خالد المرضي الغامدي - الديكاميرون.. الهروب من ثنائية الموت

نحن الآن في القرن الرابع عشر الميلادي، حيث ثنائية الموت التي تعصف بالقارة الأوروبية، فمن جهة يحصد مرض الطاعون ملايين من البشر، بل تنتقل العدوى إلى كل ما يدب على الأرض، وهناك حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا وبعض أطراف أوروبية في سباق آخر نحو الموت، الموت ولا شيء غيرة، ثنائية يتضافر تجاهها القدر والإنسان عدو الإنسان..
والديكاميرون الذي نحن بصدد الحديث عنه هو نتاج أدبي يرتقي ليكون من الأعمال الخالدة، هو (ألف ليلة وليلة الإيطالي)، فمن رحم معمعة الموت تلك ولد ليعيش، ولد الديكاميرون (الأيام العشرة ) لابن غير شرعي هو جيوفاني بوكاتشيو، وحتى قبل الانتهاء من كتابته كان الأشهر في إيطاليا هو دانتي صاحب الكوميديا الإلهية، وبطراركا شاعر إيطاليا العظيم، فقد كان بوكاتشيو هو الأقل شهرة بينهما، وكما في ألف ليلة وليلة حيث تهرب شهرزاد من سيف الملك عن طريق القص، يبني بوكاشيو عمله على أساس هروب سبعة من الشباب وثلاث من الفتيات من الموت إلى الريف حيث صفاء الطبيعة، وهو يبدو هنا قد فتح الباب في هجاء المدن جالبة الشقاء والبؤس إلى حد فقد الحياة..
وفي هذا الكتاب يتوجه بوكاشيو إلى النساء تحديدًا، يريد تسليتهن والترويح عنهن، فهن محرومات من وسائل اللهو والتسلية المتاحة للرجال، كتب بوكاشيو في مقدمة الديكاميرون «ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنه يجب تقديم العون، مهما كان صغيرًا إلى النساء اللطيفات قبل الرجال، فهن يخبئن في صدورهن الرقيقة -بخوف و خجل- لهيب حب قوته أكبر من الظاهر مثلما يعرف من جربوه ويجربونه، لان النساء يخضعن لإرادة وأهواء الآباء والأمهات، والإخوة والأزواج، يقضين معظم الوقت معتكفات في حيز حجراتهن الضيق، يعشن في خواء، يغرقن في أفكار لا يمكن لها أن تكون سعيدة على الدوام، وهن فوق ذلك اقل قوة من الرجال، فالرجال يجدون أساليب كثيرة للتسلية او النسيان، فليس هناك ما يمنعهم من التنزه، ومن سماع أو رؤية أشياء كثيرة، ومن الصيد البري او المائي، ومن الرماية أو ركوب الخيل، فبكل هذه الوسائل يجدون القوة لاسترداد معنوياتهم، كلها أو بعضها، والتحول عن الكآبة، لبعض الوقت على الأقل، هو ذا الهدف الذي رسمه بوكاشيو وخطه في مقدمة كتابة، مائة قصة أو أمثولة أو حكاية رواها في عشرة أيام سبع من الفتيات وثلاثة شبان في أيام الوباء الفتاك الرهيبة لتكون في النهاية مائة قصة هي: الديكاميرون أو الايام العشرة…
ويقدم بوكاشيو أيضًا في الصفحات الاولى من الديكاميرون عرضًا لأبعاد المأساة التي رآها بعينه : “كانت أسمال رجل بائس مات بالداء قبل قليل، ملقاة في الطريق العام، واقترب منها خنزيران يتشممان مثلما هي عادة الخنازير، وبعد قليل، بعد بعض التشنجات، كما لو أنهما تناولا سما، سقطا أرضا ميتين فوق تلك الأسمال الممزقة”، “وبالنظر إلى تزايد أعداد الجثث التي كانت تنقل كل يوم، بل كل ساعة، إلى الكنائس، فإن المقابر لم تعد تتسع لدفنهم، حفرت قبور جماعية كبيرة جدًا، لدفن مئات الموتى الذين يؤتى بهم، وكانت الجثث تنضد فيها متراصة كما تنضد البضائع”. أهوال كثيرة يرويها بوكاشيو في مقدمته ليصف بكل دقة كل ما يدور كتمهيد لما ستقوم به قصص الديكاميرون المائة من تسلية لردم الجراح وإعادة بناء نفوس هدمتها ثنائية الموت المريرة والمرعبة..
