أدب السجون ضيافة لا تنسى في كهف برج الرومي شهادة سجين سياسي سابق : محمد معالي

كانت السيارة تسير ببطء، على مسلك متعرّج سيئ التعبيد، على مرمي جحر من سِجْنَي برج الرومي، الأول والثاني، أو برج الرومي والناظور اللذين تولت السلط السجنية، في زمن ما، إعادة توزيع اسميهما فيما بينهما، وفق المثل الشعبي "شاشية هذا فوق راس هذا"!، لأسباب يطول شرحها... كنا نتنقل في ما كان منطقة عسكرية على أطراف مدينة بنزرت ولكنها غدت اليوم أحد أحيائها السكنية بسبب المد العمراني... كان صديقي ورفيقي محمد الصالح فليس، أصيل المدينة ومضيّفي، يقود السيارة متقمصا، في الآن نفسه، دور الدليل "السياحي"، وهو لعمري خير دليل يمكن أن يوثق به بالنسبة لهذا المكان... كيف لا؟ وهو العارف بأسراره من الداخل وبتضاريسه المحيطة من الخارج!...
أخذ محمد الصالح يشير إلى نقطة ما من الجبل محاولا جعلي أرى، على وجه الدقة، الموقع المعني... بينما كنت أنا أجهد نفسي كي لا يمضي بي بعيدا مزيج عجيب من المشاعر، يتعذر وصفه...
كان يبدو على قمة الجبل جزء من سور تعلوه شبكة من الأسلاك الشائكة قد لا يثير اهتمام الناظر، إن لم يتبين أن ما يرى ليس سوى جزء يسير من أسوار معتقل برج الرومي الرهيب...أشار صديقي إلى فتحات صغيرة تبدو على المنحدر الحاد للجبل... وأخذ يشرح لي وظيفتها باعتبارها متنفسات تهوئة كهف برج الرومي الذي كنا عرفناه من الأعلى أي من داخل المعتقل، والذي يُنزل إليه بستة وثلاثين دَرَكًا، حسب الإحصاء شبه الرسمي الذي يتناقله المساجين بعضٌ عن بعض، ولكنه يبدو من الأسفل مُعَلقا على علوّ شاهق...
في لحظة ما طوت الذاكرة ثُلث قرن لتعود بي إلى شهر أكتوبر 1975... في ذلك التاريخ أمضيت أربعة أيام بلياليها في جوف ذاك الكهف المظلم والمشبعة أجواؤه بروائح العفونة والمياه الآسنة والفضلات البشرية... كنت خلال ثلاثة أيام محاطا بعدد كبير من رفاقي، بينما قضيت النهار والليلة الأوّلين وحيدا حليق الرأس شبه عار، بعد أن جرّدني عدد من حراس السجن من ملابسي عنوة تحت وابل من الضرب والشتائم، وأرغموني على ارتداء أسمال بالية وقذرة مما كان ذات يوم لباسا عسكريا... كانت هذه الملابس العسكرية توضع, على ما يبدو، تحت تصرف إدارة السجون بعد أن يُنهكها المجندون وتفقد صلاحيتها للاستعمال، فتبدأ ب"منحها" لبعض المساجين مثل "رقباء" الغرف ومساجين السخرة الذين تكلفهم الإدارة بأداء بعض الأعمال خارج غرف السجن مثل كنس ساحات السجن أو نقل القفة أو إخراج الزبالة من الغرف... إلخ، وتنتهي أخيرا ملقاة على الأرض على مدخل الكهف ليرتديها المساجين الذين تُسلط عليهم عقوبة تأديبية بالإقامة في الكهف لفترة محددة... ويعتبر ارتداء هذه الأسمال البالية القذرة والتي تفوح منها رائحة مقززة جزءا من العقوبة، إضافة إلى حلق شعر الرأس ونصيب من الضرب بالهراوات المطاطية حسبما تقتضيه ممارسات جرى بها العمل وترسّخت على مر الزمن حتى غدت من التقاليد التي أصبح اجتثاثها شبه مستحيل حتى في فترة ما عرف ب"سياسة الإصلاح" داخل السجون!!!...
