الظعن معترضاً ... صدر القناة وأكنى كنه السَّرق
وكانت امرأة عمرو بن شأسٍ تجفو عرار بن عمرو، وكان ابن سوداء، فقال عمرو بن شأسٍ في ذلك، وفي صفة أبناء الحبشيات والزنجيات:
ألم يأتيها أني صحوت وأنني ... تخشعت حتى ما أعارم من عرم
وأطرق إطراق الشُّجاع، ولو يرى ... مساغاً لنابيه الشجاع لقد أزم
أرادت عراراً بالهون ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
وإن عراراً إن يكن غير واضحٍ ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
فإن كنت منِّي أو تحبين شيمتي ... فكوني له كالسمن ربت له الأدم
وإلا فبيني مثل ما بان راكبٌ ... تزود خمساً ليس في سيره أتم

وأما الهند فوجدناهم يقدمون في النجوم والحساب، ولهم الخطُّ الهندي خاصة، ويقدمون في الطبِّ، ولهم أسرار الب وعلاج فاحش الأدواء خاصة. ولهم خرط التماثيل ونحت الصور بالأصباغ تتخذ في المحاريب وأشباه ذلك. ولهم الشطرنج، وهي أشرف لعبةٍ وأكثرها تدبيراً وفطنة. ولهم السيوف القلعية، وهم ألعب الناس بها وأحذقهم ضرباً بها. ولهم الرُّقى النافذة في السموم وفي الأوجاع. ولهم غناءٌ معجب. ولهم الكنكلة، وهي وترٌ واحدٌ يمد على قرعةٍ فيقوم مقام أوتاد العود والصنج. ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة عند الثقاف خاصة، ولهم مغرفة المناصفة، ولهم السحر والتدخين والدمازكية. ولهم خطُّ جامعٌ لحروف اللغات، وخطوطٌ أيضاً كثيرة، ولهم شعرٌ كثير وخطب طوال، وطبٌّ في الفلسفة والأدب. وعنهم أُخذ كتاب كليلة ودمنة. ولهم رأيٌ ونجدةٌ، وليس لأحدٍ من أهل الصبر ما لهم. ولهم من الزِّيّ الحسن والأخلاق المحمودة مثل الأخلَّة والقرن والسواك، والاحتباء، والفرق والخضاب. وفيهم جمال وملحٌ واعتدال وطيب عرق. وإلى نسائهم يضرب الأمثال. ومن عندهم جاءوا الملوك بالعود الهندي الذي لا يعدله عود. ومن عندهم خرج علم الفكر، وما إذا تكلم به على السم لم يضر. وأصل حساب النجوم من عندهم أخذه الناس خاصةً. وآدم عليه السلام إنما هبط من الجنة فصار ببلادهم.
قالوا: ومن مفاخر الزنج حسن الخلق، وجودة الصوت. وإنك لتجد ذلك في القيان إذا كنَّ من بنات السنْد.
وخصلةٌ أخرى: أنه لا يوجد في العبيد أطبخ من السندي، هو أطبع على طيب الطبخ كله.
ومن مفاخرهم أن الصيارفة لا يولون أكيستهم وبيوت صروفهم إلا السند وأولاد السند؛ لأنهم أنفذ في أمور الصرف، وأحفظ وآمن. ولا يكاد أحدٌ أن يجد صاحب كيس صيرفيٍّ ومفاتيحه ابن روميٍّ ولا ابن خراساني.
ولقد بلغ من تبرك التجار بهم أن صيارفة البصرة وبنادرة البربهارات، لما رأوا ما كسب فرجٌ أبو روحٍ السندي لمولاه من المال والأرضين اشترى كل امرئٍ منهم غلاماً سندياً، طمعاً فيما كسب أبو روحٍ لمولاه.
قال: وكان عبد الملك بن مروان يقول: " الأدغم سيد أهل المشرق " يعني عبيد الله بن أبي بكرة. وكان أشد السودان سواداً. وإياه يعني عبد الله بن حازم حيث يقول: حبشيٌّ حبشته حبشة.
فهذا جملة ما حضرنا من مفاخر السودان. وقد قلنا قبل هذا في مفاخر قحطان، وسنقول في فخر عدنان على قحطان في كثير مما قالوا إن شاء الله.
تم كتاب فخر السودان على البيضان.
من تأليف أبي عثمان عمرو بن الجاحظ، بعون الله تعالى وتوفيقه، ومشيئته وتأييده. يتلو إن شاء تعالى رسالة له أيضاً إلى محمد بن عبد الملك في الجد والهزل. والله الموفق للصواب.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا مجمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلامه.


رسالة في الجد والهزل


بسم الله الرحمن الرحيم
جُعلت فداك. ليس من أجل اختياري النخل على الزرع أقصيتني، ولا على ميل إلى الصداقة دون إعطائي الخراج عاقبتني، ولا لبغضي دفع الإتاوة والرضا بالجزية حرمتني.
ولست أدري لم كرهت قربي وهويت بعدي، واستثقلت روحي ونفسي واستطلت عمري وايام مقامي. ولم سرتك سيئتي ومصيبتي وساءتك حسنتي وسلامتي، حتى ساءك تجملي بقدر ما سرَّك جزعي وتضجُّري، وحتى تميت أن أخطئ عليك فتجعل خطئي حجة لك في إبعادي، وكرهت صوابي فيك خوفاً من أن تجعله ذريعةً لك إلى تقربي.
فإن كان ذلك هو الذي أغضبك، وكان هو السبب لموجدتك فليس - جُعلت فداك - هذا الحقد في طبقة هذا الذنب، ولا هذه المطالبة من شكل هذه الجريمة.
ولو كان إذ لم يكن في وزنه وقع قريباً، وإذْ لم يكن عدله وقع مُشبها كان أهون في موضع الضرر، وأسهل في مخرج السماع.
فأي شيءٍ بقيت للعدو المكاشف والمنافق الملاطف، وللمعتمد المصر وللقادر المدل.
ومن عاقب على الصغير بعقوبة الكبير، وعلى الهفوة بعقوبة الإصرار، وعلى الخطأ بعقوبة العمد، وعلى معصية المتستر بعقوبة معصية المعلن، ومن لم يفرق بين الأعالي والأسافل، وبين الأقاصي والأداني، عاقب على الزنى بعقوبة السرق، وعلى القتل بعقوبة القذف. ومن خرج إلى ذلك في باب العقاب خرج إلى مثله في باب الثواب. ومن خرج من جميع الأوزان وخالف جميع التعديل، كان بغاية العقاب أحق، وبه اولى.

والدليل على شدة غيظك وغليان صدرك قوة حركتك وإبطاء فترتك وبعد الغاية في احتيالك. ومن البرهان على ثبات الغضب، وعلى كظم الذنب تمكن الحقد ورسوخ الغيظ، وبعد الوثبة وشدة الصولة.
وهذا البرهان صحيحٌ ما صح النظم، وقام التعديل، واستوت الأسباب ولا أعلم ناراً أبلغ في إحراق أهلها من نار الغيظ، ولا حركةً أنقض لقوة الأبدان من طلب الطوائل مع قلة الهدوء والجهل بمنافع الجمام، وإعطاء الحالات أقسامها من التدبير.
ولا أعلم تجارة أكثر خسراناً ولا أخف ميزاناً من عداوة العاقل العالم، وإطلاق لسان الجليس المداخل، والشعار دون الدثار، والخاص دون العام.
والطالب - جُعلت فداك - بعرض ظفرٍ ما لم يخرج المطلوب، وإليه الخيار ما لم تقع المنازلة. ومن الحزم ألا تخرج إلى العدو إلا ومعك من القوى ما يغمر الفضلة التي ينتجها له الإخراج. ولا بد أيضاً من حزمٍ يحذرك مصارع البغي، ويخوفك ناصر المطلوب.
وبعد - أبقاك الله - فأنت على يقينٍ من موضع ألم الغيظ من نفسك، والغيظ عذاب. ولربما زاد التشفي في الغيظ ولم ينقص منه . ولست على يقين من نفوذ سهمك في صيدك كما أيقنت بموضع الغيظ من صدرك.
والحازم لا يلتمس شفاء غيظه باجتلاب ضعفه، ولا يطفئ نار غضبه تأخر عقوبة من أغضبه، ولا يسدد سهمه إلا والغرض ممكن، والغاية قريبة، ولا يهرب إلا والمهرب معجزة.
إن سلطان الغيظ غشوم، وإن حكم الغضب جائر، وأضعف ما يكون العزم عن التصرف أضعف ما يكون الحزم. والغضب في طباع الشيطان، والهوى يتصور في صورة امرأة، فلا يبصر مساقط العيب ومواقع الشرف إلا كلُّ معتدل الطباع، ومعتدل الأخلاط مستوي الأسباب.
والله لقد كنت أكره لك سرف الرضا مخافة جواذبه إلى سرف الهوى. فما ظنك بسرف الغضب، وبغلبة الغيظ، ولا سيما ممن قد تعود إهمال النفس ولم يعودها الصبر، ولم يعرِّفها موضع الحظ في تجرع مرارة العفو، وأن المراد من الأمور عواقبها لا عواجلها.
ولقد كنت أشفق عليك من إفراط السرور فما ظنك بإفراط الغيظ. وقد قال بعض الناس: لا خير في طول الراحة إذا كان يورث الغفلة، ولا في الكفاية إذا كان يؤدي إلى المعجزة، ولا في كثرة الغنى إذا كان يخرج إلى البلدة.
جُعلت فداك. إن داء الحزن وإن كان قاتلاً فإنه داءٌ مماطل، وسقمه سقم مطاول، ومعه من التمهُّل بقدر قسطه من أناة المرة السوداء. وداء الغيظ سفيهٌ طيَّاش، وعجولٌ فحَّاش، يُعجل عن التوبة، ويقطع دون الوصية، ومعه من الخرق بقدر قسطه من التهاب المرة الحمراء. والعجول يخطئ وإن ظفر، فكيف به إذا أخفق. على أن إخفاقه يزيد في حقيقة خطئه كما أن ظفره لا ينتقص من مقدار زلله. وأنت روحٌ كما أنت وحشيّ من قرنك إلى قدمك. وعمل الآفة في الدِّقاق والعتاق أسرع، وحدها عن الغلاظ الجفاة أكلُّ؛ فلذلك اشتد جزعي لك من سلطان الغيظ وغلبته.
والله لو كنت ابتلعت مزار بابك، وأبطلت بمر الباطل، ووردت الفظائع كلها، ونقضت الشروط بأسرها، وأفسدت نتاجك، وقتلت كل شطر نجيٍّ لك، ورفعت من الدنيا فراهة الخيل، وجعلت المروج كلها حمىً، وكنت صداق المرادين، وبرسام الأولاد، ومسخت جميع الجواري في صورة أبي رملة ورددت شطاط خلقك إلى جُعودة أبي حثَّة وكنت أول من سنَّ بيع الرجال في النخاسين، وفتح باب الظلم لأصحاب المظالم، وحولت إليك عقل أبى دينار، وطبعت على بيان ما نويه، وأعنت على موت المعتصم، وغضبت لمصرع الأفشين، واستجبت للديك الأبيض الأفرق وأحببت صالح بن حنين، وأحوجتك إلى حاتم الريش، وكان أبو الشماخ صديقي، والفارسيّ من شيعتي لكان ما تركبني به سرقا، ولكنت في هذا العتاب متعديا.

