الزمن أزمنة ثلاثة : الزمن البيولوجي ، والزمن النفساني ، والزمن الاجتماعي.. الزمن النفساني هو زمن الواقع المعاش...
الكتابة السجنية محورها الرئيسي الحياة السجنية وما يحوم حولها وبعلاقة بها.. فهل هذه الكتابة ينبغي بالضرورة أن تكتب في آنها ، يعني خلال تجربة الحياة داخل السجن ، أم أنها يمكن أن تكتب بعد المغادرة ؟
البعض يقول أن المهم هو محتوى الكتابة وليس لزمن الكتابة نفسها أية أهمية، في حين يقول آخرون أن الأدب السجني ينبغي بالضرورة أن يكون وليد السجون.. المسألة كما لا يخفى مرتبطة ارتباطا مباشرا بالعلاقة بين الذاكرة و الزمن.. أليس من البديهي أن زمن الماضي البعيد لا مفر من خضوعه لزمن الحاضر المعاش ؟
نحن في تونس لنا تجربة خاصة وقصيرة في هذا الميدان، فنحن لم نكتب "سجنيا"، ولا نعرف لماذا..يقول فتحي بالحاج يحيى ب"ضماره" المعتاد : " لماذا لم نكتب ؟ كقولك لماذا ليس لنا فريق قومي في الهوكي على العشب"....بعد فترة تراوحت بين 20 و30 سنة ، ازدان أدب السجون بمساهمات تونسية قيمة لأصدقائي ورفاق سجني جلبار نقاش وفتحي بلحاج يحيى ومحمد الصالح فليس....كتب هؤلاء حول الزمن الماضي ،ولم يكتبوا لفتح الجراح بل كتبوا " لكي لا تذهب التجربة هباء ، ولا تعود الذاكرة عذراء " كما يقول محمود درويش... كتبوا بعد مرور عقود على مغادرة السجن ، وبعد ما "حملت الكتاب لسنوات كما تحمل الأم جنينها" ، يقول محمد الصالح فليس ... كتبوا وأصدروا بعد سنوات من التردد و" البخل" والخوف ؛ أقول الخوف لأن الكتابة أكبر مسؤولية يمكن تصورها ؛ فأنت بمجرد أن تكتب وتصدر صنيعك تقبل أن تقف مكتوف اليدين أمام آلاف القراء الذين ينتصبون ( ولهم الحق في ذلك) للحكم عليك وعلى أدبك بسرعة فائقة... يحكمون عليك غيابيا وبما يشاءون في محاكمة غير عادلة إطلاقا ، يحاكمونك على ما اقترفت يداك من كتابة ، بعد أن حاكمك السلطان على ما فعلت ، أو ما ادعى بوليسه السياسي أنك فعلت ...
الكتابة السجنية في حقيقة الأمر تشكل مغامرة عظيمة وتحديا كبيرا..مغامرة لأنك لا تعرف لا من أين تبدأ ولا من أين تنتهي.. تختلط الأحداث بالمشاعر ويمتزج البكاء بالضحك لأن السجن مضحك لسذاجته ومبكي ككل مأساة على الأرض..." أحداث ووقائع ما إن تلج الورق حتى يفقد فيه الهزل آثره كلما اقترب من دائرة الوجع وتضيع فيه علامات الوجع كلما لبست ثوب العبثية" كما يقول فتحي...
كان زمنا صعبا على الكتابة..على الكتابة الحرة أقصد بالطبع ، فالكتابة حرة أو لا تكون ،والكتابة السجنية أكثر من غيرها لأنها من منطلقها هروب نحو الحرية من جدران الزنزانة ، ولأن الكلمة تصبح بمثابة جواز السفر لما وراء أبواب السجن الحديدية المصفحة.. " كنت داخل سجني أبحث عن الحرية على مساحة لا حدود لها لصفحة بيضاء أغطيها بالكلمات دون عراقيل " يقول ناظم حكمت..
لم تقع أبدا، حسب آعتقادي، الإشارة إلى أن عشرية 70/80 ليست ككل العشريات .. هي عشرية بدأت فيها التساؤلات والمراجعات والصراعات ليس مع السلطة والرجعية والامبريالية فقط بل كذلك بين رفاق الدرب داخل الزنزانات وخارجها ، وعاد السؤال الكبير الذي كنا جميعا نعتقد أننا أجبنا عليه وبصفة نهائية منذ مدة طويلة : "من نحن ؟ وماذا نريد ؟
و هنا وفي العالم من هم أصدقاؤنا ، ومن هم أعداؤنا ؟ وهل كانت تضحياتنا في غير محلها ؟ وفجأة ،تصبح للكتابة وظيفة أخرى غير مرتقبة ... تتحول الى " كتابة التمزق"..L'écriture de la déchirure إصدارات الثلاثي جلبار /فتحي / محمد الصالح ، ولا أدري ان كان ذلك من باب الصدفة ، آختلفت الواحدة عن الأخرى ، وكانت النتيجة تنوع محمود .. جلبار ، كعادته ، يتحمس للنزالات الفكرية والايديولوجية ، فكان كتابه متمحورا حول ما شهدته حركة آفاق /العامل التونسي من تمزقات ، خاصة في الفترة ما بين 72 و76 بين الخط الذي توخته المنظمة في أواخر الستينات والخط "الجديد" الداعي الى القطع مع التوجه السابق وقياداته وتبني خط الثورة الوطنية الديمقراطية على الصيغة الصينية والتي أضيف لها سنة 74 خيار القومية العربية في خليط استغرب له الكثيرون..
