أدب السجون ورقات من سجل الاعتقال السياسي محمّد الصّالح فليس

هذا النّص مُقتطفٌ من كتاب لصاحب هذه الكلمات يحمل عنوان: »عمْ حَمَدة العتّال: ورقات من سجلّ الاعتقال السّياسي في تونس السّبعينات«.
سيصدر قريبًا عن دار نقوش عربيّة اخترنا منه فقرات شاهدة على مظهَرٍ من مظاهر المُعاناة السّجنيّة.
الرجل الذي تأتي هذه الأسطر على ذكره، وتحاولُ رسم جوانب من الصّورة التي نحتتْها الأيّام له في ذهني ليس سوى والدي حمدة بن محمد بن صالح حمدة فليس: رجل من عموم رجالات بنزرت، وَرثَ تواصلا الموقع والاسم والهويّة عن والديه اللذين لم يعمّرا طويلاً.
سايرت مسيرته لمدّة عشرين عاما متواصلة ثمّ لبضع سنوات قطعتها غياباتي الاعتقالية المتواترة إلى ان افترقنا بدون وداع عندما ناداه المُنادي بعد مرض طويل وقاس، ولم أكن إلى جانبه وقتها، لأنّ إرادة المريدين لم تكن لترضى بغير التلذّذ بالإبقاء عليّ حبيسًا في معتقل برج الرّومي لجرائم خطيرة ارتكبتها في حقّ أمن دولة تخاف من قلم وآلات راقنة، ومن حناجر مواطنيّة تصيح لا لمآلٍ يُهيّأ لنا فوقيّا ورغم إرادتنا!
عندما دهَمه المرض فالتفّ عليه وحاصره فأقعده وشلّ حركته فلم يقو على زيارتي في محطّتي الاعتقاليّة الثالثة وقبل الأخيرة سمعتُ أنّه تضرّع للخالق أن يحرّر بدنه من المرض أو يحرّر بكر أبنائه من الأسر أو يحرّر عزيمته لتتحامل على المرض وتنهض به لاستكمال مشوار مهمّاته...
ولكن لاشيء تحرّر، سوى روحُه التي انفلتت عن دنيا النّاس وسرحت بعيدا، بعيدا...
ومات والدي، عم حمدة العتّال، عن سنّ ناهزت الاثنين وستين عاما بأيّام فأصبغ عليّ موتُه يُتْم فقدانه ومحنة الأسر وحسْرة تغيبي عن الوقوف في جنازته...
وعناوين أخرى لليتم...!
من زنزانتي قلّبتُ يوم الثلاثاء 20 مارس 1979، يوم جنازتك، أرجاء مقبرة العين فلم أقدر على تحديد موقع قبرك منها، وانتظرت على مضض مضنٍ يوم الزيارة الأولى بعد رحيلك، وكانت شديدة القساوة لأتبيّن الأمر...
ليس هيّنا أن تجيء الوالدة بعد أيّام معدودة من دفن رفيق عمرها إلى السجن لتزور ابنها المدفون مؤقتا وإلى أن يأتي ما يخالف ذلك، لأنّها ستعيش جنازتين متتاليتين واحدة للدفن الأبدي الخالد والأخرى لدفن غيابي مؤجل الأفق يتغذّى من الفكر الاستبدادي مشفوعا بنبرة الشماتة والتشفّي.
والدفن الغيابي المؤجل هو اليوم وبعد وفاة حمدة فليس ثقيلُ الوقع مُرهق التبعات وشديد الإيلام.
وإذا كان أمر المرض الذي استبدّ بوالدي قد حسم الأمر معه فأودى بحياته نهائيّا فإنّ أمر السجن معي ينبغي أن يحسم الأمر بما يعيد لي نصف حريتي التي افتقدتها منذ يوم 23 نوفمبر 1973، حتى لا أتأخّر عن صنع لحظات القرار الجديد وأسهم عن قرب في وضع لبنات بنائه المتوجب داخل عائلتي.
ومن ثمّة فقد يتحوّل الوقت إلى سيف قاطع وهو في غمده كما قالت فيروز الكبيرة في إحدى موشّحاتها...