جعلت فداك، لا تتعرض لعداوة عقلاء الرواة، ولضغينة حفاظ المثالب، وللسان من قد عرف بالصدق والتوخي، وبقلّه الخطل والتنكب، ما وجدت عن ذلك مندوحة، ووجدت المذهب عنه واسعاً. ولا تعاقب واداً وإن اضطرك الواد، ولا تجعل طول الصحبة سبباً للضجر، واصبر على خلقه خيرٌ من جديد غيره.وصداقة المتطرف غرور، وملالة الصديق أفن، والعلم بأقدار الذنوب غامض، وحدود الذنوب في العقاب خفيّة. ولن يعرف العقاب من يجهل قدر الذّنب. والأجرام كثيرة الأشكال، ومتفاوتة في الأقدار. وإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك من مقدار عقابك عليه فانظر في علته وسببه، وإلى معدنه الذي منه نجم، وعشه الذي منه درج، ومغرسه الذي منه نبت، وإلى جهة صاحبه في التتايع والتترع، وفي النزوع والثبات، وإلى قحته عند التقريع، وإلى حيائه عند التعريض، وإلى فطنته عند الرشق والتورية؛ فإنّ فضل الفطنة ربما دلّ على فرط الاكتراث، وعلى قدر الاكتراث يكون الإقدام والإحجام. فكلُ ذنبٍ كان سببه الدالّة وضيق صدرٍ وغلظ طباعٍ وحدة مرارٍ، من جهة تأويل أو من جهة غلط في المقادير، أو من طريق فرط الأنفة وغلبة طباع الحميّة من بعض الجفوة أو لبعض الأثرة، أو من جهة استحقاقه عند نفسه وفيما زين له من عمله، وأنّه مقصّر به مؤخّر عن مرتبته، أو كان مبلّغاً عنه أو مكذوباً عليه، وكان ذلك جائزاً عليه غير ممتنع فيه فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل وعلى هذه الأسباب، وفي هذه المجاري، فليس يقف عليها كريم، ولا يلتفت لها حليم.
ولست أسميه بكثرة معروفة كريماً حتى يكون عقله غامراً لعلمه، وعلمه غالباً لطبعه، وحتى يكون عالماً بما ترك، وعارفاً بما أخذ. واسم الحليم جامع للكظم، والقدرة، والفهم.
فإذا وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلاّ البغضة فلو لم ترض لصاحبه بعقابٍ دون قعر جهنم لعذرك كثيرٌ من العقلاء، ولصوّب رأيك عالمٌ من الأشراف.
ومتى كانت علته طبيعة البذاء، وخلقه الشرارة والتسرع، فاقتله قتل العقارب، وادمغه دمغ رءوس الحيات.
وإذا كان ممن لا يسيء فيك القول، ولا يرصدك بالمكروه إلاّ لتعطيّه على الخوف، وتمنع عرضك من جهة التقيّة فامنعه جميلَ رفدك، واحتل في منعه من قِبَل غيرك؛ فإنك إن أعطيته على هذه الشريطة، وأعظمته من هذه الحكومة فقد شاركته في سبّ نفسك، واستدعيت الألسنة البذيّة إلى عرضك، وكنت عوناً لهم عليك.
وإذا كان ممن لا يسيء فيك القول، ولا يرصدك بالمكروه إلا لتعطيه على الخوف، وتمنع عرضك من جهة التقيَّة فامنعه جميل رفدك، واحتل في منعه من قبل غيرك؛ فإنك إن أعطيته على هذه الشريطة، وأعظمته من هذه الحكومة فقد شاركته في سبِّ نفسك، واستدعيت الألسنة البذية إلى عرضك، وكنت عوناً لهم عليك.
وكيف تعاقبه على ذنبٍ لك شطره، وأنت فيه قسيمه، إلا أن عليك غرمه ولك غنمه.
ومن العدل المحض والإنصاف الصحيح أن تحطَّ عن الحسود نصف عقابه، وأن تقتصر على بعض مقداره، لأن ألم حسده لك قد كفاك مؤونة شطر غيظك عليه.
وأما المواد فلا تعرض له البتة، ولا تلتفت لفته، ولو أتى على الحرث والنسل، وحتى على الروح والقلب. ولا تغتر بقوله إنيّ وادٌّ، ولا تحكم له بدعواه بأني جدّ وامق. وانظر أنت في حديثه وإلى مخارج لفظه، وإلى لحن قوله، وإلى طريقته وطبيعته، وإلى خلقه وخليقته، وإلى تصرُّفه وتصميمه وإلى توقُّفه وتهوُّره. وتأمل مقدار جزعه من قلة اكتراثه، وانظر إلى غضبه فيك ولك، وإلى انصرافه عمن انصرف عنك وميله إلى من مال إليك، وإلى تسلمه من الشر وتعُّضه له، وإلى مداهنته وكشف قناعه. بل لا تقضِ له بجماع ذلك ما كان ذلك في أيام دولتك ومع إقبالٍ من أمرك، وإن طالت الأيام وكثرت الشهور، حتى تنتظم احالات، وتستوي فيه الأزمان.
نعم، ثم لا تحكم له بذلك حتى تكون حاله مقصورة على محَّبتك، ومحنوة على نصيحتك، بالعلل التي توجب الأفعال. والأسباب التي تسخر القلوب للمودات، كالعلل الثابتة في الصنيعة، والأسباب الموجودة مع مولى العتاقة؛ فإن عللهما خلاف علل مولى الكلالة، وخلاف علل الصديق الذي لم يزل يرى أنه مثلك، وأنه يستوجب منك استيجابك، ولا سيما إذا كانت الصنيعة أنت ابتدأتها، وأنت أبو عذرتها.

