كانت عندي شقة في العريش بمحافظة سيناء اشتريتها من نحو عشرين عاما بخمسة الآف جنيه، وبعد اندلاع الإرهاب هناك أمسى السفر صعبا للغاية، مع الأخذ بالاعتبار التقدم في السن الذي لم يعد يسمح بتحمل مشقة الطريق الطويل. هكذا قررت آسفا أن ابيع الشقة بأي ثمن، ولم يكن يفصلها عن البحر سوى الطريق الرئيسي. اتجهت إلى العريش من موقف المرج وظللت نحو ثلاث ساعات لكي أجد سيارة أو مكانا في سيارة، فركبت حتى القنطرة ثم المعدية ثم سيارة أخرى إلى العريش. على طول الطريق أوقفتنا الكمائن ونقاط التفتيش العسكرية، وقطعنا الطريق داخل العريش بين الكمائن والدبابات. أوصلنا سائق من موقف العريش إلي البيت، وتعليقا على الظروف القاسية قال: " نعمل إيه؟ لازم نعيش؟ ننتحر يعني؟". وسمعت في صيحته تلك صوت مصر كلها التي تتحايل على الحياة. وبينما أنا أنهي اجراءات البيع شاهدت سقف الشهر العقاري وقد اخترمه الرصاص، وتساقطت أجزاؤه، ورأيت كيف أحاطوا البنك الأهلي بالمدرعات، كما تم تحويل السير من الشوارع الرئيسية إلى الشوارع الجانبية حماية للمصالح الحكومية التي تقع على الطرق الرئيسية. تنشقت أينما ذهبت جو الحرب التي أشعلت ضد مصر، والحياة التي ارتفعت أسعارها أكثر أحيانا من أسعار القاهرة. لم تكن تلك أولى الحروب التي أشهدها. كانت أولى الحروب وأنا في الثامنة عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر، وكنا نسكن في الجيزة حين سقط جندي انجليزي بالباراشوت على الغيطان المحيطة بنا، فأحاط به الفلاحون، وأنا واقف اتفرج، وأراه مرتبكا مذعورا، ثم قادوه إلى القسم. وفي حينها أبطلوا عمل المدارس، لأن الجنود المصريين أقاموا فيها، وكنت أذهب إلي مدرستي كل يوم أحمل طعامي وأقف عند السور ألوح للجنود، فيسمحون لي بالدخول، فأضع طعامي أمامهم، وأتفرج بالبنادق، فيشرحون لي كيفية عملها، وفيما بعد صرت أدخل إلى معسكر الجنود بشكل تلقائي كل يوم كأنني أحد المجندين، ما إن تراني الحراسة حتى تفتح لي الباب! الحرب الثالثة كانت بعد النكسة، لم أشهد منها سوى تطوعي مع خالي محمد للتدرب على إطلاق النار، وكان عبد الناصر قد فتح باب التطوع للشباب، فذهبنا وتدربنا، ولم يطلبنا للمشاركة أحد قط، وظلت الحرب مشهدا يتأرجح بين الداخل والخارج البعيد. الحرب الرابعة التي شهدتها كانت في ليبيا أبريل عام 1986 حين قصفت القوات الأمريكية طرابلس وكنت هناك في فندق " باب البحر" حين ارتجت نوافذ الحجرة وتحطم زجاجها، فهبط جميع النزلاء جريا إلي الطابق الأرضي، وفرغت الشوارع، ودوت أصوات المقاومة الشعبية، وكنا نقطع الشوارع تحت القصف إلى مبنى الاذاعة لنعرب عن تضامننا مع الشعب الليبي، ومن هناك كتبت لجريدة الأهالي مقالا مطولا عما جرى. إلا أن الحرب القاسية فعلا التي شهدتها وعشت تحت قنابلها نحو عشرة أيام كانت في الشيشان، عندما كلفتني جريدة الاتحاد الإماراتية بتحقيق عن اللاجئين الشيشان في داغستان، وكنت أقف بين خيام اللاجئين، لا يفصلني عن حدود الشيشان حيث المعارك سوى عدة أمتار، فقررت التوجه إلى الحرب، ومنعتني الجريدة خوفا على حياتي، خاصة بعد مصرع ستة مراسلين صحفيين هناك، لكنها عادت ووافقت بعد اصراري، فاستأجرت عربة " جيب" وقطعت بها الطريق بين الجبال الشيشانية إلي مواقع المقاتلين، ورأيت بينهم " فاطمة" وأخواتها من الشيشانيات يحملن البنادق، وأكلت مع الجنود، وكلما فاجأتنا غارة روسية هرولنا إلي تحت الأرض. وتعرفت إلي تاريخ جنوب روسيا، وداغستان، التي أنجبت الامام شامل، الثائر الذي حارب القياصرة ثلاثين عاما، وهو يستنفر شعوب الجنوب قائلا لها : " يا سكان الجبال.. قدسوا الحرية كأنها أمهاتكم، ولا يغرنكم ذهب ولا ثروة". بعد عشرة أيام من الاقامة بين المقاتلين، عدت بنفس السيارة " جيب"، وعلى امتداد الطريق الضيق بين الجبال، رأيت البيوت التي كانت قائمة وأنا ذاهب إلي الشيشان وقد تحولت إلى أنقاض، واعترضت السيارة جذوع الأشجار الضخمة التي تهاوت من القنابل لتلفظ آخر خضرة فيها. وكتبت فيما بعد كتابا لم يلق حظه من الاهتمام بعنوان " الصعود إلى الجبال الشيشانية". وكرهت الحرب التي لم أر منها سوى الدمار، والخراب، وحسبتها دوما علامة على فشل العقل المتحضر وحماقة الضمير الانساني.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري