بلال فضل - ذم البيضان ومديح السودان!

في رسالته القصيرة «فخر السودان على البيضان» يبدأ أديب العربية الجاحظ بتوجيه حديثه إلى صديق انتقد كتاباً سابقاً له، لأنه لم يذكر فيه شيئاً من مفاخر السودان، بينما ذكر مفاخر بقية الأعراق، ويرد عليه قائلاً: «فاعلم حفظك الله إني إنما أخّرت ذلك متعمداً». لا يذكر الجاحظ اسم من كتب له رسالته، مثلما فعل في رسالة «في الجد والهزل»، أو «رسالة المعاش والمعاد»، أو رسالة «مناقب الترك» التي أرسلها إلى الفتح بن خاقان وزير المتوكل العباسي، وملأها بمبالغات في مديح الترك الذين كان لهم حظوة وسلطان، لعلها جعلته يطلق أحكاماً من نوعية: «ومحبة الوطن شيء شامل لجميع الناس وغالب على جميع الجيرة، ولكن ذاك في الترك أغلب وفيها أرسخ».
صحيح أن للجاحظ رسائل لا يذكر فيها اسم المرسل إليه، لكنه في هذه الرسالة ربما كان يخاطب صديقاً اخترعه، ليوجه عبره رسائل إلى معاصرين، كانوا يعايرون الجاحظ بسواد لونه، وليس فقط بجحوظ عينيه ودمامة وجهه، وهو أمر ستجده في ترجمة الذهبي له في «سير أعلام النبلاء»، حيث يشيد بعلمه، لكنه يورد رواية تقلل من شأنه لأن جده كان جمّالاً أسود، وربما لذلك ستشعر بارتباك الجاحظ في هذه الرسالة، بعكس رسائله المحكمة التي تخلو من الحشو والإطالة، فتجده يخرج عن موضوعه ليتحدث عن مسائل فقهية أو عن فضائل أهل السند، أو يكرر بعض ما قاله، لكن رسالته في النهاية تكشف لك عن طبيعة العلاقات الاجتماعية التي سادت عصره، وعن ضعف تأثير التعاليم الدينية التي دعت لعدم التفريق بين الألوان والأجناس، وجعل التقوى وحدها محك التفريق بين الناس.
سنجد هذا التأثير الطاغي للعصبيات العرقية في رسالة قصيرة للحافظ جلال الدين السيوطي عنوانها (نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر)، يهاجم في مقدمتها ابن المرزبان الذي ألف كتاباً عن «فضل السودان على البيضان»، فيعتبر ذلك ليس مستغرباً من شخص ألّف كتاباً عن «تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب»، «فإذا فضل الكلاب على بني آدم لم يكثر عليه أن يفضل السودان على البيضان»، ثم ينقل عن الحافظ المنذري نقداً لرسالة أبي العباس الناشئ في تفضيل السود على البيض، ويقول إن ذلك يشبه المفاخرة بين الذهب والزجاج، ورغم أن السيوطي في بقية رسالته يورد بعض الأبيات والقصص التي تتغزل في جمال السمر والسود، لكن ما أورده في مقدمة الرسالة حتى لو وضعته في سياق عصره، يبقى أمراً مشيناً، يجب التوقف عنده حين يتم فتح ملف الوجه القبيح للتعامل مع الملونين في الثقافة العربية.
لا يجد الجاحظ في رسالته مدخلاً للحديث عن مناقب سود البشرة، سوى التفاخر ببعض مشاهيرهم، وعلى رأسهم لقمان الحكيم، وسعيد بن جبير الذي كان أورع الخلق وأتقاهم، وبلال الحبشي الذي قال عنه عمر بن الخطاب «إن أبا بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وهو ثلث الإسلام»، ومكحول الفقيه وآل ياسر، ثم يذكر أسماء لبعض من يصفهم بأنهم «أُسدُ الرجال وأشدهم قلوباً وأشجعهم بأساً»، كالمقداد بن الأسود أول من عدا به فرسه في سبيل الله، ومهجة أول قتيل قتل بين الصفين في سبيل الله، ووحشي قاتل مسيلمة الكذاب الذي قتل خير الناس، أي حمزة وشر الناس أي مسيلمة، وابني شداد عنترة الفوارس وأخيه هراسة.