فإن أنت لم تحكم له بالغاية مع اجتماع هذه العلل فيه، ومع توافيها إليه، ولم تقضِ له بأقصى الغاية مع ترادف هذه الأسباب وتكامل هذه الدلائل، وتعاون هذه البرهانات، فكل خبرٍ بيَّنة زور، وكل دلالةٍ فاسدة. وقد قال الأول: " دلائل الأمور أشد تثبيتاً من شهادات الرجال " . إلا أن يكون في الخبر دليل، ومع الشهادة برهان؛ لأن الدليل لا يكذب ولا ينافق ولا يزيد ولا يبدِّل، وشهادة الإنسان لا تمتنع من ذلك، وليس معها أمانٌ من فسادٍ ما كان الإمكان قائماً.
وبعد متى صار اختيار النَّخل على الزرع يحقد الإخوان، ومتى صار تفضيل الحبّ وتقريظ الثمر يورث الهجران، ومتى تميزوا هذا التميُّز وتهالكوا هذا التهالك؟ ومتى صار تقديم النخلة ملة، وتفضيل السنبلة نخلة؟ ومتى صار الحكم للنعجة نسباً وللكرْمة صهراً، ومتى تكون فيها ديانة وتستحكم فيها بصيرة، ويحدث عنها حميَّة.
وقد كنا نعجب من حرب البسوس في ضرع نابٍ، ومن حرب بعاثٍ في مخرفٍ تمر، ومن حرب غطفان في سبق دابة. فجئتنا أنت بنوع من العجب أبطل كل عجب، وآنسنا بكل غريب، وحسن عندنا كل قبيح، وقرب عندنا كل بعيد.
فأن جهلت - أعزك الله - غضبك فمثلي جهل ما لا علة له، وإن عجزت عن احتمال عقابك فمثلي ضجَّ مما لا يطيق حمله. ولا عار على جازعٍ إلا فيما يمكن في مثله الصبر، ولا لوم على جاهل فيما لا ينجح في مثله الفكر.
وليس هذا أول شركٍ نصبته، ولا أول كيد أرغته، ولا هي بأول زبية غطيتها وسترتها، وحيلةٍ أكمنتها وربصتها.
وقد كانت التقيَّة والاقتصاد أسلم، بل كان العفو أرحم، والتغافل أكرم.
ولا خير في عقوبة تشمت العدو المتقادم، وينادي بها العدو الحادث. والأناة أبلغ في الحزم، وأبعد من الذم، وأحمد مغبةً وأبعد من خرق العجلة. وقد قال الأول: " عليك بالأناة؛ فإنك على إيقاع ما أنت موقعه أقدر منك على رد ما قد أوقعته " . فقد أخطأ من قال:
وقد يدرك المتانيِّ بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
بل لو قال: والمتأني بدرك حاجاته أحق، والمستعجل بفوت حاجاته أخلق، لكان قد وفى المعنى حقه، وإن كان القول الأول موزوناً والثاني منثوراً. ولولا أنه اشتق المستعجل من العجلة لما قرنه بالمتأني. وينبغي أن يكون الذي غلطه قولهم: " ربَّ عجلة تهب ريثاً " . فجعل الكلام الذي خرج جواباً عند ما يعرض من السبب، كالكلام الذي خرج ارتجالاً، وجعله صاحبه مثلاً عاماً. فإذا سميت العمل عجلةً وريثاً فاقض على الريث بكثرة الفوت، وبقدر ذلك من العجز، وعلى العجلة بقلة النجح، وبقدر ذلك من الخرق.
والريث والأناة في بلوغ الأمل وإدراك النعمة كانتهاز الفرصة واهتبال الغرّة. والأناة وإن طالت فليست من جنس الريث، وانتهاز الفرصة وإن كان في غاية السرعة فليس من جنس العجلة.
وربت كلمة لا توضع إلا على معناها الذي جُعلت حظَّه، وصارت هي حقه والدالَّة عليه دون غيره، كالحزم والعلم، والحلم والرفق، والأناة والمداراة، والقصد والعدل وكالانتهاز والاهتبال، وكاليأس والأمل، وكالخرق والعجلة، والمداهنة والتسرع، والغلو والتقصير.
وربت كلمةٍ تدور مع خُلتَّها، وتتقلب مع جارتها، وعلى قدر ما تقابل من الحالات، وتلاقي من الأسباب، كالحب والبغض، والغضب والرضا، والعزم والإرادة، والإقبال والإدبار، والجدّ والفتور؛ لأن هذا الباب الأخير يكون في الخير والشر، ويكون محموداً ويكون مذموماً.
وصاحب العجلة - أعزك الله - صاحب تغريرٍ ومخاطرة، إن ظفر لم يحمده عالمٌ، وإن لم يظفر قطعته الملاوم. والريث أخو المعجزة، ومقرون بالحسرة، وعلى مدرجة اللائمة. وصاحب الأناة إن ظفر نغع غيره بالغنم، ونفع نفسه بثمرة العلم، وأطاب ذكره دوام شكره، وحفظ فيه ولده. وإن حُرِم فمبسوطٌ عذره، ومصوب رأيه مع انتفاعه بعلمه وما يجد من عزِّ حزمه ونبل صوابه، ومع علمه بالذي له عند العقلاء، وبعذره عند الأولياء والأعداء.
وما عندي لك إلا ما قال الدِّهقان لأسد بن عبد الله وهو على خراسان، حين مر به وهو يدهق في حبسه: إن كنت تعطى من ترحم فارحم من تظلم. إن السموات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا جُنَّةٌ إلا الثقة بنزول الغير، ولا سلاحٌ إلا الابتهال إلى المولى لا يعجزه شيء.

يا أسد، إن البغي يصرع أهله، وإن الظلم مرتعه وخيم، فلا تغترّ بإبطاء العقاب من ناصرٍ متى شاء أن يغيث أغاث. وقد أملى لقومٍ كي يزدادوا إثماً. وجميع أهل السعادة إما سالمٌ من ذنب، وإما تاركٌ إصرار. ومن رغب عن التمادي فقد نال أحد المغنمين، ومن خرج من السعادة فلا غاية له إلا دار الندوة. وسواءٌ - جُعلت فداك - ظلمت بالبطش والغشم، أو ظلمت بالدَّحس والدَّسّ. فشاور لبك، وناظر حزمك، وقف قبل الوثبة، واحذر زلة العالم.
وقد قال صاحبكم: من استشار الملالة وقلد طبيعته الاستطراف، وجعل الخطوة ذنبا، والذنب ذنوباً، ومقدار الطَّرفة إصراراً، والصَّغير كبيرا، والقليل كثيرا، عاقب على المتروك الذي لا يُعبأ به، وبلغ بالبطش إلى حيث لا بقيَّة معه، ورأى أن القطيعة التي لا صلة معها، والتخليج الذي لا تجمُّل معه، الحزم المحمود؛ وأن الاعتزام في كل موضعٍ هو الرأي الأصيل.
وقال أيضاً: من كانت طبيعته مأمونة عليه عند نفسه، وكان هواه رائده الذي لا يكذبه، والمتأمِّر عليه دون عقله، ولم يتوكل لما لا يهواه على ما يهواه، ولم ينصر تالد الإخوان على الطارف، ولم ينصف المملول المبعد من المستطرف المقرِّب، ولم يخف أن تجتذبه العادة، وتتحكم عليه الطبيعة، فليرسم حججهما، ويصور صورهما، في كتابٍ مفرد أو لفظ مسموع، ثم يعرضهما على جهابذة المعاني وأطباء أدواء العقول، على ألا يختار إلا من لا يدري أيَّ النوعين يبغي، وعلى أيهما يحامي، وأيهما دواؤه وأيهما داؤه. فإن لم يستعمل ذلك بما فضل له من سكر سوء العادة، لم يزل متورِّطاً في الخطاء مغموراً بالذمّ.
سمعتك وأنت تريدني وكأنك تريد غيري، وكأنك تشير على من غير أن تنصَّني. وتقول: إني لأعجب ممن ترك دفاتر علمه متفرقة مبثوثة، وكراريس درسه غير مجموعة ولا منظومة، كيف يعرضها للتجرُّم، وكيف لا يمنعها من التفرُّق. وعلى أن الدفاتر إذا انقطعت حزامته، وانحل شداده، وتخرَّمت ربطه، ولم يكن دونه وقاية ولا جُنَّة، تفرق ورقه؛ وإذا تفرق ورقه اشتد جمعه، وعسر نظمه، وامتنع تأليفه، وربما ضاع أكثره. والدَّفّتان أجمع وضمُّ الجلود إليها أصون، والحزم لها أصلح. وينبغي للأشكال أن تُنظم وللأشباه أن تؤلَّف؛ فإن التأليف يزيد الأجزاء الحسنة حسنا، والاجتماع يحدث للمتساوي في الضعف قوة. فإذا فعلت ذلك صرت متى وجدت بعضها فقد وجدت كلها، ومتى رأيت أدناها فقد رأيت أقصاها؛ فإن نشطت لقراءة جميعها مضيت فيها.
وإذا كانت منظومةً، ومعروفة المواضع معلومة، لم تحتج إلى تقليب القماطر على كثرتها، ولا تفتيش الصناديق مع تفاوت مواضعها، وخفت عليك مؤونتها وقلت فكرتك فيها، وصرفت تلك العناية إلى بعض أمرك، وادخرت تلك القوة لنوائب غدك.
وعلى أن ذلك أدل على حبّك للعلم، واصطناعك للكتب، وعلى حسن السياسة، والتقدم في إحكام الصناعة.
وقلت: لأمرٍ ما جمعوا أسباع القرآن وسوره في مصحف، ولم يدعوا ما فيه مفرَّقاً في الصدور، ولا مبدّداً في الدفاتر، ومفرَّقاً في القماطر. على ذلك أجمع المسلمون، والسابقون الأولون، والأئمة الرشيدة، والجماعة المحمودة، فتوارثه خلفٌ عن سلف، وتابعٌ عن سابق، وصغير عن كبير، وحديثٌ عن قديم.
ولم أشك في أنها نصيحة حازم، ومشورة وامق، أو رأيٌ حضر أو حكمة نبغت، أو صدرٌ جاش فلم يُملك، أو علمٌ فاض فلم يُرد، استعمله من استعمله، وتركه من تركه.
فلما أخذت بقولك، وصرت إلى مشورتك وأكثرت حمد الله على إفادتك من العلم وحظِّ عنايتك من النَّقْل، وجمعت البعض إلى البعض، والشكل إلى الشكل، وتقدمت في استجادة الجلود، وفي تمييز الصناع، وفي تخيُّر البياعات، وغرمت المال، وشغلت البال، وجعلتها مصحفاً مصحفا، وأجملتها صنفاً صنفا؛ ورأيت أنيِّ قد أحكمت شأني، وجمعت إلى أقطاري، ورأيت أن أنظر فيها وأنا متسلقٍ ولا أنظر فيها وأنا منتصبٌ، استظهاراً على تعب البدن؛ إذ كانت الأسافل مثقلة بالأعالي، وإذ كان الانتصاب يسرع في إدخال الوهن على الأصلاب؛ ولأن ذلك أبقى على نور البصر، وأصلح لقوة الناظر؛ إذ كل واحدٍ من هذه المصاحف قد أعجز يدي بثقل جرمه، وضيق صدري بجفاء حجمه. وإذا ثقل أنكأ الصدر، وأوهن العظم.
وإذا أنا نظرت فيها وانا جالسٌ سدرت عيني، وتقوس ظهري، واجتمع الدم في وجهي، وأكرهت بصري على غير جهته، وأجريت شعاع ناظري في غير مجراه.