أما فتحي ، فكان خياره غير ذلك.. فتحي اعتبر ، حسب اعتقادي ، أن الصراعات السياسية التي جرت في السجن لا تعني قراء اليوم ،وخصوصا منهم الشبان ، والمعلوم أن فتحي يسكنه قلق شديد على الهوة التي يقرأها الجميع بين أجيالنا وشباب اليوم.. اهتم فتحي ، وبدون " غصرة" بالجانب الحياتي والفردي من الحياة السجنية وأبدع في الحديث غير المتشنج عن جوانب من حياة السجناء السياسيين لا علاقة لها بالسياسية أو الايديولوجيا ، وساهم فتحي بقراءته الطبيعية في التذكير بأن السجين السياسي هو إنسان وبشر قبل أن يكون مناضلا و متحمسا للثورة.. وأنا شخصيا مقتنع أن الصدى الواسع الذي حظي به كتابه يعود بنسبة كبيرة لهذا الخيار...
أما محمد الصالح ،فكان له خيار خاص جدا... أصدر هذا الكتاب تخليدا لذكرى والده الراحل عم حمدة فليس ، فكان لعم حمدة حضور كبير في صفحات الكتاب... وأعتقد شخصيا أن هذا الخيار ايجابي للغاية .. فالكثبرون يجهلون مكانة ودور أهلنا وعائلاتنا في الوقوف الى جانبنا خلال المحنة السجنية والمحنة الأشد التي تسبقها في مقرات أمن الدولة.. كانت معارك عظيمة تخاض خارج السجون من طرف زوجاتنا وعائلاتنا وأقاربنا.. معارك خصوصية مرتبطة مباشرة بأوضاعنا في الايقاف أو في السجن ، معارك كنا نسمع بالقليل منها داخل زنزاناتنا ، أبطالها بدون منازع هي الزوجات والأباء والأمهات والأقرباء عموما.. فحسنا فعل محمد الصالح بمساهمته في اعادة الاعتبار لمساهمات عم حمدة المتنوعة وعبر عم حمدة كل العائلات في كافة أنحاء البلاد...
الكتابة السجنية محورها الرئيسي الحياة السجنية وما يحوم حولها وبعلاقة بها.. فهل هذه الكتابة ينبغي بالضرورة أن تكتب في آنها ، يعني خلال تجربة الحياة داخل السجن ، أم أنها يمكن أن تكتب بعد المغادرة ؟
البعض يقول أن المهم هو محتوى الكتابة وليس لزمن الكتابة نفسها أية أهمية، في حين يقول آخرون أن الأدب السجني ينبغي بالضرورة أن يكون وليد السجون.. المسألة كما لا يخفى مرتبطة ارتباطا مباشرا بالعلاقة بين الذاكرة و الزمن.. أليس من البديهي أن زمن الماضي البعيد لا مفر من خضوعه لزمن الحاضر المعاش ؟
نحن في تونس لنا تجربة خاصة وقصيرة في هذا الميدان، فنحن لم نكتب "سجنيا"، ولا نعرف لماذا..يقول فتحي بالحاج يحيى ب"ضماره" المعتاد : " لماذا لم نكتب ؟ كقولك لماذا ليس لنا فريق قومي في الهوكي على العشب"....بعد فترة تراوحت بين 20 و30 سنة ، ازدان أدب السجون بمساهمات تونسية قيمة لأصدقائي ورفاق سجني جلبار نقاش وفتحي بلحاج يحيى ومحمد الصالح فليس....كتب هؤلاء حول الزمن الماضي ،ولم يكتبوا لفتح الجراح بل كتبوا " لكي لا تذهب التجربة هباء ، ولا تعود الذاكرة عذراء " كما يقول محمود درويش... كتبوا بعد مرور عقود على مغادرة السجن ، وبعد ما "حملت الكتاب لسنوات كما تحمل الأم جنينها" ، يقول محمد الصالح فليس ... كتبوا وأصدروا بعد سنوات من التردد و" البخل" والخوف ؛ أقول الخوف لأن الكتابة أكبر مسؤولية يمكن تصورها ؛ فأنت بمجرد أن تكتب وتصدر صنيعك تقبل أن تقف مكتوف اليدين أمام آلاف القراء الذين ينتصبون ( ولهم الحق في ذلك) للحكم عليك وعلى أدبك بسرعة فائقة... يحكمون عليك غيابيا وبما يشاءون في محاكمة غير عادلة إطلاقا ، يحاكمونك على ما اقترفت يداك من كتابة ، بعد أن حاكمك السلطان على ما فعلت ، أو ما ادعى بوليسه السياسي أنك فعلت ...
