لم أتوقع أنّني سأقف يوماً عند فكرة إرسال ابنتي إلى المدرسة لأنّها وحتى الآن، لم تكن أبدًا فكرة بل كانت دائما واجبًا أبويًا لا نقاش فيه. كبِرنا ونحن نرى الآباء يختارون أحسن المدارس لأبنائهم كي يتعلّموا فيها ويتباهون بتخرج أبنائهم من أرقى المدارس. قَضيت وقتًا كبيرًا من حياتي بين المدارس ولاأزال، لأنها وسيلتي الوحيدة في تحقيق هدفي المهني. كيف لي ألا أرسل ابنتي إلى المدرسة وأحرمها من حقّها في عيش هذه التجربة؟
العجيب في الأمر أننّي مُدرّسة، ليست مهنة وإنّما هواية أحب العطاء فيها. والأعجب من ذلك أنّني شاركت في بناء مدرسة في قرية وراء الجبال كي يتعلّم الأطفال فيها ويتطوّر تفكيرهم. والآن أقف عند ضرورة الذهاب إلى المدرسة! استوقفتني الفكرة بعد أن قرأت كتابين مختلفين تمامًا ولكنهما الاثنان ينتقدان التعليم في المدرسة من جهتين مختلفتين. عندما تأملت في تلك الانتقادات واستغرقت في زواياها، تبيّن لي أنها على حق. الكاتبان لا يفتريان على المدرسة، صدقًا كانت تلك مشاكل موجودة في نظام التعليم ولكنها لم تكن واضحة لي من قبل بالشكل الذي طُرحت به.
في كتابه "الأب الغني والأب الفقير"، تحدّث روبرت كيوساكي عن النظام المدرسي الذي ينتج جيلا من الموظّفين الذين لا يعرفون الكثير عن عالم الاستثمار والعمل الحر لأنهم لم يتلقوا تربية مالية في المدرسة. والأكثر من ذلك، أنّ المدرسة روّضتهم على أن يكونوا عمّالا وليس أرباب عمل، وأن ينتظروا الراتب وليس الدخل. لم تعلّمهم المدرسة سوى المنافسة على علامات عالية لكي يستطيعوا تأمين وظيفة محترمة في مكان عمل راقي يقدّم لهم فوائد جيدة. ومن لم يحصل على علامات عالية يعتبر فاشلا ولن ينجح أبدا في الحصول على وظيفة تأمن له العيش الكريم. وبذلك يبقى الإنسان عالقاً في متاهة بين الراتب وتغطية المصاريف. حينما أعود بذاكرتي إلى أيام التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، فعلًا أتذكر هذه الأقوال والترهيب الذي تعرضنا إليه من طرف المعلّمين والآباء معاً عند الإخفاق في امتحان أو الاستهتار بمادّة. لم يكن منّا من بلا وظيفة أحلام، كان معنا المهندس والمحامي والطبيب والشرطي. كنّا كلنا مبرمجين على أن الدراسة هي السبيل الوحيد إلى حياة جيدة وأن الوظيفة هي الحل الأوحد لذلك.
لا يمكننا إلغاء دور الأسرة الأساسي في إنشاء جيل سليم، والفعّال في سدّ ثغرات النظام التعليمي وإصلاح ما لا يُرغب في تبنّيه لدى الطفل
انتقد كيوساكي النظام التعليمي لأنه يُعاقب أبناءه على الأخطاء بينما الإنسان مركّبٌ على أن نتعلّم من فعله للأخطاء. يقول أنّنا "نتعلم المشي من خلال السقوط؛ إذا لم نسقط أبدا فلن نمشي أبدًا". يرى في هذا الإنسان الكثير من الجُبن والخوف من خوض المخاطر، خاصة في سياق فكرته عن التحرر المالي الذي يتطلب الشجاعة والجرأة في التعامل مع الاستثمار. صحيح أنّ المدارس عامّة لا تحترم حق الطفل في الخطأ ولا تعطيه مجالًا كبير في الاستمتاع بالتعلّم منه. في مثل هذه الظروف، ينشأ الأطفال وهم يخافون من الخطأ الذي قد يتحول إلى فشلٍ من كثرة التهويل، ممّا يأثر بعمق على ثقتهم بأنفسهم وبقدراتهم. تكون بنية الطفل النفسية هشّة وتُخدش بسهولة في المدارس التي لا تُجيد الربط بين البيداغوجيا والسيكولوجيا، وبذلك يتكون لنا جيلٌ من الشباب الخجول الذي يخشى التفكير في طرق أخرى غير التي تعلّمها في المدرسة لأن القاعدة تقول أن الخطأ يترتب عنه عقوبة. لهذا السبب يقول كيوساكي أنه إذا خُيّر ما كان ليذهب إلى المدرسة.