وقد علمت - أبقاك الله - مع خبرتك بمقابح الأمور، ومواقع المنافع والمضار، ثم بمصالح العباد والبلاد، أنّ من كان على مقطع جبل، أو على شرفات قصر، فأراد رؤية السماء على بعدها، وجد ذلك على العين سهلا خفيفاً، وإن أراد أن يرى الأرض على قربها، وجد ذلك على العين عبئاً ثقيلاً. فإن بدا لي أن يقابل عيني به العبد، أو تواجهني به الأمة، كلفت أخرق الناس كفّاً، وأقلهم وفقاً، وأكثرهم التفاتا، واحضرهم نعاسا، وأقلهم على حالٍ واحدة ثباتاً، وأجهلهم بمقدار الموافقة، ولمقادير المقابلة، وبحطِّ اليد ورفعها، وإمالتها ونصبها. ثم رأيت في تضجُّرهم وتكرههم وفرارهم منه،ما صيَّر تجشُّمي لثقل وزنه، ومقاساتي لجفاء حجمه، أهون على يدي، وأخف على قلبي. فإن تعاطيته عند ذلك بنفسي فشقاءٌ حاضر، وإن ألزمته غيري فغيظٌ قاتل. وحتى صارت الحال فيها داعيةً إلى ترك درسها والمعاودة لقراءتها، مع ما كان فيها من الفائدة الحسنة، والمنافع الجامعة، ومن شحذ الطبيعة، وتمكين حسن العادة.
ولو لم يكن في ذلك إلا الشغل عن خوض الخائضين، والبعد عن لهو اللاهين، ومن الغيبة للناس والتمنِّي لما في أيديهم، لقد كان نفع ذلك كثيراً، وموقعه من الدِّين والفرض عظيما.
ومتى ثقل الدرس تثاقلت النفس، وتقاعست الطبيعة. ومتى دام الاستثقال أحدث الهجران. وإذا تطاول الكدّ رسخ الزُّهد. وفي ترك النَّظر عمي البصر، وفي إهمال الطبيعة كلال حد الطبيعة. وعلى قدر الحاجات تكون الخواطر، كما أنه على قدر غريزة العقل تصحُّ الحوائج وتسقم، وعلى قدر كثرة الحاجة تتحرك الجارحة ويتصرف اللسان، ومع قلة الحركة وبعد العهد بالتصرُّف يحدث العي ويظهر العجز ويبطئ الخاطر. ومع ذهاب البيان يفسد البرهان، وفي فساد البرهان هلاك الدنيا وفساد الدِّين.
فقد بلغت ما أردت، ونلت ما حاولت. فحسبك الآن من شج من يأسوك، ومن قتْل من يُقتل فيك.
جُعلت فداك. إنه ليس يومي منك بواحد، وأنا على عقابك أوجد. وليس ينجيني منك معقل وعل، ولا مفازة سبع، ولا قعر بحر، ولا رأس طود، ولا دغل ولادحل، ولانفقٌ ولا مغارة ولا مطمورة. وليس ينجيني منك إلا مفازة المهلَّب. فإن أعرتني قلبه وعلمتني حيلته، وأمكنتني من سكينه. وإلا فأنا أول من ابتلعته تلك الحيّة. ولا والله إن بي قوةٌ على الثعبان، فكيف التِّنِّين. أعفني من حيّة المهلب ثم اقتلني أي قتلةٍ شئت.
إن احترست منك ألفيت لنفسي كدّاً شديداً، وغمّاً طويلاً، وطال اغترابي وافتراق ألافي، وتعرَّضت للعدو، وتحرَّشت بالسباع. فإن استرسلت إليك لم تر أن تقتلني إلا شرَّ قتلةٍ وآلمها، ولم تعذِّبني إلا بأشد النقم وأطولها. ولو أردت ذبحي لاخترت الكليل على المرهف، والتطويل على التذفيف، حتى كأني علمت عليك: " شاه مات " ، أو أكلت سبعةً وأطعمتك واحدة.
ولقد تقدمت في المكر واستظهرت عليَّ في الكيد، حتى توليت ذلك في صغار كتبي وفيما لا تحفل به من دوام أمري، وعلمت أن الدَّرس لليل وأن الا......للنهار، وأن الكتاب لايقرأ إلا ليلاً والنيران زاهرة، والمصابيح مُقرَّبة. وعلمت أن كل من ضعف بصره وكلَّ نظره، فإنه أبداً أقرب مصباحاً واعظم ناراً. وأن المحرور المحترق، والممرور الملتهب، والبائس المتهافت، إذا كان صاحب كتب ودرس، أنه لا يجد بدّاً من الصبر على ما يُحرقه ويعميه، أو الترك للقراءة فيها والتعرُّض لها. فخيّرتني بين العمي والجهل. وما فيهما حظٌّ لمختار.
وقلت: إذا سخن بدنه سُجِن بوله، وإذا سُجِن بوله جرح مثانته وأحرق كليته، وطبخ فضول غذائه، وجفف ما فضل عن استمرائه فأحاله حصىً قاتلاً وصخراً جامداً، وهو دقيق القضيب ضيق الإحليل، فإذا حصاه يورثه الأسر، وفي ذلك الأسر تلف النفس أو غاية التعذيب.
وقلت: فإن ابتليت بطول عمره أقام فينا مشغولاً بنفسه، وإن ذهب عنّا فقد كفانا مؤونة الحيلة في أمره.
جعلت فداك، ما هذا الاستقصاء وما هذا البلاء؟! وما هذا التتبّع لغوامض المسألة، والتعرّض لدقائق المكروه؟! وما هذا التغلغل في كل شيءٍ يخمل ذكرى؟! وما هذا الترقّي إلى كلِّ ما يحطُّ من قدريّ؟! وما عليك أن تكون كتبي كلها من الورق الصينيّ، ومن الكاغد الخرسانيّ؟!