الكتابة السجنية في حقيقة الأمر تشكل مغامرة عظيمة وتحديا كبيرا..مغامرة لأنك لا تعرف لا من أين تبدأ ولا من أين تنتهي.. تختلط الأحداث بالمشاعر ويمتزج البكاء بالضحك لأن السجن مضحك لسذاجته ومبكي ككل مأساة على الأرض..." أحداث ووقائع ما إن تلج الورق حتى يفقد فيه الهزل آثره كلما اقترب من دائرة الوجع وتضيع فيه علامات الوجع كلما لبست ثوب العبثية" كما يقول فتحي...
كان زمنا صعبا على الكتابة..على الكتابة الحرة أقصد بالطبع ، فالكتابة حرة أو لا تكون ،والكتابة السجنية أكثر من غيرها لأنها من منطلقها هروب نحو الحرية من جدران الزنزانة ، ولأن الكلمة تصبح بمثابة جواز السفر لما وراء أبواب السجن الحديدية المصفحة.. " كنت داخل سجني أبحث عن الحرية على مساحة لا حدود لها لصفحة بيضاء أغطيها بالكلمات دون عراقيل " يقول ناظم حكمت..
لم تقع أبدا، حسب آعتقادي، الإشارة إلى أن عشرية 70/80 ليست ككل العشريات .. هي عشرية بدأت فيها التساؤلات والمراجعات والصراعات ليس مع السلطة والرجعية والامبريالية فقط بل كذلك بين رفاق الدرب داخل الزنزانات وخارجها ، وعاد السؤال الكبير الذي كنا جميعا نعتقد أننا أجبنا عليه وبصفة نهائية منذ مدة طويلة : "من نحن ؟ وماذا نريد ؟
و هنا وفي العالم من هم أصدقاؤنا ، ومن هم أعداؤنا ؟ وهل كانت تضحياتنا في غير محلها ؟ وفجأة ،تصبح للكتابة وظيفة أخرى غير مرتقبة ... تتحول الى " كتابة التمزق"..L'écriture de la déchirure إصدارات الثلاثي جلبار /فتحي / محمد الصالح ، ولا أدري ان كان ذلك من باب الصدفة ، آختلفت الواحدة عن الأخرى ، وكانت النتيجة تنوع محمود .. جلبار ، كعادته ، يتحمس للنزالات الفكرية والايديولوجية ، فكان كتابه متمحورا حول ما شهدته حركة آفاق /العامل التونسي من تمزقات ، خاصة في الفترة ما بين 72 و76 بين الخط الذي توخته المنظمة في أواخر الستينات والخط "الجديد" الداعي الى القطع مع التوجه السابق وقياداته وتبني خط الثورة الوطنية الديمقراطية على الصيغة الصينية والتي أضيف لها سنة 74 خيار القومية العربية في خليط استغرب له الكثيرون..
أما فتحي ، فكان خياره غير ذلك.. فتحي اعتبر ، حسب اعتقادي ، أن الصراعات السياسية التي جرت في السجن لا تعني قراء اليوم ،وخصوصا منهم الشبان ، والمعلوم أن فتحي يسكنه قلق شديد على الهوة التي يقرأها الجميع بين أجيالنا وشباب اليوم.. اهتم فتحي ، وبدون " غصرة" بالجانب الحياتي والفردي من الحياة السجنية وأبدع في الحديث غير المتشنج عن جوانب من حياة السجناء السياسيين لا علاقة لها بالسياسية أو الايديولوجيا ، وساهم فتحي بقراءته الطبيعية في التذكير بأن السجين السياسي هو إنسان وبشر قبل أن يكون مناضلا و متحمسا للثورة.. وأنا شخصيا مقتنع أن الصدى الواسع الذي حظي به كتابه يعود بنسبة كبيرة لهذا الخيار...
أما محمد الصالح ،فكان له خيار خاص جدا... أصدر هذا الكتاب تخليدا لذكرى والده الراحل عم حمدة فليس ، فكان لعم حمدة حضور كبير في صفحات الكتاب... وأعتقد شخصيا أن هذا الخيار ايجابي للغاية .. فالكثبرون يجهلون مكانة ودور أهلنا وعائلاتنا في الوقوف الى جانبنا خلال المحنة السجنية والمحنة الأشد التي تسبقها في مقرات أمن الدولة.. كانت معارك عظيمة تخاض خارج السجون من طرف زوجاتنا وعائلاتنا وأقاربنا.. معارك خصوصية مرتبطة مباشرة بأوضاعنا في الايقاف أو في السجن ، معارك كنا نسمع بالقليل منها داخل زنزاناتنا ، أبطالها بدون منازع هي الزوجات والأباء والأمهات والأقرباء عموما.. فحسنا فعل محمد الصالح بمساهمته في اعادة الاعتبار لمساهمات عم حمدة المتنوعة وعبر عم حمدة كل العائلات في كافة أنحاء البلاد...