بعيدًا عن المال والاستثمار، جاء علي عزت بيجوڤيتش بانتقاد اخر للتعليم في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" حيث رأى أن التعليم المدرسي في العالم المتحضر يعتمد على الفكر أكثر من اللازم مقارنة بالجانب الإنساني. لا يتعلّم التلميذ ضرورة أن يكون إنسانا خيّرا وأمينًا وحُرّا في مساره الدراسي مثلا، لأن التركيز يكون على الكيمياء والحساب والجغرافيا والاجتماعيات وغيرها من العلوم "اللإنسانية". يكون التركيز على تحصيل الكفاءة لنفع المجتمع بوظيفة معيّنة كما يقول كيوساكي. وقفت أسترجع كم مرّة تعلّمت فيها أن أكون أكثر إنسانية أو أكثر حرية في المدرسة.. لا أذكر أي مرة! لم أنفتح على إنسانيتي وحريّتي إلا بعد أن اجتزت السلك الثانوي. كان كل جهدي يذهب في فهم العلوم وتطبيقها وكيفية التفكير لحلّ الواجبات والفروض. استدلّ بيجوڤيتش بتاريخ الإمبريالية الذي كان فيه شعوب متعلّمة حاربت بطريقة ظالمة استعبادية شعوبا متخلّفة كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن حرياتهم. "إن المستوى التعليمي الراقي للغزاة لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة وفرض الهزيمة على ضحاياهم،" يقول بيجوڤيتش.
إذا كنّا سنتكلّم على المدرسة وحدها كمؤثر في تكوين الطفل فأنا أوافق بيجوڤيتش وكيوساكي الرأي. سننتج جيلًا جاهلًا في التربية المالية ومتجردًا من الإنسانية وغير واع بالحريّة. ستكون الحصيلة عبارة عن شباب متعلّم ولكنّه مهزوز نفسيّا ومتشنج فكريا لا يقدر على التفكير خارج الصندوق. أنا متأكدة أن النظام المدرسي المتحضر يعاني من عجز في مجالات أخرى عديدة لم يتطرق لها الكاتبين، ولا أتفق مع الكثير من الطرق المستخدمة في التلقين التعليمي. ولكنّ الحال أن المدرسة ليست وحدها من يرقى بمستوى الطفل الإنساني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي. سيكون من الصعب الاعتماد على النظام التعليمي في كلّ جانب نريد أن يتعلّمه أطفالنا. لا نستطيع تجاهل دور البيت والشارع والإعلام والكُتب.
العجيب في الأمر أننّي مُدرّسة، ليست مهنة وإنّما هواية أحب العطاء فيها. والأعجب من ذلك أنّني شاركت في بناء مدرسة في قرية وراء الجبال كي يتعلّم الأطفال فيها ويتطوّر تفكيرهم. والآن أقف عند ضرورة الذهاب إلى المدرسة! استوقفتني الفكرة بعد أن قرأت كتابين مختلفين تمامًا ولكنهما الاثنان ينتقدان التعليم في المدرسة من جهتين مختلفتين. عندما تأملت في تلك الانتقادات واستغرقت في زواياها، تبيّن لي أنها على حق. الكاتبان لا يفتريان على المدرسة، صدقًا كانت تلك مشاكل موجودة في نظام التعليم ولكنها لم تكن واضحة لي من قبل بالشكل الذي طُرحت به.
في كتابه "الأب الغني والأب الفقير"، تحدّث روبرت كيوساكي عن النظام المدرسي الذي ينتج جيلا من الموظّفين الذين لا يعرفون الكثير عن عالم الاستثمار والعمل الحر لأنهم لم يتلقوا تربية مالية في المدرسة. والأكثر من ذلك، أنّ المدرسة روّضتهم على أن يكونوا عمّالا وليس أرباب عمل، وأن ينتظروا الراتب وليس الدخل. لم تعلّمهم المدرسة سوى المنافسة على علامات عالية لكي يستطيعوا تأمين وظيفة محترمة في مكان عمل راقي يقدّم لهم فوائد جيدة. ومن لم يحصل على علامات عالية يعتبر فاشلا ولن ينجح أبدا في الحصول على وظيفة تأمن له العيش الكريم. وبذلك يبقى الإنسان عالقاً في متاهة بين الراتب وتغطية المصاريف. حينما أعود بذاكرتي إلى أيام التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، فعلًا أتذكر هذه الأقوال والترهيب الذي تعرضنا إليه من طرف المعلّمين والآباء معاً عند الإخفاق في امتحان أو الاستهتار بمادّة. لم يكن منّا من بلا وظيفة أحلام، كان معنا المهندس والمحامي والطبيب والشرطي. كنّا كلنا مبرمجين على أن الدراسة هي السبيل الوحيد إلى حياة جيدة وأن الوظيفة هي الحل الأوحد لذلك.