قل لي: لمَ زينت النسخ في الجلود، ولمَ حثثتني على الأدم، وأنت تعلم أنَّ الجلود جافية الحجم، ثقيلة الوزن، إن أصابها الماء بطلت، وإن كان يوم لثقٍ استرخت. ولو لم يكن فيها إلاَّ أنها تبغّض إلى أربابها نزول الغيث، وتكرَّه إلى مالكيها الحيا، لكان في ذلك ما كفى ومنع منها.
قد علمت أن الورّاق لا يخطُّ في تلك الأيام سطرا، ولا يقطع فيها جلدا. وإن نديت - فضلاً على أن تمطر، وفضلاً على أن تغرق - استرسلت فامتدت. ومتى جفت لم تعد إلى حالها إلاّ مع تقبُّض شديد، وتشنج قبيح. وهي أنتن ريحاً وأكثر ثمناً، وأحمل للغش: يغش الكوفيّ بالواسطيّ، والواسطيّ بالبصريّ، وتعتق لكي يذهب ريحها وينجاب شعرها. وهي أكثر عقداً وعجراً، وأكثر خباطاً وأسقاطاً، والصفرة إليها أسرع، وسرعة انسحاق الخطِّ فيها أعمّ. ولو أراد صاحب علم أن يحمل منها قدر ما يكفيه في سفره لما كفاه حمل بعير. ولو أراد مثل ذلك من القطنىّ لكفاه ما يحمل مع زاده.
وقلت لي: عليك بها فإنها أحمل للحكِّ والتغيير، وأبقى على تعامر العارية وعلى تقليب الأيدي، ولريدها ثمن، ولطرسها مرجوع، والمعاد منها ينوب عن الجدد. وليس لدفاتر القطنيّ أثمانٌ في السوق وإن كان فيها كلًّ حديث طريف، ولطفٍ مليح، وعلم نفيس. ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلوداً ثم كان فيها كلُّ شعر بارد وكلُّ حديث غثّ، لكانت أثمن، ولكانوا عليها أسرع.
وقات: وعلى الجلود يعتمد في حساب الدواوين، وفي الصّكاك والعهود، وفي الشروط وصور العقارات. وفيها تكون نموذجات النقوش، ومنها تكون خرائط البرد. وهنَّ أصلح للجرب ولعفاص الجرَّة وسداد القارورة. وزعمَّت أنَّ الأرضة إلى الكاغد أسرع، وأنكرت أن تكون الفأرة إلى الجلود أسرع، بل زعمت أنها إلى الكاغد أسرع وله أفسد، فكنت سبب المضرة في اتخاذ الجلود والاستبدال بالكاغد، وكنت سبب البليّة في تحويل الدفاتر الخفاف في المحمل، إلى المصاحف التي تثقل الأيدي وتحطّم الصدور، زتقوّس الظهور، وتعمي الأبصار.
وقد كان في الواجب أن يدع الناس اسم المصحف للشيء الذي جمع القرآن دون كل مجلّد، وألاَّ يرموا جمع شيءٍ من أبواب التعلّم بين الدّفَّتين، فيلحقوا بما جعله السلف للقرآن غير ذلك من العلوم.
دع عنك كلَّ شيء. ما كان عليك أن يكون لي ولدٌ يحيي ذكرى ويحوى ميراثي، ولا أخرج من الدنيا بحسرتي، ولا يأكله مراءٍ يرصدني، وابن عمٍّ يحسدني، ولا يرتع فيه المعدلون في زمان السوء، ولا تصطنع فيه الرجال، ويقضي به الذِّمام. فقد رأيت صنيعهم في مال المفقود والمناسخة والوارث الضعيف، ومن مات بغير وصية.
جُعلت فداك، إن النفوس لا تجود لمولى الكلالة بما تجود به لأولاد الأصلاب وما مسَّ تلك الأصلاب؛ لأن الرحم الماسَّة والقرابة الملتصقة، واللُّحمة الملتحمة، وإن أمَّلت التركة ونازعت إلى المورِّث، فمعها ما يأطرها ويثنيها، ويحزنها ويبكيها، ويحرِّك دمها ويستغرز دمعها. وقد يشفع للولد إلى أبيه حالٌ أبية كانت من أبيه.
وابن العم الذي ليس بالبعيد فيحُتَّك من جسده، وليس بالقريب المحنوّ على رحمه، وسببه الجاذب له إلى تمِّي مماتي أمتن من سببه إلى تمنِّي بقائي، وهو إلى الحال الموجبة للقسوة والغلظة أقرب منه إلى الحال الموجبة للرقة والعطف. وليس ينصرك إذا نصرك ولا يحامي عليك لقرابته منك، ولكن لعلمه بأنه متى خذلك حلَّ به ضعفك، واجترأ بعد ضعفك عليه عدوُّه. فهو يريد بنصره من لا يجب عليه شكره، ويقوي ضعف غيره بدفع الضعف عن نفسه.
جُعلت فداك. ما كان عليك من بُنيِّ صغير يكون لي، ولا سيما ولست عندك ممن يدرك كسبه أو تبلغ نصرته، أو يعاين بره أو يؤمل إمتناعه.
وما كان عليك مع كبر سني وضعف ركني، أن يكون لي ريحانةً أشمُّها وثمرةً أضمُّها، وأن أجد إلى الأماني به سبباً، وإلى التلهي سلما، وأن تكثر لي من جنس سرور الحالم، وبقدر مايمتَّع به راجيالسَّراب اللامع، حتَّى حببت قصر عمري إلى وليِّي، وشوقته إلى ابن عمِّي؛ وحتى ذدت فيما عنده مع كثرة ما عنده، وحتى صيّرني حبُّه لموتي إلى حبِّ موته، وتأميل مالي إلى تأميل فقره؛ وحتى شغلتني عمن كان يشغل عدوي عني.
وسواءٌ أعبت على ألا يكون لي ولدٌ قبل أن يكون، أو عبت على ألا يكون بعد أن كان. وإنما يعذب الله على النيّة والقصد، وعلى التوخي والعمد.

وكما أنه سواء أن تحتال في ألا يكون لي مالٌ قبل أن أملكه. أو احتلت في ألا يكون بعد أن ملكته.
وكنت لا أدري ما كان وجه حبك لإعناتي، والتشييد بذكر تراثي، والتنويه باسمي، ولا لم زهدتني في طلب الولد، ورغّبتني في سيرة الرهبان.
فإذا أنت لم ترفع ذكري في الأغنياء إلا لتعرض ذنبي للفقراء، ولم تكثر مالي إلا لتقوِّي العلة في قتلي، فيالها مكيدة ما أبعد غورها، ويالها حفرةً ما أبعد قعرها. لقد جمع هذا التدبير لطافة الشخص ودقة المسلك، وبُعد الغاية.
والله لو دبّرها الإسكندر على دارا بن دارا، أو استخرجها المهلَّب على سفيان بن الأبرد، وفتحت على هرثمة في مكيدة خازم بن خزيمة، ولو دبَّرها لقيم بن لقمان على لقمان بن عاد، ولو أراغها قيس بن زهير على حصن بن حذيقة، ولو توجهت لكهَّان بني أسد على دُهاة قريش لقد كان ذلك من تدبيرهم نادراً بديعاً، ولكان في مكايدهم شاذّاً غريباً. وإنها لترتفع عن قصيرٍ في كيد الزباء، وعن جذيمة في مشاورة قصير. وما إخالها إلا ستدقُّ على ابن العاص، وتغمض على ابن هند، ويكل عنها أخو ثقيف، ويستسلم لها ابن سمية.
هذا والله التدبير لا مخاريق العرَّاف، وتزاويق الكاهن، وتهاويل الحاوي، ولا ما ينتحلها صاحب الرَّئيّ؛ بل تضلُّ فيها رُقي الهند، وتقرُّ بها سحرة بابل.
فلو كنت إذ أردت ما أردت، وحاولت ما حاولت، رفعت قبل كل شيءٍ المؤانسة، ثم أبيت المؤاكلة، ثم قطعت البر، ثم أذنت مع العامة، ثم أعملت الحرمان، ثم صرحت بالجفوة، ثم أمرت بالحجاب، ثم صرمت الحبل، ثم عاديت واقتصدت، ثم من بعد ذلك كله أسرفت واعتديت، لكنت واحداً ممن يصبر أو يجزع، فلعلي كنت أعيش بالرفق، وأتبلغ بحشاشة النفس، وأعلل نفسي بالطمع الكاذب. ولكن فجاءات الحوادث وبغتات البلاء لا يقوم لها الحجر القاسي، ولا الجبل الراسي. فلم تدع غايةً في صرف ما بين طبقات التعذيب إلا أتيت عليها، ولا فضول ما بين قواصم الظهر إلا بلغتها. فقد متُّ الآن فمع من تعيش؟ بل قد قتلتني فمن الآن تعاشر!، كما قال ديوست المغنِّي لكسرى حين أمر بقتله لقتله تلميذه بلهبذ: قتلت أنا بلهبذ، وتقتلني، فمن يطربك؟ قال: خلُّوا سبيله؛ فإن الذي بقي من عمره هو الذي أنطقه بهذه الحجة.
ولكني أقول: قد قتلتني فمع من تعيش؟ أمع الشطر نجيِّين؟! فقد قال جالينوس: إياك والاستمتاع بشيء لا يعمُّ نفعه.
إن الكلام إنما صار أفضل من الصمت؛ لأن نفع الصمت لا يكاد يعدو الصَّامت، ونفع الكلام يعمُّ القائل والسامع، والغائب والشاهد، والراهن والغابر.
وقالوا: ومما يدل من فضل الكلام على الصمت، أنك بالكلام تخبر عن الصمت وفضله، ولا تخبر بالصمت عن فضل الكلام. ولو كان الصمت أفضل لكانت الرسالة صمتاً، ولكان عدم القرآن أفضل من القرآن.
وقد فرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضَّل وميَّز وحصَّل، حيث قال: " رحم الله امرأً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم " . فجعل حظَّ السكوت السلامة وحدها، وجعل حظَّ القول الجمع بين الغنيمة والسلامة. وقد يسلم من لا يغنم، ولا يغنم إلا من سلم.
فأما الدواب فمن يضع المركب الكريم إلى الصاحب الكريم؟ ومن يعدل إمتناع بهيمة بإمتناع أديب.
قالت ابنة النعمان: لم نر فيما جربنا من جميع الأصناف أبلغ في خير وشرٍّ من صاحب.
ولما عزم ابن زياد على الحُقنة بعد أن كان تفحشها قال له حارثة بن بدر: ما أجد أولى بتولي ذلك من الطبيب. قال عبيد الله: كلا، فأين الصاحب.
والله أن لو نتجت في كل عام ألف شبديز، وأحبلت في كل ليلة أربعة آلاف ربرب، وصار لك كل نهر المبارك بدلاً من بعض بابك.وأكلت رأس الجنيد بن حاق الأشيم، وأحبلت ابن ألغز من إفراط الشبق، لما كان ينبغي لك أن تعاملنا بهذه المعاملة، ولا كان ينبغي أن تقتلنا هذه القتلة، ولو اقتصرت من العقوبة على شيء دون شيء لكان أعدل، ولو عفوت البتة لكان أمثل.
إنَّ الاعتزام على قليل العقاب يدعو إلى كثيره، ومبتدئ العقاب بعرض لجاج. وليس يعاقب إلا غضبان.
والغضب يغلب العزم على قدر ما مكن، ويحيّر اللب بقدر ما سُلِّط.
والغضب يصوّر لصاحبه مثل ما يصوّر السكر لأهله.