وبعد أن يسرد الجاحظ بعض الروايات التي يرد فيها تحقير للسود من بعض أعلام العرب، فيرد عليهم بعض السود نثراً أو شعراً، ينتقل إلى الحديث عن مناقب أخلاقية ومعنوية للسود والزنج، فيقول إن الناس مجمعون على أنه ليس في الأرض أمةٌ السخاء فيها أعم من الزنج، وأنهم أطبع الخلق على الرقص الموقّع الموزن، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون من غير تعليم، وليس في الأرض أحسن حلوقاً منهم، ولا لغةُ أخف على اللسان من لغتهم، ولا في الأرض قومٌ أذربُ ألسنة منهم، وليس في الأرض أمّةٌ في شدة الأبدان وقوة الأسرِ أعمُّ منهم فيهما، وإن الرجل ليرفع الحجر الثقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم، وهم شجعان أشداء الأبدان أسخياء، ولا ترى الواحد منهم إلا طيب النفس ضحوك السن حسن الظن، وهذا هو الشرف.
وبعد أن يدخل في مناقشة لفكرة ترجع سخاء الزنج إلى ضعف عقولهم وجهلهم بالعواقب، يتحدث عن ارتباط اللون الأسود بما هو أفضل في كل شيء، فأكرم ما في الإنسان حدقتاه، وأنفع ما في الإنسان كبده التي بها تصلح معدته، وأنفس ما في الإنسان سويداء قلبه، وليس في الأرض عود أحسن خشباً ولا أغلى ثمناً من الأبنوس وهو شجر خشبه أسود صلب، وسود الشاة أدسم ألباناً وأكثر زبداً، والحُمر السود أثمن وأحسن وأقوى، والبقر السود أحسن وأبهى وجلودها أثمن وأنفع وأبقى، وكل حجر إذا كان أسود كان أصلب صلابة وأشد يبوسة، وليس من التمر شيء أحلى حلاوة من الأسود، والنخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود الجذوع، ومن أطيب ما في المرأة وأشهاه شفتاها للتقبيل وأحسن ما يكونان إذا ضارعتا السواد، وليس لونٌ أرسخ في جوهره وأثبت في حسنه من سواد، وأكرم العطر المسك والعنبر وهما أسودان، والحجر الأسود من الجنة، والنحاس إذا اشتد سواده كان أثمن وأجود.
بعدها يدخل الجاحظ في نقاش مع صديقه الوهمي، يقول له فيه إن العرب كلهم سود، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول «بُعثتُ إلى الأحمر والأسود»، والعرب ليسوا حمراً ولا بيضاُ، لذلك هم سود، ثم يدخل في مناقشة لفكرة غياب العقول النابهة فيمن تم سبيه من الزنوج، فلا يجد الجاحظ رداً سوى الإشارة إلى أن ذلك ينطبق على من يتم سبيه من السند والهند، رغم أنهم قوم لهم إنجازات علمية وصناعية كثيرة، ثم ينقل حديثه إلى الإشادة بالنساء السود، مستشهداً بالشاعر الفرزدق، الذي يصفه بأنه كان أعلم الناس بالنساء، وكان قد جرب الأجناس كلها فلم يجد مثلهن، ولذلك تزوج أم مكية الزنجية وأقام عليها، وترك النساء للذي وجد عندها، متطرقاً من ذلك إلى عدم اشتهاء البيضان لنساء السودان، فيرد عليه بقوله «كذلك السودان في نساء البيضان، على أن الشهوات عادات وأكثرها تقليد»، ليربط المسألة بفكرة السبي والجلب، قبل أن ينقل الحديث نقلة غير متوقعة بقوله، إن القبط جنس من السودان، وقد طلب منهم خليل الرحمن الولد، هو والنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الجاحظ في أكثر مقاطع رسالته دلالة على ما يعتمل في صدره من مشاعر، وعلى ما يحيط به من أفكار عنصرية من الناس البيضان: «إن الله لم يخلقنا سوداً تشويهاً بنا، والسواد والبياض إنما هما من قبل خلقة البلدة وما طبع الله عليه الماء والتربة، ومن قبل قرب الشمس وبعدها، وشدة حرها ولينها، وليس ذلك من قبل مسخٍ ولا عقوبة ولا تشويه ولا تقصير… وما إفراط سواد من اسودّ من الناس إلا كإفراط بياض من ابيضّ من الناس».

ـ «فخر السودان على البيضان» من رسائل أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الجزء الأول، بتحقيق عبد السلام محمد هارون ـ مكتبة الخانجي في القاهرة.


أعلى