لا يمكننا إلغاء دور الأسرة الأساسي في إنشاء جيل سليم، والفعّال في سدّ ثغرات النظام التعليمي وإصلاح ما لا يُرغب في تبنّيه لدى الطفل
انتقد كيوساكي النظام التعليمي لأنه يُعاقب أبناءه على الأخطاء بينما الإنسان مركّبٌ على أن نتعلّم من فعله للأخطاء. يقول أنّنا "نتعلم المشي من خلال السقوط؛ إذا لم نسقط أبدا فلن نمشي أبدًا". يرى في هذا الإنسان الكثير من الجُبن والخوف من خوض المخاطر، خاصة في سياق فكرته عن التحرر المالي الذي يتطلب الشجاعة والجرأة في التعامل مع الاستثمار. صحيح أنّ المدارس عامّة لا تحترم حق الطفل في الخطأ ولا تعطيه مجالًا كبير في الاستمتاع بالتعلّم منه. في مثل هذه الظروف، ينشأ الأطفال وهم يخافون من الخطأ الذي قد يتحول إلى فشلٍ من كثرة التهويل، ممّا يأثر بعمق على ثقتهم بأنفسهم وبقدراتهم. تكون بنية الطفل النفسية هشّة وتُخدش بسهولة في المدارس التي لا تُجيد الربط بين البيداغوجيا والسيكولوجيا، وبذلك يتكون لنا جيلٌ من الشباب الخجول الذي يخشى التفكير في طرق أخرى غير التي تعلّمها في المدرسة لأن القاعدة تقول أن الخطأ يترتب عنه عقوبة. لهذا السبب يقول كيوساكي أنه إذا خُيّر ما كان ليذهب إلى المدرسة.
بعيدًا عن المال والاستثمار، جاء علي عزت بيجوڤيتش بانتقاد اخر للتعليم في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" حيث رأى أن التعليم المدرسي في العالم المتحضر يعتمد على الفكر أكثر من اللازم مقارنة بالجانب الإنساني. لا يتعلّم التلميذ ضرورة أن يكون إنسانا خيّرا وأمينًا وحُرّا في مساره الدراسي مثلا، لأن التركيز يكون على الكيمياء والحساب والجغرافيا والاجتماعيات وغيرها من العلوم "اللإنسانية". يكون التركيز على تحصيل الكفاءة لنفع المجتمع بوظيفة معيّنة كما يقول كيوساكي. وقفت أسترجع كم مرّة تعلّمت فيها أن أكون أكثر إنسانية أو أكثر حرية في المدرسة.. لا أذكر أي مرة! لم أنفتح على إنسانيتي وحريّتي إلا بعد أن اجتزت السلك الثانوي. كان كل جهدي يذهب في فهم العلوم وتطبيقها وكيفية التفكير لحلّ الواجبات والفروض. استدلّ بيجوڤيتش بتاريخ الإمبريالية الذي كان فيه شعوب متعلّمة حاربت بطريقة ظالمة استعبادية شعوبا متخلّفة كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن حرياتهم. "إن المستوى التعليمي الراقي للغزاة لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة وفرض الهزيمة على ضحاياهم،" يقول بيجوڤيتش.
إذا كنّا سنتكلّم على المدرسة وحدها كمؤثر في تكوين الطفل فأنا أوافق بيجوڤيتش وكيوساكي الرأي. سننتج جيلًا جاهلًا في التربية المالية ومتجردًا من الإنسانية وغير واع بالحريّة. ستكون الحصيلة عبارة عن شباب متعلّم ولكنّه مهزوز نفسيّا ومتشنج فكريا لا يقدر على التفكير خارج الصندوق. أنا متأكدة أن النظام المدرسي المتحضر يعاني من عجز في مجالات أخرى عديدة لم يتطرق لها الكاتبين، ولا أتفق مع الكثير من الطرق المستخدمة في التلقين التعليمي. ولكنّ الحال أن المدرسة ليست وحدها من يرقى بمستوى الطفل الإنساني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي. سيكون من الصعب الاعتماد على النظام التعليمي في كلّ جانب نريد أن يتعلّمه أطفالنا. لا نستطيع تجاهل دور البيت والشارع والإعلام والكُتب.