كان المرور بكهف برج الرومي جزءا من التجربة السجنية بالنسبة لكل من صدر ضدّه حُكم في قضية سياسية، خاصة إذا كان هذا الحكم لمدة طويلة، وهو غالبا ما يكون كذلك في مثل هذه القضايا التي يعرف الجميع أنه ليس أمام القاضي المكلف بالحكم فيها من خيار آخر سوى تلاوة أحكام تملى عليه "من فوق"، كما جرت العادة منذ محاكمة مجموعة الأزهر الشرايطي الشهيرة في أوائل الستينات... وبرج الرومي هو عادة "المقر الرسمي" لكل المساجين السياسيين وكذلك لكل مساجين الحق العام أصحاب الأحكام الثقيلة، دون الإعدام... وبما أن دخول البيوت يكون من أبوابها فإن الباب المؤدي إلى معتقل برج الرومي يمر عبر كهفه الشهير، الذي كان ذات يوم مخزنا للسلاح والعتاد العسكري مثلما كان برج الرومي نفسة ثكنة عسكرية في عهد الحماية... ويبدو أن هذا التقليد قد أرسي منذ الستينات من القرن الماضي بعد أن "دشّنه" معتقلو قضية الانقلاب الفاشل الذين نقلوا إليه من سجن آخر قد يكون أشد قسوة... وكان القادمون الجدد إلى البرج "يُحظون" باستقبال على درجة كبيرة من "الحرارة" لتعريفهم بطبيعة المكان وخصائصه، ويكون أول مبيت لهم في "دار الضيافة" التي "يُكرّم" زائروها بالهراوات والسياط... لقد كانت ممارسة تعذيب المعتقلين بكل أصنافهم، من سياسيين ومساجين الحق العام، أمرا عاديا في أنظار مسؤولي السجون، كبارا وصغارا... ويبدو أن إرساء هذا التقليد كان، في هذا المكان بالذات, حسبما رواه لنا بعض قدماء المساجين، وحتى بعض الحراس، على يد الطيب المهيري أول كاتب دولة للداخلية في حكومة تونس المستقلة حيث أنه كان يستغل بعض أوقات فراغه لممارسة ضرب من"التسلية" غير المألوفة لدى الناس العاديين والتي أتاحتها له مسؤوليته تلك... قيل لنا أنه كان يجلس على كرسي في "المنشر"، وهو ساحة كان يجفف فيها المساجين ملابسهم بعد غسلها، ويطلب من حراس السجن جلب ما تبقى على قيد الحياة من المعتقلين في قضية "المؤامرة" مقيدي الأيدي والأرجل وقد وضعت رؤوسهم في أكياس ويأمر الحراس بالانهيال عليهم ضربا بالهراوات والسياط صائحا فيهم: "اضربوهم!!!... كانوا يحبوا ييتمولنا أولادنا!!!..." وبعد أن تسيل الدماء ويصاب الحراس بالإرهاق، يأمر بإرجاع المعتقلين إلى موقعهم الذي لا يغادرونه إلا في مثل هذه المناسبة، داخل الكهف في ما يُعرف ب"بيت الرتعة" التي يُقيّد قيها كل سجين بسلسلة إلى حلقة في الجدار المحفور في صخور الجبل...
انطلقت محاكمة مجموعتنا، مجموعة 1975 المكونة من 101 متهما في قضية "العامل التونسي" يوم 26 سبتمبر 1975 وامتدت حتى شهر أكتوبر الموالي أمام محكمة أمن الدولة... كنا 52 معتقلا من بيننا 7 مناضلات، وكانت الحصيلة توزيع بضعة قرون من الأحكام بالسجن، مع تدرّج في قسوتها، يُراعي بوضوح التدرج في الموقع التنظيمي للمتهمين، أما من كانوا في "حالة فرار"، داخل تونس أو خارجها، فقد كانت الأحكام الصادرة في شأنهم أشد قسوة... كنا ننتظر نقلنا، بعد انتهاء المحاكمة، بين لحظة وأخرى من سجن 9 أفريل بالعاصمة إلى معتقل برج الرومي... وكنا نعلم أن مرورنا سوف يكون عبر الكهف الرهيب والشهير ولكننا لم نكن نبالي كثيرا بذلك لعلمنا أن ما سنواجهه هنالك لا يُعدّ شيئا بالمقارنة مع ما سبق أن عرفناه من تعذيب في مقرات فرقة أمن الدولة في الأيام، والأسابيع، الأولى من اعتقالنا... وقد كان للرفيق الفقيد أحمد بن عثمان الرداوي (أحمد عثماني) فضل الريادة في توثيق ما كان بجري، من خلال شهادته الشهيرة، التي هَرّبها من السجن ونُشرت في مجلة "الأزمنة الحديثة" (لي طان مودارن) التي كان يُشرف عليها جان بول سارتر...
في صبيحة ذات يوم من شهر أكتوبر 1975 لما فُتح باب زنزانتي الانفرادية بالجناح المضيق في سجن 9 أفريل وطلب مني الحارس حمل أدباشي، لم أشك لحظة في أن الوجهة هي برج الرومي، الذي سبقنا إليه رفاقنا في قضية تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي الذي اشتهر باسم نشريته "آفاق" والذي كانت "منظمة العامل التونسي" امتدادا له...
في الساحة الخارجية وفي مواجهة باب الخروج وجدت حافلة السجن في انتظاري ولكنني لم أجد أمامي سوى واحد من رفاقي في الجناح المضيق بينما كان الباقون من الرفاق المقيمين في جناح آخر من نفس السجن هو الجناح ه ...
كبّلوا أيَادِينا بالأصفاد كلّ اثتين منّا معا، وأذكر أن الرفيق الفقيد مصطفى الزمزاري هو من كان يشاركني قيدي، أما الباقون فهم، حسبما أذكر، ولكن دون أن أكون واثقا، سليم بفون والطاهر شقروش وثامر السويسي ومحمد الحاجبي والهادي اللافي ومحسن بن عبد الله وطارق بن هيبة ورمضان أولاد علي ومحمد الأمين النصيري... كنا أول مجموعة، أو "كونفة" بلهجة المساجين والحراس، تغادر 9 أفريل إلى برج الرومي...
امتطينا حافلة السجن التي انطلقت بنا في اتجاه بنزرت... وكان القسم المخصص للمساجين فيها مفصولا عن القسم المخصص للسائق والحراس بحاجز حديدي، وهي تشبه الصندوق الحديدي المتنقل الذي يُحشر فيه المساجين المنقولون حشرا فوف كرسيين طويلين متقابلين بحيث تكون ظهورهم في اتجاه جانبي الطريق، ولولا ثقوب صغيرة على جانبيه لمات من فيه اختناقا، مع أن كمية الهواء هذه التي تتسرب إلى الداخل تبدو غير كافية بدليل تقيّؤ العديد من المساجين بسبب نقص الأكسيجين وكذلك بسبب الشعور الناجم عن وضع "القطوس في شكارة" لهذه "الحمولة" البشرية التي تحصل في ظروف أسوأ من ظروف نقل الحيوانات إلى المسلخ!!!...