والغضبان يشعله الغضب، ويغلي به الغيظ، وتستفرغه الحركة، ويمتلئ بدنه رعدة، وتتزايل أخلاطه، وتنحل عقده، ولا يعتريه من الخواطر إلا ما يزيده في دائه، ولا يسمع من جليسه إلا ما يكون مادةً لفساده. وعلى أنَّه ربَّما استفرغ حتى لا يسمع، واحترق حتى لا يفهم.
ولولا أنَّ الشيطان يريد ألا يخلو من عمله، ولا يقصِّر في عادته، لما وسوس إلى غضبان ولا زيَّن له، ولما فتح عليه؛ إذ كان قد كفاه، وبلغ أقصى مناه.
وليس يصارع الغضب أيام شبابه وغرب نابه شيءٌ إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيءٌ إلا قهره. وإنما يحتال له قبل هيجه، ويتوثق منه قبل حركته، ويتقدم في حسم أسبابه وفي قطع علله. فإمَّا إذا تمكن واستفحل، وأذكى ناره واشعل، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعاً وطاعة، فلو سعطته بالتوراة، ووجرته بالإنجيل، ولددته بالزبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم عليه السلام شفيعاً لما قصَّر دون أقصى قوَّته، ولتمنى أن يعار أضعاف قدرته.
وقد جاء في الأثر: أن أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب.
قال قتادة: ليس يُسكن الغضب إلا ذكر غضب الرحمن عز وجلّ.
وقال عمرو بن عبيد: ذكر غضب الرب يمنع من الغضب. إلا أن يريد الذكر باللسان.
ويسمىالمتوجِّد غضبان، والذكور حقودا.
فلا تقف - حفظك الله - بعد مضيِّك في عقابي التماساً للعفو عني، ولا تقصِّر عن إفراطك من طريق الرحمة لي؛ ولكن قف وقفة من يتَّهم الغضب على عقله، والشيطان على دينه، ويعلم أن للعقل خصوماً، وللكرم أعداء.
وإنَّ من النِّصف أن تنتصف لعقللك من خصومه، وتنتصف لكرنك من عدوه،وتمسك إمساك من لا يبرئ نفسه من الهوى، ولا يبرئ الهوى من الخطأ.
ولا تنكر لنفسك أن تزلّ، ولعقلك أن يهفو؛ فقد زلّ آدم عليه اللام وهفا، وعصى ربَّه وغوى، وغرّهُ عدوُّه وخدعه خصمه، وعيب باختلال عزمه وسكون قلبه إلى خلاف ثقته. هذا وقد خلقه الله بيده، وأسكنه في دار أمنه، وأسجد له ملائكته، ورفع فوق العالمين درجته، وعلَّمه جميع الأسماء بجميع المعاني. ولا يجوز أن يعلِّمه الاسم ويدع المعنى، ويعلِّمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه. والاسم بلا معنىً لغوٌ، كالظَّرف الخالي. والأسماء في معنى الأبدان والمعاني في معنى الأرواح. اللفظ للمعنى بدنٌ، والمعنى للَّفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معانٍ كمن وهب شيئاً جامداً لا حركة له، وشيئاً لا حس فيه، وشيئاً لا منفعة عنده.
ولا يكون اللفظ اسماً إلا وهو مضمَّن بمعنى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسمٌ إلا وله معنىً.
في قوله جلّ ذكره: " وعَلَّمَ آدم الأسماء كلها " إخبارٌ أنه قد علَّمه المعاني كلها. ولسنا نعني معاني تراكيب الألوان والطُّعوم والأراييح، وتضاعيف الأعداء التي لا تنتهي ولا تتناهى. وليس لما فضل عن مقدار المصلحة ونهاية الرسم اسمٌ إلا أن تدخله في باب العلم فتقول: شيء، ومعنىً.
الأسماء التي تدور بين الناس إنما وُضعتْ علاماتٍ لخصائص الحالات، لا لنتائج التركيبات. وكذلك خاصّ الخاصّ لا اسم له إلا أن تجعل الإشارة المقرونة باللفظ اسماً.
وإنما تقع الأسماء على العلوم المقصورة، ولعمري إنها لتُحيط بها وتشتمل. فأما العلوم المبسوطة فإنها تبلغ مبالغ الحاجات ثم تنتهي.
فإذا زعمت أن الله تبارك وتعالى علم آدم الأسماء كلها بمعانيها، فإنما تعني نهاية المصلحة لا غير ذلك. هذا وآدم هو الشجرة وأنت ثمرة، وهو سماويٌّ وأنت أرضيّ، وهو الأصل وأنت الفرع، والأصل أحقُّ بالقوة والفرع أولى بالضَّعف.
فلست أسألك أن تمسك إلا ريثما تسكن إليك نفسك، ويرتدُّ إليك ذهنك،وحتى توازن بين شفاء الغيظ والانتفاع بثواب العفو، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة، وترى تضرُّم الغضب وما يفضي لأهله من فضل القوة.
على أن العقل إذا تخلَّص من سُكر الغضب أصابه ما يُصيب المخمور إذا خرج من سكر شرابه، والنهزم إذا عاد إلى أهله، والمبرسم إذا أفاق من برسامه.

وما أشك أن العقل حين يُطلق من إساره كالمقيَّد حين يفكُّ من قيوده؛ يمشي كالنزَّيف، ويحجل كالغراب. فإذا وجب عليك أن تحذر على عقلك مُخامَرة داء الغضب بعد تخلُّصه، وأن تتعمَّده بالعلاج بعد مباينته له وتخلُّصه من يده، فما ظنك به وهو أسيرٌ في مُلكه، وصريع تحت كلكله، وقد غطَّه في بحره، وغمره بفضل قوته.
وقد زعموا أن الحسن حضر أميراً قد أفرط في عقوبة بعض المذْنبين، فكلَّمه فلم يحفل بكلامه، وخوّفه فلم يتّعظ بزجره، فقال: إنك إنما تضرب نفسك، فإن شءت الآن فأقلَّ، وإن شئت فأكثر.
ومعاذ الله أن أقول لك كما قال الحسن لذلك الظالم المعتدي، والمصمِّم القاسي، ولكني أقول:اعلم أنك تضرب من قد جعلك من قتله في حِلٍّ. وإن كان القتل يحلّ بإحلال المقتول، ويسقط عنه عقابه بهبة المظلوم؛ ولو أمكن في الدين تواهب قصاص الآخرة في الدُّنيا؛ وإن كان ذلك مما تجود به النفس يوم الحاجة إلى الثواب وإلى رفع العقاب، وكان الوفاء مضموناً لكنت أول من أسمحتْ بذلك نفسه، وانشرح به صدره.
جُعلت فداك، إنِّي قد أحصيت جميع أسباب التعادي، وحصَّلت جميع علل التضاغن، إلا علَّة عداوة الشيطان للإنسان؛ فإني لا أعرف إلا مجازّها في الجملة ولا أحقُّ خاصتها على التحصيل. وعلى حالٍ فقد عرفتها من طريق الجملة وإن جهلتها من طريق التفصيل. فأما هذا التجنِّي فلم أعرفه في خاصٍّ ولا عامّ.
فمن أسباب العداوات تنافس الجيران والقرابات، وتحاسد الأشكال في الصناعات. ومن أمتن أسبابهم إلى الشر وأسرعها إلى المروءة والعقل، وأقدحها في العرض وأحبطها على الدين، التشاحُّ على المواريث، والتنازع في تخوم الأرضين. فإن اتفَّق أن يكون بين المتشاكلين في القرابة كان السبب أقوى، والداء أدوى. وعلى حساب ذلك إن جمعت هذه الخصومة مع الجوار والقرابة واستواء الحظّ في الصناعة. ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى قضاته: أن ردوا القرابات عن حرا القضاء فإن ذلك يورث التضاغن. ولم أعجب من دوام ظلمك، وثباتك على غضبك، وغلظ قلبك، ودورنا بالعسكر متجاورة، ومنازلنا بمدينة السلام متقابلة، ونحن ننظر في علمٍ واحد، ونرجع في النحلة إلى مذهب واحد؛ ولكن اشتدَّ عجبي منك اليوم وأنا بفرْغانة وأنت بالأندلس، وأنا صاحب كلام وأنت صاحب نتاج، وصناعتك جودة الخطّ وصناعتي جودة المحو، وأنت كاتبٌ وأنا أمّيّ، وأنت خراجيٌّ وأنا عُشريّ، وأنت زرعيٌّ وأنا نخليّ. فلو كنت إذ كنت من بكر كنت من تميم، كان ذلك إلى العداوة سبباً، وإلى المنافسة سُلَّماً.
أنت أبقاك الله شاعر وأنا راوية، وأنت طويلٌ وأنا قصير، وأنت أصلع وأنا أنزع، وأنت صاحب براذين وأنا صاحب حمير، وأنت ركبنٌ وأنا عجول، وأنت تدبّر لنفسك وتُقيم أود غيرك، وتتسع لجميع الرعية، وتبلغ بتدبيرك أقصى الأمة، وأنا أعجز عن نفسي وعن تدبير أمتي وعبدي. وأنت منعم وأنا شاكر، وأنت ملك وأنا سُوقة، وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت تفّعل وأنا أصف، وأنت مقدَّم وأنا تابع، وأنت إذا نازعت الرجال وناهضت الأكفاء لم تقل بعد فراغك وانقطاع كلامك: لو كنت قلت كذا كان أجود، ولو تركت قول كذا لكان أحسن؛ وأمضيت الأمور على حقائقها، وسلمت إليها أقساطها على مقادير حقوقها؛ فلم تندم بعد قول، ولم تأسف بعد سكوت. وأنا إن تكلمت ندمت، وإن جاريت أبدعت ورأيي كله دبري. وأنت تُعدُّ في الشطرنج زبرب، وأنا في الشطرنج لا أحد.
وما أعرف هاهنا اجتماعاً على مشاكلة إلا في الإيثار بخبر الخُشْكار على الحُوَّاري، والباقلَّي على الجوزينج، وأنا جميعاً ندَّعي الهندسة. فقد بلغ الآن من جُرمي في مساواتك في خبز الخُشكار، وإيثاري الباقلَّي، والمعرفة بتقدير المدن وإجراء القُنى، أن أُنفى من جميع الأرض، وأن تجعل في دمي الجعائل؛ فإني قد هجرت الخُبز البتَّة إلى مواصلة التَّمر، ونزلت الوبر بدلاً من المدر.

دعنا الآن فإنك فارغ. إن الله يعلم - وكفى به عليماً، وكفى به شهيداً، وكفى به حفيظاً ووكيلاً، وكفى بجرأة من يعلِّمه ما لا يعلم جُرأةً وترُّضاً، وكفى بحاله عند الله بُعداً ومقتاً - لقد أردت أن أفديك بنفسي في بعض كتبي، وكنت عند نفسي في عداد الموتى وفي حيِّز الهلكى، فرأيت أنّ من الخيانة لك ومن اللؤم في معاملتك، أن أفديك بنفسي ميتة، وأن أُريك أنّي قد جُدت لك بأنفس عِلْق والعلق معدوم. ليس أنّ من فداك فقد جُعل فِداك، ولكنَّها نهايةٌ من نهايات التعظيم، ودليل من دلائل الاجتهاد. ومن أعلن الاجتهاد لك واستسرَّ خلاف ذلك فقد نافق وخان، وغشَّ وألام. وأخلقْ بمن أخلَّ بهذه ألا يرعى حقّاً، ولا يرجع إلى صحَّة ولا إلى حقيقة.
ثم أنت لا يشفيك منّي السمُّ المجْهز، ولا السمُّ الساري؛ فإنه أبعد غايةً في التطويل وأبلغ في التعذيب. لا ولا لعاب الأفاعي وداهية الدواهي، فإنه يُعجز الرُّقى ويفوت ذرع الأطباء. لا ولا نار الدُّنيا، بل لا يشفيك من نار الآخرة إلا الجحيم، ولا يشفيك من الجحيم إلا أن أُرى في سوائه وفي أصطمَّة ناره، وفي معظم حريقه، وفي موضع الصَّميم من لهيبه. بل لا تكتفي بذلك دون الدَّرك الأسفل، بل لا يرضيك شيء سوى الهاوية، بل لا ترضى إلا بعذاب آل فرعون، أشد العذاب، بل لا يرضيك إلا عذاب إبليس الذي زيَّن الختْر للعباد، وبثه في البلاد، والذي خطّأ الربّ وعائده وردَّ قوله، وغيَّر عليه تدبيره، ولم يزده إلا شكّاً ولجاجة، وتمادياً وإصراراً. ثم لم يرض من الجدّ في مخالفة أمره، وخلع العذار في شدة الخلاف عليه إلا بأن يحلف على شدة اجتهاده في ذلك بعزّته، فجعل العزّة المانعة من إسخاطه سبيلاً إلى إسخاطه، والقسم الحاجز دون إغضابه وسيلةً إلى إغضابه، حيث قال: " فبعزَّتك لأغوينَّهم أجمعين " .
فعليك عافاك الله بإبليس إن كنت للع تغضب، أو عليك بالأكفاء إنْ كنت لنفسك تتشفَّى.
لا ولكنك استغمرتني واستضعفتني، وجعلتني فرُّوج الرفّاء، وتريد أن تتعلَّم فيَّ معاقبة الأعداء. فإن كنت إلى هذا تذهب فجعفر بن معروف أضعف مني، وعبد الله بن عيسى أسوأ خبراً مني.
سبحان الله، يسلم عليك حيدر الأفشين، ويهلك عليك عمرٌو الجاحظ، ويسعد بك أبعد البعداء ويشقى بك أقرب القرباء. وتتغافل عن مثل الجبال التماساً وحبَّاً للسلامة، وتغلغل إلى المحَّرات طلباً للتعرض وحبَّاً للشر.
ومتى قدرت على عدوّك فلم تجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه، ومتى لم تتغافل عنه تكرُّماً أو تدعه احتقاراً، ومتى اكترثت لكبير وضاق صدرك عن شيء عظيم فهأنذا بين يديك، فكُلْني بخلّ وخردل؛ فوالله إنك لتأكله غثَّاً غير مريء، وخبيثاً غير شهي.
لا والله، لكأنك وقعت على مطمورة، وظفرت برأس خاقان. كنت أظن أن الرشاقة والحلم لا يجتمعان، وأن ظرْف الإنسان وأصالة الرأي لا يفترقان، وأن النَّزق والخفة مقرونان بخفّة البدن، وأن الرَّكانة والأناة مجموعان لصاحب السِّمن، حتى رأيتك فاعتقدت بك خلاف ذلك الرأي، واستبدلت فيك ضدَّ ذلك الظَّنّ. فتركتني حتى إذا نازعت الرجال، وتعرّضت للشَّجي،وشغلت نفسي بثلب الخصام، وانقطعت إلى أصحاب القدود، وجعلت عُدوائي في تقديم القضاف، وطال لساني، وأظهرت الاستبصار في فضلك، وجعلت مزاج أخلاطك هو الحجة، واعتدالك هو النهاية، وطبيعتك هي المشكلة؛ وزعمت ان منظرك يغني عن مخبرك، وأن أوَّلك يُجلّي عن آخرك شددت على شدة المهر الأرن، وتسرعت إلي تسرُّع الغرِّ النَّزق، وألححت عليَّ إلحاح اللَّجوج الحنق. كأنك لم تحفل بما يشيع لك من اسم المتسرع، وبما تضاف إليه من سخف المتترِّع، بعد أن تكذِّب قولي وتفنِّد خبري.
وقد تقدمت التجربة أن الحديد لا يكون حقوداً، وأن المصطنع لا يكون للصنيعة حاسداً، فقصدت على رأسٍ إلى القياس الممتحن فأفسدته، وإلى الطبائع المعتدلة فنقضْتها، وإلى القضايا الصحيحة فرددتها.
وقالوا بأجمعهم: حالان لا تقبلان الحسد، ولا يخلوان من الرَّشد: حال الصَّنيعة لمصطنعه، وحال المولى لمعتقه. فكيف إذا كان الصَّنيعة صديقاً، وكان للخاصّة محتملا.

وإنما صارت - أبقاك الله - أجزاء النفس وأعضاء الجسد مع كثرة عددها، واختلاف أخلاطها، وتباعد أماكنها، نفساً واحدة وجسداً واحدا، لاستواء الخواطر، ولاتّفاقها على الإرادة. فأنت وصديقك الموافق، وخليلك ذو الشكل المطابق، مستويان في المحابّ، متفقان في الهوى، متشاكلان في الشَّهوة؛ وتعاونكما كتعاون جوارح أحدكما، وتسالمكما كتسالم المتَّفق من طبائعكما. فإذا بان منك صديقك فقد بان منك شطرك، وإذا اعتل خليلك فقد اعتلَّ نصفك، بل النفوس المضمّنة كالمعاني المضمَّنة، فذهاب بعضها هو ذهاب جميعها. فموتي هو موت صديقي، وحياتي هي حياة صديقي. فلا تبعدنَّه من قلبك بعد بدنه من بدنك؛ فقد يقرُب البغيض وينأى الحبيب. ولعلَّ بعض طبائعك المخالط لروحك، أن يكون أعدى من كل عدو، وأقطع من كل سيف، وأخوف عليك من الأسد الضاري، ومن المّ الساري.
ثم اعلم أنَّ الموثق بمودته قليل، وقد صار اليوم المعتمد عليه في صحَّة العقدة، وفي كرم الغيب والعشرة، عنقاء مُغْرِبٍ. ولا أعلم الكبريت الأحمر إلا أوجد منه. وإني لأظنُّ القناعة أكثر منه. وما أكثر من جعل انقطاع سببه وضعف طمعه لانقطاع سببه قناعةً.
وقيل ليحيى بن خالد: أي شيء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمّة البعيدة بالعيش الدُّون، وصديقٌ قليل الآفات كثير الإمتناع، شكور النفس، يصيب مواضع المدح.
لا والله إنْ تعرف على ظهرها موضعاً للسرّ، ولا مكاناً للشكوى، ولا روحاً تأنس بها، ولا نفساً تسكن إليها. ولو أردت أن تعرّفني من جميع العالمين رجلاً لما قدرت على أحدٍ يحتمل الغنى. ومحتمل الفقر قليل، ومحتمل الغنى عديم.
إن الخير - أبقاك الله - في ايام كثرته كان قليلاً فما ظنُّك به في ايام قلَّته، وإن الشرَّ في أيام قلّته كان كثيراً فما ظنك به في أيام كثرته، وأنت غريبٌ في المصطنعين. وأنا غريبٌ في الصنائع، والغريب للغريب نسيب، ونسب المشاكلة وقرابة الطبيعة الموافقة، أقرب من نسب الرحم؛ لأن الأرحام مولعةٌ بالتحاسد، لهجة بالتقاطع، وأن التحابَّ على طبع المشاكلة. والتلاقي على وفاقٍ من الطبيعة، أبعد من التفاسد، وأبعد من التعادي. وسبب التعادي عرض في طبائع الغرباء، وجوهرٌ في طبائع الأقرباء.
واعلم أنك لا تزال في وحشة إلى وحشة، وفي غربة إلى غربة، وفي تنكُّر العيش وتسخُّط الحال، حتى تجد من تشكو إليه بثَّك، وتُفضي إليه بذات نفسك. ومتى رأيت عجباً لم تضحك رؤيتك له بقدر ما يضحك إخبارك إياه. فمن أغلب عليك ممن كانت هذه حاله منك، وموقعه من نفسك.
ولو أن شيبتي التي بها استعطفتك، وكبرة سنيّ التي بها استرحمتك، اللتان لم يحدثا عليَّ وأنا في ذراك، ولم يُحلاَّ بي إلا وأنا في ظلِّك، لكان في شفاعة الكبرة، واسترحام الضَّعف والوهْنة، ما يردعك عني أشدَّ الردع، ويؤثر في طباعك أبين الأثر. فكيف وقد أكرمتني جديداً، ثم تريد أن تهينني خلقاً، وقوَّيت عظمي أغلظ ما كان، ثم تريد أن توهنه أرقَّ ما كان. وهل هرمت إلا في طاعتك، وهل أخلقني إلا معاناة خدمتك!.
قال علي بن أبي طالب: رأي الشَّيخ الضَّعيف أحبُّ إلينا من جلد الشاب القوي.
وانا أقول كما قال أخو ثقيف: مودة الأخ التالد وإن أخلق خيرٌ من مودَّة الطارف وإن ظهرتْ بشاشته، وراعتْك جدّته.
وقال عبد الملك بن مروان: رأي الشَّيخ أحبُّ إلينا من مشهد الغلام.
وقال بعضهم: ليس بغائب من شهد رأيه، وليس بفانٍ من بقي أثره.
وما كمَّل العقل ولا وفّر التجربة شيءٌ كنقصان البدن، وكأخْذ الأيام من قوي الأعضاء.
وقال آخر: ما قبّح الرجال شيءٌ كالوكال، ولا أفسد الكريم شيءٌ كحبّ الاستطراف. وخير الناس من أتْبع الغضب مواقع الذنوب، وأتْبع العقاب مواقع الغضب، ولم يُتبع الغضب مواقع الهوى.
ولقد منحتك جلد شبابي كملا، وغرْب نشاطي مقتبلا، وكان لك مهناه، وثمرة قواه، واحتملت دونك عرامه وغربه، وكان لك غنمه وعليَّ غُرمه، وأعطيتك عند إدبار بدني قوّة رأيي، وعند تكامل معرفتي نتيجة تجربتي، واحتملت دونك وهْن الكبر وإسقام الهرم.