وتكون بداية الديكاميرون في خروج الشبان والفتيات في ساعات الصباح إلى الريف حيث يجمعهم قصر فخم بعد هربهم من المدينة الموبوءة إلى حيث يمكنهم استنشاق هواء الحياة، حيث فقد كل منهم عائلته، وهناك يتفقون على تنصيب ملك او ملكة عليهم كل يوم ليقوم بدوره باختيار موضوع القص لكل يوم من أيامهم العشرة، وتتبدى في هذه القصص حالات حب سعيدة وأخرى قاسية، وأحداث مفاجئة وغير متوقعة، فهناك بهجة ولوعة، امتاع وعشق، مكر وخديعة واغواء، تهكم ومؤانسة وشعوذة، كل هذا وغيره في قصص يومية مبهرة تحدث في أماكن شتّى، في الطرقات أو وراء أبواب مغلقة، في أزمنة متفاوتة وثقافات متباينة.
في الديكاميرون لخص بوكاشيو بصورة رائعة في ايام القص العشرة قراءته لمجمل أعمال العصور الوسطى التي استهوته منذ شبابه، ثم ان اسلوب بوكاشيو كان سابقًا لعصره حيث نلحظ أسلوب عصر النهضة الذي هو بدوره منهج الرواية المعاصرة ليس في الديكاميرون فقط ولكن في مجمل أعماله السابقة.
أمّا عالم القصص التي تروى يومًا بعد يوم فهي لا تبتعد عن حياة الشبان وهمومهم، فالمقدمة التي أوردها المؤلف والتي تحدث فيها عن المأساة كذريعة لجمع القصص وربطها في مجموعة متكاملة تحيل أيضًا إلى الثقافة التي كانت سائدة من تسلط الكنيسة على أحوال المجتمع ما أدّى بدوره إلى ظهور الطبقة البرجوازية وهي طبقة حديثة التشكل حيث يسعى أتباعها إلى إرضاء أذواقهم وأمزجتهم ويسعون إلى السمو بأنفسهم روحيًّا ومعرفيًّا. وبالنظر إلى موضوعات القصص لليوم الاول نجده يتناول قصصًا حرة دون موضوع محدد وفيه ينسج الرواة حكايات يحكي بعضها عن الكهنة او عن البرجوازيين وعاداتهم في القرن الرابع عشر ومفهومهم للدِّين والمتدينين الذين يعيشون معهم كما ان هناك قصصًا ذات طابع خيالي يبدو ساخرًا في وصفه لما يحدث من تجاوزات داخل الكنيسة ممن يفترض بهم السمو ومثالية الأخلاق، ويمكن القول هنا أيضًا أن الأندلس بأدبها وحضارتها كانت واضحة في بعض القصص الشرقية التي رويت خلال الايام العشرة.
في نهاية اليوم العاشر يقدم بوكاشيو شكره لله على طريقة الكتاب البرجوازيين ويعتذر لأنه اورد حسب رأيه بعض الأمور غير الشرعية أو الشريفة بحسب ثقافة العصر السائدة حينها ومما يذكر أن بوكاشيو قد تنبه لذلك حيث اورد ردودًا على نقد مفترض لما حوته القصص من خروج عن المألوف.
وفي مقدمة المترجم صالح علماني الذي قام بترجمة الديكاميرون كاملاً الى اللغة العربية لأول مرة.
يتحدث عن ترجمات سابقة قام بها كامل كيلاني كانت عبارة عن قصص منتقاة من الديكاميرون بالإضافة الى ترجمة بعنوان (روائع من قصص الغرب) صدرت عام 1933 عنيت بطبعه ونشره مكتبة عيسى البابي بمصر، كما أن هناك ترجمة لاسماعيل كامل عبارة عن مجموعة قصص منتقاه بعناوين من اختيار المترجم.
وأخيرًا يظل الديكاميرون عملاً فنيًّا بارعًا يكشف جوانب كثيرة عن حياة العصور الوسطى يمتزج فيها الأدب بالتاريخ، والخيال بالواقع ممّا يضعه في قائمة الأعمال الخالدة رغم تعاقب الأزمنة ففي عالم الادب، الاعمال الابداعية هي وحدها التي تظل ويظل تأثيرها رغم تعاقب العصور وتبدل الحضارات..


• الديكاميرون : جيوفاني بوكاشيو
• ترجمة : صالح علماني
• الناشر : المدى 2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى