عماد حفيظ - الكتابة في مقاومة النسيان والموت.. عتبات «الحبس كذاب والحي يروح» لفتحي بن الحاج يحيي

تشمل عتبات النص كما نظّر لها جينات، المصاحب النصي (le péritexte) والذي يضمّ العتبات الداخلة في تكوين النصّ كعلامات النشر والعناوين والاهداءات و المقدمات و كل ما يقع تحت مسؤولية الكاتب خاصة. والمحيط النصي (l'épitexte) ويضمّ ما يقع في محيط النصّ من خطابات. وقد قسّمه جينات إلى محيط نصي خاص أو ذاتي ( l'épitexte privé) ويضمّ الرسائل والاعترافات الشفويّة واليوميات وغيرها. ومحيط نصيّ عموميl'épitexte public ويضمّ المحاورات الصحفية والندوات والنقاشات وغيرها. و ستهتم هذه الورقة بالعتبات وذلك لأمرين ، يتمثل الاول في ما توفره العلاقة الجدلية بين النصوص الموازية والنص الاصلي من امكانيات لتحقيق قراءة ايجابية وتوليد دلالات قد لا تتحقق في حال الاقتصار على النص وحده، اما السبب الثاني فيفرضه كتاب فتحي بن الحاح يحي الموسوم ب " الحبس كذاب و الحي يروّح". فكمّ النصوص الموازية المرافقة للنص الاصلي في هذا الكتاب امر يغري بقراءة تتوسل بالعتبات.
و تتوزع هذه العتبات على المصاحب النصي وهي:
العنوان الرئيس: الحبس كذّاب و الحي يروح
العنوان الفرعي: ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي
معلومات النشر و التواريخ
الاهداء: قصيدة مهداة الى ابنته هند
تمهيد: وهو أقرب النصوص الموازية التي تضمّنها الكتاب الى صيغة البيان
كلمة ود: و هي اعتراف بالجميل لمن ساعد الكاتب في مراجعة النصوص وانجاز الكتاب
تقديم: وعبارة عن رسالة من صديقه توفيق الجبالي تتضمن ما يشبه البدء في تقديم الكتاب ثم اعتذار عن انجاز التقديم
"عودة الذاكرة" و يمكن وصل هذا النص بالتمهيد و بالنصوص التي تلته و هي"حكاية الفيلة البيضاء" و "الو نور الدين" و "بمناسبة اغلاق سجن 9 افريل" و هي نصوص تقدّمت النص الأصلي و الخيط الناظم بينها على اختلاف السياقات التي كتبت فيها هو الاحساس " بدخول لعبة الموت الى (حياة الكاتب) بفعل العمر الذي بدأ يصيب جيل (ه) و ما سبقه من اجيال". و ما رافق الدخول الى هذا المدار من رعب/ تأمّل حضر في جلّ النصوص الموازية متواريا خلف الاستعارة و المرح حينا ومعلنا حينا اخر.
أما النصوص التي تنتمي الى المحيط النصي الذاتي فهي:
نص بعنوان " اضافات" : و هو تفكير في النصوص بعد انجازها و تضمن اساسا رسالة من صديقته لطيفة الاخضر و بعض التعليقات حول مسائل متنوعة على هامش ملاحظات صديقته او بوحي منها.
الرسالة التي تلقاها الكاتب من صديقه المغربي محمد الصغير جنجار و تتضمن هي ايضا بعض الملاحظات و الاقتراحات و التي يبدوا ان الكاتب قد افاد منها في صياغة عنوان كتابه بشكل واضح.
هذه هي النصوص الموازية التي رافقت النص الاصلي في طبعته الاولى (2009). وهي لكثافتها تدخل القارئ في حالة من الشوق العارم إلى النص الأصلي، فهو لا ينتهي من قراءة نص مواز حتى يظهر اخر، و ما ان ينتهي من حفر طبقة حتى تفاجأه اخرى... و يصبح الوصول الى النص مفاجأة تربك القارئ فلا يصدق انه دخل مداره، و قد يعود الى بعض الصفحات السابقة يقرأها ليتأكد انه يقرأ النص الاصلي الان.. هكذا يتحول ذلك النص الى لقية... فهل عمد فتحي بن الحاج يحي إلى هذه اللعبة ليستفز ذهن القارئ فلا يدرك النص الا و قد اتقن الشك؟ ام انّ تنوّع تلك العتبات وكثرتها يعكس التردّد الذي عرفه الكاتب قبل ان يخرج نصوصه للناس؟ وهو تردّد تقتضيه طبيعة النصوص وتفرضه. فهي نصوص تقع ضمن "مفترق اجناسي" او منطقة تماس بين السيرة و التاريخ و بين "الحميمي" و " المشاع" او العمومي. انها نصوص حميمية لانها من تفريعات السيرة اذ ترتبط بتجربة السجين و تتصل بمعيشه اليومي ، وهي مشاع لانّ قضية السجين، القضية التي دخل من أجلها السجن، جزء من التاريخ (المشترك).
و سواء كان ذلك ترددا أو "صبرا" خلّص فتحي بن الحاج يحي من الالم المرضي pathos الذي يطغى على الكتابات العربية عن التجربة السجنيّة " بعبارة أحد أصدقاء الكاتب (محمد الصغير جنجار) . فأنه ينبّه على أنّ فتحي بن الحاج يحي لا يستسهل الكتابة، بل انه يفكر في ما يكتب و يشتغل على نصوصه. و لعل التعديلات التي طرأت على عنوان النص تؤكد ذلك.
و لأنّ العناوين تمتلك القدرة على تكثيف النصوص بما هي نصوص بخصوص النصوص التي تتصدرها و باعتباره علامة لا تحكي النص بقدر ما تعلن قصديّته و لقدرته أخيرا على الاحتفاظ بأثر منتجه فان هذه الورقة ستركز على قراءة عتبات العناوين باعتبارها نموذجا للعلاقة التفاعلية بين النص الأصلي و عتباته.
عتبة العنوان الرئيس :
عنوان الكتاب الرئيس هو " الحبس كذاب و الحي يروح" وقد اقترن بعنوان فرعي رفد الأول وفسره و هو " ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي". و هو العنوان الذي اقترحه فتحي بالحاج يحي لكتابه في البداية ثم تحول الى عوان فرعي باقتراح من صديقه محمد الصغير جنجار.
ضمن رسالة محمد الصغير جنجار التي ارفقها فتحي بالحاج يحي بنصه، واعتبرناها نصا موازيا ينتمي الى المحيط النصي الخاص نقرأ :" و في الاخير أقترح عليك ايجاد عنوان ( في كلمتين أو ثلاث) يكون يحمل من المرح و الاثارة ما يترجم النفس الجامح الذي يخترق النص من أوله الى خره و بذلك يتحول العنوان الحالي (...) الى عنوان فرعي بأحرف صغيرة " و يضيف:" جاذبية العنوان يمكن ان تساهم في انتشار الكتاب و تيّسير تلقيه لدى القارئ العربي" و هو اقتراح عمل فتحي بن الحاج يحي على تلبيته، فكان العنوان" الحبس كذاب و الحي يروح"
انّ العبارة/ المثل الذي اختاره فتحي بالحاج عنوانا يضعنا امام تيمة الكتاب (السجن) و لكنه يذكرنا ايضا بأنّ السجن ليس مجرد تيمة بل واقعا وتجربة. واختيار الدارجة التونسية (و نعني حتما الاستعمال و ليس المفردات لان كل المفردات الواردة في العنوان تنتمي الى الفصحى) هو ما يخلق هذا الانطباع فالفصحى قد تخلق وهم الانفصال عن الواقع لمجرد انها فصحى.
و العبارة التي اختارها فتحي بالحاج يحي عنوانا، لا تحيل على تجربة السجن فحسب بل تتضمن تأمّلا للزمن، إنّها تحريض"ضمني" على التفكير في السرعة التي تنقضي بها الاشياء... و يجيء بها النسيان. إنّ "كذب السجن" و" مِرْواحْ الحيّ"( السجين) يعني سرعة انقضاء فترة السجن، سرعة انقضاء هذه الفترة التي قد تكون سنوات من عمر السجين..هذا ما يستمد منه السجين السلوان... غير ان هذه السرعة هي التي قد تضعنا جميعا في مدار الرعب، فالعمر أيضا قد ينقضي بالسرعة ذاتها و قد يختفي ما حولنا و من كانوا حولنا بذات السرعة... و لعلّ هذا الرعب، هذا الخوف من النسيان هو ما دفع فتحي بالحاج يحي الى الكتابة. وفكرة الموت/ النسيان و ضياع الذاكرة فكرة تواترت في جلّ العتبات وهيمنت على مزاج الكاتب فألحّ عليها، يقول:
" يوم تُوفِّي نور الدين بن خضر، حدث شيء ما في عقارب الزّمن. أمر يتجاوز شخصه. جليلة بكّار قالت إنّ مسرحيّة "خمسون" وراءها موت نور الدّين بن خضر وأحمد بن عثمان. كأنّ الصّحاب بدؤوا يتساءلون عن المعنى من وجودهم وهم الذين قضّوا العمر في تأسيس معنى." (تمهيد)
و يقول :
" أول كتاباتي عن هذه الحقبة لم تكن من موقع المتذكر بل بدأت من أحداث طرأت في الزمن الراهن: (...) ثم دخلت لعبة الموت في منطقة حياتنا بفعل العمر الذي بدأ يصيب جيلي و من سبقه من اجيال ، و بفعل طوارئ تقصر من أعمارنا و كأننا عشنا زيادة عن اللزوم(...) و مع كل وفية تنفتح هوّة في العاطفة و ثغرة في الذاكرة" (عودة الذاكرة)
و يقول:
" أسطورة الفيلة البيضاء (...) تروي سرّ تلك الحيوانات التي تشرع في رحلة طويلة عبر الادغال لتبلغ مقبرة الفيلة (...) و اليوم يغمرني مثل ذلك الشعور" ( حكاية الفيلة البيضاء)
و يقول:
" عبثا أحاول طرد الغيمة من ذهني و ربما الافضل ان تبقى لكي لا تأخذ مكانها أسئلة مرهقة عن عبثية الوجود و لغز الموت." ( ألو نور الدين)
إنّ إلحاح فكرة الموت/ النسيان/ ضياع التاريخ على ذهن الكاتب يجعلها تبدو السبب الأول و الدافع الابرز لكتابة النص و نشره بل و للكتابة عموما.
عتبة العنوان الفرعي
يوازي العنوان الفرعي العنوان الرئيس فيفسره و يضيف اليه . فالنص " ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي" و هو عنوان لاينهض بمهمة التحديد الاجناسي ولا يتوفر على كفاية وصفيّة لموضوع الكتاب. غير انه يضع القارئ في نطاق النص بشكل عام (تجربة اليسار في تونس في الزمن البورقيبي) و لا شك ان مركز الاهتمام او الثقل في العنوان موزع بين ثلاث مواضع:
" أوراق" و "دفاتر " و هما عبارتان تحيلان رأسا على متصور الكتابة " التي أخذت حيزا هاما من تفكير الكاتب و في النص إشارات كثيرة إلى انشغاله بهذه المسألة.
"اليسار"
" الزمن البورقيبي"
و لئن كان من العسير تعويض عبارة " اليسار" بأخرى مساوية فان عبارة" الزمن البورقيبي" كان من المكن أن تساويها عبارات كثيرة، غير ان الكاتب فرضها ختيارا لوعيه بما ينتاب التونسي من "فوضى احاسيس" تجاه بورقيبة " بعد موته، و ربمّا خاصة بعد ما الت اليه الاوضاع اليوم بعد موت اخناتون وعودة كهنة الهيكل". و هو اختيار لا يعكس بحث الكاتب عن رواج كتابه بقدر ما يعكس استمراره في مراجعة تجربته و تأملها...
العناوين الداخلية
ليست الطبيعة المرجعية لعناوين النصوص و الفقرات الداخلية، هي ما يلفت الانتباه فحسب بل اتصالها بتفاصيل دقيقة قد لا يتيسّر الانتباه إليها و لكن الذاكرة تحتفظ بها و تتحول حين استرجاعها الى حيوات... فكأن الكاتب ينقل عن الذاكرة مباشرة. ان قدرة الكاتب على التقاط الاكثر بساطة والأكثر كثافة في آن عظيمة... و لعل اختياره لعنوان من قبيل " الو نور الدين" للكلمة التي ألقاها في تأبين نور الدين بن خضر ،وهي احدى ابرز عتبات نصه،تؤكد ما ذكر... يقول في الفقرة الاخيرة من النص:" صبيحة هذا اليوم ، كنت أطالع كتابا و استوقفتني افكار كنّا تطارحناها معا في نقاشاتنا، و لم أدر كيف فتحت ، في لحظة، هاتفي الجوال و لدردشة مألوفة مع نور الدين و ضغطت على الحرف n لافتح المكالمة فكان الجواب: اسف لا يمكنكم الاتصال بمخاطبكم في الوقت الحاضر.
إنّ العنوان يستمد كثافته و قوته من هذ الموقف الدرامي الذي يختزل كل ما يمكن ان يقال عن الاحساس بالفقد حين تستمر أشياء الراحلين عنا بتذكيرنا بأنهم كانو هنا منذ لحظات... مهما كان العمر الذي قضوه برفقتنا فأننا سنشعر حينها انهم ذهبوا بسرعة ، و انهم رحلوا في لحظة غير مناسبة.ّ
في نفس الإطار يمكن أن نقرأ عنوانا ضمن النص الأصليو هو عنوان احد فقرات مشهد لقاء شاب اليسار المساجين لبورقية. اختار فتحي بن الحاج يحي " موش هكة" عنوانا و هي عبارة ارتبطت ارتباطا وثيقا ببورقيبة غير ان الكاتب اختارها عنوانا للحظة درامية حادة في سيرة بورقيبة و في تاريخ البلاد . يقول :" كان بورقيبة يدور وسط فراغ الحلقة الملتئمة حوله ويلتفت بين الحين والآخر إلى الحاضرين قائلا، على عادته التي نعرفها في التلفاز" موش هكّة".


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
957
آخر تحديث
أعلى