وخير شركائك من أعطاك ما صفا، وأخذ لنفسه ما كدر. وأفضل خلطائك من كفاك مؤونته، وأحضرك معونته، وكان كلاله عليه، ونشاطه لك. وأكرم دخلائك وأشكر مؤمِّليك من لا يظن انك تسمِّي جزيل مل تحتمل في بذْلك ومواساتك مؤونة، ولا تتابع إحسانك إليه نعمة، بل يرى أن نعمة الشاكر فوق نعمة الواهب، ونعمة الوادّ المخلص فوق نعمةالجواد المُغْني؛ وأنه لا يبلغ في إعطاء المجهود من نفسه في خلع جميع ماله إلى مؤمليه والمتحرِّمين به، حسن نيّة الشاكر الوامق، وحقَّ تمنّي الواد العارف.
ولو اقتضيت جميع حقوقك عليّ، وأنكرت جميع حقوقي عليك، أو جعلت حقِّي عليك حقّاً لك، ثم زعمت أن حقَّك لا يؤدّى إلى شكره، وأن حقّي لا يلزم حكمه، وأن إحساني إساءة، وأن الصغير من ذنوبي كبير، وأنّ اللَّمم مني إصرار، وأن خطائي عمد، وأنَّ عمدي كلَّه كفر، وأن كفري يوجب القمع ويمنع من النُّزوع لما كان عندك. وما اتَّسع قولي لأكثر من هذا العقاب، ولا أشد من هذا الغضب. وما ينبغي أن يكون هذا المقدار من النِّقم إلالباري النَّسم في دار البقاء، لا في دار الفناء. والذي يجوز بين العباد إنما هو تعزير أو حدٌّ، أو قود أو قصاص، أو حبسٌ أو تغريب، أو إغرام أو إسقاط عدالة، أو إلزام اسم العداوة، أو عقاب يجمع الألم والتقويم والتنكيك، فيكون مضض الألم جزاءً له ومعدلاً أسبابه.
وربما قصر الإيقاع على السُّخط وجاوز حدَّ الغضب. وربما كان مقصوراً على مقدارها، ومحبوساً على نهاية حالهما.
وليس كلُّ عقابٍ نتيجة سخط، وقد لا يسمَّى ذلك الموقع والمعاقب واجداً كما يسمَّى ساخطاً، ولا يسمَّى عاتباً كما يسمَّى غضبان، فيخرج كما ترى من أن يسمَّى سُخطاً أو موجودةً وغضباً، كما خرج عقاب آدم عليه السلام من هاتين الصفتين،ومن جميع القسمين. وعلى أنه كان إخراجاً من دار الخلد والكرامة إلى دار الابتلاء والمحنة؛ ومع كا في ذلك من إعراء الجلد، والتَّسمية بالظلم، مع الوصف له بضعف العزْم، والاغترار بيمين الخصم.
والعجب أنك تضجر من طول مسألتنا لعفوك مع حاجتنا إلى عاجل عفوك، ولا تضجر بطول تشاغلك بظلم صديقك مع استغنائك عن ظلم صديقك. فلو كنت إنما تفعل ذلك لأنك تلذُّ ضرب السياط ورضَّ العظام، فجنْب " دندن " أحمل، والسوط في ظهر قاسمٍ أحسن، وأبدانهما تحت السياط أثبت، وإن أرواحهما أبقى، وهي بأرواح الكلاب أشبه، وإلى طبائع الضباب أقرب، وأرحامهم بالحمير أمسُّ، ومن يُشير فيهم بذلك أكثر، والأجر في ضربهم أعظم. فاستدم اللذَّة بطريق اللَّذّة، وضع الأمور في مواضعها يطُلْ سرورك بها.
إن عتاق الخيل وأحرار الطير أدق حسّاً، وأشدُّ اكتراثاً. والكوادن الغلاظ والمحامر الثقال، أكلُّ حسّاً وأقلُّ اكتراثاً. وليس الصَّبر بالصمت والسكوت، ولا بقلة الصِّياح والضُّموز. وقد يصيح تحت السوط من لا يقرُّ على صاحبه، ولا يدل على عورة نفسه. والكلب المضروب يجمع الصِّياح والهرب، والفرس العتيق يعدو ولا يصيح، والحافر كلَّه كظومٌ ضامز، والمخلب كلُّه ضجورٌ صيَّاح، والضَّجر في الخُفّ عامٌّ، والبخاتيُّ أضجر. فسمن الظّلف عامّ، وهو في الضأن أخفى، وكلّ مضروب هارب صيَّاح، ومنها ما يجمع الخصال كالكلب والبعير. والهرب من المكروه محمود، والمقام عليه مذموم؛ كالذي يعتري العير السقيم وتجده في الفرس الكريم، من قلة الاكتراث وشدته.
وصبر البدن غير صبر النفس. وليس بقاء الأرواح المنعقدة تحت الضرب الشديد من اعتزام النفس، ولا يدلّ على الكرم.
وفي المثل: " ما رُوح فلانٍ إلآ رُوح كلب " . وتقول العرب: " الضَّبُّ أطول شيءٍ ذماء " . والكلب لئيم، والضبُّ غير كريم.
والبازي أكرم من الصقر وأشدُّ وأكثر ثمنا، وأجمل جمالاً، وأعفى صيداً، وأنبل نبلا؛ إن قبض عليه قتله، وإن لم ينحِّ كندرته عن قربه أوهن نفسه. ثم بلغ من رقة طبع البازي وعتقه أنه ينقطع بردِّ البازيار له إلى مسقطه من يده. والصقر يتعلق بسباقيه من رجل حمل بدرع فيضطرب منكَّساً إلى الصبح، ثم تجده وكأنه لم يزل على كندرته وعلى مسقطه الذي يؤتّى له.
فليس بدني من أبدان الاحتمال فأمتعك بطول ثباته لك، ولا أثبت لك ثبات العير الكليل الحسّ، ولا أجعل الصياح دليلا على الإقرار، فيكون ذلك أحد ما تتمتَّع به، وتدرك به حاجات نفسك.

وقد دللتك على ناسٍ يجمعون لك الخصال التي فيها دوام لذّتك، وتمام شهوتك؛ فإن زعمت أن الذي يثبت روح دندن في بدنه، وروح القاسم في جسمه، سرورهما بما قد احتجنا من كنوز الخلافة وأموال الرعيَّة، وليس ذلك من رسوخ أرواحهما في أبدانهما، ومن شدة الاحتجان وقوة الاكتناز، ففرَّق بينهما وبين تلك الأموال التي تمسك أرواحهما بالحيل اللطيفة، والتدبير النافذ، وبأن تمضي فيهما حكم الكتاب والسنّة؛ فإنه سيحلُّ عقدة أرواحهما عقداً عقداً، فيعظم أجرك، ويطيب ذكرك، وتطيع الخليفة وتتحبَّب به إلى الأمة؛ فتكون قد أحسنت في صرف الضَّرب إلى أهله، وأرحت منه غير أهله.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أعلى