ولكي نعبر عن احتجاجنا عن هذا الوضع، وفي إطار التعبئة الذاتية استعدادا لما ندرك أنه ينتظرنا لدى حلولنا ببرج الرومي، كنا نرفع أصواتنا بالأناشيد الحماسية ونسعى لجعلها تخترق حاجز صندوقنا الحديدي المتنقل الذي كنا ندق على جنباته بعنف... كنا نردد ما يشبه النشيد الرسمي لمجموعتنا والذي نظمته مجموعة من الرفاق منذ أن كانوا موقوفين بالطابق التحتي التابع لفرقة سلامة أمن الدولة بوزارة الداخلية ثم تبنيناه في السجن ورددناه خلال المحاكمة: "هيا هيا يا رفيقي للنضال..." وكنا ننشده على غرار لحن نشيد الثورة الجزائرية، وقد جاء هذا اللحن مصادفة، ربما بسبب ما ترسب في ذاكرة أبناء جيلنا من مشاعر حماسية كان ولا يزال يثيرها لدينا نشيد الثورة الجزائرية بقدر يقارب ما يثيره نشيد الثورة التونسي, ودون أن يعني ذلك، بالطبع، أي تعاطف مع النظام القائم في الجزائر آنذاك... وكنا أيضا نردد نشيد الثورة "حماة الحمى" إلى جانب نشيد الأممية وأناشيد ثورية فلسطينية... وكانت تصحبنا، في رحلتنا، سيارتان تنقلان أعوانا من سلامة أمن الدولة أمكن لنا التثبت من أمرهم عندما توقفت بنا الحافلة لامتطاء بطاح بنزرت، وكان يسبقنا شرطي على دراجة نارية لإفساح الطريق ل"ركبنا الرسمي"...
لما وصلنا معتقل برج الرومي شاهدنا أعوان فرقة أمن الدولة متجمعين في ركن من ساحة السجن يشاهدون ما يجري دون تدخل... كنا لا نزال مقيدين اثنين اثنين لما أحاط بنا حراس السجن مسلحين بهراوات وسياط وتوجه لنا مدير السجن عبد السلام ... ب"خطاب" تهديد ووعيد لم نُعره الكثير من الاهتمام لأننا كنا ننتظر ما سيقوله سلفا... وبينما أخذ أحد الأعوان يفتح أقفال الأصفاد التي كانت تقيّدنا توجه إلينا مدير السجن، بلهجة مزمجرة، مطالبا إيانا بالتزام الانضباط، من هنا فصاعدا، لأننا في برج الرومي، هذا المكان الذي تحكمه نواميس مختلفة عما عداه... وتجسيدا لذلك "أمرنا" بالانتظام في صف مزدوج اثنين اثنين وكأنه كان يريد استغلال الوضع الذي كنا عليه مجبرين، بسبب الأصفاد التي كانت تقيد حركتنا، لإدامة فرضه علينا لاحقا... شعرت بخطورة الوضع، ذلك أن استمرارنا في ما يشبه الانتظام في صف بعد أن نصبح في وضع يسمح لنا بحريّة الحركة، سوف يُؤوّل على أنه تطبيق لأوامر المدير وسوف يفرض علينا، فيما بعد، خوض معركة إضافية من أجل العودة إلى الوضع الذي كنا عليه سابقا، حيث إننا كنا نرفض مطلقا أن ننتظم في صفوف مثل مساجين الحق العام... لذلك، ما أن أُطلقتْ يدي من الأصفاد حتى بارحتُ مكاني الذي كنت أقف فيه لأتكئ بظهري إلى الجدار القريب منا في وقفة لا توحي بأي شكل من "الانضباط"، الذي كان يطالبنا به المدير، أو الالتزام بما من شأنه أن يعطي انطباعا بأننا سوف نتنازل عما كنا عليه في علاقتنا بالإدارة... شعر المدير بالتحدي فقطع كلامه واندفع نحوي وصفعني صفعة قوية وارتمى عليّ الحراس مباشرة حتى قبل أن يصدر إليهم مسؤولهم أي أمر... وبدا المشهد وكأنه مجرد تجسيد لسيناريو معدّ سلفا!!!...