وأسألها في محاولة لجرّها للحديث:
هل بدأت تتركّز لديكم مُعطيات الوضع الجديد؟...
وتتعالى لديها الرغب في الكلام يخرج متتاليا مدرارا على غير عادتها، تقطعهُ بين الجٌمل رغبة في البكاء وحشرجة في الصّوت وشهقة عميقة وسكوت قاتل...
ونتبادل سويّا معاني من المعاناة الجاثمة بدون كلام ويدي تتجولّ ببطء في ثنايا خصلات شعرها برقّة لو قصدتُها لما جاءت حنينة بكل ذلك العمق.
قويّ وجديد هذا الشعور الذي يخنق أنفاسي وأنا في بيت الزيارة في سجن برج الرّومي أتحدّى الوقت إذ لم أعد أحس بضغطه عليّ بالمرّة، ونحن أنا ووالدتي هاربين من ضغوط الزّمان وزمان الضغوط تتلذّذ في فضاء غير مُعدّ لذلك لحظات صفاء الذّهن وتداخل العواطف وتبادل أرفع معاني المحبّة التي تحفزها الفاجعة الكبرى وتنحت معالمها في ذاكرتنا الجماعيّة وفي ذاكرة كلّ واحد منّا.
ولأوّل مرّة في حياتي السجنية الطويلة أحببتُ حدود فترة الزيارة لأنّ اللحظة لا تسمح بأكثر من إثارة معالم الإطار الجديد لحياة عائلتنا، ولا تقبل بأكثر من بداية وضع الأحجار الأولى لبناءٍ جديدٍ مختلف في الصّورة والمحتوى والتطلّعات.
وعدتُ من زيارتي الأولى بعد وفاة والديّ إلى زنزانة اعتقالي حرّا طليقًا مولودا من جديد، لأنّ الاطمئنان حاصل بأن الزّمان الآتي قد يكون أفضل، وبإمكانه حمل الأم من وراء الفاجعة...
إزاء لحظات سكوت والدتي أتعمّد الهروب بانتباهها إلى أسئلة فرعيّة غباؤها قد لا يتلاءم للوهلة الأولى وخطورة اللحظة، ومع ذلك فهي أسئلة تفرض نفسها حتى نخرج سويا من سيطرة الحزن إلى مجالات إعادة تركيب الواقع بمعطياته الجديدة.
أقول: هل اتصل بك أشقاؤك من فرنسا؟ ويأتي ردّها سريعا حافلا بالكلام الجارح والقاسي بقلّة اعترافهم بالجميل وتنكرهم لأيادي سيدهم حمدة كما كانوا يدعونه... ولكنّها عند اللّه أفضل...
ونتبادل الكلام في اتجاه واحد: منّي إليهم وإلى أمّي بالتحديد في جوّ من التداخل العاطفي العميق وفي ظلّ اتفاق ضمني، فعم حمدة الذي قضى نحبه مات في بيته وبين أهله وفي حماهم وخرج على أيديهم إلى مقرّه النهائي.
ولم يبْقَ الاّ أنا خارج دائرة الفعل وعلى هامش مهمّات الجري هنا وهناك لتحضير القبر واستخراج وثائق الدفن والتنسيق مع جماعة الغسل والنعش والكراسي واستقبال المعزين في حمى الدار العائلية وفي حمى المقبرة ثمّ في بهو العزاء الختامي اثر مراسم الدفن...
ولم يسألني أحد من زواري كيف عشت مأساتي كامل يوم الثلاثاء 20 مارس 1979 يوم الدفن الأكبر وبماذا تستّرت لأصمد لغيابي القسري الظالم المتجنّي...
وفي حركة أسرع من السرعة ذاتها تأخذ والدتي يديّ اليسرى وتلج في إحدى أصابعها خاتما كان والدي يحمله في حياته... كلّ ذلك في صمت وما يشبه اللامبالاة، وأنا أنظر تمعّنا يلفّني عرق خفيف وتستبد بي حيرة قاسية ويذهب بي تفكيري مذاهب شتّى في استبطان دلالات الحركة وصوغها في إطارها وفي أفضل كيفية للتفاعل معها.
