ياسين طه حافظ - علم الأدب والفن علماً

صادفني هذا التعبير، علم الأدب، أول مرة، حين تُرجِم إلى العربية، كتاب عن الروسية بعنوان "علم الأدب السوفيتي". والحقيقة كلمة علم كانت لي في الستينيات استفزازاً لكن عاد التعبير بما ترجمة الأستاذ د. جميل نصيف من "نظرية الأدب" وبعبارة على غلاف الكتاب "تأليف عدد من "علماء" الأدب السوفييت.
أن يكون علم الأدب وعلماء الأدب، ذلك أمر مقبول ما دامت الدراسة علمية موضوعية وإننا بإزاء معارف منتظمة ومسببة ولها مرجعيات، وأن يكون "علم الأدب" فلذلك جذر في ثقافتنا، فأن دراسات الأدب واللغة كما الدين كانت علوماً. وعلم اللغة اليوم قسم واضح ومهم في الدراسات التي تعني بالفكر اللغوي وتاريخ اللغة والتراكيب واللهجات. ورجال الدين عندنا يسمون بالعلماء، أي هم عالمون أو عارفون بأمور دينهم.
وإذا عدنا لأصل الكلمة في التراث اليوناني نجد أن الفن صنعة ومهارات فهي فنون وإتقان. وهذه صلة تقربنا أكثر إلى مفهومات العصر، ذلك لأنها تفصلنا عن الميتافيزيقيا وتبعدنا أول مرة عن أجواء المثاليات. هي خطوة أولى مهمة واساسية للارتكاز على الأرض. وستكون لهذه أهميتها الأكثر وضوحاً في مواجهة الغيبيات.
جرت محاولات في التخفيف من الشأن "الصنعي" بأن فصلوا بين ما أسموه بـ"الفنون الصغرى" القاصرة على الزخرفة، مقارنة بالفنون الكبرى. لكن العلوم زادت من واقعية ورسوخ علمية البحوث والنظريات الفنية. وصارت هذه ضمن النشاطات المتنوعة والأكثر سعة.
الأهم من هذه، هو ما أعقب الحرب العالمية الثانية وعقب تدهور الدراسات الإنسانية وتخلفها. " إذ بدأ ثانية النهوض ببناء صلة، ببناء جسر، بين "علم" الجمال وبين تدوين الحقيقة أو الحقائق الفنية تدوينا يقوم على الملاحظة والاختبار. ولقد سمي ذلك الجسر بـ"علم الفن". "
يمكن العبور إلى علم الأدب عن طريق تدوين الحقائق الأدبية التي اسميناها علم الأدب، لأن الدارسين والمؤرخين هم مدونو حقاق تلك الآداب والفنون، فهم علماؤها وهم علماء فيها!
قد يبدو لنا من هذا الكلام ما يوحي بتقليل لروح الإبداع الفني، والحقيقة الجمالية. لكن ليس خطأ فهم التعاقبات الفنية وأن عملاً يوصل لعمل وأن مهارة تكمّل مهارة كما عقل يكمل عقلاً. أما التفكير المخالف والذي لا يرتضي هذا التحديد ويرى منتجات الفن منتجاتٍ قائمةً بذاتها وإن اختلفت الازمنة والامكنة، وان ما نراه من التحف والنصب، يحمل قيماً وتعبيرات سرمدية وأن ثمة جمالاً أزلياً نراه هنا، في هذا العمل الفني، أو ذاك العمل، وإننا بإزاء فن لا يحده زمن ولا ينتمي لعصر...، هذا كلام يبدو معارضاً لكنه يقع ضمن التصور الأول. هنا الحديث عن "روح الفن" وروح الفن مثل الروح الإنساني، لا يخلو منها عصر وتتمثل بالاعمال التي اكتملت فشعت الحقيقة النقية من خلالها. ولا أرى أي خلاف بين هذا وبين الدراسات التدوينية لحقائق الأعمال الفنية وتطورها.
إننا بدلاً من أن نختلف، يمكن أن نجد أخلاقية جديدة، فنجد مشتركاً لكي لا نخسر أي جهد إنساني في حقل من الحقول. وما دامت ليست أخطاء عملية يمكن أن تؤذي الحضارة، فهي تظل اجتهادات وطرائق تعبير عن القدرات الإنسانية وانجازاتها. ما يهمنا اليوم هو عين اهتمام انصار مذهب التطور في القرن التاسع عشر بأي اسلوب و ثقافة، الاهتمام بكيفية اتفاق هذا الاسلوب أو هذه الثقافة مع العملية التطورية ومدى اسهامها بالتقدم الإنساني.
صحيح إن التعميم والتأكيد الدائمين على الأرقام والتواريخ، قد يؤذيان الاعتزاز بالعبقرية الفردية، فيدفعان إلى الدفاع عن الابداع الخاص وإلى النظر بعناية أكثر وبإجلال أكثر إلى كل عمل فني مستقلاً. أن احترام استقلاليات الأعمال الفنية، ليس فيه ما يضر مبدأ الدرس ولا يضر بحقائق التاريخ العامة. على أية حال يمكن أن تكون هذه ضمن متطلبات التخصص ودراسة أو فهم التفاصيل.
ما يعنينا هنا ليس التفاضليات، نحن معنيون أصلاً بما يهذب النظرة الجمالية ويسهم في توسيع افقها. القيم النظرية مطلوبة، ومادة الموضوع، التي يمثلها الفن، مطلوبة أيضاً، وللحضور الفردي المتميز إشراقه. وهذا الاشراق يسهم مع أضواء كثيرة أخرى في إضاءة الحياة الإنسانية وكشف أنواع من الجمال غير مرئية في حياتنا وعالمنا. نحن في حياتنا المزدحمة اليوم تتضح حاجتنا أكثر إلى مثل هذه الاشراقات في الأعمال الادبية والفنية وفي التقنية أيضاً!
المهم هو احترام الجهد الإنساني سواءٌ في الابداع أو في التفسير والتنظير. خطأٌ هو التفريط بجهد له من يحترمه ويرتضيه. من يدري قد تثبت لنا صحته يوماً ونتبناه وندعو له. وإن لم، فهو جهد بشري له احترامه سواءٌ ارتضيناه فتحمسنا له أو لم يلقَ منا قبولاً فرفضناه. نرفضه لكن بأدب من يشك بصوابه لا بكراهتنا لمن اقترف أو ارتكب أثماً ...




ياسين طه حافظ صادفني هذا التعبير، علم الأدب، أول مرة، حين تُرجِم إلى العربية، كتاب عن الروسية بعنوان علم الأدب

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

أعلى