كنتُ أستمع إلى أصوات زملائي يحتجّون بينما كان بعض الحراس يجرّني وبعضهم يدفعني، بعيدا عنهم، تحت وابل من الضرب والشتائم... ولمّا وصلنا إلى باب الكهف أجلسوني القرفصاء وجيء بحلاق سجين، لست أدري من أين، فجزّ شعري، وجرّدوني من ملابسي وألبسوني زيّ العقوبة الرسمي، الذي أشرت إليه آنفا، وجروني، حافي القدمين، عبر الدّركات إلى نفق طويل ثم دفعوا بي داخل غرفة محفورة في صخور الجبل، وأغلقوا وراءهم الباب الحديدي المكوّن من قضبان حديدية غليظة... تركوني وغادروا المكان... أخذَتْ جلبة وقع خطواتهم التي كان يردد صداها الكهف الفسيح تخبو شيئا فشيئا إلى أن تلاشت تاركة مكانها لصمت لا يقطعه سوى وقع قطرات الماء التي تتساقط من السقف على القاع الحجري للغرفة وكذلك صوت ارتجاج خفيف غير منتظم لكسر جذوع الأشجار لاستعمالها حطبا للوقود لطهي طعام المساجين وتدفئة ماء الاغتسال...
حددت موقعي في الكهف... لقد كنت في "بيت الرتعة" الشهيرة, وهي غرفة فسيحة محفورة في صخور الجبل, وكانت تمتد تحت الجدار مباشرة قناة صغيرة تتجمع فيها قطرات الماء التي تنز من الجدران أو تنتهي إليها بعد أن تسقط من السقف وتسيل على القاع الذي يظل مبللا وباردا، وتتجمع بها كذلك سوائل البول وفضلات المساجين التي يُلقى بها فيها، في غياب بيت للراحة وأي مصدر للماء الصالح للشراب في ذاك المكان... كانت تبدو في الجدران حلقات من الحديد لتثبيت السلاسل التي كان يُقيّد بها مساجين "المؤامرة" خلال الستينات من القرن الماضي... وبينما كنت أتعرف على المكان انطفأ نور المصباح الكهربائي الذي كان يُصارع ظلمة الكهف وحيدا وكان ذلك مُفاجئا إلى حد جعلني أتصور أنني قد أكون فقدت حاسة البصر... وظللت أمرر يدي أمام عيني وأحرك أصابعي علّني أشاهد شبح أي شيء فلا أظفر بذلك وبقيت على تلك الحال، لا أميّز شيئا، حتى عاد الحراس بعد حين لم أتبين قدره على وجه الدقة ولا على وجه التقريب... وقد أنبأني بمجيئهم اشتعال المصباح الكهربائي وكان عدد الحراس أقل، هذه المرة، وهو ما عرفته من وقع الخطى على دركات الكهف وكانوا مصحوبين بمن يحمل، من المساجين، وجبة الطعام ("القميلة" بلغة أهل السجن) وإناء بلاستيكيا به ماء للشرب... فُتح الباب ووضع الطعام والماء على الأرض دون أن يتوجه إلي أحد بأية كلمة فصحت بأنني مضرب عن الطعام والشراب احتجاجا على ما أنا عليه فلم يلتفت أحد إليّ ولم يُعيروا ما أقول أي اهتمام وقفلوا راجعين، وبعد حين أعيد إطفاء النور الكهربائي فغرقت في الظلمة مجددا...
وبمرور الزمن بدأت أشعر بالبرد الذي زاد من حدّته شعوري بالجوع والعطش ولكنني لم أفكر حتى مجرد التفكير في مد يدي إلى "القميلة" التي كنت أعرف مكانها رغم الظلام الدامس... بدأ البرد يتسرب إلى جسدي عبر قدمي الحافيتين من الأرضية الصخرية المبللة، وبدأت أفكر في كيفية حماية جسدي شبه العاري وأخذت أحاول إيجاد طريقة للاحتماء من البرد, مستغلا ذلك اللباس القذر الذي كنت متقززا منه, للضرورة... كان السروال واسعا وطويلا جدا بقدر ما كانت القطعة العليا قصيرة, وهكذا كان جنباي وبطني عارية فرفعت السروال حتى صدري واحتلت عليه كي أثبّته وجعلت أسفل السروال ينزل تحت قدمي الحافيتين ليخفف عليهما شيئا ما برد الأرضية... فكرت في التمدد على الأرض طلبا للراحة ولكنني سرعان ما تخليت عن الفكرة مخافة أن يتبلل ما ألبسه فيزداد الوضع سوءا... وبعد تفكير وجدت الحل الأمثل... اقتربت من الباب وأخذت أتعلق بأحد القضبان الحديدية بيد وأستَعين بها لتخفيف وزن جسمي على الرجل الواحدة التي أقف عليها بينما أرفع الثانية حتى لا تتعرض لبرودة الأرضية، وبعد أن أحس بالتعب أغير الوضع إلى اليد والرجل الأخريين... وهكذا دواليك, وقد مكنتني هذه الطريقة من استراق لحظات من النوم المتقطع حتى أنني حلمت بما لم أعد أذكره اليوم!!!...