ثمّ تأخذ يدي بعد أن أثبتت الخاتم في أحد أصابعها وتشدّها بكلّ قوّة أصابع يدها اليمنى وترفعها إلى فمها لتقبلها بكل حرارة وحنان، فيكتسي الخاتم المثبت في أحد أصابع هذه اليد أكثر من معنى وأبعد من مدى...
وتكبر عناوين مأساتي وأكبر في والدتي هذه القدرة الإرادية على إصباغ صفة المسؤول والقائم مقام الأب على الابن الأكبر وتحويل رمزيّة الأول إلى الثاني...
وكانت هذه الحركة أكبر من بدائية القمع وأرحب من الغباء الإداري الجامد، فقد فتحت أمامي باب الأمل مشرّعا عندما قالت لي أمّي بدون كلام ونحن في بيت الزيارة في سجن برج الرومي لدى أوّل زيارة لها بعد وفاة والدي بأنّنا الآن أصبحنا متلاحميْن بأكبر ممّا يستطيع السجن أن يحتمل وبأنّنا نعيد إحياء الزمن الناصع لنهرب بالسجن كمنطق يائس وقاصر...
من قال إنّ السجن لا يحفز العواطف ولا يصقل المشاعر ولا يدفع بالمرء إلى تجاوز ذاته وصهر نفسه في اشتعال عاطفي لا ينطفئ؟
ومن بإمكانه أن ينفي عن السجن قدرته الهائلة في تحفيز الذاكرة على التذكّر واختزان صور الأحداث الكبرى والصغرى على حدّ سواء في ذاكرة السجين بحيث يتحوّل أمسه وغده إلى بعديْن متلاحمين يقوّيان في الذات نزعة التفاؤل ويرسمان للمستقبل أبعادا وضاءة ناصعة.
وأسْرُدُ عليها تفاصيل رسالة التعزية التي بعثتُ بها إليها بعد يوم واحد من دفن والدي وهذا نصّها كما احتفظتُ بأصلها:
نص الرسالة
معتقل برج الرومي بعد ظهر الأربعاء 21 مارس 1979
والدتي العزيزة،
مرّة أخرى وبكل مرارة الإحساس بالخسارة التي حلّت بنا أُعزّيك وأعزّي نفسي وكلّ إخوتي في فقداننا المباغت والقاسي، وفي هذه الظروف بالذات لأبينا الغالي.
أعزّيك وأنا مُدرك لفداحة الرزيّة التي جاءت لتختطف منّا رجلا أحبّنا في صمت وتحمّل من أجل إسعادنا ورعايتنا كلّ أنواع التضحيات والحرمان، وظلّ رافضا حتى نهاية أيّامه أن يشعرنا أو يشعر نفسه أمامنا بأنّه إنسان مقصّر أو متخلّ، فدفعتُه هذه العاطفة النبيلة والراقية إلى الاستخفاف البريء بصحّته هو والعضّ على قلبه كما يقول الكلام اليومي، إلى أن تمكّن منه مرض خبيث نذل لا يرحم وعشّش في خلايا بدنه الذي عرف الآلام وحوادث الشغل وشتى أشكال الإرهاق والتعب فلم يمهله.
أعزّيك أنتِ التي عاشرته طويلا، وعرفت، رغم مرضك وتعبك، كيف تقفي إلى جانبه في حالات إعيائه وتعبه، وأخذت بيده إلى أن غادرنا كلّنا. أنت على الأقل تمكّنت من أداء واجبك نحوه في أيّام مرضه الأخيرة وخاصّة بعد أن عاد من مستشفى شارل نيكول ذات يوم سبت 10 مارس الجاري. تحمّلت معاناته وحملته في كلّ تطورات مرضه وسهرت معه الليالي وتعذّبت طويلا لعذابه وإرهاقه وعجزه حتى على الوقوف على قدميه. إنّه مؤلم جدّا أن نرى الذين نحبهم يتعذبون ويتألّمون ونحن شبه عُجّز عن القيام نحوهم بأي شيء بعد أن رفع الطب يديه وأعلن انسحابه.
أعزّيك وأعزّي نفسي لأنّي عشت احتضاره وألمه وموته من بعيد، فلم أتمكّن مثلك أنت ومثل بقيّة إخوتي لا من توديعه، ولا من القيام نحوه ببعض الواجب في أيّام حياته الأخيرة وتعبيرا منّي نحوه عن معاني العرفان والمعزّة والحبّ العميق.
أعزّيك وأعزّي نفسي في كلّ هذا وفي أكثر من هذا.
ولكن عزائي الحقيقي وسلواي الفعلية تكمن فيك أنت وفي إخوتي.
فأنتم قادرون على إحياء خصال هذا الرّجل، وعلى احترام تقديره للإنسان، وعلى الوفاء لتضحياته وللآلام التي مات من أجلها وأنتم قادرون بل ومُطالبون بمواصلة البناء الذي أعطى من أجل إقامته كلّ عمره وكل نبض حياته لديه: أقصد كما لا تجهلين، تربية إخوتي والسهر على شؤونهم وتوفير حاجياتهم وتنمية مواهبهم وتمكينهم من إتمام دراستهم.
تلك هي الطريقة الإنسانية والمعقولة للوفاء لذكرى هذا الرجل الكبير، وكل مبالغة في الحزن والألم قد تصيبنا بمكروه جديد ما أحوجنا الآن للإبتعاد عنه ليندمل جرحنا وتأخذنا الأيّام في طاحونة دورانها بكل الآلام الجديدة وإرادة البناء والرفعة التي تنطوي عليها.
أمّا من ناحيتي فسأخون ذكرى والدي وأبسط معاني تضحياته إذا تركت للسجن منفذا مهما يكن لينهش من كياني الذي بنيته من خلال حبّ وحيوية والدي.
سيظلّ السجن رغم قساوة مصيبتي صنما من الأحجار الباردة، الجامدة الخالية من كلّ تأثير، مادامت الحياة تمشي مشيتها.
وثقي يا أمّي أنّ ذكرى والدي ونبل أخلاقه وصلابة تحمُّله سوف لن تترك في قلبي ومشاعري إلاّ المعاني الراقية والنبيلة وإلى الأبد.
وإلى أن أراك وأتحدّث إليك عن غير طريق الورق الميّت أقبلك وأقبل معك كلّ الذين وقفوا معك في مصابك وأجدّد لك عهدي والتزامي برعاية ذكرى والدي ما حييت.
وأتمنّي أن تلقاك سلاماتي وأشواقي منفرجة، صامدة.
ابنك المخلص.م.الصالح فليس
المعتقل السياسي ببرج الرومي
وبعد مرور أكثر من شهر على وفاة والدي أعدْتُ الكتابة إلى والدتي من مُعتقلي فأرسلتُ لها رسالة الأربعينيّة أثبتها فيما كما كتبتها في زنزانة اعتقالي بسجن برج الرّومي.
نص الرسالة
معتقل برج الرومي يوم الأربعاء 25 أفريل 1979
أمّي الحبيبة،
بعد تحيّة المحبّة الصادقة، وأسمى معاني التقدير إليك، أعرف أنّك تتحضرين لمراسم الأربعينية الوشيكة، وأنّك قضيت متألمة أسبوعك منذ تقابلنا ذات جمعة 20 أفريل. أنا مثلك أحسب الأيّام في علاقة بهذه المناسبة. ما أسرع أن تنقضي الأيّام! أربعون يوما كاملة منذ غادرنا حبيبنا الغالي، مرّة واحدة، مرغما تحت فظاعة الألم وأوجاع السرطان بدون أن يودع كلّ أبنائه وبدون أن ينهي رسالته على هذه الأرض... لم يكن أبي، على الرّغم من فقره وطيبته وإيمانه البسيط بالجنة، يكره الحياة، ولم يكن يرفض مواصلة تحمل قدره، ولم أسمعه يوما يتبرم بالحياة.
وأبي لم يكن قاسيا أو قليل الحساسية حتى يقبل مفارقتنا بكل سهولة وسرعة. إنّه جاهد وكابد وحارب المرض كأعند ما تكون المكابدة والجهاد. ولكن السرطان كان أقوى وأخبث من أن تقضي عليه المقاومة وحدها...
منذ لحظة عندما نظرت إلى هذه الصورة الوحيدة التي تصحبني، تذكرت يا أمّي إحدى نقاشاتي معه عندما كان يقول لي: عندما سأذهب (يقصد هذا الذهاب القاسي الذي جاء قبل أوانه!) لن آخذ معي أي شيء ولن أترك لكم إلاّ تربيتي... وقتها يا أمّي مازلت لا أعطي قيمة لعمق كلام والدي، كنت آخذ بشيء من السّهولة كلامه لأنّي لم أكن أتصور أنّ وقت ذهابه قد حان أو على وشك أن يحين. والآن وقد حان هذا الوقت وعادت إلى أذني كلماته هذه، أحسّ برغبة كبيرة لكي أقف أمامه حتى وهو في قبره لأقول له: يا والدي يا صديقي، (عندما كبرت وبدأت علاقتنا تتحوّل إلى صداقة حقيقيّة لا حدود فيها دعاني أنا قدري فانضممت من جديد إلى عام الرحلات، وفي الأثناء وجد السرطان الإمكانية لاختطافه منّا لكي لا نراه أكثر ممّا رأيناه)، أنت عندما ذهبت عنّا أخذت منّا أرقّ ما في عواطفنا من معاني الإكبار والمحبّة العميقة السحيقة العمق، وعندما ذهبت دعوت معك ملايين العواطف الرقيقة التي كان روتين الحياة وقساوة عراكك وعراكنا معها، وتفاهة طاحونة الشيء المعتاد، تزيحها من السطح لتقذفها في الغور السحيق من قلوبنا التي ساهمت أنت في صنعها. وعندما ذهبت حيّرْت في نفس كلّ واحد منّا بدون استثناء آلاف الآلام وملايين معاني اللّوعة والحزن، وأفدح معاني الإحساس بالخسارة. لماذا تتواضع وتتصوّر أنّ ذهابك لن ينقص منّا شيئا؟ ثمّ لماذا تتواضع وتحسب أنّك لن تترك لنا إلاّ تربيتك لنا؟ إنّك تركت لنا بعد ذهابك خصال الأنفة والرجولة وحبّ البذل والاستعداد للتضحية من أجل تجسيم حبنا للآخرين. وهل هذا قليل؟ إنّك تركت لنا حبّا عزيزًا للحياة وعطفا حارا على ضعفائها ورصيدا من الحبّ والتعاطف بيننا يكفينا لنعيش دهرا طويلا. وهل هذا بسيط؟
إنّك تركت لنا معاني راقية في رباطة الجأش والمثابرة على التحمّل والاستعداد لقبول المصائب والخيبات. فماذا تريد أن تترك لناأكثر وأعمق من هذا الذي تركته لنا؟ إنّنا فخورون يا والدي بالقليل الذي تركته لنا، ونحن فخورون أكثر لو استطعنا بما في الكلمة من شرف المحاولة والسعي أنّ نصوص قليلك ونحميه. وسنفعل ما بقيت أمامنا سبل الفعل ممكنة...
ويكفينا فخرا يا أمّي الحبيبة أن أبانا مات كما عاش: رجلا صابرا متجلّدا، وأنّك وبقيّة أبنائه كنتم إلى جانبه بكل رجولة الحضور ونبل المساعدة. أمّا أنا فإنّي مازلت أعزّي النفس بأنّني عندما مات والدي لم أكن أتسكّع ولم أكن على طاولات القمار ولا في محلات الصخب والعربدة أو في عالم الفساد، بل كنت مقيّدا في أسوار ثقيلة لا حول ولا قوّة لي أسمع أنباءكم وأتلقى البرقية وأرى الحزن على وجوه إخوتي ولا أستطيع أن أفعل شيئا. ولا أرى نفسي وألمي إلاّ عندما أكون ملقى على سريري وتأخذني غصّة بكاء طويلة كأنّّها آتية من قاع البحر المجاور إلى أعلى الجبل الذي يأوينا.
نعم يا أمّي العزيزة من بعيد جدّا بكيت أبي العزيز الشريف بالدموع العزيزة الشريفة. لم أكن قد عرفت البكاء من قبل. لم أبك حتّى يوم اعتقلوني لأوّل مرّة ولم أبك عندما علقت لساعات طويلة والعصي تنهال عليّ من كلّ جانب. ولكن أيّام الفاجعة وزمن النكبة بكيت رغم أنّي أخفيت عليك دموعي وحاولت أن أتجلّد أمام نفسي (1).
