أدب السجون محمد الصالح فليس - 26 جانفي... من برج الرومي...

عندما اندلعت أحداث 26 جانفي 1978 كنت أقضي في معتقل برج الرومي حكما بثماني سنوات أصدرته محكمة أمن الدولة نيابة عن سلطة سياسية ترفض كل معارضة لها.
وشاءت التطورات أن نستقبل في جناح المساجين السياسيين ببرج الرومي بعد محاكمة القيادة النقابية المرحومين الحبيب عاشور وعبد الرزاق غربال الذين استقلا بغرفة اعتقالية مجاورة لنا تمَ تجهيز فضاء فسحتها في مستوى علوَ جدرانها بمربعات حديدية سميكة تحسبا لأي محاولة فرار. كما تمَ تجهيز بيت خزن المواد الغذائية الملاصقة لقاعة الزيارة بسمَاعات صغيرة مبثوثة في الحائط القاسم لتسجيل فحوى زيارة المرحوم الحبيب عاشور مع عائلته، وربما عائلات أخرى...
كما شاءت التطوُرات أن أقضي ليلة 2 إلى 3 أوت 1979 في هذا الجناح صحبة المرحوم الحبيب عاشور استعدادا لإطلاق سراحنا شرطيًا بمناسبة عيد ميلاد الراحل الحبيب بورقيبة يوم الثالث من أوت .1979
ومنذ تتالت الأحداث في بلادنا سنة 1977 كنا نتابع بصفة غير معلنة وبمراوغات عديدة عبر صحف الرأي وبالشعب وأخرى أجنبية ما كانت تعيشه الساحة السياسية والاجتماعيَة في بلادنا من تطورات عجزت السلطة على احتوائها وتوفير الإجابة الملائمة لها لانَ ثقافة الحزب الواحد قتلت احترام الحق في الاختلاف.
و لم تكن أخبارنا عمًا تعيشه الساحة الوطنيًة من أحداث محيًنة، فقد تنقضي أيًام عديدة عن وقوع الأحداث لتبلغ إلى علمنا بإحدى طرق الإعلام «السجني الأخطبوطي، و لذلك فقد كان لزاما علينا أن نجتهد في إعمال حاسة التحليل و القياس والمقارنة حتًى نتأكًد من سلامة التسلسل المنطقي المفترض للأحداث في انتظار أن تجيء أخبار جديدة تؤكًد أو تنفي ما ذهبنا إليه، و تعيد وضعنا في سكًة تسلسل الأحداث من جديد...
ولم يكن وعينا بضرورة المواكبة لهذه اللحظة المتميزة من مسار البلاد ليغمط مشروعية أن ننهال على أنفسنا وعلى بعضنا البعض في حلقات أسئلة تدقيقيًة لتكييف التحليل وإرساء الاستنتاجات التي نكون قد استوعبناها من سياق ما نملك من معطيات.
من ذلك أن آيات التعذيب الجسدي في حالة المرحوم سعيد قاقي التي حصلت في مقرًات باحث البداية لم تصل إلى علمنا بصفة موثُقة ومدعومة إلا مؤخًرا، أي بعد وقوعها بحين، والحال أن تقارير أوًليًة من أكثر من جهة موثوقة أكًدت أنً عنفا شرسا قد واكب المداهمات التي استهدفت مختلف مقرًات الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحادات الجهويًة. وأنً التعذيب خلال الاستنطاقات قد مارسه المكلًفون بالبحث في أكثر من حالة، وفي حدود تجاوزت المتعارف أحيانا...
وقد سمعنا من المرحوم عبد الرزًاق غربال وصفا متقطًعا، بحكم صعوبات التواصل، عن نتف من صيغ هذا الإكراه الجسدي، فضلا عن اللغة الرفيعة التي ووجه بها الموقوفون.
كما بنينا بالتدرج الزمني فكرة ضافية عن مختلف الاخلالات بالشروط القانونيًة والاجرائيًة الحاصلة لدى إيقاف مختلف القيادات النقابية بما قعًدنا في قناعتنا بأنً حليمة قد ظلًت وفيًة منذ النصف الثاني من العام 1955 على المحافظة بانتظام وثبات، رغم تغيُر العصور والعقليًات، بذات العقليًات القديمة!!
وكما جرت العادة فقد كانت تبلغ إلى علمنا ما واكب هذه الممارسات من مكوَنات الخطاب السياسي الرسمي ذي البعد التهديدي التجريمي الهادف إلى حشر النقابيًين في عداد زمرة المتآمرين على النظام االطامعين في تبديل هيئته.
وعندما بلغنا نبأ وفاة المناضل الشهيد سعيد قاقي في مطلع جانفي من عام 1979 استبدً بنا غيظ مناضل امتزجت فيه عواطف الحسرة والتآزر المتضامنين ومعاني الاتهام السياسي الأخلاقي النضالي إلى واهبي الموت لمواطن انخرط في العمل النقابي الوطني فلاقى الغبن المرير بما شكًل خسارة لمنظمته الشغيلة ولعائلته... وخسرته تونس...
وقد تفاعلنا من معتقل برج الرومي مع الأحداث فكتبنا نصوصا تنديديًة و جهناها للسلطة كما كان حالنا كلما مرً بالبلاد حدث من الأهمية بمكان، ونصوصا تحليليًة من زوايا نظر تعدُديًة وطالبنا بالتحقيق العادل الشفًاف للمحاسبة السياسيَة والعمليَة للمسؤولين عن حمَام الدم الذي أخضعت له البلاد في مطلع هذا العام الجديد فخسرت جرَاءه عددا من أبنائها ما زال تحديده الكمِي محل بحث وتساؤل.
ومنذ أن التحق بنا المرحومان الحبيب عاشور وعبد الرزاق غربال أبلغناهما عبارات تضامننا ومؤازرتنا رغم ما كان لحراستنا من علامات التشدُد والتأهُب القصوى بارتباط بتحوُل الأنظار إلى سجن برج الرومي...
وقد عرفت زيارات أهالينا بالخصوص طوقا مشدَدا من الحراسة المضاعفة دامت أسابيع عديدة، و لم تعد إلى سالف وضعها إلا بعد أن انقضت سنة .1978
كما كثرت على برج الرومي زيارات المسؤولين في إدارة السجون لمواكبة حساسيِة التفاعل مع الأحداث إثر إلحاق المسؤوليْن النقابييْن إلى فضاء المساجين السياسيِين.
ومهما نسيت فلا يمكن أن أنسى علامات العافية المعنويِة التي كنَا نترصَدها من سلوكات المرحوم الحبيب عاشور، ولاسيما إزاء الحارس المكلف بجناح المعتقلين السياسيِين المرحوم عز الدين بورقيبة عند ما كان يسأله عن ابن بلدته الراحل حسَان بلخوجة، وينعته بنعوت تليق بحجمه وتلخِص قامته.
في صبيحة الثالث من أوت 1979 عندما جاءه وفد من إدارة الأمن وجاءتني منطقة الشرطة ببنزرت لنقلنا كلٌ إلى مقرِ إقامته الإدارية حيَيته بجملة استفزازيِة إن شاء الله ما عادش نتلاقاو في ها الحفرة.
فابتسم و أجابني... االحبس للرجال فأردفت: خارج الحبس هو زاده للرجال...
فابتسم ورفع يده محيِيا وواصل طريقه...
ولم أره منذ ذلك اليوم إلى أن حجبته المنيَة... رحمه الله.


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
788
آخر تحديث
أعلى