مرت الليلة على هذا النحو... وفي الصباح لم يطل بي الانتظار قبل أن استمع إلى جلبة في مدخل الكهف فأدركت ما يحدث... اشتعل نور المصباح ثم انفتح باب الغرفة وبدا الرفاق بالدخول... شعرت بسرور غامر للقائهم... كان أول الداخلين ثامر السويسي وتلاه الطاهر شقروش تعانقنا بحرارة مطلقين صيحات فرح كأنما كنا نلتقي في الهواء الطلق خارج المعتقل!!!.. وتتالى دخول بقية الرفاق من المجموعة التي جاءت معي في اليوم السابق من تونس وانضم إلينا رفاق آخرون ألحقوهم بنا فور وصولهم... قررنا الدخول في إضراب جوع فوري حتى موعد خروجنا من الكهف وقطعت أنا إضراب العطش مكتفيا بمواصلة إضراب الجوع لأننا لا نعرف على وجه التحديد كم سيستمر بقاؤنا حيث نحن... وتعويضا لوجبات الطعام نظمت الإدارة "حملات تأديبية" ضدنا كانت تأتي في شكل غارات مفاجئة تشنها علينا مجموعة من الحراس المسلحين بالعصي والسياط داخل الغرفة نفسها، وكنا ننظم دفاعنا بالتفاف بعضنا حول بعض بتشبيك أيادينا وبوقوف الرفاق أصحاب البنيات القوية يليهم ضعاف البنية في حين يقف المرضي وسط المجموعة لحمايتهم من أن تصيبهم أية ضربة... ونجح هذا التكتيك فعلا في تجنيب رفاق مثل محمد الحاجبي الذي كان يشكو من أوجاع في الرأس من التعرض إلى ضربة قد تلحق به أضرارا لا تحمد عقباها وكذلك الشأن بالنسبة إلى سليم الذي كان خارجا منذ أيام قليلة من عملية جراحية... لقد استمات رفاق الصف الأول في الدفاع بأجسادهم عن بقية الرفاق وأبدوا روح تضحية نادرة وخرجوا بكدمات وجروح وإن لم تكن بليغة، بينما أمكن للبعض منا, من ضعاف البنية مثلي أنا ومحسن بن عبد الله ورمضان أولاد علي...إلخ، أن نخرج من المعركة دون التعرض إلى أية إصابة عدا ما تعرضنا له خارج هذه الغارات...
استمر الوضع على هذا النحو ثلاثة أيام بلياليها... كنا ننام جلوسا متراصين حول بعضنا طلبا للدفء وكي لا نسقط أرضا عندما يغلبنا النعاس...
وفي آخر يوم جاءنا موفد من إدارة السجون هو الحاج البرقاوي نائب مدير الإدارة العامة وطلب منا عن طريق الإدارة المحلية إرسال وفد للتفاوض معه نيابة عن المجموعة، في مكتب مدير السجن... عيّنّا لهذه المهمة اثنين هما نور الدين بعبورة والطاهر شقروش اللذين خاضا المفاوضات بنجاج فقررنا حل إضراب الجوع بمجرد خروجنا من الكهف...
وكانت مبارحتنا الكهف بداية مرحلة سجنية جديدة على وقع زمن برج الرومي المختلف كليا عن وقع زمن الحياة المدنية خارجه... وكانت تلك حكاية أخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
767
آخر تحديث
أعلى