وأعرف من ملامح وجهك وملامح إخوتي أنّكم أيضا بكيتم بالدّمع الحار وحزنتم في عالمكم الذي حرمتني رحلتي هذه حتى من أن أكون معكم داخله في مناسبة دقيقة كهذه. وكيف لا تبكون وأبكي وقد فقدت أنت يا أمّي الحبيبة عشير عمرك وصديق أيّامك ورفيق مسيرتك ووالد أبنائك، وخسرنا نحن قلبًا كبيرًا كان يشعّ علينا بالحنان والعطف كما تشع الشّمس بالنور والحرارة، وفقدنا بحرًا عريضًا من التفهم والوداعة كان يغسل لنا حتى النظافة كلّ مظاهر جهلنا بالحياة وأخطائنا في خضمها، وحرمنا من عالم رحب كلّه رحمة وبذل وعطاء.
والمهم والأكيد بعد هذا كلّه هو أن لا تذهب دموعنا وآيات لوعتنا سدى، وأن لا يكون عمق وعينا بالخسارة كنار التبن تشتعل لحظة لتنطفئ بسرعة كبيرة.
أنا في سجني البغيض هذا سوف لن أنسى، وسوف لن تذهب دموعي سدى لأنّني وفي كلّ يوم سألقى أبي حاضرا في شهامتك أنت يا أمّي الكريمة ونبل مقاصدك ورفعة حرصك عليّ وعلى إخوتي. وفي كلّ لحظة ودقيقة سألقى أبي حاضرا في طيبة دريس وحيوية رياض ورصانة نوبة وجدّية مليكة ورقة عاطفة شريفة ودماثة أخلاق فوزي وفطنة نورالدين... في كلّ يوم جمعة على الأقل سألقى أبي في رجولتكم كلّكم وحبكم لي وحبّكم لبعضكم عندما أسمع أخباركم وأطمئن على صحّتكم وآراكم بخير أو في شبه خير.
ومادمت في هذا الخلاء يأويني الحبس بزنزاناته وقضبانه وجدرانه وأسواره العالية وسياجه الخطير فسوف أتذكّر أبي من خلال مئات وآلاف الذكريات وصور التضحية التي ترصفت على جدران ذاكرتي، والتي خلّدتها في دماغي عراقة المشاعر الذي أحسستُ بها منذ بدأت نكبتي ووقف إلى جانبي دون تردّد ولا حسابات ولا خوف.
وبعد كلّ هذا، فإذا كنت يا أمّي الحبيبة قد نكبت في والدنا الغالي وخسرت بفراقك له عالما كاملا، فإنّك لم تخسرِ أبناءك وبناتك ولم تخسريني أنا على الرغم من الست سنوات التي تفصلني عنك. وكلّنا بقليلنا وكثيرنا قادرون على إحياء خصال أبينا، وإثراء معاني كفاحه ومواصلة كده وانجاز ما كان يحلم بانجازه ورعاية خلفه ونشر إبائه وأنفته وتكريم روحه وذكراه.
هذا هو واجبنا الحقيقي أماه وذلك هو قدرنا الفعلي فلنتحمّله كما تحمّل أبونا أيّام الفقر واليتم والضنك في بداية حياته ولننجح كما نجح هو في بذله. وفي ذلك كل شرفنا ومنه كلّ عزائنا.
ومع أعمق أشواقي لك تقبّلي ومعك كلّ الأخوة أصدق قبلاتي ومعاني وفائي.
❊ ابنك المخلص م.ص.فليس
(1) تعمّدتُ إفراد ه*ذه الفقرة من الرّسالة بخطّ مُميّز غليظ لأنّها فقرة »سطّرها في أصل الرسالة القارئ الرقيب في المصلحة المختصّة بالمساجين السّياسيين بالإدارة العامة للسّجون المكلّف بقراءة ما يبعث وما نتلقّى من رسائل قبل الاذن بقابليّتها للإرسال والتّسليم...



تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
629
آخر تحديث
أعلى